تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مشـكلة الثـقافة بين مالك بن نبي وعبداللَّه شـريط

وسـيلة يعيـش حرم خزار

الدكتورة وسـيلة يعيـش حرم خزار*
* المـدرسة العليـا للأسـاتذة بقسنطينة.

تمهيد
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
لم يقف الرجلان من الحضارة الغربية بإنجازاتها المادية، وأنساقها الفكرية، موقف التلميذ المعجب المقلّد في سلبية مهينة، تكشف عن عجز مشين وسطحية مقيتة. ولكنهما جعلا من هذه الحضارة التي نهلا من مصادرها وتراثها الكثير، تربة خصبة لإبداع إنتاج فكري متميز، مرتبط بتاريخ هذه الأمة، متشبع بتراثها، معتز بهويتها، ساعٍ لإعادة بعث مجدها من جديد.
لقد حرص المفكران على الجمع بين النظر والعمل في مشروع إصلاحي نهضوي، يبدأ بتحرير الجزائر من براثن المستعمر، وسياسته التجهيلية الساعية إلى طمس معالم الهوية العربية الإسلامية، ليتواصل بتحرير المجتمع من قيود التخلف، وأغلال التبعية الغربية.
إن طروحات الرجلين تفرض على القارئ الاهتمام والاحترام، لما تتميز به من قدرة على الخوض في قضية جوهرية شغلت النخبة المثقفة في العالم العربي الإسلامي ردحاً من الزمن، ويتعلَّق الأمر بواقع الأمة العربية الإسلامية، وما يتميز به من ضعف وعجز وركود، ومدى قدرتها على تحقيق النهضة الحضارية المنشودة، في ظل تحديد واضح وعميق لطبيعة العلاقة بين القديم والجديد، أو التراث والتجديد.
لقد رأى ابن نبي أن أي تفكير في مشكلة الحضارة إنما هو تفكير في مشكلة الثقافة، فيما رأى شريط أن البناء الحضاري لجزائر ما بعد الاستقلال لا يكون إلَّا بتجاوز مشكلاتها الثقافية، فكانت مشكلة الثقافة هاجساً مشتركاً بينهما.
1- حياة مالك بن نبي ومؤلفاته
ولد المفكر «مالك بن ساعد بن نبي» سنة 1905م بمدينة قسنطينة العتيقة، ونشأ في أسرة لا يختلف حالها عن حال غالبية الأَُسَر الجزائرية التي كانت تعاني من شظف العيش ووطأة البؤس والحرمان. والده كان يشغل منصباً بسيطاً لدى الإدارة الحكومية الاستعمارية الفرنسية بمدينة تبسة، وهي المدينة التي أصبحت مقر الأسرة فيما بعد، ومهد نشأة وترعرع «ابن نبي»، أما والدته فكانت تشتغل بالخياطة قصد المساهمة في تحسين المستوى المعيشي والاقتصادي للأسرة.
أُدخِل «مالك بن نبي» الكُتّاب لتعلّم وحفظ القرآن الكريم ومبادئ الحساب واللغة العربية، ثم ما لبث أن انتظم في المدرسة الفرنسية، لكنه ظل يتردد باستمرار على الكتّاب، وكذلك على المسجد العتيق لحضور أوقات الصلاة. ونظراً لولعه بالعلم وتعلقه بالقراءة، فقد كان يتلقى دروساً إضافية في النحو والصرف والبلاغة والثقافة العربية، على يد شيخ يدعى «عبد المجيد»، كما كان حريصاً على الاستفادة من الدروس والحلقات العلمية التي تدار في المساجد.
درس في الفترة الثانوية بمدينة قسنطينة، حيث تخرّج فيها برتبة باش عدل، أي مساعد في القضاء. وفي شهر سبتمبر 1930م نزل مالك بن نبي بمحطة ليون بباريس، وكان أول عمل قام به هو التسجيل بمعهد «الدراسات الشرقية»، غير أنه لم يُوفّق في الانتساب لهذا المعهد لأسباب سياسية بحتة لا علاقة لها بالمؤهلات العلمية، وقد حزّ ذلك في نفسه كثيراً. لكنه وُفّق بعدها في الدخول إلى «مدرسة اللاسلكي» لدراسة الهندسة الكهربائية. وفي الحي اللاتيني الذي كان يقيم به العرب والمغاربة خاصة، كان ابن نبي يجدّ في نشر الوعي القومي، لا سيما فيما يتعلَّق بالإصلاح والبناء الحضاري والوحدة المغاربية. وهناك تزوج من فرنسية اعتنقت الإسلام وصار اسمها خديجة، وكانت مثالاً للزوجة الصالحة التي تعين زوجها على تحمل أعباء الحياة، وتوفر له دفء الأسرة الذي يشجّع على التميز والإبداع.
في فرنسا أيضاً أُتيح له التعرّف إلى العديد من الزعماء والفلاسفة والمفكرين، كما توطدت صلته ببعض رموز الإصلاح والدعوة والعلم، كان أبرزهم الشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز. كما قابل في سنة 1936م الوفد الجزائري الذي ذهب إلى باريس ليطالب السلطات الفرنسية بالمشاركة البرلمانية، وكان على رأس هذا الوفد الشيخان المصلحان عبدالحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي. ولم تنحصر جهود ابن نبي التربوية والإصلاحية والفكرية في منطقة باريس وحدها، بل كثيراً ما كان يسعى لتوسيع دائرة تلك الجهود، ومن ذلك إقدامه على فتح مدرسة في الجنوب الفرنسي لمحو الأمية وتعليم العمال الجزائريين المغتربين سنة 1938.
خلال سنة 1956م سافر ابن نبي إلى مصر، حيث أتيح له التعرف عن قرب إلى زعمائها السياسيين والمصلحين ومنهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كما تمكن أيضاً من التعاون مع بعض قادة ثورة التحرير الجزائرية ممن كانوا يقدمون إسهاماتهم النضالية من القاهرة.
وتعدّ مرحلة ابن نبي القاهرية من أخصب مراحل حياته، فخلالها استطاع أن يتقن اللغة العربية فأصبح يحاضر ويكتب بها، كما أنجز العديد من الدراسات الفكرية مثل «شروط النهضة» و «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي».
غير أن ما ميّز هذه المرحلة هو إدارته للعديد من المناقشات والسجالات الفكرية، مع أبرز مفكري وعلماء مصر، أمثال الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور محمد عبدالله دراز، والكاتب الإسلامي الشهير سيد قطب، بالإضافة إلى ترجمة بعض مؤلفاته إلى اللغة العربية، وذلك بفضل تلاميذه ومريدي فكره، مما يعني أن المشارقة هم مكتشفو القيمة المنهجية والعلمية لفكر ابن نبي. ومن أبرز هؤلاء المريدين الذين أصبحوا فيما بعد من رموز الإصلاح والعلم والتغيير في أقطارهم، نذكر المؤرخ علي الغتيت، والمحامي عمر كامل مسقاوي، والدكتور عبد الصبور شاهين، والدكتور عبد السلام الهراس... إلخ.
وفي هذه المرحلة أيضاً التقى «ابن نبي» بالعديد من القادة والزعماء ممن عُرف عنهم النضال والتصدي للاستعمار والعمل من أجل تحقيق الاستقلال، مثل الزعيم الصيني «شو آن لاي» (Chou en lai)، والزعيم الهندي «جواهرلال نهرو» (Nehru) والزعيم المصري «جمال عبد الناصر».. وغيرهم.
في سنة 1963م عاد الأستاذ «مالك بن نبي» إلى الجزائر، بعد عدة سنوات قضاها في مصر والمشرق العربي، حيث تقلّد مناصب كثيرة منها: مستشار التعليم العالي، ومدير جامعة الجزائر، ووزير التعليم العالي، غير أنه ولظروف أحاطت به، استقال سنة 1967م، ليتفرغ تفرغاً كاملاً للعمل الفكري، وتنظيم الندوات، وإلقاء المحاضرات، كما قام بتأسيس ملتقى الفكر الإسلامي، الذي كان يُعقد أسبوعيًّا في بيته، وكان يؤمه كثير من الشباب من الجزائر والبلاد العربية وأوروبا. وقد تبنت السلطات الجزائرية في ذلك الوقت فكرة هذا الملتقى، فأصبح يُعقد سنويًّا، وقد اشتهرت به الجزائر، حيث مثل تظاهرة فكرية ثقافية فريدة من نوعها، لنوعية المحاضرات التي تلقى في رحابه، ومستوى العلماء والمفكرين والإعلاميين الذين يحضرون أشغاله.
ظل «ابن نبي» دؤوباً في عمله الفكري، منكباً على تأليف الكتب القيمة، إلى أن بدأ يشعر بإرهاق عام يسري في أوصاله، ما يكاد يختفي حتى يعود من جديد، لتوافيه المنية يوم 31 أكتوبر من عام 1973، مخلفاً تراثاً فكريًّا يعتُبر فريداً ومتميزاً من حيث قدرته على تشخيص الأزمة الحضارية لدى المسلمين، والكشف عن العراقيل والقيود التي تحول دون الإقلاع الحضاري للمجتمع الإسلامي المعاصر، واستئنافه لدوره الريادي في حمل مشعل الحضارة، ذلك الدور الذي توقف، وفقد جميع عناصره المشعة منذ انقضاء عهد الموحدين. لقد عاش «ابن نبي» في القرن الماضي مشكلات الهيمنة الثقافية الغربية في صورتها الاستعمارية القديمة، وهي المشكلات نفسها التي نعيشها اليوم في ظل العولمة، فكان من القلائل الذين أكدوا على وجود طريق ثالث لتحقيق الوثبة الحضارية المرتقبة غير الطريقين الرأسمالي والاشتراكي، والواقع أن أفكاره لا تزال سليمة إلى حد كبير.
وتراث «ابن نبي» الفكري قسمان: يتمثل القسم الأول في المؤلفات المطبوعة المشهورة، بينما يتمثل القسم الثاني في المؤلفات التي ما تزال مفقودة إلى يومنا هذا :
المؤلفات المطبوعة
- الظاهرة القرآنية.
- شروط النهضة.
- حديث في البناء الجديد.
- الإسلام والديمقراطية (يوجد ضمن كتاب تأملات في طبعته الجديدة).
- مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.
- مذكرات شاهد للقرن (الطفل والطالب).
- ميلاد مجتمع.
- إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث.
- المسلم في عالم الاقتصاد.
- فكرة كومنولث إسلامي.
- في مهب المعركة.
- مشكلة الثقافة.
- بين الرشاد والتيه.
- تأملات.
- آفاق جزائرية للثقافة للحضارة للمفهومية.
- الصعوبات كعلامات نمو في المجتمع العربي.
- لبيك (وهي الرواية الوحيدة التي كتبها ابن نبي).
- وجهة العالم الإسلامي (هذا الكتاب نُشر بعنوان: نداء الإسلام، كما نُشر بعنوان: مستقبل الإسلام، أي إن له ثلاث ترجمات على الأقل).
- النجدة: الشعب الجزائري يُباد (وهو رسالة صغيرة كتبها في القاهرة، مساهمة منه في كشف جرائم الإبادة التي تعرض لها الشعب الجزائري على يد الاحتلال الفرنسي).
- دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين.
- الفكرة الإفريقية الآسيوية.
- الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة.
- من أجل تغيير الجزائر.
- القضايا الكبرى.
المؤلفات المفقودة
- دولة مجتمع إسلامي.
- خطاب مفتوح لخروتشوف.
- نموذج المنهج الثوري.
- اليهودية أم النصرانية.
- دراسة حول النصرانية.
- العلاقات الاجتماعية وأثر الدين فيها.
- مجالس تفكير (مجموعة من الدروس والتحليلات الفكرية أدارها في بيته قبل وفاته).
2- العوامل المؤثرة في فكره
كان للإبداع الحضاري الغربي أثره البارز في فكر «ابن نبي»، الذي كان يتردد باستمرار على «متحف الفنون والصناعات» بباريس، فينبهر بما يحتويه المتحف من مبتكرات العلم والتكنولوجيا الحديثة. وقد لعبت هذه الزيارات دوراً مهمًّا في توجيه ميوله واهتماماته العلمية نحو الدراسات الهندسية والكهربائية والكيميائية والطبيعية، حيث يقول: «كنت أريد أن أفهم كل شيء، الجبر والهندسة والكهرباء والطبيعة والميكانيك» .
كما كان للإبداع الحضاري الإسلامي أثره البارز أيضاً في توجيه اهتمامه نحو الدراسات الإسلامية، لا سيما في ظل اطلاعه على مؤلفات بعض المستشرقين من أمثال «زويمر» و «دوساس» و «دوزي» الذين تطرقوا لأمجاد الحضارة الإسلامية وأعلامها، وفي ذلك يقول: «إنني اكتشفت وأنا بين الخامسة عشر والعشرين من العمر أمجاد الحضارة الإسلامية في ترجمة دوساس لمقدمة ابن خلدون وفيما كتبه دوزي عنها، وإنني على إدراك تام لما أدين به لهذه المطالعات» .
هذا الدين الذي نجد أثره واضحاً في نظريته عن الدورة الحضارية المستوحاة من نظرية الدورة التاريخية للدول عند «ابن خلدون»، وفي فكرة «كانط» عن الواجب والحق التي تحتل مكانة جوهرية في فكره التربوي الاجتماعي، من خلال تأكيده المستمر على أسبقية الواجب على الحق، وفي تأكيده على مبدأ الفعالية الاجتماعية في أي مشروع فكري نهضوي، والذي تأثر فيه بفلسفة «جون ديوي» البراجماتية.
هكذا جمع «ابن نبي» بثقافته العربية الفرنسية بين علوم المسلمين وفكرهم، المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتراث الإسلامي الضخم، وبين علوم الغرب وفكرهم المستمد من تراث اليونان والرومان والمسيحية، ليقدم لنا إسهاماً متميزاً جمع فيه بين الأصالة والمعاصرة.
3- مشكلة الثقافة عند مالك بن نبي
اتجه «ابن نبي» نحو تشخيص مشكلة العالم المتخلف، وتحديد أبعادها ومستوياتها، متسلحاً بفكر علمي منهجي، قاده في نهاية المطاف إلى أنها مشكلة أفكار بالأساس، فالإنتاج الفكري هو فيصل التفرقة بين الأمم المتقدمة والمتأخرة.
المتميز في رؤية «ابن نبي» اعتماده على معيار الفعالية الواقعية في تقييم مستوى الأفكار المطروحة، فمشكلتنا هي مشكلة أفكار ولكنها ليست أية أفكار، إنها أفكار تتجاوز مستوى التنظير إلى مستوى التطبيق، وتنتقل من فضاء التجريد إلى مسرح الفعل، فالعالم الإسلامي الذي شهد في القرن العشرين نهضة فكرية متميزة، قُدمت عبرها مشاريع نهضوية متنوعة، كان لها صدى وبريق وجاذبية، ظل عاجزاً عن تحقيق الوثبة الحضارية المنشودة، مما يعني أن التحول من ساحة الفكر إلى ساحة الفعل شرط ضروري لتحقيق التحضر، حيث يقول: «إن المجتمع الذي يحقق نهضة يتمتع بنظام رائع من الأفكار يتيح لكل مشكلة من مشاكله الحيوية حلًّا مناسباً» . مما يعني أن الأفكار المطروحة في مرحلة تاريخية معينة قد تلعب دوراً حاسماً في تحقيق النهضة الاجتماعية إن توافرت فيها شروط الحياة والواقعية، كما أنها قد تلعب دوراً سلبيًّا معيقاً للنمو المنشود، مثبطاً له، إن هي اتسمت بالعقم وانعدام الفاعلية.
وفي ظل حاجة العالم الإسلامي إلى تشييد عالم أفكار قادر على تحقيق النهضة الحضارية، يؤكد «ابن نبي» أن اختلاف المجتمعات الإنسانية في عمر تطورها الاجتماعي، وفي أهدافها واتجاهاتها، يفرض علينا أن نؤسس لعالم أفكار خاص بنا، لا أن نستورد عالم أفكار جاهز لا يتناسب مع خصوصيتنا التاريخية والاجتماعية، ومتى تحقق لنا ذلك أمكننا اللحاق بركب الحضارة.
إن تركيز «ابن نبي» على أهمية عالم الأفكار لا يعني ازدراءه لعالم الأشياء، وتقليله من دوره الفاعل في إحداث النهضة المرجوة، ولكن واقع المجتمع العربي المسلم الذي يفتقد لعالم أشيائه، هو الذي يفرض عليه تأسيس عالم أفكاره أولاً، طالما أن الأفكار هي التي تخلق الأشياء وليس العكس. من هنا يوضح «ابن نبي» طبيعة العلاقة بين الفكرة والشيء، فهما مرتبطان ومتعاونان تعاون الذراع والعجلة في الآلات التي تغير الحركة الأفقية إلى حركة دائرية. فالذراع بمثابة الفكرة والعجلة بمثابة الشيء، وإذا كانت الفكرة هي الذراع المحرك فإن هذا الأخير لا يستطيع تجاوز النقط الميتة في حركته، إذا لم تساعده العجلة على اجتيازها بفضل طاقتها المختزنة . ومنه فلا مجال للتقليل من قيمة الشيء في خلق الحضارة، ولكن التاريخ يقر أسبقية عالم الأفكار، طالما أن القدرة الخلّاقة تكمن في قوة الأفكار.
من شروط فعالية الأفكار عند «ابن نبي» أن تجد هذه الأفكار الاهتمام الكافي الذي يحولها إلى واقع حي ملموس، فنجاح الفكرة مرهون بطبيعة الشروط النفسية والاجتماعية المحيطة بها، ويضرب مثالاً على ذلك بتراث «ابن خلدون» الذي لم يسهم في التطور العقلي والاجتماعي للعالم الإسلامي في القرن الرابع عشر للميلاد، لأنه قدّم أفكاراً لا صلة لها بالواقع الاجتماعي، وتجاوزها لمستوى التطور الفكري آنذاك جعل العقل الإسلامي عاجزاً عن تقبلها واستيعابها.
في ضوء ما سبق يطرح «ابن نبي» تصوره للدورة الحضارية التي تمر من وجهة نظره بثلاثة أطوار : يتجسد الطور الأول منها في القدرة على إبداع الأفكار وتقبلها وتمثلها، ويتجسد الطور الثاني في القدرة على تبليغ الأفكار إلى المجتمعات الأخرى، فيما يتجسد الطور الثالث في تجمد الأفكار وغياب فاعليتها الاجتماعية. وحتى يؤكد «ابن نبي» صحة هذا الطرح يعود بنا إلى التاريخ الإسلامي، ليوضح لنا كيف استطاع المجتمع الإسلامي في عصر «الفارابي» أن يخلق أفكاراً، وكيف كان يبلغها في عصر «ابن رشد» إلى أوروبا، ليصبح عاجزاً عن الإبداع والتبليغ في المرحلة التي أعقبت وفاة «ابن خلدون».
لكن ما العلاقة بين الأفكار والثقافة؟ إن التطور التكنولوجي المعقد الذي ميّز واقع المجتمع الغربي آنذاك، والمنطق العملي التطبيقي الذي كان يحكم تفكير أفراده ويطبع تصرفاتهم، هو الذي جعل «ابن نبي» يقتنع بأن تحقيق النهضة الحضارية المنشودة مرتبط إلى حد كبير بعملية التنشئة الاجتماعية، فهي المسؤولة عن غرس قيم الإبداع والجمال ومنطق الفعالية العملية في الفرد منذ نعومة أظافره... مما يعني أن الحضارة هي نتاج ثقافة خاصة تقدّس العلم والعمل والجمال معاً، وتحرص على توريث هذه القيم إلى الأجيال الجديدة، عبر منهج تربوي عملي، يستمد غاياته من فلسفة أخلاقية سامية... مشكلة العالم الإسلامي المتخلّف إذن هي مشكلة ثقافة غائبة.
من هنا تولّد السؤال عن ماهية الثقافة ومكوناتها في فكر «ابن نبي»: فهل هي ثمرة الفكر على نحو ما يذهب إليه المثاليون؟ أم أنها ثمرة المجتمع على نحو ما يذهب إليه الماديون؟ هل هي عالم الأشياء الذي يعكس إلى حد بعيد مستوى التطوّر الفكري للمجتمع؟ أم أنها عالم الأفكار الذي يعكس مستوى الإنتاج المادي للمجتمع؟ هل يمكن أن تتجاوز الثقافة هذين العالمين لتضم إليها عوالم أخرى تسهم بقدر فعّال في تحديد مميزاتها؟ وتحت أية شروط يمكن للثقافة أن تبدع حضارة متميزة؟
انتهى «ابن نبي» إلى أن الثقافة «مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريًّا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه» . فالثقافة بعالمي أفكارها وأشيائها تحيط بالإنسان منذ نعومة أظافره، وهو يتمثلها مثلما يستنشق الهواء، مما يعني أن الثقافة من وجهة نظره لا تضم عالمي الأشياء والأفكار فحسب، ولكنها تضم أيضاً عالم الأشخاص الذين يستدمجونها، ويجسدونها في حياتهم الواقعية، ويعملون على نقلها إلى الأجيال اللاحقة، كما تضم عالم الطبيعة باعتباره الرقعة الجغرافية التي يحيا عليها هؤلاء الأشخاص، فيستمدون منها منابع إلهامهم، ووعيهم بالمشكلات التي تواجههم، والوسائل المناسبة لحلها.
هذه العوالم لا تعمل منفردة ولكن في تناغم وتوافق، فالمشكلات التي يفرضها عالم الطبيعة، تواجه بمشاريع أيديولوجية يُنتجها عالم الأفكار، يتم تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء، لتحقيق غايات يحددها عالم الأشخاص. وكلما أحسنا التركيب بين هذه العوالم أمكننا التعجيل ببزوغ فجر الحضارة المنشودة.
وعلى الرغم من تأكيد «ابن نبي» على الترابط الوثيق بين العوالم السابقة، إلَّا أنه يعطي الأولوية لعالم الأفكار، فالشواهد التاريخية تؤكد أن المجتمع الذي ينهار عالم أشيائه في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية، يكون قادراً على إعادة تشييده من جديد إن هو أحسن الاحتفاظ بعالم أفكاره، مما يؤكد قيمة الخلق المتضمنة في بناء الفكرة.
وطالما أن الحضارة في فكر «ابن نبي» لا تعدو أن تكون مجموعة من الأفكار الثقافية المحققة ، فإن هذه الأفكار لا بد أن تخضع لجملة من المعايير تكفل لها النجاح على أرض الواقع، أولها التوجيه فليس المهم أن ننتج أفكاراً، ولكن أن نحسن توجيهها بحيث نتجنب الإسراف في الجهد والوقت والإمكانات، فنصل إلى الغايات المرسومة بأقصر الطرق وأقل التكاليف.
ولأن التوجيه يكون نحو غايات محددة انبثقت الحاجة إلى فلسفة أخلاقية سامية تستمد منها هذه الغايات، بحيث تخلق وحدة الهدف التلاحم المطلوب بين عالم الأشخاص. وحتى نحسن استخدام الوسائل التي يتيحها عالم الأشياء لا بد أن يحكمنا منطق عملي يحقق أكبر قدر من الفائدة. ويكون نتاج ذلك التفاعل حضارة متميزة، تطبعها منتجات تكنولوجية متطورة، ويلفّها ذوق جمالي ينبغي أن نلاحظه في أنفسنا وبيوتنا وشوارعنا ومقاهينا وأعمالنا الأدبية والفنية، «لأن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفظ وجهنا لكي نحفظ كرامتنا ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بنفس الاحترام» .
وعلى الرغم من أن «ابن نبي» لا يأخذ بالمفهوم الماركسي للثقافة، إلَّا أنه يؤيد «ماوتسي تونغ» في تأكيده على ضرورة الثورة على ثقافة الإقطاع البائدة تأسيساً لثقافة شيوعية جديدة. فتحقيق النهضة المنشودة يتطلَّب تصفية العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية والاجتماعية البالية العقيمة الممرضة، حتى تخلو الساحة لثقافة حية باعثة للحضارة.
وفي هذا السياق يشير «ابن نبي» إلى دور المثقف في عملية البناء الحضاري، حيث يضع على عاتقه مسؤولية تعليم الأجيال الناشئة، وخلق الوعي الاجتماعي الحقيقي بأسباب التخلف وسبل تجاوزها، فضلاً عن مساهمته الفعّالة في تعزيز أواصر الوحدة الاجتماعية، لأن المعركة تتطلب وعياً وإرادة وتجنيداً على نطاق جماهيري واسع، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلَّا في ظل تحرره من رواسب الماضي التي ورثها عن مجتمعه. ويستدل «ابن نبي» على ذلك بالحضارة الإسلامية التي استطاعت أن تقضي على الأفكار الجاهلية البالية، وأن تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية.
لقد كان «ابن نبي» صاحب رؤية «un visionnaire» ، فقبل أن يبدأ الحديث عن النظام العالمي الجديد، وعن العولمة بثلاثة عقود كان الرجل يتحدث عن تعايش الثقافات. لقد أدرك بثاقب نظره أن العالم في القرن العشرين يتجه نحو ثقافة عالمية، وأن الضمير الإنساني لم يعد يتشكل في نطاق الوطن أو الإقليم، فكان من الأوائل الداعين إلى فكرة حوار الحضارات القائم على الندية، مؤكداً ضرورة أن ترتقي المجتمعات المتخلّفة إلى مستوى الحضارة، وأن ترتقي المجتمعات المتقدمة إلى مستوى الإنسانية، بحيث يتم صهر نزعتي الاستعمار والقابلية للاستعمار في بوتقة سلام عالمي، مشيراً إلى الدور الفعّال الذي يمكن أن تلعبه الثقافة العربية الإسلامية في ذلك إن هي تحررت من جمودها الراهن، واستلهمت من قيم القرآن الكريم فلسفتها الأخلاقية، ومنهجها التربوي، ومنطقها العملي وذوقها الجمالي ، حيث يقول: «إن نجاحنا في المعركة العالمية سوف يكون بقدر نجاحنا في معركتنا الداخلية» .
4- حياة عبدالله شريط ومؤلفاته
ولد «عبدالله شريط» ببلدية مسكانة، ولاية أم البواقي سنة 1921. التحق في صباه بكتّاب القرية لحفظ القرآن، وبدأ تعليمه الابتدائي بمدرسة فرنسية في مسكانة سنة 1927، وبعدها انتقل إلى تبسة سنة 1932، وهناك التحق بمدرسة جمعية العلماء المسلمين «تهذيب البنين» وتتلمذ على يد الشيخ «العربي التبسي» إلى غاية نهاية أربعينات القرن الماضي، ذهب إلى تونس لتحصيل العلم. وهناك مكث سنة واحدة، لينتقل بعدها إلى قسنطينة ويلتحق ببعض مدارسها.
ولما انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 عاد إلى تونس مرة ثانية ليحصل على شهادة التطويع من جامع الزيتونة سنة 1946. وبمساعدة «محمد خيضر» سافر إلى دمشق وبيروت، والتحق بالجامعة السورية سنة 1947 لدراسة الأدب العربي، ولكنه سرعان ما تحول إلى قسم الفلسفة، إلى أن تخرج بشهادة الليسانس في الفلسفة سنة 1951.
بعدها عاد إلى الجزائر وفي غياب العمل، انتقل إلى تونس مرة أخرى سنة 1952، ليزاول التدريس بمعهد علم النفس والفلسفة الذي أنشئ آنذاك بجامع الزيتونة. وبعد اندلاع الثورة الجزائرية تلقى عرضاً من الكاتب العام للرئيس الحبيب بورقيبة -وقد كانت تونس قد نالت استقلالها- ليكون بديوان الرئاسة، فقبل العرض بعد نقاش صريح مع الرئيس «بورقيبة». ولم تدم مهمته بالديوان سوى بضعة أشهر ليعود إلى تدريس علم النفس مرة أخرى، بالإضافة إلى اشتغاله بنقل كتابات الصحافة الأجنبية عن جزائر الثورة والتعليق عليها، وقد صدر مجموع تلك الكتابات في عدة مجلدات في منشورات وزارة المجاهدين، بحيث تعد هذه الكتابات سجلاً موثوقاً عن آراء وتعليقات كبريات الجرائد عن كفاح الشعب الجزائري.
وقد ساهم خلال هذه الفترة أيضاً في كتابة افتتاحيات «صوت الجزائر» التي كان يلقيها المرحوم «عيسى مسعودي»، واستمر نشاطه هذا إلى غاية عام 1962. عاد «شريط» بعد الاستقلال إلى الجزائر، لتكلفه وزارة التربية بتأليف الكتب المدرسية، وبعدها بمدة وافقت الجامعة على أن يكون مدرساً للأدب بها. حاز على شهادة دكتوراه دولة في موضوع «الفكر الأخلاقي عند عبد الرحمن بن خلدون» عام 1972. كما ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام 1974، توفي الرجل عام 2010 عن عمر يناهز 89 سنة.
«عبدالله شريط» شخصية متعددة المواهب، فهو شاعر وأديب وناقد ومربٍّ وكاتب ومترجم بارع، يتقن لغة الضاد كما يتقن لغة فولتير، إليه يرجع الفضل في إثراء المكتبة الجزائرية والعربية بمؤلفات قيمة نذكر منها:
- شخصيات أدبية من المشرق والمغرب بالاشتراك مع أبي القاسم محمد كرو.
- المشكلة الأيديولوجية وقضايا التنمية في الجزائر.
- الجزائر في مرآة التاريخ.
- حوار أيديولوجي حول المسألة الصحراوية والقضية الفلسطينية.
- الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية 1954 - 1956 في جزأين.
- معركة المفاهيم.
- المنابع الفلسفية للفكر الاشتراكي في الجزائر.
- أخلاقيات غربية في الجزائر.
- الرماد.
- نظرية حول سياسة التعليم والتعريب.
- مختصر تاريخ الجزائر السياسي والثقافي والاجتماعي مع محمد الميلي.
- الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون.
- من أجل سعادة الإنسان.
- تاريخ الثقافة في المشرق.
- نصوص مختارة من فلسفة ابن خلدون.
- مع الفكر السياسي الحديث والمجهود الأيديولوجي في الجزائر.
- من واقع الثقافة الجزائرية.
5- العوامل المؤثرة في فكره
نجد في كتابات «شريط» ودروسه وحواراته، ملامح إمام النهضة الجزائرية الشيخ «عبد الحميد بن باديس (رحمه الله)»، فقد استلهم منه فكرة الإصلاح القائم على نشر اللغة العربية والعقيدة الإسلامية، البعيدة عن الجمود والتحجر، بحيث يتحقق التغيير الإيجابي في سلوك الأفراد أولاً، وصولاً إلى ترقية المجتمع ثانياً، حيث يعترف بذلك قائلاً: «إن فكري ليس إلَّا امتداداً للفكر الإصلاحي الثوري الباديسي» ، مضيفاً: «من الأفضل أن أكون مصلحاً اجتماعيًّا، وأنا سليل ابن باديس، وأحاول أن أستكمل مشروعه في الميدان الفكري» .
كما نجد في فكره أوجه شبه كثيرة مع مقاربات «مالك بن نبي» الذي استطاع أن يستخلص من ماضي العرب والمسلمين الحضاري المشرق في القرون الوسطى، وحاضرهم البائس، شروط نهضتهم المأمولة، مؤكداً أن عجزهم وتخلّفهم ليس قدراً محتوماً مفروضاً عليهم، ولكنه واقع يمكن تجاوزه بشروط خاصة. وهو الأمر الذي أكده أيضاً «شريط» في العديد من محاضراته ومؤلفاته ومقالاته.
لقد تأثر «شريط» في مقارباته السوسيولوجية بالفكر الخلدوني إلى المدى الذي اعتبر فيه «ابن خلدون» المعلم الأول في الثقافة العربية الإسلامية، مكرساً جانباً هامًّا من تراثه الفكري -والمتمثل في رسالته التي تقدّم بها لنيل درجة الدكتوراه- لدراسة فكره الأخلاقي، مستوحياً منه اهتمامه بأحوال المجتمع ومشاكله، وطرق إصلاحه وترقيته، إضافة إلى إعجابه بالمناهج التي استحدثها في البحث، والتي تعتبر ثورة على المناهج العتيقة التي كانت تطبقها العلوم حتى ذلك الوقت، مقيماً منهجه السوسيولوجي الخاص على الملاحظة، والمقارنة، والتحقيق واستخلاص النتائج بما يحقق نفع المجتمع، وهي الواقعية التي ظل «عبدالله شريط» متمسكاً بها، داعياً إلى تطبيقها في الجامعة الجزائرية، من خلال ربط البحوث الأكاديمية بواقع المجتمع الجزائري.
ومما يميّز فكر «شريط» أيضاً نزعته الاشتراكية، حيث يعترف بذلك في كتابه «المشكلة الأيديولوجية وقضايا التنمية»، معتبراً أن تبني الجزائر للمذهب الاشتراكي كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية، وطرد شبح التخلّف ومقاومة السيطرة الأجنبية، داعياً إلى ضرورة استفادة المسلمين من الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية المطبقة في أوروبا، مادام ذلك لا يتناقض مع جوهر الإسلام، حيث يقول: «أول مبدأ ننطلق منه في تبني الاشتراكية كمذهب في حياتنا (...) أنها تمكننا من تحقيق هدفين: الأول حضاري وهي أن نخرج من التخلف ونلتحق بصفوف الأمم الراقية (...) والثاني: إنساني يحقق للطبقات المحرومة في المجتمع كرامتها الإنسانية عن طريق مساواتها اقتصاديا» . ومن المذهب الاشتراكي استمد الدكتور «شريط» مفهومه عن «الثورة الثقافية» التي دعا من خلالها إلى القضاء على الفوارق الثقافية بين طبقات المجتمع، وصولاً إلى القضاء على الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بينهم.
6- مشكلة الثقافة عند عبدالله شريط
اتجه «عبدالله شريط» إلى تشخيص مشكلات الثقافة الجزائرية في ظل مناخ خاص شهدته البلاد عقب الاستقلال مباشرة، حيث عرفت تغيرات جوهرية في مختلف الميادين، تمثل أهمها في صعود سلطة وطنية إلى الحكم، وفي تغير موازين القوى داخل المجتمع الجزائري. لقد كان على الدولة الحديثة العهد بالاستقلال أن تواجه التركة الاستعمارية بكل ثقلها، فوضعت في مقدمة أولوياتها الوطنية المستعجلة، بناء دولة قادرة على تسيير شؤون البلاد وحفظ الأمن من جهة، ومواجهة أعباء الاستقلال من جهة ثانية. من ضمن هذه الأعباء ضرورة التصدي لسياسة التجهيل التي طبقها الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري من خلال تطبيق مبدأ ديمقراطية، جزأرة وتعريب التعليم في مختلف مستوياته.
أبدت السلطة السياسية آنذاك إرادة قوية لاستعادة الهوية الجزائرية بكامل مقوماتها، لا سيما اللغة كوعاء لها، والتاريخ كذاكرة لشعبها. فمسألة التعريب مثلت بالنسبة لها قضية سياسية ومسألة هوية؛ لأن الشعب الجزائري الذي ناضل نضالاً مستميتاً ضد الاحتلال الفرنسي لم يهضم مكسب الاستقلال الوطني الذي تغيب فيه سيادة اللغة الوطنية، ولذلك تصدرت المطالبة بتحقيق التعريب الشامل، وخصوصاً في مجال التعليم قرارات جميع المنظمات الجماهيرية منذ الاستقلال. لكن المهمة لم تكن سهلة في ظل تراكم الموروث الثقافي الاستعماري، وفي ظل الجدل الحاد بين النخب السياسية والفكرية داخل المجلس التأسيسي وفي صفوف اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين حول قضية التعريب، بحيث كان الوصول إلى موقف موحد خلال الاجتماعات التي كانت تعقد، أمراً بعيد المنال.
ورغم أن ميثاق طرابلس لسنة 1962، ودستور الجزائر لسنة 1963 أكدا أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، إلَّا أن تجسيد ذلك على أرض الواقع لم يكن بالأمر الهيِّن في ظل وجود أطراف معارضة. ولعل هذا ما جعل مواقف القيادة السياسية للبلاد آنذاك غير واضحة، فتصريحات الرئيس السابق «أحمد بن بلة» ظلت تبريرية تصف حالة الوضع المعرقل للتعريب. ورغم تشكيل «لجنة التعريب» لسنة 1964 إلَّا أن القرارات التي كانت تصدرها لم تكن نافذة.
هكذا اتسمت فترة حكم الرئيس السابق «أحمد بن بلة» باستمرار الازدواجية اللغوية على المستوى الثقافي، ويرجع ذلك لحداثة الاستقلال من جهة، وتأثير المشروع الاستعماري الثقافي على الثقافة واللغة الجزائرية من جهة أخرى.
وقد استمرت الازدواجية اللغوية في عهد الرئيس «هواري بومدين» خاصة في المرحلة الأولى من حكمه، لينطلق مشروعه الاشتراكي بثوراته الثلاث: الصناعية، الزراعية والثقافية، التي شكَّلت اللغة العربية أساساً لها كضرورة وطنية وثورية وعلمية، حيث يقول: «قضية التعريب هي مطلب وطني وهدف ثوري، ونحن لا نفرق بين التعريب وبين تحقيق أهداف الثورة في الميادين الأخرى» .
تجسّدت هذه التصريحات في جهود ميدانية بدأت خلالها العربية تتبوأ مكانتها منذ سنة 1971، حيث انعقدت خلالها الندوة السنوية الأولى لإطارات التربية، وكان موضوع التعريب أحد الانشغالات الأساسية فيها، وقد صادقت على التعريب في مختلف أطوار التعليم.
وفي سنة 1973 عقدت الجزائر المؤتمر العربي الثاني للتعريب، شاركت فيه 15 دولة عربية، تناول خصائص اللغة العربية، والطرق المتبعة لتطويرها، وإمكانية توحيد المصطلحات العلمية بين الأقطار العربية. وخلاله تعهدت الجزائر بتنفيذ التوصيات التي أقرت تدعيم اللغة العربية في التعليم، فأصبحت مع مرور الوقت تحقق مكاسب حتى أصبحت اللغة الأولى المعتمدة في التدريس.
إن ما تقدم لا يعني أن النقاش حول مسألة التعريب قد تم تجاوزه بتصريحات وخطب المسؤولين السياسيين، بل على العكس من ذلك، تعمق الخلاف بين المثقفين مفضياً إلى ترسيخ توجهين بارزين: أحدهما مناصر للتعريب، يتحكم في قواعد اللغة العربية وآدابها، ويمثل نمط الثقافة العربية الإسلامية، وله إحساس عميق بالانتماء إليها. والآخر متأثر بالثقافة المنقولة بواسطة اللغة الفرنسية، ويأخذ مصادره من رموز العالم الغربي، ويطالب بالإبقاء على اللغة الفرنسية باعتبارها لغة العلم والثقافة. وبينهما اتجاه ثالث يدعو إلى ازدواجية اللغة، وهذا ما فتح المجال للمفاضلة بين اللغتين وطرح مسألة أيهما أصلح للتعليم؟
بهذا المنظور ظلت مسألة التعريب محل جدل ونقاش، واكتسى هذا النقاش أسلوباً أبعد ما يكون عن متطلبات البحث العلمي المنهجي، ليصبح ضرباً من الحماس العاطفي المنفعل، الذي لا ينجر عنه سوى إثارة المشاحنات والمناقشات الفارغة، وفي هذا يقول عبدالله شريط: «إن التعريب عندنا ظل سنوات طويلة محل نقاش بين طرفين لا يفهم أحدهما الآخر، فكان شبيهاً بنقاش الصم البكم الذي لا يسمع بعضهم البعض...» .
في هذا السياق يأتي إسهامه «من واقع الثقافة الجزائرية» حاملاً بين طياته مجموعة مقالات وبحوث، كتب «عبد الله شريط» أغلبها فيما بين سنتي 1968 و 1970 والقليل منها فيما بعد، ليقدم من خلالها بأسلوب نقدي، وبكثير من الصراحة وجهة نظره في القضية، مؤكداً أهمية اللغة الوطنية كمقوّم وطني يبني شخصية الفرد الجزائري، ويساهم بشكل كبير في إرساء نهضته الحضارية.
يميز «عبد الله شريط» بين مستويين هامين في أي مشروع نهضوي: مستوى التنظير، ومستوى الممارسة أو التطبيق. فلا يكفّ أن تكون الفكرة مناسبة، طموحة وهادفة، ولا يكفّ أن يكون الحماس لتطبيقها قويًّا متدفقاً، ما لم تحدد الاستراتيجيات المناسبة للتطبيق، والوسائل المادية والبشرية الكفيلة بإنجاح المشروع. وعليه فإن معركة التعريب في الجزائر التي لا تزال تقبع في مرحلة التنظير ومناقشة المبدأ، لا بد من وجهة نظره أن تتطور إلى مرحلة أكثر تقدماً، وهي مرحلة تقديم الأسلحة الضرورية للمعركة.
وعلى مستوى الممارسة يؤكد «شريط» على عنصر جوهري في نجاح المشروع وهو الاعتماد على الذات، وتحمل المسؤولية بكل تبعاتها ومستوياتها. وعليه فإن تطبيق التعريب في الجزائر من وجهة نظره لا ينبغي أن يوكل إلى المتعاونين المشارقة، أو خبراء من منظمة اليونيسكو، أو المستعربين السوفيات أو الهولنديين أو الفرنسيين، وإنما إلى الأساتذة والمعلمين الجزائريين. وأن هؤلاء لا ينبغي أن يقصروا جهودهم في إنجاح المشروع على تنفيذ تعليمات الحكومة، وتوجيهات وزارة التربية والمفتشين مهما كانت دقتها، وإنما عليهم أن يثوروا على أنفسهم، وهذه الثورة لا تكون إلَّا برفع مستواهم الثقافي العام، ليس في اللغة العربية فحسب، وإنما في ميادين علم النفس والتربية الحديثة، وفي التاريخ العام، وتاريخ الأدب، وتربية الذوق الجمالي.
بالإضافة إلى تعلّم لغة أجنبية يطلون منها على تجارب الأمم الأخرى في العصر الراهن، ولا سيما تلك الأمم التي يثور فيها كل جيل على انجازات الجيل الذي سبقه، بشكل إيجابي بنّاء، لا يستهدف تحطيم ما بناه الجيل السابق، ولكن تجاوزه إلى ما هو أعلى وأبعد وأعمق. فالمعلم الجزائري في عهد الاستقلال معلم تكوّن تكويناً سريعاً، لم يمتلك معه ناصية الثقافة العامة، ولا السيطرة على اللغة حتى يستطيع نقلها بكفاءة وفاعلية إلى الأجيال الصاعدة.
ولنجاح معركة التعريب، لا بد من مراجعة موقفنا من القواعد التي تعلّم بها اللغة العربية اليوم، والاعتراف بأنها لم تعد قواعد صالحة لأطفالنا وشبابنا، وضرورة استبدالها بقواعد جديدة، يكون طابعها البساطة والوضوح والسرعة والفعالية. وليست تلك مسؤولية المثقف اللغوي الجزائري فقط، ولكنها مسؤولية جميع المثقفين اللغويين العرب، الذين ينشطون في المجمعات اللغوية. وهي مسؤولية تقتضي منهم النهوض باللغة العربية، وإبداع الجديد فيها، حتى تستطيع منافسة اللغات الأجنبية التي باتت تزاحمها في عقر دارها. وتلك هي رسالة المثقف الكفء عند «شريط»، فهو مطالب بأن يمتلك مادة ثقافته، وأن يعمل باستمرار لإدخال الجديد عليها، لا أن يتصف بروح الاستهلاك والاتكال، فيكتفي باستهلاك ما خلّفه الأجداد.
إن تطور اللغة عند «شريط» لا ينفصل عن تطور المجتمع، فإذا كانت حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى إعادة نظر، ومراجعة عميقة حتى نجد لنا مكاناً بين الأمم المتحضرة، فكذلك العربية، إنها بحاجة إلى إعادة نظر في أساليبها وتراكيبها وطرق تدريسها، حتى تجد لها مكاناً بين لغات الأمم المتحضرة. فلا يعقل أن تكون اللغة راقية، والمجتمع الذي تحيا فيه متخلفاً، ولا يمكن أن تزخر هذه اللغة بمصطلحات، واشتقاقات، وتراكيب تساير عجلة الحضارة، في مجتمع أمي لم يبلغ شيئاً من هذا المستوى الحضاري.
ويؤكد «شريط» بقوة، أن عدم الوعي بضرورة تطوير اللغة العربية، قد يعرضها للانحسار والركود، كما حدث للغات الصينية واليونانية والعبرية واللاتينية. وعليه، وكما وجهنا جهودنا لمحاربة المستعمر، واسترجاع وطننا، وكما اجتهدنا في تأميم اقتصادنا، فأصبح اقتصاداً وطنيًّا، بعد أن كان تابعاً لفرنسا، علينا كذلك أن نطور ثقافتنا بما فيها اللغة العربية، وأن نخرجها من دائرة التخلف والركود التي تعيش فيها. مما يعني أن الثورة الثقافية في نظر «شريط» ينبغي أن تسير في اتجاهين:
• اتجاه تقني، يجعل اللغة العربية قادرة على اللحاق بركب الحضارة الحديثة، من خلال إثرائها بالمصطلحات العلمية والتقنية.
• اتجاه شمولي، تعمم فيه اللغة العربية، بحيث تكون في متناول جميع فئات الشعب بدون استثناء.
إن تطوير اللغة العربية، بشكل يجعلها في متناول القاعدة الشعبية العريضة، يمثل في فكر «شريط» مسألة حيوية، نظراً للهوة السحيقة التي تفصل الإطارات الجزائرية المسيرة للبلاد عن المستوى الثقافي البسيط للمواطن الجزائري. إنها إطارات تستخدم اللغة الفرنسية التي لا يفهمها الشعب، كما أنها لا تأخذ في الحسبان أميته في كل ما تسنّه له من قوانين ولوائح، ونتيجة لهذا الانقطاع، أصبحت إطارات الدولة في الإدارات، والحزب، والمنظمات الشعبية تعيش في عالم، والشعب في عالم آخر، لا يجمع بينهما إلَّا المكان الجغرافي و الزمان المادي.
هذه القطيعة لا تمثلها الفئة الناطقة باللغة الفرنسية فقط، ولكن كذلك الفئة الناطقة بالعربية الفصحى، على اعتبار أن عامة الشعب تتحدّث العامية، وهذا يعني أنه لا المفرنسين قادرين على التواصل مع الشعب، ولا المعربين كذلك، فثمة قطيعة بين الشعب، والنخبة المثقفة بعامة، مما يقود «شريط» من جديد إلى التأكيد على ضرورة التعريب من ناحية، وعلى ضرورة تطوير وتبسيط اللغة العربية حتى تصل إلى أذهان وعقول العامة من ناحية أخرى.
المجتمع الجزائري إذن مجتمع يتكلّم لغة، ويكتب أخرى، وحتى نستطيع تجاوز هذا الفصل القائم بين لغة المجتمع من ناحية، ولغة المثقفين فيه من ناحية أخرى يقترح «عبد الله شريط» بديلين:
الأول: يتمثل في الاعتناء باللهجات العامية المحلية، والسهر على تنظيمها، وتطويرها، وتوجيهها حتى تأخذ شيئاً فشيئاً طابع اللغة الثقافية. صحيح أن العامية ليست لغة كتابة، ولا لغة علم، ولا لغة حساب، ولكن مفرداتها التي تنبع من قلب المجتمع يمكنها أن تغني اللغة العربية، فتصبح في متناول جميع فئات الشعب العامية والمثقفة، ومع مرور الأجيال تقترب اللغة المنطوقة تدريجيًّا من المكتوبة إلى أن يحدث الاندماج بينهما نهائيًّا، وهو ما استطاع تحقيقه إخواننا في المشرق، فلغتهم العربية المستخدمة في وسائل الإعلام، وفي إلقاء المحاضرات العلمية، وفي التواصل بشكل عام، مزيج بين الفصحى والعامية، يفهمها العامي، ولا ينفر منها المثقف.
الثاني: يتمثل في النزول باللغة العربية الفصحى من طابع البلاغة اللفظية، والتشبع بالمعاني الفلسفية واللهجة الخطابية، إلى مستوى الفعالية والتبادل النفعي، فنبسط تراكيبها، وقواعدها النحوية والصرفية، و نغنيها بمفردات من واقع المجتمع، فتصبح أكثر قرباً من تناول الجمهور.
وفي كلتا الحالتين، يؤكد «شريط» أن اللغة لا بد لها من مجتمع يتكلمها، ويطورها، وينهض بها باستمرار حتى تحيا وتتطور. والمجتمع لا بد له من لغة يتواصل بها أفراده، ويقدمون من خلالها منتوجهم الثقافي المتميز، لكن شريطة أن تكون لغة واحدة، تحفظ للمجتمع وحدته وتضامنه، فالفواصل اللغوية تستتبع بالضرورة فواصل اجتماعية وثقافية، وعليه فلا سبيل لتحقيق ثورتنا الثقافية في إطار من وحدة الهوية إلَّا بالقضاء على هذه الفواصل اللغوية.
وبناءً على ما سبق، فإن معركة التعريب في فكر «شريط» لا بد أن تمر بمرحلتين:
أولاً: مرحلة الجدل اللفظي وشحن العواطف ومناقشة المبدأ، وقد آن الأوان لتنتهي هذه المرحلة.
ثانياً: مرحلة العمل، وتجنيد الوسائل اللازمة لتطبيق المشروع على أرض الواقع، وهذه المرحلة ينبغي أن تمر بطورين:
• البحث عن طريقة تيسر بها اللغة العربية على أفراد الشعب، والاجتهاد في ذلك إلى أقصى حد تتحمله اللغة العربية من التيسير، والاختصار، والخفة، والطواعية، والحيوية.
• تعميم اللغة العربية في جميع الأوساط الشعبية، والمجالات العلمية والعملية.
جنود هذه المعركة هم جميع معلمي اللغة العربية، الذين ينبغي تجنيدهم من طرف السلطة السياسية لتثقيف الشعب، وتعليمه لغة وطنه، وذلك في المقاهي، والمحلات، وإدارات الوظيف العمومي، وقاعات الدرس... إلخ، بالإضافة إلى اللغويين الذين ينبغي أن يجتهدوا في تطوير قواعد اللغة، وتيسيرها، وتبسيطها، وجعلها في متناول الشعب.
دور الجامعة في هذه الثورة استراتيجي، إذ يتحتم عليها أن تكون مخبراً تحلّل فيه الأوضاع الاجتماعية التي تتخبط فيها البلاد، وتقدم فيه الإحصائيات العلمية لكل ما فيها من عناصر إيجابية وسلبية، بحيث تشكل الجامعة مصدر المعرفة الصحيحة بالماضي والحاضر، وهذا لن يتحقق إلَّا متى قطعت الجامعة صلتها بالماضي الاستعماري، وأقامت صرح عهد جديد، يعتمد على وسائل العلم الحديث في تحقيق المعرفة الموضوعية بجوانب الواقع الاجتماعي، بحيث يتم استثمارها من طرف السلطة في بناء مستقبل ينطلق من واقع الشعب ويعود إليه.
وحتى تتحقق هذه القطيعة مع الإرث الثقافي الاستعماري، يرى «شريط» ضرورة أن يتخطى التعريب أسوار المدرسة بمختلف أطوارها، ليلج الجامعة بمختلف شعبها وتخصصاتها العلمية، بحيث لا يقتصر على لغة التدريس وحدها، وإنما يمتد إلى محتوى المقاييس التي تدرس للطلبة، فكلية الطب ينبغي أن تدرس التراث الطبي العربي، ووسائل العلاج الشعبية، وكلية الحقوق ينبغي أن تدرس القوانين التي تنظم المجتمع الجزائري، وتسلط الضوء على مشاكل الزواج، والطلاق، والجريمة فيه، وكلية الأدب ينبغي أن تضع على رأس قائمة موادها الدراسية الأدب العربي القديم والحديث، والأدب الشعبي وهكذا. بمعنى أن تعريب الجامعة ينبغي أن يشمل المضمون العلمي الذي يقدم للطلبة، إضافة إلى الأداة اللغوية التي تعبر عنه.
تعريب الجامعة ينبغي أن يقوم أيضاً على استبعاد الأساتذة الأجانب غير العرب من عملية التدريس، والاعتماد بشكل أكبر على تكوين الأساتذة الجزائريين، والاعتماد عليهم في تسيير دواليب جامعاتنا، ويتطلب ذلك تشجيع الكفاءات الجزائرية ماديًّا، حتى لا تستقطبها الشركات الوطنية بمرتبات مضاعفة، فتضطر الجامعة إلى تعويضها بإطارات أجنبية تسمم عقول الطلبة، وتفسد أخلاقهم، وتضعف وطنيتهم، فتكون الخسارة مضاعفة: مادية ومعنوية.
عنصر الطلبة ينبغي أن يستثمر أيضاً في هذه المعركة، من خلال إدماجهم سياسيًّا واجتماعيًّا في تطبيق مشروع المجتمع الذي تنبته السلطة السياسية. إن المشروع الوطني في الجزائر، لا يمكن أن يكتب له النجاح إلَّا باستثمار عقول وجهود جميع مثقفيها، وتنمية حسهم الوطني، وهذا يقتضي ملء أوقات الطلبة داخل الجامعة بالمواد الوطنية الجزائرية والعربية، وملء أوقاتهم خارج الجامعة بالنشاط السياسي والاجتماعي، من خلال تجنيدهم الواسع ضمن حملات تطوعية لصالح الثورات الثلاث، لنشر أفكارها وإقناع الجماهير العريضة بإيجابياتها، وكذا الوقوف على العقبات التي تواجهها، والتي بإمكانها عرقلة هذا المشروع الوطني، بحيث يظهر الطالب في النهاية كمثقف ثوري، يؤدي مهمته النضالية لصالح مشروع أيديولوجي، سياسي، اقتصادي، اجتماعي وثقافي محدد، وتلك هي رسالة المثقف الحقيقي عند «شريط».
ثمة عوامل استراتيجية من شأنها أن تدعم هذه الثورة الثقافية، يحصرها «شريط» في عاملين:
الكتاب: ويعتبره «شريط» البضاعة الأولى الواجب توفيرها في السوق للجميع، قبل حليب الأطفال، وقبل الخبز والدواء. وإذا كان الإنتاج المحلي للكتاب ضئيلاً، فهذا يقتضي استيراده من الخارج، لكونه الوسيلة الفعالة للقضاء على الأمية الثقافية، وفي هذا السياق انتقد «شريط» المثقفين الجزائريين الذين يشكون من قلة الكتاب المحلي، في الوقت الذي لا يعيرون فيه هذا الكتاب أية أهمية متى صدر سواء باللغة العربية أو الفرنسية، خلافاً لتجاوبهم وتفاعلهم الكبير مع المنتوج الأجنبي، مؤكداً أن خلق حياة ثقافية خصبة بالجزائر يعتمد بشكل أساسي على تشجيع الكتابة المحلية، والاهتمام بمضمونها، وتعريف القراء بقيمتها العلمية والثقافية.
وفي السياق نفسه يفسر «شريط» بطء تطورنا الثقافي بإرجاعه إلى عاملين: فنحن لا نقبل بالإنتاج الهزيل، ولا نبذل الجهود الكبيرة التي يتطلبها الإنتاج الجيد. هذه الرهبة من الجمهور، هي التي جعلت الأقلية تصقل مواهبها ما أمكن، ودفعت بمواهب الأغلبية ممن لا صبر لهم على بذل الجهد المتواصل إلى التلاشي والاندثار. وفي تشخيصه لمستوى الكتابة المحلية، يرى «شريط» أنها تعيش مرحلة الكم، أي الحرص على الزيادة في الإنتاج، وأنها لم تصل بعد إلى مرحلة الجودة الفنية، التي يصبح فيها القارئ قادراً على تمييز الغث من السمين، ولا إلى مرحلة بروز الشخصية الخالية من آثار التقليد والحشو والانفعال، بحيث تكتسي هذه الكتابة حلة جزائرية عربية إسلامية، مؤكداً أن هذا المستوى في التأليف يتطلب سنين من العمل.
الإذاعة: يرى «شريط أن الإذاعة يمكن أن تلعب دوراً هامًّا في غرس الذوق الرفيع، والأخلاق المهذبة والاتجاه السياسي والاجتماعي والحضاري السليم، شريطة أن تكون متطورة باستمرار، تكرس الإنتاج الجيد، وتستبعد ما لا يروق للذوق العام. وهذا يتطلب أن يكون مذيعوها ومسيّروها من المثقفين الواعين بأهمية رسالتهم التثقيفية، من المجتهدين في رفع مستواهم الثقافي والمهني باستمرار، من الساعين إلى الخلق والإبداع والإتيان بالجديد في مجال عملهم، لا من المستهلكين القانعين بتكرار تجارب الغير. مع ضرورة وعيهم بتقديم ما يتناسب مع المستوى الثقافي لهذا الشعب، حتى يستطيع التفاعل مع ما تقدمه الإذاعة من مواد وفقرات تثقيفية.
وفي معرض دعوته إلى حتمية التعريب في الجزائر، يرد «عبد الله شريط» على المفرنسين المعارضين لهذا المشروع بقوة، والواصفين المعربين بالبرجوازيين الذين يفرضون على الشعب لغة فصحى، لا يفهمها ولا يتقنها، بأنهم أكثر برجوازية منهم لكونهم يريدون أن يفرضوا عليه لغة لا تمت لتاريخه، وثقافته و أصوله بصلة، فهي لغة فرضها المستعمر عليه قسراً. واصفاً إياهم «بحزب فرنسا» في الجزائر، هذا الحزب الذي تتعمق حسرته كلما شاهد ظل الفرنسية ينحسر، وكلما شعر بأن بقاءه يتطلب منه تعلم العربية العسر.
وفي الوقت الذي يؤكد فيه هؤلاء أن اللغة ما هي إلا أداة لنقل المعارف والمضامين والمفاهيم بطريقة محايدة، وأن الغاية تكمن في نقل المعارف وليس في اللغة في حد ذاتها. كما أن اللغة الفرنسية بهذا المفهوم هي الأنسب للتطبيق باعتبارها تمثل المنفذ للعصر الحديث، والحضارة الغربية، لما تتميز به من مرونة و قدرة على التفاعل مع العلم والتقنية.
نجد «شريط» يؤكد في المقابل أن اللغة ليست فقط وسيلة للتخاطب والتواصل اليومي بين الأفراد، ولكنها أداة لنقل الثقافة، ووعاء لجميع ما تشتمله هذه الثقافة من تقاليد، وأعراف، وعادات، وعقائد، وتصورات، وقيم، ومناهج للحياة. بها يتم بناء الفرد، وإعداده بما يتلاءم وتاريخه وانتمائه، ويمتد تأثيرها ليشمل تفكيره وتصرفاته وعقائده ومشاعره، فهي ذات علاقة وثيقة بالثقافة، والثقافة ذات ارتباط متين بالهوية والشخصية والوطنية، فمن فقد لغته فقد هويته، وتاريخه، وتعثر في بناء مستقبله.
وإذا كان «شريط» من أبرز دعاة التعريب في الجزائر، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال عداءه للغات الأجنبية، فوعي الرجل، وثاقب نظره، وعمق تحليله أكبر من أن تغيب عنه حقيقة أن الفكر المتجدّد الخلّاق هو حصيلة التفاعل بين عناصر الثقافة الوطنية، وثقافات الغير على اختلاف مشاربها، وتبقى اللغات الأجنبية الوسيلة الوحيدة للاطلاع على تراث الشعوب الأخرى، وتجاربها، وعبقريتها.
ويتألم «شريط» حسرة لتمزق نخبتنا المثقفة بين معربين ومفرنسين، لا يتوقفون عن تبادل التهم، ذاهباً إلى أن كليهما ضحية من ضحايا المستعمر الغاشم. فالمفرنسون هم ضحايا الاستعمار الذي وقف حاجزاً بينهم وبين لغة شعبهم وثقافتهم، كما أن المعربين في تخلفهم الثقافي هم أيضاً ضحايا الاستعمار نفسه الذي حال دون تعلمهم للغة وطنهم بحرية، فاضطروا لالتقاط ما وجدوه في بلادهم أو خارجها من الزوايا وغيرها. داعياً الجميع إلى العمل سوياً من أجل تكميل نقص البعض بكمال البعض الآخر مهما كانت لغة ثقافته.
حسّ وطني عالٍ تحمله أفكار هذا الرجل، ينعكس في إيمان «شريط» العميق بمشروع المجتمع الذي تنبته السلطة السياسية آنذاك، وبقيمة العدالة الاجتماعية التي ينشدها: فالوطن للجميع، والثقافة للجميع أيضاً. في كل كلمة من كلماته نلمس غيرة على الوطن، وجهداً فكريًّا مستمراً للنهوض به، والتخطيط لمستقبله، ولبناء صرحه الثقافي في ظل العروبة والإسلام. وفي أوج الصراع بين النخبتين المعربة و المفرنسة تسمو قيمة الوحدة الوطنية في فكر «شريط» الذي انتهج سبيل الدعوة إلى التكامل بدل الصراع، وتوحيد الجهود بدل التمزق والشتات.
خاتمة
يتضح من العرض السابق التقاء «مالك بن نبي» و«عبدالله شريط» على أكثر من صعيد:
• فقد شكّل الاستعمار الأوروبي للبلاد الإسلامية دافعاً قويًّا لشحذ همّة الرجلين، هذا الاستعمار الذي اغتصب الأرض، واستباح العرض، واستعبد الخلق، جعل الأمة الإسلامية تنجب جيلاً يحمل همها، ويركب الصعب لاسترجاع كرامتها. لقد آمن الرجلان بأن كفاح القلم لا يقل شأناً عن الكفاح المسلح، لا سيما في ظل وضع اجتماعي تهيمن عليه الروح الانهزامية والتبريرات القدرية التي ترى في الاستعمار قدراً محتوماً، مما يجعل من مناجزته قضية مرهونة بمدى وضوح الصورة، وجلاء الفكرة المغذية لحركة التحرر.
• فيما شكّلت إرادة التمكين لهذا الدين هدفاً مشتركاً لهما، لقد كان الرجلان يطمحان إلى إعادة القيم الإسلامية إلى الروح الخاوية لأفراد هذه الأمة، وأن يعيدا الإسلام إلى سابق مجده، كيما يؤدي دوره الحضاري العالمي. لقد طبع فكرهما اتجاهٌ واضح يسعى إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة في ظل الالتزام بمعالم الهوية العربية الإسلامية.
• اتفق المفكران على ضرورة الجمع بين النظر والعمل في تحقيق التغيير الاجتماعي. إن ما ينقص المجتمع العربي المسلم ليس منطق الفكرة وإنما منطق العمل، فكم من فيلسوف فكّر ونظّر ولكن أفكاره لم تتحقق على أرض الواقع، إما لطوباويتها المفرطة، أو لأنها لم تستكمل شروط تحقيقها. الأمة الإسلامية إذن بحاجة ماسة إلى أفكار عملية تؤهلها لتحقيق الوثبة الحضارية المنشودة.
• نظر الرجلان إلى الفرد باعتباره أساس التغيير الاجتماعي، شريطة خضوعه لمنهج تربوي واضح، يسترشد بقيم إسلامية ثابتة، يتحقق فيها التوازن بين الجانبين الروحي والمادي. إعداد هذا الفرد المؤهل لحمل مشعل الحضارة يتطلّب التحرّر من رواسب الماضي المعيقة للتقدّم، مع النهل من التراث النافع، وإغنائه بالإنتاج العلمي المعاصر.
• الاعتماد على الذات شرط ضروري لنجاح هذا المشروع النهضوي، فالأفكار الخلّاقة لا تقلّد، وميكانيزمات التطبيق لا تستعار، والرجال الذين يحملون معول التغيير لا يُستوردون، والمثقف المسلم ينبغي أن يضطلع بدور ريادي في هذه المعركة، يبدأ بتحرره من الأفكار المميتة التي انتقلت إليه بفعل الوراثة الاجتماعية، وصولاً إلى بعث الأفكار الحية القادرة على خلق الحضارة.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة