شعار الموقع

منهج الهجرة إلى اللَّـه في القول الصوفي

غوزي مصطفى 2012-10-04
عدد القراءات « 758 »

أبعاد القول الصوفي وإيحائية الإشارة

قبل البدء

كل قصة هي في الأصل حكاية كائن، يتحرك تواصلاً مع الآخر، وإظهاراً لذاته، الساكن بالماهية، المهاجر بالعرض، المنسحب في مطلق الأحوال، مقامُه الترحال من حال إلى حال، عساه يُخفف من ضيق الحال ووطأته. المهاجر عبر الأزمنة والأمكنة الممكنة والمتخيلة، هو وشم في صميم الوجود وذاكرة تنزف، خط هروبه هجرة الإبهام، والارتماء في حضن الفناء.

إنها قصة المهاجر إلى الله، بداية الهجرة ترك المعتاد والانعتاق من كل قيد ووثاق، ترك المكان المأهول والسلوك المألوف، والانعتاق من الكلام الملفوف، والارتقاء إلى فضاء مفتوح حيث عالم الإشارة والرمز والتلويح، عالم يمثل قاطرة قصة الكائن الصوفي التي تعكس تجربة إنسانية عناصرها المؤلفة لها تسمو في تعالٍ إلى حدّ طمس الفردية والتنكر لها والترفع عن اللحظة المعيشة وهجرانها، لتصل بالمهاجر إلى غاية تخوم كل معقول قابل للإدراك، تجربة مهجاراتية يسعى صاحبها جاهداً تمثّل تجربة الرسول المقرّب من خلال إعادة صياغتها من جديد لكي تواكب تجربة الصوفي ومن ثمة لا تتصادم مع تجربة الرسول المقرب، فتستدعي تلك الأمكنة والأحداث والوضعيات التي جعلت من تجربة الرسول المقرب حدثاً تاريخيًّا استثنائيًّا، فتصير تلك الأمكنة والأحداث والوضعيات بفعل التأويل الذوقي إلى اصطلاحات صوفية معبأة بدلالات إشاراتية مهاجرة، فتتحول مكة المكان المعلوم إشارة، قد تعني فيما تعني الصبر الجميل والذي يمثل زاد المهاجر، وتتحول يثرب المكان المعلوم إشارة، قد تعني فيما تعني المدينة المنورة، وهذه الإشارة معلومة لدى العام والخاص، وتدل أيضاً مقصد المهاجر ونهاية الطريق، أما الغزوات التي وقعت بين الجمعين، فتؤول إلى إشارة على إمكانية الانتصار وتجاوز كل العقبات التي قد تعترض السائر على الطريق التارك للسبل.

مما تقدم فإن هذه المعاني الصوفية وغيرها كثير، تعبر عن العالم الافتراضي المساهم الرئيس في بلورة الكائن الصوفي ومنحه حياة فكرية، تصبو إلى تحقيق الاتحاد شهوداً وإن حصل المراد تحققاً بالحال انقلب مباشرة إلى مقام راسخ، مما يترتب على ذلك زوال الاغتراب، وتوقف حركة الترحال بعودة المهاجر إلى الدار.

-1-
تـمـــهـــيـد

القول الصوفي، قول أحوال يستغيث بلغة التواضع اضطراراً لا اختياراً، قول وُجد للموجود الكائن سكوناً في الذات الأصلية، الصائر إليها على دوام الحال. قول مسافر، ليعبّر، فيعبر من العبارة نحو الإشارة، قول متحرك، يتحرك في فضاء إشارتي مفتوح على الإمكان الكامن في صميم الإشارة المرتقبة، المفرج عنها تباعاً... يقول الحلاج: «من لم يقف على إشاراتنا، لم ترشده عباراتنا». (م، عيون السود، 1998، ص:57).

قول يقبل القراءة والاستقراء المرة تلوى الأخرى، ثم يُستنطق وسيُتجلى على أكثر من صعيد ومستوى، قول ملوّن، مكون من عديد الطبقات، لذا فهو يحتمل عديد التأويلات، بل يستدعيها ويرحب بها بمقدار مضبوط المحقق للانسجام والتوازن بين القول الذي قيل في ظرفية معلومة وتأويله اللاحق، يقول الفيلسوف إميل سيورون: «لا نطلب من الكلام أن يقدم مجهوداً غير متناسب وقدرته الطبيعية، لا نرغمه في مطلق الأحوال بلوغ الذروة، لنتحاشى المزايدات الكلامية، خوفاً من إنهاكه الذي سيجعله غير قادر على تحمل عبء المعنى». (E ,cioron ,1995,P1689).

إذا كانت اللغة تفصل الكائن البشري، فصلاً نوعيًّا عن بقية الحيوانات، فتميّزه هذا هو الذي يجعله أهلاً ليصير بالفعل لا بالقوة متميّزاً باللغة وممتازاً بها. وإذا كانت اللّغة لها العديد من الوظائف. فإن اللّغة الصوفية لغة خاصة لخاصة تنتخب الألفاظ مختارة ومنتقاة، اللفظ المعبأ المتحرك من الرسم العابر نحو الإشارة الإيماء.

كل قول له وجود مادي يُجسّده الرسم المخطوط: قول يقال لفظاً، ويكتب باليد، فكر أو جملة تصورات، يتحقق بالصوت المسموع، حرفاً، اسماً، فعلاً. القول الصوفي كبقية الأقوال، للإفراج عنه، يتطلّب نشاطين طبيعيين هما: الكلام المصوت، والكتابة المسجلة، التي هي تسكين وتثبيت.

قول بدايته موجات صوتيّة قصديه نزوعيّة، هذا ما عبّر عنه جاك دريدا، قائلاً: «إن الصوت هوالكائن الموجود في كلية متكاملة، بوصفه شعوراً، وبكلمة بسيطة هو الشعور ذاته». (ع. مهيبل، 1993، ص: 254).

إن أفضلية الصوت الحي المباشر الملفوظ الساخن على المكتوب الساكن، بالنسبة لجاك دريدا، مفاضلة يتذوقها المتصوف وهو يردد ويكرر قوله الصوفي، حتى وإن أدى به الأمر حد القتل كما حدث للقتيل الحلاج الذي صوّت القول غير المباح. ليتابع بعد ذلك جاك دريدا مبرزاً أهمية الصوت عند الفيلسوف إدموند هوسرل: «إن فكرة الصوت تحظى بمكانة متميزة لدى هوسرل لكي نتمكن من معرفة مكمن قوتها ومعرفة أن الميتافيزيقا والفلسفة، ومسألة تحديد الكائن بوصفه حضوراً متميزاً تعد جميعها تعبيراً عن المرحلة التي يكون فيها الصوت سيطرة تقنية على الكائن الموضوع». (ع، مهيبل،1993، ص: 254).

الصوت كقاعدة أو موجة تحمل الإشارة الصوفية، يُلقي بعض الضوء عليها ويهتك حجباً من الحجب ويساعد على إدراك وتمثل الحضور. الصوت يعطي زخماً للقول ووجوداً حقيقيًّا متعيناً، فشتان بين قراءة قول ابن عربي وهو يقول: «أيها الواحد، وحدني معك بجعلي أُومن بأنك واحد، فإن كنت أنا الحقيقة بالقوة فأنت الحق بالفعل. فلا تباعدني بيني وبينك. وهكذا حتى تضيء أنوار، لوامع وبوارق، وقد امتزجت روحك بروحي كامتزاج العنبر بعبق المسك، فمن مسك مسني حتى تصبح أنت أنا وأنا أنت فلا فرق». (ج، شوفيلي، 1994، ص: 127).

وعندما تسمع بالصوت والصورة، فإن القراءة من قبل المتلقي حالة لا تعبّر التّعبير عن كُنه القول إذا ما قورنت بالقول من قبل صاحبه، الكلام في نظر جاك دريدا هو الأساس بينما الكتابة ما هي إلا تثبيت لما يقال بعد حين.

الكتابة أمر يقتضيه وجود العلم الذي يعتبر مرحلة من مراحل تطور الكتابة. إن وجود العلم كفكرة قائمة اجتماعيًّا يديرها منطق أرسطو مسكن الفكرة الحي، مخترع الحدود والفواصل، وجود مكّن لفكرة التاريخية بالظهور، فسُجن القول في مقولات قبلية ظرفية وصفية، ومن مخلفات هذا الحبس بطء الحركة النفسية، من حيث الشدة والديمومة والمدى. يقول كلاج: «العبارة تحقق شكل الحركة النفسية من الشدة الديمومة والمدى». (c,lucques1984,P,2).

والعبارة المثبتة كتابة يعوزها الكثير، فهي المبتورة، الفاقدة للكثير من الملحقات التي ساهمت والإعراب عنها لحظة البوح عنها أثناء إلقائها.

يقول برادين: «كل عضو حاس، أداة تمثلات، يضع الانطباع الذي يتلقاه في علاقة مع شيء آخر سواه». (ب، سلوتردايك، 2003، ص:181).

هكذا يبدو لنا القول مباشرة أفضل بكثير عن ذاك المثبت حتى وإن بدا الفعل واحداً، والأفضلية التي تظفر بها فورية القول ومباشريته، لا يجب أن تجعلنا نغفل عن أن الكلام توريط، يقول بيتر سلوتردايك: «من يتكلم يورط نفسه في الدّين، من يواصل الكلام لا يفعل سوى محاولة تسديد ديونه. ووفقاً لهده الرؤية ستربى أذن المستمع على عدم إسناد أية مصداقية للكلام، وعلى تبرير شحّها هذا على أنه عين الوعي». (ب،سلوتردايك،2003،ص:181). إنّ التوريط المحتمل الوقوع في ظروف معينة مساهم من المساهمين في إثارة إشكالية المعنى، التي أدت بالكثير من المفكرين إلى اعتبار أي قول يعوزه التمام والاكتمال ولا يبلغ مداه المنشود.

-2-
محاولة قراءة القول الصوفي قراءة بنيوية
(كل قول هو خطاب معقلن معقول قابل للتعقل)

يذهب الفهم البنيوي إلى اعتبار كل قول هو بالأساس معبّر عن الصيغة العقلية المعروفة ابتداء والثابتة إجمالاً. وذلك قصد إبراز البنية العقلية المفرجة عنها والمتحكمة في القول عامة، مثال ذلك القول الصوفي، يتجه الفهم البنيوي نحو تحليل مجال القول، بغية الاستحواذ على المنطوق ومن ثمة الوصول إلى كنهه، ولن يكون هذا ممكناً إلا بتحديد ظروف وجوده تحديداً دقيقاً. وفي تعيين نهاياته وحدوده، التي بها سيكون متميزاً عن باقي المنطوقات. فالقول الصوفي الإسلامي هو وليد ظروف موضوعية وذاتية، هي التي تمنحه أسباب التحقق الواقعي، فيصير القول بفعل العبارة التي يفرج عنها موجود بفعل البيان والإعراب أي البوح، حتى تغدو العبارة الصوفية نتيجة التداول والاستعمال منتمية قهراً إلى الإبستمي العباسي، مجالها الحيوي التي تتحرك فيه هو المجال المتعالي التعبدي. ومادام مجال القول الصوفي معلوماً، فإن الخوض فيه يشترط منطوقات مهيأة لهذا الغرض. والمنطوق في نظر «فوكو» يمثل الوحدة الأساسية للقول، والذي يرادف في المعنى ما هو متعارف عليه في علم المنطق باسم القضية أو ما يطلق عليه في علم النحو باسم الجملة. إن مرادف المنطوق عند «فوكو» مفهوم الصيغة ذاتها، أكانت وعداً أو أمراً أو مرسوماً أو عقداً أو التزاماً أو تقريراً، فإذا كانت المنطوقات هي المفرجة والمحددة لمجال القول المعين، فإن القول عندئذ سيكون له سمة وطابع خاص، مقارنة مع باقي الأقوال، البعيدة أو القريبة من حيث الطبيعة الصديقة أو الخاصمة. إن منطوقات أي قول أثناء عملية الإظهار ترتكز في تصور «فوكو» على جملة من الفرضيات لخصها الأستاذ عمر مهيبل على النحو الآتي:

الفرضية الأولى: «المنطوقات المختلفة شكلاً والمبعثرة في الزمان يمكن أن تشكل كلًّا متناسقاً إذا ما أحيلت إلى موضوع متجانس». (ع، مهيبل، 1993، ص:125)، مثل ذلك منطوقات التصوف في العصر العباسي.

الفرضية الثانية: «لكي يتم تعريف مجموعة من العلاقات من بين جملة المنطوقات، يجب أن نعرف أن ما يميزها عن بعضها ليس مواضيعها أو مفاهيمها المتناسقة، بل شيء آخر يطلق عليه الأسلوب زيادة على خصائص المنطوقية الثابتة». (ع، مهيبل، 1993، ص:125). المتصوفة في العصر العباسي هم أصحاب أسلوب خاص في التعبير مقارنة بالفقهاء وعلماء التاريخ، وعلماء الرياضيات، والفلاسفة.

الفرضية الثالثة: وهنا يتساءل «فوكو» عن إمكانية: «تشكيل ما يسميها بالزمر المنطوقية، وذلك لتحديده لنسق المفاهيم الذي يدخل في نطاق العملية. وهذه العملية تتجلى أكثر ما تتجلى في ميدان اللغة والوقائع النحوية مثل مفهوم الحكم ومفهوم الموضوع ومفهوم المحمول، التي تجتمع تحت مقولة الكلمة». (ع، مهيبل، 1993، ص:125).

الفرضية الرابعة: وتهدف إلى تجميع المنطوقات مثل ذلك النصوص الصوفية النثرية والشعرية، وإظهار مدى التنسيق الذي تتميز به مع الأخذ بعين الاعتبار أشكال الوحدات التي تتجلى في إطارها من جهة دون نغفل أهمية المواضيع المثارة نثراً أو شعراً، مثال ذلك المحبة عند المتصوفة.

إذا كان الفهم البنيوي ينطلق من أكسيوم مفاده أن أي قول هو في واقع الأمر المُشير والمُعبر عن البنية العقلية، فكيف تتكوّن موضوعات القول الصوفي؟ يقترح الفهم البنيوي الإجابة الآتية:

حتى تسهل عملية التحليل والتحديد وتعيين الاختلافات الذاتية الموجودة بين موضوع وآخر فإنه يجب معرفة مقدماً أن أي موضوع ينتمي إلى مجال أصلي مثل ذلك المواضيع التي تطرق إليها المتصوفة إبان العصر العباسي، تنتمي إلى مجالات معينة، منها انبثقت وظهرت، تعكس المجتمع العباسي المترامي الأطراف ومركزه بغداد وما وصل إليه من تراكم معرفي، إن موضوع المحبة الإلهية لدى متصوفة هذا المجتمع، إدراكه وفهمه يعبر عن مستوى معرفي، قد ساد هذا العصر، الذي يوافق وعي ذاك المجتمع. هذا فيما يخص العنصر الأول للإجابة. أما فيما يخص العنصر الثاني من الإجابة، فهو يتمثل فيما يسميه «فوكو» بحجج التعيين أو التحديد، فمثلاً تحديد وتعيين موضوع المحبة الإلهية في القول الصوفي العباسي يختلف تعيينه وتحديده في القول السني العباسي أو القول الفقهي السني الأموي. في حين أن العنصر الثالث يتمثل في تحليل شبكات التخصيص، وتتعلق بالأنساق التي بموجبها نفرّق، ونقابل ونوضح، ونجمع ونصنف ونشتق، ومختلف أنواع المحبة الإلهية عند متصوفة العصر العباسي.

-3-
محاولة قراءة القول الصوفي قراءة وجودية
(كل قول هو خطاب وجود، وشعور بالوجود وجد للموجود)

الشخصية الصوفية تحمل عبء الوجود، وتعّبر عنه أيما تعبير، فكل مكونات الشخصية الوجودية القاعدية والمُمثّلة مجسدة بالفعل في الكائن الصوفي، وقبل الحرف، أي قبل ظهور الفكر الوجودي كنسق فلسفي. الكائن المتصوف شخص موجود يعي وجوده في هذا الوجود، والقول الصوفي دليل على وجوده، والقاطرة التي تحمله من طبيعة ماهوية، يستشف منها الدعوة إلى الارتقاء والسمو وتجاوز الزيف الاجتماعي السائد والمسيطر، والكشف عن عيوبه ونقائصه وفضح بنيانه المنطقي، لكي تتحقق بعد ذلك الوضعية الإنسانية المثلى، المترجمة لما هو جوهري في الإنسان، دليلنا في ذلك فكرة الأحوال والمقامات الصوفية، فالقول الصوفي يخالف كل ما هو مألوف، كل ما هو بدون هوية، كل ما هو عارض. جاء في ديوان الحلاج: «قال أبو عبدالله محمد بن الحسن السلمي في كتاب الطبقات الصوفية: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت أحمد بن فارس بن حسري يقول: سمعت الحسين بن منصور يقول: حجتهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كُشف لهم عن الحقيقة لماتوا». (م، عيون السود، 1998، ص: 66).

إنّ قول الحلاج الماثل أمامنا قرينة (عينية) تمثل الميل الوجودي الذي يطبع القول الصوفي بطابع البوح عن مأساة الإنسان المتحرر من كل انتماء قد يُعيق صيرورة الإنسان نحو أكثر حرية وأكثر انعتاق من القيود والأوهام الإنسانية والتي قد تمتصه وتُحيله رقماً أو آلة خادمة. يقول كولن ولسن: «... ونجد هذا في معظم أوصاف التجربة الصوفية؛ إذ يُوصف المكان الذي ستحدث التجربة فيه ببضعة سطور بينما يستغرق التعبير عن التجربة ومعاناتها صفحات» (ك، ولسن، 1981، ص: 14).

تجربة إنسانية يعاني ويُكابد فيها الإنسان من أجل الحرية ومن أجل المعرفة، ومن أجل إدراك وفهم الوجود واختفاء المعنى عن هذا الوجود. إنها تجربة الكائن القابع هاهنا، الذي يرى وينظر باتجاه الأشياء المنسحبة أمام عينيه، كلما حاول الاقتراب والدنو منها. تجربة يكون فيها الإنسان غريقاً، يستغيث في محيط الوجود المتلاطم، مستهلك الكينونة، والذي لا يتوقف عن البحث، عن جر وتكوير وتدوير صخرة الوجود إلى أكثر علو ممكن. يقول سُيورون: «إن الحقيقة تكمن في المأساة الفردية فإذا عانيت بالفعل، فإنني أعاني أكثر من فرد واحد، فأنا أتجاوز دائرة أنايا (ذاتي)». (1337: E,cioron ,1995,P).

هكذا هي تجربة المتصوف (الحلاج مثلاً) تُجسد حالة الإنسان الذي يعيش وضعية وجدانية وجودية طارئة، فهو في كل حين (آنية) مُستنفرة قوى الباطن، بها يجابه ويواجه ويتصدى وهم وسراب العيش اليومي الخانق الجاثم فوق الذات، إنها تجربة سزيف الأسطورية، مُستنسخة في كل كائن يحمل وعي الوجود المُتناهي. تجربة وجودية إنسانية تخترقها أحوال ثلاثة بحسب رؤية الفيلسوف سورين كيركجارد:

1- الالتزام والمخاطرة: من المنظور الكيركجاردي الإنسان يُوجد كي يُحقق في حياته غاية، أن يُحقق ذاته، أن يُصير هو، الوصول إلى هذه الغاية المنشودة معناه الوصول إلى الحقيقة، فلا حقيقة إلا ذاتي المُحققة. يقول سورين كيركجارد: «لا بد لي، وأنا أعاني الحياة أنا أصير أنا نفسي، وقاعدة لسلوكي بفضل تلقائية عقل وقلب مؤاخيين بالفطرة للحق والخير. ولهذا تُصبح الحقيقة حقيقتي أنا، إذ لا وجود لحقيقة بالنسبة للفرد إلا ما ينتجُه هو نفسه أثناء الفعل». (ع، بدوي، بدون تاريخ، ص: 39).

2- أولوية الذاتية: يدعو كيركجارد إلى العودة إلى الذات، أي إلى الإنسان لحماً ودماً، لا إلى الإنسان المفهوم، إنسان الموضوع المحمول. الإنسان الموجود في وضعية ما، المنتمي إلى ظرفية واقعية والمعبأة بمشاعر متناقضة تجتمع، إنها شديدة الوقع على النفسي والباحثة عن الملاذ والخلاص، يقول كيركجارد: «إن ما يواجه إرادتي هو اتفاق الحقيقة مع أعمق مطالب الشخص مع هذه الحقيقة الأخلاقية التي هي بالنسبة لي أنا (الفرد) الذي أكونه والذي أريد أن أكونه، والواقع أن النموذج من جهة النظر هذه هو الإيمان لأن ما يدفعني إلى التمسك بأهداب الشيء، ليس هو البينة فهي محالة، وليس هو غلبة الظن لأن الأمر (لا معقول)، وإنما عزمي اختيار ما هو نفسي خالد أو لامتناه». (ع، بدوي، بدون تاريخ، ص: 41).

3- اليأس والقلق: يعتقد سورين وكيركجارد أن الوجود الإنساني هو وجود يأس وقلق، ما دام الإنسان مشروعاً، وفسحة الحياة ضيقة للغاية ولا نحيا إلا مرة يستلزم منها الشعور بعدم رضا على ما هو منجز يوميًّا من قبل الإنسان، مما يؤدي إلى أن تستولي مشاعر الضيق النفسي وعدم جدوى المعاودة على ذات الإنسان. يقول سورين كيركجارد: «الوجود معناه أن نعاني اليأس والقلق حتماً...، من المحال أن نفلت من اليأس، اختفاء اليأس يساوي العدم، ومن يقول بالوعي والروح والتأمل الباطن يقول باليأس، مادام الاختيار مفروضاً بالضرورة، وإننا لكي نختار الأبدي فلا بد أن نيأس مما نحن عليه، وما علّله وفق للمعيار المتناهي...». (ع، بدوي، بدون تاريخ، ص: 46). إن خطّ هروب الفكر الصوفي الإسلامي – العباسي مثلاً- خط تلوّن بلون الحزن وعدم الرضا واليأس من الدنيا الظاهرة والشعور بالاختناق حتى الغثيان بسبب الأوضاع الاجتماعية الضاغطة الساحقة لذات الفرد. هذه الأحوال النفسية تمنح الوعي الفردي حدّة وشدة، لتجعل الفرد الشخص وجهاً لوجه مع ذاته القلقة اليائسة من الوضع الإنساني. يقول كيركجارد: «القلق يُقيم الرعب والضياع والدمار إلى جوار كل إنسان». (ع، بدوي، بدون تاريخ، ص: 46).

-4-
محاولة قراءة القول الصوفي قراءة جمالية ذوقية
(كل قول هو خطاب لمتلقٍّ، ليُتذوق، يشتهي، حتى يتسلط)

نجاح القول الصوفي مُتعلق في المقام الأول بقدرة ومهارة صاحب القول، قدرة عقلية قادرة على صياغة موضوعه صياغة تجريدية واضحة ودقيقة، ومهارة أدبية تستطيع وتتحكم في الإشارة المناسبة، تعبد أسلوباً مميزاً. كل هذا بغية وضع المتلقي في حالة استقبال تفرض عليه الانتباه المؤدي بعد ذلك إلى الإغراء والاشتهاء، فالإمتاع حتى المؤانسة.

إن متعة القول الصوفي غاية تُنزله منزلة الفن، فكل نشاط إنساني يصل الفنية إن توفرت شروط على رأسها حب ذلك النشاط من قبل صاحبه ثم إنجازه إنجازاً متقنناً. ونحسب أن القول الصوفي الإسلامي قد استوفى تلك الشروط، المؤهلة له لحمل الصفة الفنية، لكي يُتذوق فيُستساغ ليُستحسن. إن الصوفي كائن ينشد الجمال في سلوكه، في قوله؛ فهو من أهل الذوق. يقول أحمد محمود صبحي: «يُفيد لفظ الذوق كمنهج للمعرفة إصابة الحقيقة بالشهود أو العيان، فلا تنكشف أسرار الحقيقة إلا بتجربة روحية أو حال تقتضي المكابدة والمعاناة، ولا تتم الرؤيا الباطنة بنظر عقلي حيث لا يستند التذوق إلى العقل أو الجدل وإنما الوجدان والإرادة... ولا ريّب أن الصوفية هم الذوقيون؛ لأن من خصائص الطريق الصوفي أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة بالتعلم بل الذوق، والحال أن سبيلهم ليس السماع وإنما المعاناة والسلوك». (أ، صبحي، بدون تاريخ ص: 199 وص:200).

القول الصوفي خلاصة مكثفة لتجارب شخصية إنسانية بعضها ناجح موفق والبعض الآخر مثبط للهمم، فالمتصوف ينشد الجمال ويتطلع إليه، ويتمتع ويتلذذ حتى الثمالة الروحية عندما يشعر أنه قد دنا منه واقترب، يكابد ويتألم حتى يبلغ ذروة السؤدد الجمالي وذلك وصولاً إلى المقام العالي. إن جمالية القول الصوفي نابعة من أصالة وصدق التجربة المعيشة، فكلما كانت التجربة عميقة إنسانيًّا –مؤشر العمق هو النجاح أو الإخفاق الاجتماعي خاصة الإخفاق– فتجربة الصوفي الفردانية مكسرة للظرفية الاجتماعية مصورة للمظهر القبيح المتراجع الدنيوي تصويراً جميلاً بفعل التصعيد والتجريد. يقول كافكا: «الفن هو أن تبهر أنظارنا الحقيقة، فليس هناك ضوء حقيقي، إلا الضوء الساقط على الوجه القبيح المتراجع... الفن يحوم حول الحقيقة وهو عاقد العزم على أن يحترق بها. وتتمثل موهبته في البحث، في الفراغ المظلم عن مكان لم يعرف من قبل، نحجز فيه قوة أشعة الضوء». (ب، أمين، بدون تاريخ هل ينبغي إحراق كافكا؟ ص 6).

أن يكون القول الصوفي جميلاً يعني أنه قول يناصب العداء، وينفر من كل تسطيح وتمييع للوضع الإنساني، فهو رسالة تبعث من قبل الإنسان صوب الإنسان، متجاوزة الأزمنة والعصور، والطبقات والفئات الاجتماعية، ومحطّمة أوهام الأعراق والأجناس، ففي نظر دني هويمان الجمال له أربعة وجوه، وجه جسدي، وجه أخلاقي وجه ذهني، ووجه المطلق، والقول الصوفي جزء مكوّن للوجه المطلق، فهو من أكثر الأقوال تجريداً ورمزية، وأكثر الأقوال نفوراً ومجافاة للمعيش اليومي وتسامياً عن أي غرض أو شبهة نفعية آنية. القول الصوفي يسعى إلى ربط الوجود الإنساني بوجود أرحب وأدوم وأبقى وأحق وجدير بالكائن الإنساني، كائن الحقيقة، من خلال استدراجه وجعله يتخلى عن طبيعته الطينية الظرفية، وتحليه بكينونة أسمى وأرفع، وإن اختار القول الصوفي التعبير الديني فلحمل هذا التعبير المعاني الرفيعة الموحية الواعدة بالأفضل، المانحة الأمل، معاني مفتوحة غاية الفتح. يقول دني هويمان: «يبدو لنا الدين هو ألف الجمالية وياؤها، فالفن يبدأ وينتهي بالمقدس. وكما أن الذهول يُشكل خاصة الجمالية والصوفية الوحيدة، كذلك لا يفرد الفن الحق نفسه إلا بالبحث المنجز بتأثير فكر تديني، بتأثير حمية تتناقض والتقنيات المادية التي ينفر منها المبدعون الكبار، وعلى هدا النمط فكما أن الحق هو مدار جميع القيم فإن القدسي هو هدفها». (د، هويمان، 1975، ص: 13).

وإجمالاً فإن القول الصوفي من طبيعة إشارتيه، يُشير إلى حقيقة اللانهائي، المنسحب دوماً. فالقول يجد بين الفينة والأخرى، ذواتاً تستقبله ترحاباً، وتتلقاه انجذاباً، فتتذوقه اشتهاء، لتتمتع به تلذذاً، فيخرجها من ضغط الآن وعبئه. يقول رولان بارت: «لكي نتخلص من عَتَه وتخلف المجتمع الحاضر، هناك وسيلة وحيدة لا غير: الهروب إلى الأمام: كل لسان قديم هو مباشرة لسان مفهوم، كل لسان يصير قديماً متى تكرر. فالكلام السلطوي... هو بالأساس كلام تكراري... القاعدة تعسف والاستثناء متعة، أحياناً يمكن دعم استثناء المتصوفة». (R. BARTHES, 1973, P.66-67).

الــــــخـاتــــــــمة

كل نشاط إنساني يحمل طابعاً متعاليًّا، يتجه لا محالة تجاه إزاحة الإبهام الذي يلفّ الوجود الإنساني لفًّا ومقصد هذا النشاط إدراك المعنى، وفعل التصوف قولاً وسلوكاً لا يخرج عن هذه القاعدة، بل يمكن الزعم بأن فعل التصوف بالذات وفي ذاته هو فعل إنساني، يحاول المتعاطي معه التحرر والخلاص من هذا الإبهام وبلوغ المعنى. فالمتصوف يستخدم كل ما أوتي من قوة حتى يصل إلى تلك الغاية.

إن تاريخ التصوف هو نشاط صيروري يتمظهر فيه المعنى ويتجلى كلمات ليبسط سلطانه على مرحلة ما وبكيفية ما وطابع معين، ليُعبر العقل البشري عن قدرته في الاختراق والكشف إفراجاً عن المعنى المغيّب. القول الصوفي تتفاعل فيه قوى تهبه الحياة والاستمرار، فهو جسم متعدد الطبقات والأبعاد، يؤول ويقدر، يُجسد بنية عقلية وقدرة خاصة على التفكر، فهو يختزل تجربة وجودية انبثقت تحت ضغط اللحظة المعيشة، المساهمة في تشكيله ظروف اجتماعية اقتصادية تمثل العوامل الخارجية المفرجة عن القول، ومجال حيوي يتحرك فيه، يقول محمد إقبال: «إن التصوف هو نتاج ضروري للعب مختلف القوى الفكرية والأخلاقية والتي يجب أن توقظ الروح من سباتها وترتقي بها نحو مثل الحياة الأعلى». (M,IQBAL,1980,P13).

وأخيراً قول مجابه مصارع لأي شكل من أشكال الإبهام واللامعنى، لأي شيء قد يكون قبيحاً أو شنيعاً يتوارى في حركة رجعية، كلما سطع نور الجمال وجمال النور، الذي يظهر ويتراءى للرائي على هيئة إشارات صوفية، وتعابير أدبية أو حركات جسدية أو معاني فلسفية، أو وصلات موسيقية، أو قوانين علمية أو لوحات زيتية أو مشاهد مسرحية...

المراجع باللغة العربية

1- محمد باسل عيون السود (1998)، ديوان الحلاج ومعه أخبار الحلاج وكتاب الطواسين، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط1.

2- عمر مهيبل (1993)، البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط2.

3- عبد الرحمن بدوي(بدون تاريخ)، دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، القاهرة.

4- أحمد محمود صبحي (بدون تاريخ)، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي العقليون والذوقيون أو النظر والعمل، دار المعارف، القاهرة.

5- بديعة أمين، (بدون تاريخ) هل ينبغي أن نحرق كافكا؟، المؤسسة العربية لدراسات والنشر، بيروت.

المراجع المترجمة إلى اللغة العربية

1- جون شوفيلي (1999)، التصوف والمتصوفة، ترجمة عبد القادر رقيتي، إفريقيا الشرق.

2- بيتر سلوتردايك (2003) الإنجيل الخامس لنيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، ألمانيا.

3- كولن ولسن (1981)، المعقول واللامعقول في الأدب الحديث، ترجمة أمين زكي حسن، دار الأدب، بيروت، ط 5.

4- دني هويمان (1975)، علم الجمال، ترجمة ظاهر الحسن، المكتبة العلمية، ط2، باريس.

المراجع باللغة الفرنسية

1- Emile Cioron,(1993) Aveaux et Anathème, édition Quarto Gallimard.

2- Claire Lucques,(1948) Un problème de l’expression, essai sur les sources de l’inspiration, P.U.F, Paris.

3- Emile Cioron,(1995) De l’inconvénient d’être Né, éd Quarto Gallimard, Paris

4- Roland Barthes,( 1973) Le plaisir du texte, édition du Seuil, Paris.

المراجع المترجمة إلى اللغة الفرنسية

1- Mohammed Iqbal,(1980) La métaphysique en Perse, édition sindibad, traduction de l’anglais par Eva de Vitray Meyerovitch, Paris,.