شعار الموقع

حفريات في مفهوم الوثيقة التاريخية : مقاربات وتصورات

عبدالرحيم الحسناوي 2020-04-27
عدد القراءات « 1372 »

 

 

 

          حفريات في مفهوم الوثيقة التاريخية:

مقاربات وتصوُّرات

الدكتور عبدالرحيم الحسناوي*

 

* كاتب وباحث، جامعة محمد الخامس الرباط - المغرب، البريد الإلكتروني:

lhasnaoui@hotmail.com

 

 

«لا تصبح الوثيقة وثيقة إلَّا نتيجة بحث واختيار».

جاك لوغوف )Jacques Le Goff(

«إن التاريخ يكتب بوثائق مدوّنة، هذا مؤكّد، وعندما تتوافر، لكن يمكن أن يكتب ويجب أن يكتب من دون وثائق مدوّنة إن لم تتوافر. يكتب بالدهاء كلّه الذي يستطيع المؤرّخ أن يوظّفه لصنع عسله إن افتقر إلى الأزهار المألوفة».

لوسيان فيفر )Lucien Febvre(

مقدمة

نسعى من خلال هذه المطالعة البحثية إلى القيام باستكشاف نظري لمفهوم الوثيقة التاريخية بتشعُّباته وأبعاده المتعدّدة. وهذا الاستكشاف هو خلاصة قراءات وأفكار مستقاة من مراجع أو أدبيات تناولت بالدراسة والتحليل إشكالية مفهوم الوثيقة التاريخية.

أما الأسئلة التي ستؤطّر هذه المطالعة فهي تندرج ضمن العلاقة التي تربط بين مفهوم الوثيقة التاريخية من جهة، ومكانة التاريخ كحقل معرفي له موضوعه ومنهجيته من جهة أخرى. ذلك أننا سنتطرّق إلى التطوّر الحاصل بالنسبة لمفهوم الوثيقة التاريخية وذلك في ارتباط تام بالتجديد المستمر الذي عرفته المعرفة التاريخية وخصوصًا ذلك التحوّل الحاصل عند بداية القرن العشرين عندما أصبح التاريخ علمًا اجتماعيًّا.

أولًا: تعريف الوثيقة التاريخية: المعنى والدلالة

يعتبر المؤرّخ صانع فعاليات التاريخ تتشكّل عدّته في صناعة البناء التاريخي من الوثيقة التي يعلو بها صرح هذا البناء، وبالرجوع إلى دلالة اللفظ في اللغة العربية، وبالعودة إلى الفعل (وثق) فالثقة مصدر قولك: وثق به يثق وثاقًا وثقة أي ائتمنه، ووثّقت فلانًا إذا قلت: إنه ثقة، وأرض وثيقة: كثيرة العشب موثوق بها، والوثاقة مصدر الشيء الوثيق المحكم، والفعل اللازم يوثق وثاقة، والوثاق اسم الإيثاق[1]، وهو ما يشدّ به الأسير، ويجمع على الوثق بمنزلة الرباط والربط، ومنه قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾[2].

ووثق الشيء (بالضم) وثاقة فهو وثيق: أي صار وثيقًا. والوثيقة في الأمر إحكامه والأخذ بالثقة، والجمع الوثاق. والوثيق الشيء المحكم. ويقال: أخذ الوثيقة في أمره أي بالثقة. وتوثّق في أمره: مثله، ووثقت الشيء توثيقًا فهو موثق. والوثيقة: الإحكام في الأمر والجمع وثيق. والوثيق هو العهد الوثيق، والموثق والميثاق: العهد، والجمع: المواثيق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾[3]. والميثاق: العهد مفعال من الوثاق. واستوثقت منه، أي أخذت منه الوثيقة[4].

وإذا نحن انتقلنا إلى اللغة الأجنبية، فالوثيقة هي كلمة ذات اشتقاق لاتيني (Documentum) وتعني يعلم، ولها معنى قانوني أي الحجة التي تقنع القاضي عند إصداره حكمه[5]، وبالتالي فإن كلمة الوثيقة تعتبر أحسن مقابل للكلمة اللاتينية إذا استعملناها بمعنى الحجة المكتوبة فقط، لذلك فإن بعض المؤرخين أمثال عبد الله العروي يرى أن كلمة وثيقة ضيّقة ويقترح لفظة شاهدة (جمع شواهد) لكل أنواع مخلّفات الماضي مهما كانت أشكالها وموادّها ونوعيتها، أي كل ما يمكن أن يكشف إلينا شيئًا من ماضي الإنسان[6].

وبحسب معجم (Le Robert) فإن كلمة وثيقة (Document) تعني كل ما يمكن أن يستخدم كدليل أو كمعلومات (Renseignement)[7].

وفي هذا السياق يرى بول ريكور (Paul Ricœur) أنه لم يعد التركيز ينصب اليوم على وظيفة التعليم التي ينقلها أصل اشتقاق هذه الكلمة المشتقة من كلمة (Docer) اللاتينية والتي يسهل معها في اللغة الفرنسية الانتقال من كلمة التعليم (Enseignement) إلى كلمة المعلومة (Renseignement)، بل يقع التركيز بدلًا من ذلك على الدعم والاستناد والموثوقية التي توفّرها الوثيقة للتاريخ أو السرد ويشكّل هذا الدور الذي تؤدّيه كضمان برهانًا ماديًّا، تطلق عليه اللغة الإنجليزية اسم «البينة» (Evidence) لأن العلاقة مستمدة من مساق الأحداث[8]. فإذا كان التاريخ سردًا حقيقيًّا، فإن الوثيقة تشكّل وسيلة برهانه العميقة، فهي تغذّي دعواه في أنه قائم على الوقائع[9].

ولقد أصبح من المبتذل التأكيد على أن الأثر الذي يخلّفه الماضي يصبح وثيقة عند المؤرّخين حالما يعرفون كيف يستنطقون بقاياه، وكيف يستجوبونها. ومن هذه الناحية فإن أكثر الآثار قيمة هي التي يتّجه القصد إليها بدءًا من معلوماتنا إذ تستهدي طرق استنطاق المؤرّخين بالموضوعية التي يتم اختيارها لتكون دليلًا لأسئلتهم ومباحثهم.

لهذه الكلمة أي الوثيقة (Document) عدّة معانٍ تتّسع وتضيق، فهي في معناها الحرفي الضيّق تعني: كافّة أوراق الدولة الرسمية التي تضم القوانين والمعاهدات والمعاملات، أما المعنى الأوسع لهذه الكلمة فيشمل كافة الأوراق المكتوبة والمصوّرات والبقايا الأركيولوجية والروايات الشفوية، وكافة ما يمكن للمؤرّخ أن يستعين به من مادة في كتابة التاريخ[10].

الوثيقة التاريخية إذن هي كل أثر مادي منقول وغير منقول، نتاج طبيعي أو نتاج إنساني، صامت مثل: (آثار إنسان ما قبل التاريخ مثل الأدوات الحجرية والعظمية، الخزف البسيط، التماثيل...) أو ناطق مثل: (النقائش بمختلف أنواعها ومختلف موادها، النقود، الكتب...)، قد دخل في صيرورة التاريخ واحتسب في الزمن[11].

الوثيقة إذن لا تعني النص المخطوط أو الخبر المروي فقط، بل إن مضمونها أوسع من ذلك، فهي تشمل: القبور والأبنية والأسلحة والأدوات والملابس والسجلات الرسمية والمعاهدات والاتفاقيات والوثائق السياسية، وكلها آثار مادية كما تشمل الوثيقة الروايات والقصص والأساطير والأقوال والحكم سواء أكانت مروية أم مكتوبة، فضلًا عن الوثائق الكتابية أو اليدوية مثل التصاوير والمشاهد التاريخية والكتابات والنقوش[12].

وباختصار، فالوثيقة -وبشكل واسع- هي كل مصدر للأخبار يتمكّن من خلاله فكر المؤرخين استخلاص شيء ما بهدف معرفة الماضي البشري منظورًا إليه من خلال الإشكال المطروح[13].

وفقًا لهذه الفكرة يرى مارك بلوك (Marc Bloch) بأن كل ما يقدّم معلومة للباحث الذي يتوجّه بحثه بخيار معقول من الأسئلة، يمكن أن يكون وثيقة. وبحسب المعنى الذي استخدم من طرف المؤرخين، الوثيقة هنا تأخذ مفهومًا يختلف بحسب التيارات والاتجاهات التاريخية، يتعلّق الأمر بحسبهم بالمصدر أي الأثر الذي خلّف عن الماضي، هنا تحتفظ الوثيقة بالموضوعية (Objectivité) أكثر بما أنها صحيحة موثوق بها.

ثانيًا: المدرسة الوضعانية: ثنائية الوثيقة/ المضمون الوقائعي

كان المطمح العلموي الذي كان سائدًا في الأوساط الفكرية خلال القرن التاسع عشر يدفع بالتاريخ نحو تأسيس منهج صارم على شاكلة العلوم التجريبية، إلَّا أن العنصر القاعدي للواقع الملحوظ الذي يعادل الخلايا بالنسبة إلى علم البيولوجيا، أو الذرة بالنسبة إلى عالم الفيزياء، هو الفعل التاريخي، أي الحدث الذي يحدث في الحياة العامة.

بيد أن القضية الأساس التي تمرّد عليها مؤرّخو القرن التاسع عشر لم تكن حقًّا تاريخية بل فلسفية، وفي أساس الموقف التجريبي قام افتراض بوجود هوّة بين صاحب المعرفة وموضوع المعرفة، وتساوي بين يقين المعرفة التاريخية وموضوع العلوم الطبيعية، أي معرفة ما حصل موضوعيًّا بالاستقلال عن الذات العارفة. هكذا أصبح التاريخ علميًّا، بمعنى أن همّه الأول هو إثبات الوقائع وتركها تتكلّم بنفسها[14].

إن الشكوكية التي أوجدتها الفلسفة الوضعانية في الحقل الفلسفي لم تعجز عن بلوغ النتيجة ذاتها في الحقل التاريخي. لقد آمن المؤرّخ الوضعاني بأن العلم الوحيد هو علم الطبيعة أي العلم القائم على الرياضيات وعلى التجربة، وأن المشاكل العلمية هي مشاكل يمكن اختزالها في تقنية بحث، والتاريخ هو أيضًا من هذا القبيل[15].

في بداية القرن التاسع عشر، وتماشيًا مع مجمل النزاعات الثقافية والفكرية التي كانت سائدة آنذاك، وضع ليوبولد فون رانكه (Leopold Von Ranke) (1795-1886) قواعد للبحث التاريخي محاولًا جعل التاريخ فرعًا مستقلًا من فروع الدراسات العلمية، له أدواته المنهجية التي تضفي عليه خصائص احترافية تضعه في مرتبة العلوم النظرية البعيدة عن الطابع البلاغي للكتابة الأدبية.

شدّد رانكه في منهجه على أن البحث التاريخي يجب أن يعتمد على مصادر أولية تعود إلى الفترة التي يدرسها المؤرّخ، والذي يكون من مصادره المواد الخام التي يعالجها، فيضعها على محكّ النقد والتمحيص كي تصبح مادة مؤهّلة لكشف الأحداث كما وقعت في الماضي. ولكي تتم عملية الكشف، وتسجّل في مؤلّف تاريخي ذي معنى، على المؤرّخ أن يتزوّد بكل أدوات البحث المتعلّقة بكيفية استعمال المصادر وتدوينها وترتيبها، والإشارة إليها في الحواشي، وأهمية اقتباس نصوصها كما هي في الأصل.

يدعو رانكه المؤرّخ إلى تكون مهمّته القول: «كيف حدثت الأشياء حقيقة»، والوسيلة هي النقد الفيلولوجي (la critique philologique) كطريقة مثلى في اكتشاف الأحداث والوقائع وتجنّب خلط الأزمنة (Anachronisme) التي وقعت فيها رومانسية الأدب في القرن التاسع عشر.

يعدّه المؤرّخون الفرنسيون أمثال فيكتور لانجلوا (Victor Langlois) وشارل سينوبوس (Charles Seignobos)، وكذلك الأمريكيون على غرار هربرت آدامز (Herbert Adams) أبًا للتاريخ في العصور الحديثة. إنه حيادي في تعامله مع الوثائق إذا ثبتت صحتها بعد النقد.

وتقتضي مهمّة المؤرّخ، وفقًا لرنكه، فصل ذاته عن موضوعه؛ بحيث تنحصر في ملاحظة الوقائع بدقّة، وتجنّب إقحام الأخلاقيات، كما تقتضي إبراز الحقيقة التاريخية وحدها، وأداته -كما قلنا- الوثائق وتحقيقها[16].

ينتمي رانكه إلى ما سمّي بالمدرسة البروسية في التحقيق التاريخي المتبحّر، وقد استحقّت بروسيا هذه التسمية لأنها كانت المركز الأساسي، بل المنارة التي مثّلت نموذجًا للتاريخ المتبحّر (L’histoire érudite) في أوروبا القرن الثامن عشر؛ ففيها نشأت مؤسسات عظيمة للتوثيق والتحقيق، ونظّمت ونشرت فيها مجموعة هائلة من الوثائق، كما أن الإنتاج التاريخي كان يواكب العمل التحقيقي والتوثيقي بصورة غزيرة ومتتابعة طوال القرن التاسع عشر[17].

مارس التبحّر في التنقيب والتحقيق الوثائقي (L’érudition) الذي حصل في بروسيا قوّة جذب كبيرة لدى المؤرّخين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، بمن فيهم الفرنسيون، إلى درجة أن هؤلاء، وكما يشير أحدهم من المؤرّخين المتأخّرين، لم يكونوا بعيدين من التفكير في حرب 1870-1871، كسبت بفضل المؤسسات العلمية البروسية والعلماء المحقّقين الألمان.

ذهب مؤرّخون فرنسيون أمثال غابريال مونود (Gabriel Monod) وكاميل جوليان (Camille Jullian) وشارل سينيوبوس لإغناء ثقافتهم التاريخية في منطقة ما وراء الراين، في ألمانيا. غير أن الحركة التاريخية الألمانية كانت تتهدّد في أواخر القرن التاسع عشر بتقهقرها وتحوّلها، على مستوى ألمانيا وأوربا عامة، إلى اتجاهين تبسيطيين متناقضين: اتجاه نحو فلسفة مثالية للتاريخ (فلسفة تجريدية)، واتجاه نحو ممارسة التاريخ كوصف تبسيطي يتهرّب من الأفكار وتحليلها، ويلغي من التاريخ البحث عن الأسباب.

وهنا يرى بعض الدارسين أن الفضل يعود إلى أكاديميين فرنسيين في إنقاذ الحركة التاريخية الأوروبية، عبر إعطائها زادًا منهجيًّا، وتزويدها بمحرّكها العلمي المنهجي، وذلك عبر كتاب شارال سينوبوس وفيكتور لانجلوا (المدخل للدراسات التاريخية) Introduction aux études historiques سنة 1898 [18]. كما سنبين ذلك لاحقًا.

إن المدرسة التاريخية التي دعيت «المدرسة المنهجية» (L’École méthodique) في فرنسا أو التي شاعت تسميتها «الوضعانية» (Positivisme)، ظهرت وازدهرت وامتدت طوال فترت الجمهورية الثالثة في فرنسا (1870-1940). وقد عرضت مبادئها الأساسية في نصّين: أولهما هو نوع من بيان مؤسّس (Manifeste)، كتبه المؤرّخ غابريال مونود ليطلق عبره تأسيس «المجلة التاريخية» (La Revue historique) سنة 1876، والثاني عبارة عن دليل في البحث التاريخي أو خطاب في المنهج، كتبه المؤرّخان شارل فيكتور لانجلوا وشارل سينوبوس سنة 1898.

دعت هذه المدرسة إلى اعتماد البحث العلمي في التاريخ، متجنّبة أيَّ تأمّل فلسفي، وهادفة الموضوعية المطلقة في مجال التاريخ، وقد اعتقدت أن بإمكانها الوصول إلى أهدافها بتطبيق تقنيات دقيقة تتعلّق بجمع المصادر، ونقد الوثائق، وتنظيم خطوات المهنة على قواعد منهجية أضحت تشكّل ثوابت ودليل في مهنة المؤرّخ وطريقة في العمل التاريخي.

يعدّ تأسيس «المجلة التاريخية» في سنة 1876 بواسطة المؤرّخين الفرنسيين غابريال مونود وغوستاف غانياز (Gustave Gagniez) تأريخًا أيضًا لمدرسة استمرت بالتأثير في كتابة التاريخ الفرنسي والأوروبي حتى سنة 1940. ذلك بأن أعلام هذه المدرسة، من أمثال الأولين إرنست رينان (Ernest Renan) وهيبوليت تان (Taine Hyppolyte) وفوستيل دي كولانج (Fustel de Coulanges)؛ ومن أمثال الجيل الثاني: غابريال مونود وإرنست لافيس (Lavisse Ernest)، سيطروا على مؤسسات التعليم والثقافة في فرنسا، في معهد فرنسا Collège de France وفي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا (L’École pratique des hautes études (EPHE))، وفي كليات الآداب، بل إن كتب التاريخ المدرسية التي عممت في فرنسا كانت من تأليفهم، أو وقعت تحت تأثيرهم.

يرى غابريال مونود أن مشروع «المجلة التاريخية» هو التتويج لممارسة في التأريخ قديمة بدأت مع الكتاب الإنسيين لعصر النهضة من جون بودان (Jean Bodin)، مرورًا بالتحقيقات الوثائقية التي قام بها البندكتيون (Bénédictins)، واستمرت مع المؤرّخين الرومانسيين من أمثال: جول ميشليه (Jules Michelet) في منتصف القرن التاسع عشر.

كما ارتكزت هذه الممارسة على مؤسسة قوية، من بينها «مدرسة الوثائق» (L’Ecole des Chartes)، والمدرسة التطبيقية العليا، وجمعية التاريخ، هذا فضلًا عن عدد كبير من الجمعيات العلمية. بل إن منشور غابريال مونود يعترف بفضل المؤرّخين الألمان وأن ألمانيا هي التي ساهمت بالحصة الكبرى في العمل التاريخي للقرن التاسع عشر: نشر النصوص، نقد المصادر، النقد الدقيق والفاحص لكل أجزاء التاريخ ومن كل أوجهه.

على مستوى الإعلان، تعلن المجلة التاريخية أنها حيادية وغير منحازة، وأنها أمينة للعلم الوضعي (Sciences Positive) ومقفلة على النظريات السياسية والفلسفية. لكن مهما يكن من أمر صدقية هذا الإعلان، ومدى تطبيقه في البحوث التاريخية الفرنسية، فإن مؤرّخي هذه المدرسة ظلّوا جزءًا من مواقعهم الاجتماعية وتكوينهم الثقافي، ووظائفهم الرسمية وغير الرسمية ووطأة الأحداث الكبرى والأفكار والسياسات الكبرى التي هيمنت على المرحلة.

ومن المعروف أن مرحلتهم هي الربع الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، حيث سادت أفكار التوسع الاستعماري وأيديولوجيته والأفكار القومية ذات التوجّه الشوفيني، وأحيانًا العنصري في علاقتها بخارجها.

لكن الاختراق الأيديولوجي لمدرسة تدّعي العلمية لم يكن لينتقص من أهميتها على مستوى تطوير علم التاريخ، وتأسيسه على قواعد منهجية أضحت تشكّل تواثب ودليل عمل في مهنة المؤرّخ وطريقته في العمل التاريخي ولا سيما بعد صدور كتاب المدخل إلى الدراسات التاريخية الذي أضحى خطابًا عالميًّا في المنهج التاريخي.

بعد ربع قرن على تأسيس المجلة التاريخية، ازدادت السلطة العلمية للمشاركين فيها على مستوى منابر التاريخ وكراسيها في الجامعات الفرنسية. وبرز من بين هؤلاء أكاديميان هما: شارل فيكتور لانجلوا وشارل سينوبوس اللذان بادرا إلى تأليف كتاب جامع وتأسيسي في قواعد تطبيق علم التاريخ، صدر سنة 1898 تحت عنوان المدخل إلى الدراسات التاريخية.

كان شارل لانجلوا متخصّصًا بالقرون الوسطى الأوروبية بينما كان شارل سينوبوس متخصّصًا بالعصور الحديثة، وواضع مجموعة من الكتب المدرسية المعدّة لأغراض التعليم الثانوي، والاثنان معًا هما أستاذان في السوربون (La Sorbonne)، ويعود الفضل إليهما في التعبير عن وجهة نظر «المدرسة المنهجية» من زاوية نقل طرائقها وأساليب اشتغالها في حقل التاريخ إلى نوع من دليل عمل للباحثين طلّابًا ومؤرّخين وأكاديميين[19].

ينطلق المؤلّفان من موقف غير مبال، وأحيانًا محتقر لميثولوجيا التاريخ كما هو حال التاريخ مع جاك بوسويت (Jacques Bossuet)، ولا حتى مبال بفلاسفة التاريخ من أمثال فريدريك هيجل (Friedrich Hegel) وأوغست كونت (Auguste Comte)، أو بالتاريخ وبأسلوب الأدب كما مارسه جول ميشليه[20].

كما ينتقد الباحثان مفهوم العناية الإلهية التي استخدمت في تفسير الوقائع. صحيح أن المؤرّخين لم يعودوا يلجؤون إلى هذه الفكرة اليوم كما يريان، ولكن الاتجاه لتفسير الوقائع التاريخية بأسباب تجاوزية متعالية (Transcendantes) استمر في النظريات الحديثة، حيث بدأت الميتافيزيقا تتخفّى تحت أوجه علمية. إن مؤرّخي القرن التاسع عشر تأثّروا بالثقافة الفلسفية التي أدخلوها –بغير وعي منهم- بصيغ ميتافيزيقية في بناء التاريخ[21].

بهذا حقّقت المدرسة المنهجية، وعبر نصّ «المدخل إلى الدراسات التاريخية» قطيعة إبستيمولوجية بإبعادها من حقلها كلًّا من نظرية العناية الإلهية في التاريخ، والتطوّرية العقلانية (التجريدية)، وكذلك الغائية الماركسية.

بحسب لانجلوا وسينوبوس «التاريخ ليس إلَّا وضعية عمل بالوثائق» (Mise en œuvre de documents)، فهما يستعيران من رانكه نظرية الانعكاس (Théorie du reflet) ويطرحان اختباء المؤرّخ خلف النصوص، أي خلف الوثائق[22].

في أول فصل في كتابهما بعنوان: «في البحث عن الوثائق» يعرفان علم التاريخ انطلاقًا من أهمية الوثيقة التي يتركها السلف وفي ذلك يقولان: «التاريخ يصنع من الوثائق والوثائق هي الآثار التي خلّفتها أفكار السلف وأفعالهم، (…) وبفقدان الوثائق صار تاريخ عصور متطاولة من ماضي الإنسانية مجهولًا أبدًا إذ لا بديل عن الوثائق، وحيث لا وثائق فلا تاريخ»[23].

الوثائق إذن تحمل الوقائع التاريخية وعمل المؤرّخ استدلالي ينطلق من معطى الوثيقة ليصل إلى حقيقة الواقعة. يقول المؤلّفان في كتابهما المذكور: إن الوقائع لا يمكن معرفتها تجريبيًّا إلَّا بطريقتين: إما مباشرة إذا لوحظت وهي تحدث، أو بطريقة غير مباشرة بدراسة الآثار التي تركتها (...)، والنوع الثاني من الوقائع، هي الوقائع التاريخية.

والخاصية المميّزة للوقائع التاريخية هي أنها لا تدرك مباشرة وفقًا لآثارها. ولهذا فإن المعرفة التاريخية هي بطبيعتها معرفة غير مباشرة. ولهذا السبب ينبغي «أن يختلف منهج علم التاريخ اختلافًا أساسيًّا عن منهج العلوم مباشرة، أعني عن مناهج سائر العلوم التي تعتمد على الملاحظة المباشرة. وعلم التاريخ -مهما قيل فيه- ليس علم ملاحظة»[24].

«الوقائع الماضية لا نعرفها إلَّا من خلال ما بقي لنا من آثار عنها. صحيح أن المؤرّخ يلاحظ هذه الآثار، وتسمّى الوثائق ويلاحظها مباشرة، ولكنه ليس لديه بعد ذلك ما يلاحظه، بل ابتداء من هذه النقطة يسلك مسلك الاستدلال، محاولًا أن يستنتج الوقائع من الآثار الباقية على أصحّ وجه ممكن. فالوثيقة هي نقطة الابتداء والواقعة هي نقطة الوصول. وبين نقطة الابتداء ونقطة الوصول ينبغي المرور بسلسلة مركّبة من الاستدلالات المرتبطة بعضها ببعض، فيما فرص الخطأ عديدة، وأقل خطأ -سواء ارتكب في البداية أو الوسط أو في نهاية العمل- يمكن أن يفسد كل النتائج. ومن هذا يتبيّن أن المنهج التاريخي، أو منهج الملاحظة غير المباشرة أدنى مرتبة من منهج الملاحظة المباشرة، لكن ليس أمام المؤرّخ هنا خيار، فهذا المنهج التاريخي هو وحده الموجود للوصول إلى الحقائق الماضية. والتحليل المفصّل للاستدلالات التي تقود إلى المشاهدة المادية للوثائق إلى معرفة الوقائع، هو جزء من الأجزاء الرئيسية في المنهج التاريخي إنه ميدان النقد»[25].

إن خطوات النقد التي اصطلح المؤرّخون على تقسيمها بين النقد الداخلي (Critique interne) والنقد الخارجي (Critique externe) للوثائق هي الخطوات التي تعطي لهذا الجهد طابعه ووظيفته العلميين في مرحلته الأولى. على أن المرحلة الثانية التي تتلخّص بالبناء التاريخي، وهي مجموعة عمليات تركيبية تقوم على ربط الوقائع التاريخية المفردة بتصوّر ذهني عام، يجب أن تكون أيضًا ذات منهج في رأي أصحاب المدرسة المنهجية، ذلك بأن الوقائع المستخرجة من النقد تظل مفردة مشتّتة. ولتنظيمها في بناء ينبغي أن نتصوّرها وأن نجمع بينها وفقًا لتشابهها مع وقائع حاضرة.

هذه المسيرة تحصر طموحات المؤرّخ في نطاق المرئي والمعطى، فهو يجعل منه أسير الوثيقة المكتوبة: لم يعد التاريخ إلَّا استخدامًا للوثائق[26]. إن أفضل المؤرّخين وفق هذا التصوّر (الوضعاني) هو الذي يلتصق أكثر ما يمكن بالنصوص ويفسّرها بأكثر ما يمكن من الصحة، بل الذي لا يكتب أو لا يفكّر حتى إلَّا من خلالها[27]. وراء ستار العلمية هذا يمكن فهم التعريف الذي أعطته المدرسة الوضعانية للوثيقة.

يلحّ مؤلفا كتاب المدخل للدراسات التاريخية على الأولوية التي يجب أن تعطى للظاهرة المفردة والفردية؛ في الواقع كل حدث هو حدث فريد[28]، والمؤرّخ غير مطالب بالبحث عن سببية الظواهر التي يصفها: إن كل تاريخ الأحداث هو تسلسل بديهي لحوادث لا يرقى إليها الشك[29]، الصدفة تطارد الضرورة والعرضي يفرغ القوانين. يتقلّص حقل المؤرّخ في هذا التقنين للبحث التاريخي لينحصر في تركيب الأحداث السياسية والعسكرية من دون ارتباط حتمي.

واضح أن الدعوة التي أطلقتها المدرسة المنهجية الفرنسية على لسان لانجلو وسينوبوس، كانت تحمل في طياتها محاولة تجاوز لما آلت إليه الفلسفة الوضعية في فلسفتها التطوّرية (التقدّم) وفي شقّها التاريخي الذي سمّي النزعة التاريخانية وإن كانت في أساسها ومنطلقها جزءًا منها.

لكن هل حقّقت هذه الدعوة على مستوى الممارسة التاريخية (البحث التاريخي) توجهاتها الفعلية؟ أي حياديتها عن السياسة والفلسفات، كما دعا بذلك المنشور التأسيسي في سنة 1896 (افتتاحية غابريال مونود في العدد الأول من المجلة التاريخية)، وهل درس أصحابها حقول النشاط البشري وفقًا للائحة الوقائع التاريخية التي يعرضها مؤلفا كتاب المدخل إلى الدراسات التاريخية؟ وهل مارسوا فعلًا ذلك الاحتراز العلمي الذي تدعو إليه الدعوة إلى تجنّب الوقوع في الحتميات في البحث عن علّة الوقائع؟

يلاحظ دارسو هذه المدرسة من المؤرّخين الفرنسيين المعاصرين أن مؤرّخي التيار الوضعاني التزموا السياسات الرسمية للجمهورية الثالثة (1870- 1840). ولم يكن هذا الانعطاف الوضعاني مستقلًّا تمامًا عن الضغط السياسي الذي كان يمارس على المعرفة التاريخية، فالوضعية السائدة كانت تمجّد العمل المصدري أكثر من غيره وتنظر إليه على أنه مقارعة ضرورية مع المعطيات التجريبية للمعرفة التاريخية، فضلًا عن أن الدولة كانت تسهّل الأبحاث بتمويلها عددًا من مؤسسات التاريخ وبذلك تنامى عدد المؤرّخين الموظفين لدى الدولة خلال القرن التاسع عشر، الدولة جعلت من نفسها مؤرّخة[30].

وهكذا نظّم البحث التاريخي نفسه وتعقلن، إنها ثورة منهجية لا شك فيها، تحقّقت داخل الدولة وبقيت تابعة لها، فكيف لا يكون خطاب المؤرّخين عندئذٍ خطابًا حول الدولة التي بذلت مجهودًا كبيرًا لجمع الوثائق وتنظيمها في مراكز الأرشيف العمومي والمجاميع الوثائقية التي توفّر للمؤرّخين وسائل بحث وضعي، بحث يعتمد على المصادر، فيركّز المؤرّخون جهودهم على تاريخ الأحداث ودواليب الحياة العامة.

واستجابة للشروط العلمية التي وضعها لنفسه، أصبح البحث التاريخي يميل إلى الخلط بين الذاكرة الاجتماعية والذاكرة القومية، والخلط بين الذاكرة القومية وذاكرة الدولة. فكل ظاهرة لا تطفو على سطح الحياة العامة يمكن للمؤرّخ تجاهلها، ليس لأنها لا تتطابق مع عمل واعٍ وإرادي فحسب، وإنما لأنها تعتبر خارجة عن حركة التاريخ[31].

يلاحظ غي بوردي (Guy Bourdé) وهرفه مارتن (Hervé Martin) وهما مؤرّخان معاصران أن النصّ التاريخي الذي تقدّمه هذه الكتب كما في الكتب التي تستلهمها متشبّع بالحدث، وبالتاريخ السياسي، ومقسّم إلى محطّات يفصل بينها تغيّر حكومات أو أنظمة كما تترابط الأحداث عبر سببية خطية (Causalité Unilinéaire)، أما الوقائع فهي سياسات وتركيبات وزارية ومناظرات برلمانية وانتخابات تشريعية. هذه الموضوعات «تأخذ مكانًا أوسع كثيرًا من الاكتشافات العلمية ومن الأنشطة والقطاعات الصناعية والعادات الفلاحية»[32].

وفقًا لهذه الملاحظة نستنتج أن لائحة الوقائع التاريخية التي تحتلّ أوجه النشاط البشري في الأزمنة التاريخية، والتي رسم لوحتها كتاب المدخل للدراسات التاريخية لا تترجم كلها على صعيد الممارسة التاريخية، فثمّة انقطاع يلاحظ ما بين طموح دعوة المدرسة المنهجية، كما يشرحها كتاب سينوبوس ولانجلوا، وبين ما كتبه التأريخ الفرنسي، أي الإسطوغرافيا الفرنسية المنتمية إلى هذه المدرسة[33].

إن ما تشير إليه قائمة تصنيف الوقائع التاريخية (الظروف المادية، العادات المادية، والعادات الاقتصادية، النظم الاجتماعية... إلخ) لم تشغل اهتمامات مؤرّخي المدرسة المنهجية بل ظلّت جزءًا من اهتمامات علماء الاجتماع أو الاقتصاد، أو الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا.

هذه الفراغات في البحث التاريخي هي التي مهّدت لظهور مدرسة فرنسية جديدة ستعرف باسم مجلتها الحوليات (L›École des Annales)، طرحت نفسها مشروعًا جديدًا متجاوزًا للمدرسة المنهجية (المجلة التاريخية)؛ سواء على مستوى تكون المنهج أو على مستوى توسيع الحقول في التاريخ سواء في المكان أو الزمان، أو على مستوى انتشار العلائق المشتركة فيما بين العلوم الإنسانية.

ثالثًا: التاريخ النقدي الحديث: تاريخ جديد ووثائق جديدة

نشأ التاريخ النقدي الحديث[34] في إطار ثورة على التاريخ الوضعاني الذي كان سمة القرن التاسع عشر، وتوضّحه بعض الكتابات المنهجية التي ظهرت خلال هذه الفترة الزمنية[35].

لقد أراد روّاد هذه المدرسة (الحوليات) أن يكون التاريخ إبداعًا على مستوى المناهج والأفكار والمواضيع، وإبداعًا أيضًا في مستوى الأسلوب. وهو الأمر الذي فرض على المؤرّخين اعتماد أنواع جديدة من المصادر مثل دفاتر العدول والتاريخ الشفوي والتراث المادي وتسليط الضوء عليها من زوايا جديدة ترتبط بنوعية التساؤلات المطروحة ونوعية القضايا المتناولة، إذ لم يعد تاريخ الأمة الذي يمثّله تاريخ الجنرالات والشخصيات الذائعة الصيت هو الذي يهمّ المؤرّخين، بل أقحم التاريخ كل المغيبين والهامشيين من خلال دراسة المتروك من المصادر والمغيب من الفئات الاجتماعية: تاريخ المجانين، وتاريخ الرعاة والشرائح الاجتماعية الغائبة في أكثر الحالات من النصوص المصدرية، كالحوليات والسير والتراجم، حتى إنها أصبحت من أولوياته.

تقترح مدرسة الحوليات توسيع حقل التاريخ، الذي بعد مغادرة أرض السياسة، يحمل اهتمامات المؤرّخين نحو آفاق أخرى كالطبيعة والمشاهد والسكان والديمغرافيا والمبادلات والعادات... بهذه الصورة تكونت أنثروبولوجيا مادية وتحدّد مفهوم المادية التاريخية[36].

فمع هذا المفهوم للمادية الذي أصبح مركزيًّا حدث تحوّل في مصادر المؤرّخ الذي لم يعد يقدر على الاكتفاء بتأويل الوثائق المكتوبة التي تنتجها الدوائر السياسية. وجب عليه أن ينوّع في وثائقه ومناهجه باعتماد الإحصائيات والديمغرافيا والألسنية وعلم النفس والمسكوكات وعلم الآثار... إلخ. النصوص لا بد منها ولكن ليس النصوص فقط[37]. وفي هذا التوسّع لمصلحة العلوم الإنسانية الأخرى يمكن أن نلحظ التحالف المعروض عليها ضدّ النزعة التاريخية ولكن لتكون في خدمة التاريخ.

لم تحفل الحوليات بالتاريخ القومي ولم تجعله مناط اهتمامها، كما أنها نقلت اهتمامها من دراسة الأحداث السياسية والتاريخ المعركة (L’Histoire-Bataille) إلى دراسة كل ما له علاقة بالمجتمع والاقتصاد والذهنيات، وطالبت ببعث تاريخ جديد يعنى بهذه المسائل، ويولي أهمية خاصة للبنى الخفية (Les Structures)[38].

إن عبارات من قبيل التاريخ الحدثي والتاريخ السياسي وتاريخ الوقائع أصبحت مصطلحات قدحية تستعمل لوسم التاريخ لدى المنهجيّين. وإلى جانب كل هذا كانت المدرسة نفسها تعتبر أن التاريخ مدعو حتمًا إلى أن يشمل كل ما هو غير مكتوب. لقد وسّعت من أفق الوثيقة التاريخية، بالحلول محلّ كتابات لانجلوا وسينوبوس المعتمدة بصورة رئيسة على النص المكتوب، فهو تاريخ يعتمد على وثائق عديدة ومتنوّعة: منها المكتوبة بجميع أنواعها وأجناسها إلى جانب الوثائق التصويرية ونتائج البحوث الأثرية والروايات الشفوية وغيرها من الوثائق[39].

إن سلسلة من الأرقام، أو رسم بياني لتطوّر الأسعار، أو صورة، أو فيلم، أو لقاح النباتات المتحجر، أو معول أو نذر؛ كل هذه الأشياء تعتبر من الوثائق الأولية بالنسبة للمؤرّخ (تاريخ بلا نصوص أو تاريخ ما بعد النصوص)[40].

حاولت مدرسة الحوليات مع أحد أبرز مؤسّسيها وهو لوسيان فيفر (Lucien Febvre) إبراز عقم التاريخ بأسلوب حدثي واعتمادًا على الوثيقة المكتوبة. وفي هذا الصدد يقول لوسيان فيفر: «لا شك أن التاريخ يكتب اعتمادًا على الوثائق المكتوبة إذا وجدت لكن يمكن، بل يجب أن يكتب اعتمادًا على كل ما يستطيع الباحث بمهارته وحذقه، أن يستنبطه من أي مصدر: من المفردات ومن الرموز، من المناظر الطبيعية، ومن تركيب الآجور، من أشكال المزارع ومن الأعشاب الطفيلية، من خسوفات القمر ومن مقارن الثيران، من فحوص العالم الجيولوجي للأحجار ومن تحليلات الكيميائي للسيوف الحديدية»[41].

انتقد لوسيان فيفر أيضًا في كتابه: (معارك من أجل التاريخ) Apologie pour l’histoire التاريخ التقليدي المعتمد على سرد الأحداث من دون التوقّف عندها، ومن دون إثارة الإشكاليات منغمسًا في اجترار النصوص[42].

وإلى جانب لوسيان فيفر يقرّ مارك بلوك (Marc Bloch) هو الآخر بأهمية الوثائق، وبأهمية التحقّق والتبحّر بمعطياتها ومقرّراتها وجزئيّاتها. لكن ذلك لا يكفي لأنه يجب ألَّا يُكتفى بالوثائق وحدها كمصادر للتاريخ، إن ركام الوثائق التي يمتلكها التاريخ ركام غير محدود. ولا يقتصر التاريخ على الوثائق المكتوبة؛ «إذ يمكن استكمال دراسة الحركات السكانية والهجرات، من خلال المقابر الأثرية في منطقة من المناطق أو حضارة من الحضارات. ثم عن المعتقدات والمشاعر والعواطف يمكن أن تنبئ عنها الصور والرسوم والتماثيل أكثر ممّا تنبئ عنها النصوص»[43].

لا يدعو مارك بلوك هنا إلى اكتشاف مصادر جديدة للتاريخ فقط، بل يدعو إلى توسيع حقل التاريخ نحو اتجاهات مختلفة: باتجاه الأنثروبولوجيا التاريخية؛ دراسة الفلكلور والعادات ومظاهر السحر، ثم باتجاه مجال تاريخ العقليات كما فعل جاك لوغوف (Jacques Le Goff) وآخرون[44]، كما درس حقول علم الاجتماع الديني في أزمنة تاريخية معينة. وإلى جانب كل هذا، نجده أيضًا يدعو إلى الاهتمام بأصل الكلمات وتطوّر استخدامها في التاريخ.

وفق هذا التصوّر تصير الوثيقة وحدة حسابية للمعرفة التاريخية التي تجرّأ مارك بلوك على وضعها في زاوية الملاحظة وهو الفالق للمدرسة التي كان يلقبها بالوضعانية. ففي الواقع الوثيقة ليست معطى، بل شيء مستبحث ومهيِّئ ومؤسّس. تدل الكلمة، إذن، على كل ما يمكن مساءلته من طرف المؤرخ بهدف العثور على خبر حول الماضي على ضوء فرضية تفسير وفهم. فالغاية من استنطاق الوثائق حسب مارك بلوك لا تكمن في خلطها بل في فهمها.

يلحّ مارك بلوك ولوسيان فيفر معًا على ضرورة تدخّل نشيط للمؤرّخ في الوثيقة وفي الأرشيف. وكما يقول غاستون بشلار (Gaston Bachelard) بصيغة نجدها شبيهة في الخطاب الحولياتي: «ليس هناك ما يتحرّك بذاته، لا يوجد شيء كمعطى كل شيء يبنى»[45].

ومن منظور مدرسة الحوليات يبني المؤرّخ موادّ بحثه: الوثائق ضمن سلاسل قابلة للفهم يضعها في إطار نظري مسبق يتماشى وطبيعة بحثه. وبدون المقاربة الإشكالية يكون المؤرّخ معاقًا وعبارة عن ناسخ، وهو مهندس بلا شك ولكنه ليس عالمًا.

وبصيغة أخرى وحسب لوسيان فيفر عندما لا نعرف عمَّ نبحث لا نعرف ماذا نجد[46]، فمقاربة المؤرّخ التقليدي هي إذن مقاربة العجز والسذاجة الذهنية، جملة من الأوصاف تعطي صورة عن لهجة الجدال. يلحّ لوسيان فيفر هنا على الدور الرئيسي للمؤرّخ، على ذاتيته الضرورية: المعطيات؟ ولكن ليس ما يختلقه المؤرّخ[47]. ليس الماضي الذي يولّد أو يصنع المؤرّخ ولكن المؤرّخ الذي يولّد التاريخ[48].

يعارض مارك بلوك ولوسيان فيفر علموية رانكه وسينيوبوس الوضعانية، بالنسبية الذاتية لممارسة يختار فيها المؤرّخ الأحداث التي سيسائلها بحسب الاهتمامات المعاصرة، يطرح من خلالها جملة من الافتراضات التي بدونها تكون المعرفة التاريخية كلمة جوفاء. ليس على المؤرّخ أن يتجرّد من ذاتيته ليزرع الشك، بل على العكس يجب عليه أن يقابل فرضياته بالوثائق التي جمعها[49].

وإلى جانب فيفر وبلوك ثار فرناند بروديل (Fernand Braudel) هو الآخر على التاريخ التقليدي الذي عوّدنا على الاهتمام أكثر بالأحداث وبتسلسلها الزمني بوصفها أحدثًا نابعة من إرادات واعية تحدّدها الوثائق المكتبة فكأن غاية المؤرّخ هي الوقوف على مغامرات الرجال العظام وإيراد سيرهم الذاتية، وكأن ذلك هو الذي يفسّر التاريخ. وبصيغة أخرى يؤكّد بروديل أن الحدث في حدّ ذاته غير قابل للفهم ما لم يبحث له المؤرّخ عن سياقه ضمن بنية أشمل تدخل في عين الاعتبار السياسي والمجتمعي والجغرافي، فإنه يظلّ عاجزًا عن الوقوف على معناه الحقيقي[50].

لم ينفرد بروديل وحده بالثورة على التاريخ التقليدي، فقد انخرط كذلك أحد كبار المؤرّخين الفرنسيين، إنه إيمانويل لوروا لادوري (Emmanuel Le Roy Ladurie) حامل شعار «تاريخ بدون إنسان»[51].

هذا التطوّر الحاصل على مستوى الوثيقة سيتبلور أكثر مع إبستيمولوجيين أمثال بول فاين (Paul Veyne) وهنري مارو (Henri Marrou). هذا الأخير يعرف الوثيقة «بأنها كل مصدر للأخبار يتمكّن من خلاله فكر المؤرّخ من استخلاص شيء من أجل معرفة الماضي البشري منظورًا إليه من خلال الإشكال المطروح... وشيئًا فشيئًا تتّسع الفكرة وتنتهي باحتواء نصوص وآثار وملاحظات من كل نظام»[52].

كما يعتبر أن فكرة الوثيقة تتقدّم مع تعميق فكرة التاريخ، ذلك أن الإدراك الضيّق للشاهد في نظره يؤدّي إلى تاريخ مجمل حدثي بحدّة. أما بول فاين فهو يرى من حيث الجوهر أن التاريخ معرفة بواسطة الوثائق، ولكن السرد التاريخي يتجاوز كل الوثائق ويضع نفسه فيما وراء الوثائق. ويرجع ذلك إلى كون أيّة وثيقة لا تستطيع أن تكون هي بذاتها الحدث، فالوثيقة ليست محاكاة للحدث بل هي حكاية عنه[53].

مجمل القول، إن كل ما تبقّى من الماضي يمكن اعتباره كمؤشّر يعبّر عن شيء كان له وجود في الماضي. ولهذا نجد عبد الله العروي يطلق على الوثيقة اسم الشاهدة، ففي نظره «لا وجود للوثيقة المجرّدة، كل ما يوجد هو وثيقة متميّزة يستغلّها الباحث ويبني على هذا الوضع نتائج بالكيفية التي يبني بها المؤرّخ التاريخ»[54].

يعيش التاريخ مع مدرسة الحوليات ثورة وثائقية، إن ميزة التاريخ الأساسية وفق هذا التصوّر تقوم أساسًا على نقد فكرة الحدث؛ إذ ليس هناك واقع تاريخي جاهز ينكشف تلقائيًّا للمؤرّخ. إن المؤرّخ، كأيّ رجل علم، على حدِّ تعبير مارك بلوك، يجب أن يحدّد اختياراته أمام واقع شاسع وغامض.

وهذا الاختيار لا يعني بالطبع لا إجحافًا، ولا مجرّد جمع، وإنما يعني تركيبًا علميًّا للوثيقة بما يسمح بإعادة رسم الماضي وتفسيره. إنه عمل دؤوب يقوم به المؤرّخ، إنه نتاج خلق وتركيب يعتمد الفرضيات والحدس التاريخي[55].

رابعًا: أهمية الوثائق في كتابة التاريخ

لا يكتب التاريخ من عدم، لذلك يختلف المؤرّخ عمّا يكتبه القصّاص والروائي اللذان بإمكانهما كتابة القصة أو الرواية من محض الخيال. وبما أن التاريخ هو فهم تطوّر الإنسان عبر العصور فإن على المؤرّخ البحث عن مختلف مخلفات الإنسان من آثار مكتوبة وأخرى غير مكتوبة وعن كل ما من شأنه أن يساعده على إعادة بناء تاريخ الإنسان أي ماضيه.

ولقد بلغ الأمر ببعض مؤرّخي القرن التاسع عشر إلى القول: إن التاريخ لا يبدأ إلَّا إذا توفّرت وثائق، وجعلوا من مهام المؤرّخ الأولى البحث عن الوثائق وبعثوا لذلك علمًا قائمًا الذات له قواعده وأدوات عمله ومناهجه (Heuristique).

إلَّا أن مفهوم الوثيقة ما انفك يتطوّر ليشمل كل مصدر من شأنه أن يمكّن المؤرّخ من معرفة الماضي البشري والمجال على أساس أنه لا يمكن الفصل بين الإنسان ومحيطه الطبيعي والبيولوجي.

وعن أهمية الوثائق في كتابة التاريخ قال بعضهم: إنها كالوقود بالنسبة للمحرّك الانفجاري[56] (L’histoire se fait avec les documents comme le moteur à explosion fonctionne avec du carburant).وعن دور الأرشيف وأهميته في حفظ وصيانة الوثائق المكتوبة قال بعضهم: إنها بمثابة خزانات المعلومات التاريخية إلَّا أن التفاوت بين الدول في علاقتها بالوثائق كبير بحسب تقاليدها في المجال التوثيقي؛ فالدول العظمى عظيمة كذلك بعدد الوثائق التي تتضمنها خزاناتها وأرشيفاتها، والدول المتأخّرة أو المتخلّفة متخلّفة بالنظر إلى ضعف رصيدها من الوثائق ونوعية علاقتها بمورثها الوثائقي[57].

تعتبر الوثائق إذن مادة التاريخ، بل إنها تعدّ من أهم مصادره المعتمدة، فلا تاريخ بلا وثائق، فالوثائق هي ذاكرة الجنس البشري، كما أنها تعتبر أهم سند للمؤرّخ الذي يريد الوصول إلى «الحقيقة التاريخية»[58].

وهكذا تتبوَّأ الوثيقة مكانة مهمة في معظم الدراسات التاريخية إن لم نقل كلها، وهي تمثّل أفكار الماضيين وتترجم أفعالهم؛ فكل فكرة أو فعل لم يخلف أثرًا مباشرًا، أو ضاع أو طمست معالمه، لا يعني شيئًا بالنسبة للتاريخ.

لا جدال إذن في كون أن الوثائق تشكّل مادة التاريخ الأولى، والمؤرّخ الواعي لا بد له من الرجوع إلى الوثائق باعتبارها منبعًا لدراسة شؤون العصر الذي يبحث فيه النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها[59].

الوثائق إذن هي مادة التاريخ، هذه ملاحظة بديهية يجب أن يدركها كل باحث في التاريخ عن «الحقيقة التاريخية» والعثور على الوثائق الخاصة بالموضوع الذي ندرسه عملية هامّة جدًّا، والغالب عند الباحث/ المؤرّخ هو أنه لا يقدم على معالجة موضوع معيّن إلَّا بعد التأكّد من توفّر الوثائق التي تلقي الأضواء على حقيقة الأحداث.

وقد تتوفّر للمؤرّخ أحياناً كميات مهمّة من الوثائق عن المسألة أو القضية التي يريد دراستها فيواجه آنذاك مصاعب من نوع آخر مثل الفرز والقراءة والتصنيف... ويتعرّض نسبيًّا لمثل هذه الوضعية أحيانًا مؤرّخو الفترة المعاصرة الذين يستغلّون أصنافًا عديدة ومتنوّعة من الوثائق المكتوبة والشفوية والمصورة والسمعية البصرية وغيرها... وأحيانًا أخرى كثيرًا ما يحجم المؤرّخ عن الكتابة في موضوع لم تتكشف وثائقه أو جانب كبير منها على الأقل، إذ كيف يمكن من الناحية النظرية أن يتناول المؤرّخ أو الباحث موضوعًا لا يملك أدوات بحثه الأساسية ألا وهي الوثائق؟.

خامسًا: مواد عمل المؤرّخ: أصناف الوثائق

تكتسي الوثيقة أهمية قصوى في البحث العلمي عمومًا، وفي البحث التاريخي خصوصًا، كما أن أهميتها تزداد لدى المؤرّخين حتى أن التهافت عليها والبحث عنها وأحيانًا احتكارها من طرف البعض منهم أمر يكاد يكون عاديًّا في أواسط الباحثين الذين يحاولون توظيف الوثائق واستنطاقها كما أن استثمارها يعتبر بالنسبة إليهم بمثابة رأسمال.

كما أن مواد عمل المؤرّخ تتميّز بالتنوّع والتعدّد، وفيما يلي عرض لأهم التفاصيل:

1- النصوص ووثائق الأرشيف: وهي الصنف المحبذ للمؤرّخ نظرًا لتميّزه بالدقة أكثر من غيره. إلَّا أن تغيّر الخطوط عبر الأزمنة واختلافها من ناسخ إلى آخر يستوجب من المؤرّخ معرفةً وإلمامًا بعلم الخطوط (Paléographie) ليتمكّن من تحقيق النصوص وقراءتها القراءة الصحيحة. فتحقيق المخطوطات من مهام المؤرّخ وخاصّة المختصّ في الفترة الوسيطة.

ولئن أصبح من الصعب اكتشاف مخطوطات جديدة، فالمؤرّخ في هذه الحالة مدعو إلى استغلال ما توفّره مصادر أخرى -معظمها مازال مخطوطًا- ككتب النوازل والفتاوى والمناقب والأحكام والحسبة وغيرها من المؤلّفات الفقهية وكتب الطبقات والتراجم والسير والأنساب... أما وثائق الأرشيف فهي نوعان:

النوع الأول: الأرشيف الرسمي أو الحكومي: (محاضر جلسات، مراسلات مختلف الوزارات، معاهدات دولية، اتفاقيات، دفاتر جبائية...)، وهي محفوظة عادة بدور الأرشيف الوطنية (Les Archives National) التي تمثّل على حدِّ تعبير بعضهم «أنبار أو مخزن التاريخ» (Grenier de l›histoire)[60].

النوع الثاني: الأرشيف الخاص: وهو ملك الأفراد أو العائلات أو المؤسسات الخاصة ويستوجب الاطّلاع عليه ترخيصًا من أصحابه، (عقود زواج، عقود ملكية، مذكرات، رسائل شخصية...). من هذا الصنف نجد سجّلات عدول الإشهاد المحتوية على عقود مختلفة تهمّ الحياة الاجتماعية (زواج، طلاق، قسمة إرث...) والاقتصادية (بيع، شراء، كراء، تكوين شركة...)، وهي وثائق قريبة جدًّا من الواقع المعيش والحياة اليومية.

2- الصحف: منها ما هو رسمي حكومي ومنها ما هو خاص. وقد تكون الصحيفة يومية، أسبوعية، قومية، جهوية أو محلية. لكن مهما كانت نوعيتها فإن الموضوعي بالنسبة للخبر الصحفي يظلّ مسكونًا بالذاتي وموجّهًا من قبله. إن الاعتراف بقيمة النص الصحفي بالنسبة للبحث التاريخي لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن واجب الاحتراس إزاء هذا النوع من المصادر التي قد لا تستجيب دائمًا لشروط الموضوعية، وهذا ما يبعدها أحيانًا عن الحقيقة التاريخية ويسقطها في متاهات التأويل والتزييف. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا تختلف مقاربة التاريخ في معالجة القضايا والأحداث عن معالجة الصحافة[61].

3- الوثائق السمعية البصرية: هذا الصنف من الوثائق هو في تطوّر مطّرد في السنوات الأخيرة بسبب استعمال الراديو والتلفزيون والسينما والفيديو... وهي كباقي المصادر الأخرى قابلة للتحريف بسهولة عن طريق عملية التركيب (Montage).

4- المؤلفات الأدبية: توفّر معلومات تاريخية عن الأوضاع الاجتماعية (طرق العيش، أنماط الحياة، العادات)، ويكفي أن نذكر بأهمية الشعر الجاهلي في وصف المجتمع العربي قبل الإسلام.

5- الأعمال الفنية: توفّر أيضًا للمؤرّخ جملة من المعلومات التاريخية. نذكر على سبيل المثال أهمية اللوحات الفسيفسائية في دراسة المجتمع الروماني[62]، أو لوحات الرسامين الإيطاليين أو الهولنديين لفهم عصر النهضة الأوروبية. فهذه الأعمال الفنية هي بمثابة نصوص بالنسبة للمختصّ في تاريخ الفن.

6- الوثائق الأثرية: تشكّل مجموعة من المخلّفات الأثرية من عمارة ونقائش ومسكوكات وخزفيات... وهي تشكّل مصدرًا مهمًّا للمؤرّخين وخاصّة المتخصّصون في دراسة العصور القديمة.

7- الوثيقة الإيقونوغرافية أو المصورة (Document Iconographique): إن أهميتها في تزايد مستمر منذ مطلع القرن التاسع عشر، والصورة -كما يقول المثل الصيني- هي بمثابة ألف كلمة[63]. وهي تشكّل مصدرًا آخر من مصادر البحث التاريخي يمكن الاعتماد عليه خاصّة إذا انعدمت الوثائق المكتوبة، فمثلًا توفّر الرسوم على جدران الكهوف للمؤرّخين الكثير من المعلومات التاريخية عن الحياة في عصور ما قبل التاريخ. كما يتعذّر على المؤرّخ، إن لم نقل يستحيل عليه، دراسة النهضة الأوروبية في القرنين الخامس والسادس عشر دون إدراج الرصيد الهائل من الأعمال الفنية ضمن قائمة مصادره.

8- المصادر الشفوية: يستغلّ المؤرّخ أيضًا الشهادات الشفوية لشهود العيان الذين عاشوا الأحداث أو كانوا أحد أطرافها، وبما أن مصدر الرواية الشفوية هي الذاكرة، فإن على المؤرّخ أن يفهم كيفية عملها على أساس أنها عملية إعادة عناصر أحداث الماضي[64].

9- الوثيقة الإحصائية: تزايدت أهميتها في إطار ما يعرف بالتاريخ الكمي (Histoire Quantitative)، أو ما يعرف أيضًا بالتاريخ السلسلي (Histoire Sérielle) الذي ما انفك يتطوّر منذ ظهوره في إطار مدرسة الحوليات مع دراسة كل من فرانسوا سيميان (François Simiand) وأرنست لابروس (Ernest Labrousse) وبيير شوني (Pierre Chaunu). ولقد ولع هذا الأخير بالتاريخ السلسلي حتى اعتبره الشكل الوحيد للبحث التاريخي[65].

كما اعتبر فرانسوا فورييه (François Furet) منهج التاريخ الكمي بالأرقام هو ثورة في فهم التاريخ كله[66]. ويعتمد التاريخ الكمي على استغلال سلاسل مرقمة لمعطيات متجانسة قابلة للمقارنة وممتدة على فترة زمنية طويلة، وذلك حتى يتبيّن للمؤرّخ التغييرات والتطوّرات الحاصلة، وهو ما أسماه عبد الله العروي بـ: «التاريخ بالعدد».

10- الخريطة التاريخية: تمثّل هي الأخرى أداة من بين أدوات المؤرّخ، وهي ضرورية بالنسبة إليه في ضبط المواقع ووسيلة ناجعة للتعبير عن حدث أو ظاهرة تاريخية (توزيع السكان، تحرّكات القبائل، مراحل تنقّلات جيوش...).

تتوفّر إذن للمؤرّخ وثائق متنوّعة وعديدة، وغالبًا ما يعكس تعدّد الوثائق انشغال كل متخصّص؛ فماهية الوثيقة عند الأركيولوجي هي البقايا الأثرية (حجرية، حيوانية، نباتية)، وعند المؤرّخ المعتكف على مكتبة وطنية، هي المخطوطات والرسائل والكناشات.

أما وثائق القرن العشرين فهي الخطب المسجّلة والأفلام الوثائقية والاستجوابات[67]. كما أن ترتيبها أيضًا يختلف، فمثلًا أندريه كورفيزيه (André Corvisier) نجده يعطي الوثائق الترتيب التالي: الوثائق المكتوبة، الشواهد الإيقونوغرافية، الأنصاب المادية، الرسوم المرئية، والمسجلات الصوتية[68].

واضح من خلال هذا الترتيب أنه ترتيب يلائم نوعًا خاصًّا من التأليف التاريخي، غالبًا ما يعكس هم كل تخصص؛ «فالتاريخ السياسي/ الديبلوماسي يضع على رأس القائمة الشواهد المكتوبة، المخطوطة أو المطبوعة. وتاريخ الفن الرسوم والأشكال التمثيلية الأخرى والأرخيات المواد المستعملة، وتاريخ الإنتاج الجداول الإحصائية وتاريخ الذهنيات الأدبيات والأساطير والأحلام»[69].

وإذا كان الترتيب الوثائقي يخضع لطبيعة البحث أو التخصّص التاريخي، فإن تعدّدها وتوفّرها يطرح أيضًا مسألة منهجية تتمثّل في الكيفية التي يفهم بها المتخصّص صناعته بل التاريخ. وفي هذا السياق يقول عبد الله العروي: «من يتأمّل يوميًّا الأحجار أو حبوب الذرة، أو أواني الفخار، لا يفهم التاريخ كما يفهمه ويتصوّره من لا ينفك يقرأ المخطوطات، أو يتابع تطوّر أسعار القمح أو اللحم. لكل وثيقته ولكل تاريخه»[70].

على هذا النحو يستوجب تعدّد الوثائق من المؤرّخ وقفة تأمّلية مقرونة بحذر شديد وحسّ نقدي، فالتاريخ لا يتجدّد باكتشاف وثائق جديدة بقدر ما يتجدّد بنوعية الأسئلة التي يطرحها المؤرّخ على الوثائق وتأويله لها.

إن للوثائق بأكملها أهمية كبرى في البحث التاريخي، فهي تستخدم في الغالب كمناجم يستخرج منها التاريخ الخام ليس إلَّا. ويمكن القول بأن تصوّرات روّاد اتجاه التاريخ الجديد وإسهاماتهم المنهجية ستؤدّي لا محالة إلى توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية لتشمل كل ما يمكن للمؤرّخ أن يستقي منه مادته التاريخية، كما أن تقنية استنطاقها في ظل هذا الاتجاه ستفرض معالجات جديدة على الخزان الوثائقي؛ جعلت معالجة المؤرّخ لمخلّفات الماضي البشري تخضع لأسئلته ولثقافته وبنيته الفكرية، هذا بالإضافة إلى توظيف مكتسبات بعض العلوم الإنسانية الأخرى (مثل الأنثروبولوجيا والسيميائيات واللسانيات... إلخ) كعلوم فرضت نفسها ولم يعد من الممكن تجاهلها.

إن الإقرار بهذه الأمور لا يعني أن النقد الوثائقي -كما تصوّرته المدرسة الوضعانية- لم يعد صالحًا، بل على العكس من ذلك، إن قوة المنهج النقدي تبقى غير قابلة للنقاش، ولكنها غير كافية.

وعلى هذا الأساس فإن المؤرّخ يحتاج في فهم ما يوجد بين ثنايا سطور الوثيقة التاريخية إلى مركبه العقلي وخياله ومنهجيته العلمية. إن مرحلة النقد الوثائقي وعلى الرغم من أهميتها في فهم الوثيقة، وفهم الحدث عبرها، ذلك أن النقد الوثائقي/ الوضعاني ينطبق أكثر على الوثائق السياسية والديبلوماسية التي تترجم التاريخ الحدثي (Histoire évènementielle) والسردي (L›histoire-récit) وتاريخ المدة القصيرة (La courte durée) أو التحوّلات الفردية السريعة، وهمّ المؤرّخ في هذه الحالة هو تحقيق الأحداث فقط ومعرفة زمن حدوثها ووقوعها.

ولعل هذا الأمر هو ما يتعارض مع الاتجاهات التاريخية المعاصرة التي تستعمل أنواعًا أخرى من الوثائق، وتتوخّى الكشف ليس فقط عن التغيّرات القصيرة بل ذات المدّة الطويلة.

وهذا ما يقتضي تعاملًا من نوع خاصّ مع الوثيقة التاريخية؛ فالنقد الوثائقي يكثر من الأسئلة على الوثائق ولا يدعها تتكلّم من تلقاء نفسها. وبالتالي يرغمها بهذه الطريقة أو الكيفية على إعطاء معلومات قد لا تتوفّر عليها. وبعبارة أخرى: أكثر وضوحًا يتمّ التعسّف عليها بالاستنتاجات، يضاف إلى ذلك أن التحليل النقدي للوثيقة لا يعني وجودًا قطعيًّا لحدث ما[71]. بل فقط إمكانية الاعتماد عليها كشاهد، وهنا تطرح ضرورة فهم الوثيقة، وهذا الأخير يتجاوز النقد الوثائقي ويعمل بذلك على توظيف واستغلال ثقافة المؤرّخ وبنيته الفكرية.

على سبيل الختام

تشكّل الوثيقة إذن مادّة أولية بالنسبة للمؤرّخين، وهي أيضًا أرضية عمل البحث حول الماضي، بالتالي فالوثيقة تسمح هي نفسها بصياغة وبناء التاريخ. يتعلّق الأمر بمجموع آثار تعمل على إعطاء معلومات حول الماضي. وفي نهاية تحليل هذه الورقة البحثية نردّد ما قاله هنري مارو: «فمفهوم فكرة الوثيقة يعتمد على المؤرّخ على بديهته وبراعته في استخدام أدواته في العمل ومعرفاته، ولكن قبل كل شيء على ما في ذاته، على ذكائه، نافذة عقله، وعلى ثقافته»[72].

ولهذا فالمعرفة التاريخية هي رهينة بالغنى الذاتي للمؤرّخ وليس بغناه الوثائقي. إن الوثائق أو النصوص ليست من الأدوات الشفّافة التي تساعد على الوصول إلى مضامين جامدة، بل هناك عدد من الدلالات التي لا تخاطب الباحث إلَّا إذا تبنّى هذا الأخير قراءة تتعدّى البحث عن وقائع معزولة[73].

إن القراءة المتعدِّدة للنصوص أو الوثائق لا تعني نبذ الاستعمال الوثائقي لها. بل يعني عدم الاقتصار على ذلك الاستعمال؛ لأن المؤرّخ ربما ينخدع بمعطيات مشبوهة، وبين تفاهة الشكل وأولوية المضمون الذي يفترض عادة المنهج النقدي تأتي القراءة المتعدّدة لتجعل الشكل يتحوّل إلى مضمون إذا ما وظف المؤرّخ أدوات ومفاهيم راكمتها العلوم الإنسانية والاجتماعية.

قائمة المراجع

أولا: باللغة العربية

*      إبراهيم عبد العزيز عبد الغني، الوثائق التاريخية المسجلة وأهمية مقارنتها بالروايات الشفهية، مجلة الوثيقة، العدد 38، يوليو، 2000.

*      إلمربارنز، هاري، تاريخ الكتابة التاريخية، الجزء الثاني، ترجمة: محمد عبد الرحمن برج، مراجعة: سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.

*      التيمومي، عبد الهادي، مفهوم التاريخ وتاريخ المفهوم في العالم الغربي من النهضة إلى العولمة، صفاقس: دار محمد علي للنشر، 2003.

*      الجميل، سيار، المجايلة التاريخية فلسفة التكوين التاريخي نظرية رؤيوية في المعرفة العربية الإسلامية، عمان: منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، 1999.

*      الحسناوي، محمد، الإسطغرافيا الفرنسية: محطات، اتجاهات ومؤرّخون، المجلة التربوية، العدد الثامن، مارس 2002.

*      حسين، أحمد، الوثائق التاريخية، القاهرة، 1954.

*      دوس، فرانسوا، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.

*      بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق: جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009.

*      السبتي، عبد الأحد، التاريخ الاجتماعي ومسألة المنهج ملاحظات أولية، مجلة الجدل، العدد 5 و6، الرباط، 1987.

*      السيد محمد إبراهيم، مقدمة للوثائق العربية، سلسلة الوثائق والمعلومات (1)، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1993.

*      عابدين، عبد المجيد، التوثيق تاريخه وأدواته، مجلة الوثائق العربية، العدد 3، بغداد، 1977.

*      عبد الحميد، شاكر، عصر الصورة.. السلبيات والإيجابيات، الكويت: عالم الفكر، يناير، 2005.

*      العروي، عبدالله، مفهوم التاريخ، الجزء الأول، الألفاظ والمذاهب، الدار البيضاء -بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997.

*      فالن بيتز، معجم المصطلحات الأرشيفية، ترجمة: غسان منير، بيروت: الدار العربية للعلوم، 1990.

*      فرو، قيس ماضي، المعرفة التاريخية في الغرب مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية، بيروت: منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.

*      فريد ابن سليمان، مدخل إلى دراسة التاريخ، تونس: مركز النشر الجامعي، 2000.

*      فيكتور شارل لانجلوا وسينوبوس شارل، المدخل إلى الدراسات التاريخية في النقد التاريخي، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، الكويت: وكالة المطبوعات، 1981.

*      كوثراني، وجيه، التاريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب، مدخل إلى علم التاريخ، الجزء الأول، بيروت: الأحوال والأزمنة للطباعة والنشر والتوزيع، 2001.

*      --------، تاريخ التأريخ، اتجاهات - مدارس- مناهج، بيروت: منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.

*      لوغوف، جاك، العقليات تاريخ مبهم، ترجمة: محمد حبيدة، مجلة فكر ونقد، السنة الثانية، العدد 17 مارس1999.

*      يان فانسينا، المأثورات الشفاهية دراسة في المنهجية التاريخية، ترجمة: أحمد علي مرسي، القاهرة: دار الثقافة، 1981.

ثانيا: باللغة الأجنبية

*      Bachelard Gaston, La Formation de l’esprit scientifique; Contribution à une psychanalyse de la connaissance objective, Paris, J.Vrin, 1969, p.14.

*      Bloch Marc, Apologie pour l’histoire, ou métier d’historien, Paris, Armand Colin, 1974,P. 94.

*      Bourdé Guy et Martin Hervé, Les écoles historique Paris, Seuil, 1983.

*      Braudel Fernand, Ecrits sur l›Histoire, Paris, Flammarion, 1969.

*      Chaunu Pierre, Histoire quantitative, Histoire sérielle, Paris, Armand Colin, 1978.

*      Corvizier André, Sources et méthode en histoire sociale, Paris , SEDES, 1980..

*      Dosse François, «la nouvelle histoire», in Christian Delacroix, François Dosse, & Patrick Garcia (dir.), Histoire & historiens en France depuis 1945. Paris: Adpf, 2003, p. 120.

*      Dumoulin Olivier, «Document», in André Burguière (ed.), Dictionnaire des sciences historiques, Paris, PUF, 1986.

*      Febvre Lucien, Combats pour l’histoire, Paris, Armand Colin, 1953, p13..

*      Furet François, «Le Quantitatif en histoire», in Jacques Le Goff & Pierre Nora (dir.), Faire de l’histoire t.1: Nouveaux Problèmes, Paris, Gallimard, 1974.

*      Galland Bruno, «Conserver pour l›histoire: une nouvelle dimension pour les Archives nationales de France», en ligne:http://www.archiviodistato.firenze.it/atti/aes/galland.pdf, consulté le 20/11/2014.

*      Idrissi Mostafa Hassani, Pensée Historienne et l’apprentissage de l’histoire, Paris, L’Harmattan,2005.

*      Jaudoin Sophie, L’emploi des documents sources dans l’enseignement de l’histoire, 2006, [En ligne] mis en ligne le 22 mai 2010 http://www.limousin.iufm.fr/asp/memoires/fichiers%5CG11-2007.pdf, Consulté le 15 août 2010.

*      Ladurie Emmanuel Le Roy, Le territoire de l›historien, Paris, Gallimard, 1978.

*      Le Goff Jacques, Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1995.

*      Marrou Henri Irénée, De la connaissance historique, Paris, Seuil, 1975.

*      -------------------------, «Comment comprendre le métier d’historien», dans Charles Samaran (éd.), L’Histoire et ses méthodes, Paris, Gallimard, 1961.

*      Prost Antoine, «Les pratiques et les méthodes», in Jean-Claude Ruano-Borbalan éd., L›histoire aujourd›hui, nouveaux objets de recherche, courants et débats, le métier d›historien, Auxerre, Sciences Humaines Editions, 1999.

*      Ricœur Paul, La mémoire, l’histoire, l’oubli, Paris, Seuil, 2000.

*      --------------, «La marque du passé», in: Revue de Métaphysique et de Morale, janvier-mars, n°1, 1998.

*      Veyne Paul Comment on écrit l’histoire ?, suivi de Foucault révolutionne l’histoire, Paris, Seuil, 1971.

*      Victor Charles Langlois et Seignobos Charles, Introduction aux études historiques, Paris, Hachette, 1898.

*      Vincent Quivy, «Le journalisme: une histoire sans historien». in Communication et langages. N°102, 4ème trimestre 1994. pp. 79 - 92. [En ligne], mis en ligne le 18 novembre 2002. URL: http://www.persee.fr/web/revues/home/prescript/article/colan_0336-1500_1994_num_102_1_2550 Consulté le 04 avril 2011.

 

 


 



[1] المعجم الوسيط، القاهرة: المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1972، الجزء الأول، ص: 1011.

[2] سورة محمد، الآية 4.

[3] سورة المائدة، الآية 7.

[4] ابن منظور، لسان العرب، مادة وثق، المجلد العاشر، بيروت: دار صادر، 1970، ص:381-382.

[5] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، الدار البيضاء - بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997، الجزء الأول، ص:82.

[6]المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

[7] Sophie Jaudoin, L’emploi des documents sources dans l’enseignement de l’histoire, 2006, [En ligne] mis en ligne le 22 mai 2010 http://www.limousin.iufm.fr/asp/memoires/fichiers%5CG11-2007.pdf, Consulté le 15 août 2010.

[8] Paul Ricœur, La mémoire, l’histoire, l’oubli, Paris, Seuil, 2000. voir aussi et du même auteur, «La marque du passé», in: Revue de Métaphysique et de Morale, janvier-mars 1998, n°1, p. 31

[9] Marc Bloch, Apologie pour l’histoire, ou métier d’historien, Paris, Armand Colin, 1974, P. 94.

[10] عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، الوثائق التاريخية المسجلة وأهمية مقارنتها بالروايات الشفهية، مجلة الوثيقة، العدد 38، يوليو 2000، ص: 106.

[11] فالن بيتز، معجم المصطلحات الأرشيفية، ترجمة: غسان منير ، بيروت: الدار العربية للعلوم، 1990، ص: 71.

[12] عبد المجيد عابدين، التوثيق تاريخه وأدواته، مجلة الوثائق العربية، العدد3، بغداد، 1977، ص: 63.

[13] Henri Irénée Marrou,  Comment comprendre le métier d’historien», dans Charles Samaran (éd.), L’Histoire et ses méthodes, Paris, Gallimard, 1961, p.73.

[14] عبد الهادي التيمومي، مفهوم التاريخ وتاريخ المفهوم في العالم الغربي من النهضة إلى العولمة، صفاقس: دار محمد علي للنشر، 2003، ص:53.

[15] المرجع نفسه والصفحة نفسها.

[16] وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ اتجاهات مدارس مناهج، بيروت: منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ص: 164-165.

[17] Jacques Le Goff, Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1995, p.324.

[18] Charles Victor Langlois et Charles Seignobos, Introduction aux études historiques, Paris, Hachette, 1898.

[19] Guy Bourdé et Hervé Martin, Les écoles historique Paris, Seuil, 1983, p.172. 

[20] وجيه كوثراني، التاريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب مدخل إلى علم التاريخ، الجزء الأول، بيروت: الأحوال والأزمنة للطباعة والنشر والتوزيع، 2001 ص: 169.

[21] المرجع نفسه والصفحة نفسها.

[22] هاري إلمربارنز، تاريخ الكتابة التاريخية، ترجمة: محمد عبد الرحمان برج، مراجعة: سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، الجزء الثاني، ص:56.

[23] شارل فيكتور لانجلوا وشارل سينوبوس، المدخل إلى الدراسات التاريخية في النقد التاريخي، ترجمة: عبدالرحمن بدوي، الكويت: وكالة المطبوعات، 1981، ص:5.

[24] المرجع نفسه، ص:43-44.

[25] المرجع نفسه، ص:44.

[26] Charles Victor Langlois et Charles Seignobos, Introduction aux études historiques, op.cit., p.275.

[27] محمد الحسناوي، الإسطغرافيا الفرنسية: محطّات، اتجاهات ومؤرّخون، المجلة التربوية، العدد الثامن، مارس 2002، ص: 21.

[28] Charles Victor Langlois et Charles Seignobos, Introduction aux études historiques, op.cit., p.204.

[29] Ibid., p.253.

[30] إن الهوس الوثائقي قد استولى على هذا العصر، لكن وعلى حدِّ تعبير بيير نورا، سيظل دائمًا شيئًا غائبًا، «أرشفوا أرشفوا سيبقى دومًا شيء ما» راجع: بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق: جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009، ص: 257.

[31] قيس ماضي فرو، المعرفة التاريخية في الغرب مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية، بيروت: منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص: 20-21.

[32] Guy Bourdé et Hervé Martin, Les écoles historiques, Paris, Seuil, 1983, p. 194. 

[33] وجيه كوثراني، التاريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب مدخل إلى علم التاريخ، بيروت: الأحوال والأزمنة للطباعة والنشر والتوزيع، 2001، ص:180.

[34] داخل صناعة التاريخ يبرز مفهوم التاريخ النقدي الحديث أو التاريخ الإشكالي (Histoire- problème) وهو يستعمل للتمييز بين التاريخ في حلّته الجديدة والتاريخ السردي الحدثي (الوضعاني) في شكله القديم. ويمتاز التاريخ الإشكالي باستقلالية ذاتية، فالمؤرّخ لا يكتفي بتفسير الأحداث عند سردها، بل يجعل من التفسير ممارسة نوعية تؤطّرها إشكالية محدّدة وخاضعة لسياق التوثيق والتعليل وضمن وضع واقعي يحتمل الاعتراض. انظر:

- François Furet, «De l’histoire-récit à l’histoire-problème», dans L’atelier de l’histoire, Paris, Flammarion, 1982, p. 73 - 90.

[35] Charles Victor Langlois et Charles Seignobos, Introduction aux études historiques, Paris, Hachette 1898.

[36] Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, Paris, Armand Colin, 1953, p13.

[37] Ibid., p.13.

[38] ثمّة توصيف عام للبنية Structure يستخرجه زكريا إبراهيم من مجموعة التعريف والأوصاف التي يقدّمها كل من دي سوسير في اللسانيات وبياجيه في إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية، ولا سيما علم النمو لدى الطفل، ولفي ستراوس في الأنثربولوجيا ، وفوكو في حفرياته عمَّا يكمن خلف الظواهر والوقائع الاجتماعية والسياسية والعقلية من بواطن مخفيّة. التعريف يتلخّص في التالي: «البنية هي القانون الذي يفسّر تكوين الشيء ومعقوليته. إنها نسق من التحوّلات له قوانينه الخاصة، باعتباره نسقًا Système يتميّز بثلاث خصائص: الكلية والتحوّلات والتنظيم الذاتي. وكل تحوّل في أحد عناصر البنية يحدث تحوّلًا في باقي العناصر الأخرى. البنية هي القانون الذي يحكم تكون المجاميع الكلية من جهة، ومعقولية تلك المجاميع من جهة أخرى، مفهوم البنية هو مفهوم العلاقات الباطنة الثابتة التي تقدّم الكل على أجزائه بحيث لا يفهم هذا الجزء خارج الوضع الذي يشغله داخل المنظومة الكلية. دراسة البنية انحياز إلى السكوني Synchronique في مقابل التطوّري Diachronique». زكريا إبراهيم، مشكلة البنية، سلسلة مشكلات فلسفية معاصرة، القاهرة، مكتبة مصر للمطبوعات، 1990، الجزء الثامن، ص: 259.

أما بالنسبة للبنية، بل لنقل البنى، لأن البنية في لغة المؤرّخين لا توجد بصيغة المفرد، وإنما بصيغة الجمع، وهي من الظواهر الجغرافية والإيكولوجية والتقنية والاقتصادية والسياسية والنفسية، التي تظل ثابتة لمدة طويلة من الزمن، وحتى وإن تغيّرت فإنها تتغير ببطء.

[39] Marc Bloch, Apologie pour l’histoire, op.cit., p.36.

[40] Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, op.cit., p.3-17.

[41] Ibid., p.428.

[42] Ibid., p. 17.

[43] Marc Bloch, Apologie pour l’histoire, op.cit., p. 56.

[44] جاك لوغوف، العقليات تاريخ مبهم، ترجمة: محمد حبيدة، مجلة فكر ونقد، السنة الثانية، العدد 17 مارس 1999.

[45] Gaston Bachelard, La Formation de l’esprit scientifique; Contribution à une psychanalyse de la connaissance objective, Paris, J.Vrin, 1969, p.14.

[46] Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, op.cit., p. 59.

[47] فرانسوا دوس، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص: 91.

[48] المرجع نفسه والصفحة نفسها.

[49] Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, op.cit., p.428.

[50] Fernand Braudel, Ecrits sur l’Histoire, Paris, Flammarion, 1969, p. 22-23.

[51] Emmanuel Le Roy Ladurie, Le territoire de l’historien, Paris, Gallimard, 1978, p. 419.

[52] مارو، هـ أ، من المعرفة التاريخية، ترجمة: جمال بدران، مراجعة: زكريا إبراهيم، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971، ص: 62.

[53] بول فاين، أزمة المعرفة التاريخية فوكو وثورة في المنهج، ترجمة وتقديم: إبراهيم فتحي، القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1993، ص: 27.

[54] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، مرجع سابق، الجزء الأول، ص: 81.

[55] Olivier Dumoulin, «Document», in André Burguière (ed.), Dictionnaire des sciences historiques, Paris, PUF, 1986, p. 204-205.

[56] Henri Irène Marrou, De la connaissance historique, Paris, Seuil, 1975, p. 50.

[57] ابن سليمان فريد، مدخل إلى دراسة التاريخ، تونس، مركز النشر الجامعي، 2000، ص:40.

[58] أحمد حسين، الوثائق التاريخية، القاهرة، 1954، ص:9.

[59] محمد إبراهيم السيد، مقدّمة للوثائق العربية، سلسلة الوثائق والمعلومات (1)، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1993، ص:14.

[60] Bruno Galland, «Conserver pour l’histoire: une nouvelle dimension pour les Archives nationales de France», en ligne: http://www.archiviodistato.firenze.it/atti/aes/galland.pdf, consulté le 20/11/2014.

[61] Quivy Vincent, «Le journalisme : une histoire sans historien». in Communication et langages. N°102, 4ème trimestre 1994. pp. 79-92. [En ligne], mis en ligne le 18 novembre 2002. URL: http://www.persee.fr/web/revues/home/prescript/article/colan_0336-1500_1994_num_102_1_2550 Consulté le 04 avril 2011

[62] انظر على سبيل المثال: بلكامل البيضاوية، أنشطة فلاحية واستغلاليات من خلال فسيفساء الشمال الإفريقي، ضمن كتاب: البادية المغربية عبر التاريخ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط،  1999 ص: 11.

[63] شاكر عبد الحميد، عصر الصورة السلبيات والإيجابيات، الكويت: عالم الفكر، يناير 2005، ص:7.

[64] فانسينا يان، المأثورات الشفاهية دراسة في المنهجية التاريخية، ترجمة: أحمد علي مرسي، القاهرة: دار الثقافة، 1981 ، ص:16. راجع أيضًا:- Jacques Le Goff, Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1995. p. 105 - 174.

[65] للمزيد من التفاصيل حول هذه الفكرة يمكن الرجوع إلى:

- Pierre Chaunu, Histoire quantitative, Histoire sérielle, Paris, Armand Colin, 1978.

- François Dosse, «la nouvelle histoire», in Christian Delacroix, François Dosse, & Patrick Garcia (dir.), Histoire & historiens en France depuis 1945. Paris: Adpf, 2003, p. 120.

[66] سيار الجميل، المجايلة التاريخية فلسفة التكوين التاريخي نظرية رؤيوية في المعرفة العربية الإسلامية، عمان، منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، 1999،  ص: 57. يمكن الرجع أيضا إلى:

- François Furet, «Le Quantitatif en histoire», in Jacques Le Goff & Pierre Nora (dir.), Faire de l’histoire t.1: Nouveaux Problèmes, Paris, Gallimard, 1974, p. 75 - 76.

[67] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الجزء الأول، الألفاظ والمذاهب، مرجع سابق، ص:80.

[68] André Corvizier, Sources et méthode en histoire sociale, Paris, SEDES, 1980, p. 35.

[69] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، مرجع سابق، الجزء الأول، ص:85.

[70] المرجع نفسه، ص: 80.

[71] Antoine Prost «Les pratiques et les méthodes», in Jean-Claude Ruano-Borbalan éd., L›histoire aujourd›hui, nouveaux objets de recherche, courants et débats, le métier d›historien, Auxerre, Sciences Humaines Editions, 1999, p.386.

[72] مارو، هـ أ، من المعرفة التاريخية، مرجع سابق، ص: 63.

[73] عبد الأحد السبتي، التاريخ الاجتماعي ومسألة المنهج ملاحظات أولية، مجلة الجدل، العدد الخامس والسادس، الرباط، 1987، ص: 33.