تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإعلام العــربي في ظل العولمة : تحديات التكنولوجيا والاستشراق الجديد

الزهراء عاشور

مقدمــة

يواجه الإعلام العربي في ظل العولمة وتداعياتها، تحديات كبيرة. لاسيما مع التقدم التكنولوجي الهائل الذي ولّد آليات جديدة كثيرة للهيمنة، ومع هيمنة الخطاب الإعلامي التصادمي ورواجه بين النخب الفكرية والسياسية والعسكرية الغربية الأمريكية على وجه الخصوص.

لقد تصاعد اهتمام وسائل الإعلام الغربية بالشأن العربي والإسلامي منذ تسعينات القرن الماضي، وزادت وتيرته منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة الأمريكية. لاسيما مع بروز مثقفين وخبراء في الشؤون الجيو-سياسية والاستراتيجية والأمنية إلى واجهة المنابر الإعلامية الأمريكية على وجه الخصوص، وتقديم العالم العربي والإسلامي باعتباره العدو الجديد للغرب. مما أدى إلى خلط المفاهيم والمقولات الثقافية والحضارية والسياسية التي أنتجت الرهاب العربي والإسلامي.

لقد بات الإعلام العربي في الوقت الراهن تحت ضغطين بارزين وهما: ضغط العولمة التكنولوجي وضغط العولمة الأيديولوجي. لاسيما مع بروز المستشرقين الإعلاميين، أو كما يسميهم فانسان غيسر (Vincent Geisser) بالمثقفين الإعلاميين «les intellectuels mediatiques» الذين تزعموا المنابر الإعلامية، فاكتسحوا قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي. وذلك بتقديم مفاهيم مشوهة عن الإسلام وعن العرب والمسلمين بأسلوب تعميمي، مما ألقى على الإعلام العربي مسؤولية كبرى للخروج من هذا المأزق الكبير.

فكيف أثّرت العولمة تكنولوجيًّا في الإعلام العربي؟

وما هي انعكاساتها الأيديولوجية عليه؟

أولاً: تساؤلات حول العولمة

تعتبر العولمة من إفرازات النظام العالمي الجديد، حيث ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً، بل تُعد قوام هذا النظام. والعولمة لها صلة وثيقة بتجديد الغرب لنفسه، وبتجديد رؤيته للعالم وفهمه للآخر، وبالتالي العلاقة معه. هذه العلاقة التي انقلبت من القهر المباشر أي الاستعمار والصراع الأيديولوجي في فترة الحرب الباردة وعهود ما بعد الاستقلال في الدول المستعمَرة إلى الاختراق في شتى صوره.

والعولمة من الناحية اللغوية، هي ترجمة لكلمة «Mondialisation» في اللغة الفرنسية، وكلمة «Globalization» في اللغة الإنجليزية، وقد شاع هذا المصطلح في العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، حيث يشير إلى تعميم المحلي أو الوطني ليصبح حالة عالمية.

وإن كان البعض يرى أن العولمة بالمفهوم المتداول الآن وبعد سقوط نظام القطبين، واندثار «العالم الثالث» لم تعد منسوبة ومنذ عقدين تقريباً إلى كلمة «Globe» إلى كوكب الأرض، وتُعرَّب بكلمة كوكبة «Globalization».وتصبح العولمة كعملية هي ترجمة لكلمة «Globality»، وهي العملية التي تملك آليات التطبيق أي تحويل العالم إلى شكل موحد يلغي الحدود بين الدول والأمم.

أما من الناحية الاصطلاحية، فقد تعددت وتنوعت تعاريف العولمة، لاسيما في الدائرة العربية والإسلامية. وهذا نظراً لاختلاف الرؤى حولها، ولتعدد مجالات العولمة في حد ذاتها. وإن كان الكثير، يرى أن العولمة كمصطلح متداول اليوم -كما يشير إلى ذلك محمد محفوظ- ينتمي إلى عالم الغلبة الحضارية الذي طرح هذا المشروع كوسيلة لتعميم غلبته ومشروعه السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري. فاعتبر التقدم الغربي تقدماً للجنس البشري، وتم اختزال التجربة عبر التاريخ في تجربة الإنسان الأبيض فقط، وكان تأكيد الفروقات والتمايزات بين البشر هو مسوغ السيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى وثرواتها؛ إذ يبدو ضروريًّا خضوع الإنسان البدائي إلى الإنسان الأبيض محتكر الحضارة، ويلغي جانباً تاريخ الأمم والشعوب ويجعل لواء العولمة والكونية والترسانة الإعلامية والثقافية والأيديولوجية الغربية، تمارس التضليل في هذا المجال، إذ العولمة التي يتم المناداة بها، ما هي إلا تأكيد لقواعد السيطرة والهيمنة المعمول بها في عهود الاستعمار المباشر.

لقد اختُلف في تحديد مفهوم العولمة في اتجاهات أربعة، وهي:

الاتجاه الأول: يراها حقيقة تاريخية.

الاتجاه الثاني: يراها مجموعة تجليات لظاهرة اقتصادية.

الاتجاه الثالث: يراها هيمنة للقيم الأمريكية.

الاتجاه الرابع: يراها ثورة تكنولوجية.

وإن كان علم الاقتصاد يُعد أسبق فروع العلم في الكشف عن مقومات ظاهرة العولمة وخصائصها، ورصد تأثيراتها الآنية والمستقبلية؛ حيث أسفرت إسهامات علماء الاقتصاد في هذا المجال -كما تشير د.عواطف عبد الرحمن- إلى بروز رؤيتين وهما:

1- رؤية تقليدية.

2- رؤية نقدية ذات منظور تاريخي.

فأما الرؤية التقليدية، «فترى أن مصطلح العولمة يشير إلى تحول العالم إلى منظومة من العلاقات الاقتصادية المتشابكة التي تزداد عمقاً من خلال تحرير التجارة الدولية، وتشجيع تدفقات رؤوس الأموال وتيارات هجرة العمالة عبر الحدود، وانتشار استخدام التكنولوجيا وشبكات المعلومات والتيارات الثقافية العابرة للحدود والتحويل للقطاع الخاص فيما يعرف بسياسة الخصخصة».

أما الرؤية النقدية ذات المنظور التاريخي، «فيرى أصحابها أن العولمة ليست ظاهرة جديدة، وأنها بدأت منذ القرن السابع عشر أو قبله بقليل مع بدء عملية الاستعمار الغربي لآسيا وإفريقيا والأمريكيتين، مقترنة بتطور النظام التجاري الحدي في أوروبا نفسها.فالتاريخ الاقتصادي للعالم، هو تاريخ توسيع الأسواق ورفع الحدود والحواجز. والثورة الصناعية بشكلها التقليدي كما ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر في إنجلترا ثم انتشرت في أوروبا في العقود التالية، بدأت هذه الثورة تدخل مرحلة جديدة من مسيرة التطور التكنولوجي اعتباراً من ستينات القرن العشرين الميلادي. حيث انتقل مركز الثقل في الثورة التكنولوجية إلى مجال المعلومات ثم الاتصالات، ولم يعد الأمر متعلقاً فقط بإنتاج المزيد من السلع والأشياء، بل أصبح الأمر متعلقاً أيضاً بتداول المعلومات ومعالجتها ونقلها والانتقال من اقتصاد السلع العينية إلى اقتصاد المعلومات».

إن مصطلح العولمة وإن كان مصطلحاً حديثاً، ارتبط سياقه الفكري والتاريخي بانهيار المعسكر الشيوعي وانفراط المنظومة الاشتراكية مع سقوط الاتحاد السوفيتي. فالعولمة كظاهرة هي قديمة بمعنى أن التاريخ البشري قد عرف هذه الظاهرة.لكن في تجليات مختلفة، إذ لكل عصر طبيعته ومعطياته. وهذا ما يشير إليه د. حسن حنفي بقوله: «العولمة ليست ظاهرة جديدة، بل قديمة قدم التاريخ، عندما تتصدر حضارة ما لباقي الحضارات وتقود العالم. فالعولمة ليست ظاهرة اقتصادية أو سياسية أو تقنية أو معلوماتية فحسب، بل هي ظاهرة تاريخية مستمرة».

وإذا كان ظهور العولمة، قد ارتبط تاريخيًّا بسقوط الاتحاد السوفيتي؛ فإنها فلسفيًّا وفكريًّا، قد ارتبطت بالعديد من النظريات والأفكار، مثل: تعميم الليبرالية الغربية على العالم وخطابات النهايات: نهاية التاريخ، نهاية الإنسان، نهاية الدولة، نهاية الأيديولوجية، نهاية الديمقراطية إلخ. مما جعل العولمة تتعدى البعد الاقتصادي إلى أبعاد أخرى، لاسيما البعد الثقافي. الأمر الذي أدى إلى ردود أفعال كثيرة ضد هذه الظاهرة، وطرح تساؤلات عديدة حولها. لاسيما بالنسبة لشعوب العالم الثالث.

حول إشكالية العلاقة بين العولمة والهوية؟

وما تأثير العولمة في الهوية الثقافية للشعوب؟

وما العلاقة بين الكونية والخصوصية في ظل العولمة؟

وباعتبار العولمة معطى واقعيًّا لا مفر منه، كيف يجب التعامل معه؟

والحقيقة أن العولمة بأبعادها المعقدة والمتشابكة لا تزال تطرح حولها العديد من التساؤلات. سواء حول مفهومها وماهيتها وطبيعتها وتجلياتها، أو حول أبعادها وتأثيراتها في الآخر على المدى القريب والمدى البعيد. وعلى الرغم من الكم الهائل من المؤلفات التي ألفت حولها، والندوات والمؤتمرات التي عقدت لمناقشتها، إلا أنه يبقى من الصعوبة بمكان تحديد كل جوانبها؛ لأنها «ظاهرة مازالت قيد التشكيل والتكوين والصنع، مما يعني بالتالي:

أولاً: أنها مازالت قيد الوصف والرصد والدرس والتحليل والتفسير في كل مكان.

وثانياً: أن كل شيء عنها وحولها مازال حتى اللحظة موضع سجال ونقاش وجدال وفرضيات».

ولعل هذا التعقيد هو الذي جعل ردود الأفعال حولها تختلف، لاسيما في الدائرة العربية والإسلامية بين مؤيد لها ومشجع عليها، وبين رافض لها ومنفّر منها؛ لما يراه كل طرف من انعكاساتها سواء أكانت إيجابية أم سلبية. ويبقى «البحث عن مقاربة مسؤولة مدروسة وموضوعية للعولمة، بعيداً عن محض التغني بها من ناحية، ومحض التفجع منها من ناحية ثانية، ومحض الاكتفاء بوصفها ظواهر من ناحية ثالثة أمر في غاية الأهمية والضرورة».

ثانياً: الإعلام العربي وتحديات العولمة

يعتبر الإعلام في الوقت الراهن الأداة الأولى للتوجيه ورسم التصورات وترسيخ الأفكار ونقل العادات والتقاليد، لاسيما المرئي منه الذي أصبح أكثر تأثيراً في تكوين شخصية الإنسان من أية وسيلة أخرى. لذلك أصبح الإعلام، كما يرى محمد فاتح الراوي، علماً له مقوماته ومعاهده وشروطه وتقنياته ومتخصصوه، وفنًّا له مستلزماته وأدواته. كما أصبح ثمرة تشارك في إنضاجها كل المعارف والعلوم وتوظف لها أرقى الخبرات، فصار صناعة من الصناعات الثقيلة التي لها مؤسساتها ومخططاتها، بل لعل نصيب الدعم الإعلامي في كثير من الدول اليوم من الميزانيات يفوق الدعم الغذائي والصحي.

ومنه أصبح بحكم تطور العصر أن من يسيطر على وسائل الإعلام ويتحكم في آلياته، هو وحده الذي يمكنه التحكم في صناعة المستقبل.

لقد جاءت العولمة بتحديات عديدة في شتى المجالات، فظهر معها الجدل الفكري حول التحدي الذي تفرضه على السيادة القومية للإعلام. ففي ظل العولمة التي تسعى إلى طمس الحواجز وإلغاء الحدود ومع التطور الهائل في وسائل الإعلام والاتصال، تقلَّصت السيادة القومية للإعلام. وكذا بفعل تراجع المفاهيم التقليدية حول السيادة القومية في ظل الفكر العولمي بظهور تقسيمات جديدة للعالم قائمة على أساس الجغرافية الفضائية.

يواجه الإعلام العربي في الوقت الراهن تحديات كبيرة فرضها «عصر العولمة»، وما حدث فيه من تطورات تكنولوجية وأيديولوجية. حيث يتجاذب الإعلام العربي في ظل العولمة طرفان، هما:

1- ضغوطات العولمة التكنولوجية.

2- ضغوطات العولمة الأيديولوجية.

1- ضغوطات العولمة التكنولوجية

لقد شهدت التسعينات من القرن الماضي تزاوجاً بين تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، مما أدى إلى ظهور الاتصال المتعدد الوسائط (MultiMedia) الذي يركز على تطور الحواسيب في جيلها الخامس. حيث لعبت الولايات المتحدة باعتبارها أول منتج للتكنولوجيا الاتصالية وموطن الشركات الرئيسة في المعلوماتية والاتصال، دوراً كبيراً في فتح الحدود أمام التدفق الحر للمعلومات وأمام صناعة الاتصال الأمريكية.

والاتصال متعدد الوسائط ينطلق من تكنولوجيا الاتصال متعدد الوسائط. حيث أصبح هذا الجهاز جهازاً إعلاميًّا اتصاليًّا ووسيلة هامة من وسائل الاتصال المتفاعل (interactive)، وهو يؤدي دور الصحيفة والكتاب ودور الراديو ودور التلفون ودور الحاسب الآلي المتصل بأكثر من شبكة اتصالات يمكن معها الحصول على المعلومات من أي مكان في العالم، ويؤدي الكثير من الوظائف مثل عمليات البيع والشراء وحجز تذاكر السفر والاستشارات الطبية ومجالات التعليم والترفيه والتسلية والتعاون ومعاملات البنوك وعقد الصفقات.

وقد أدت هيمنة الغرب على الشبكة الإعلامية والمعلوماتية بشكل مطلق إلى الاحتكار الإعلامي. «هذا الاحتكار الذي أدى إلى انعدام العدالة في ظل النظام الإعلامي الدولي، وعدم القدرة على إدارة المنافسة الحرة بين الاتجاهات السياسية والفكرية والدينية والجماعات العرقية داخل المجتمعات الغربية، أو بين الشعوب والحضارات والثقافات على مستوى العالم».

كما «أدى تركز تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في دول الشمال الغنية إلى تحول دول الجنوب إلى سوق للاستهلاك الإعلامي والإعلاني. وتجسد ذلك في زيادة اعتماد دول الجنوب على البرامج الإخبارية والمسلسلات والإعلانات الغربية، على الأخص الأمريكية.وقد ترتب على ذلك زيادة الهيمنة الاتصالية لدول المركز المتحكمة في العولمة على دول الأطراف. كما أدى إلى تدفق الثقافة المركزية الغربية والمعلومات بلا ضوابط وفي إطار تنافسي تجاري بحت».

ففي إطار إغراق سوق الثقافة بالقيم والمفاهيم الغربية، لاسيما الأمريكية منها. يشير د. صباح ياسين إلى أن القنوات الفضائية العربية تستورد ما معدله 17% من برامجها من السوق الأمريكية. وفي المقابل، أضحت بعض شركات الإنتاج التلفزيوني العربي وقنوات البث الفضائية والمحلية تستعير أفكاراً وبرامج ترفيهية أمريكية، بل إن بعضهما حوّل الشاشة إلى «نواد ليلية» لعرض فقرات استعراضية ترفيهية مماثلة لما تعرضه أكثر القنوات تطرفاً في عرض مشاهد الإغراء والجنس في أمريكا وأوروبا.

ويؤكد زبيغينيو بريزنسكي (Zbigniew brzezinski)، أنه ليس هناك بلد في العالم يستطيع أن يداني الولايات المتحدة الأمريكية في تصدير البرامج التلفزيونية إلى الخارج، إضافة إلى الأفلام التي تبلغ أكثر من 50% مما يشاهد العالم.

لقد أصبح الإعلام العربي في ظل العولمة يعاني من التبعية، حيث يمكن حصر مظاهرها في ثلاثة جوانب وهي:

1- تبعية في تكنولوجيا الإعلام والاتصال.

2- تبعية في تدفق الأخبار والمعلومات.

3- تبعية في مجال البحوث والدراسات الإعلامية والاتصالية.

لقد أدت العولمة من خلال مركزية الشركات الكبرى للاتصالات والمعلوماتية إلى تشكيل أكبر قدر ممكن من الاحتكارات. حيث أصبح الإعلام يتمحور في صورة إعلام عالمي كظاهرة تأخذ عدة أوجه، تجعل من الصعوبة الفصل بين إعلام للداخل وآخر للخارج.

ولعل من أبرز وجوه هذه الظاهرة وفقا لتصور مكويل (Mcquail):

«- النقل المباشر أو توزيع قنوات اتصال أو نشر مطبوعات كاملة من قطر إلى متلقين في أقطار أخرى. ومن الأمثلة على ذلك الصحف ومن بينها الطبعات الخاصة ببلدان معيّنة وقنوات تلفزية فضائية وبث إذاعي تحت إشراف رسمي وكتب.

-أجهزة اتصال عالمية مثل CNN BBC MTV أوروبا.

- مواد مختلفة من أفلام وموسيقى وبرامج تلفزية وفقرات صحفية ترسل لتكون بعد ذلك من أركان الإعلام المحلي.

- أنواع مختلفة من المواد الأجنبية يجرى تبنيها وتحويلها لتكون ملائمة للمتلقين في أبناء قطر آخر.

- فقرات إخبارية عن قطر أجنبي، أو تصنع في بلد أجنبي ثم تظهر بعد ذلك في أجهزة الإعلام الوطنية.

- ومواد متفرقة مثل: الأحداث الرياضية والإعلانات والصور المحمّلة بدلالات أجنبية».

والعوامل التي تجعل مركزية هذه الشركات متحكّمة ما تتمتع به التكنولوجيا الجديدة من قدرات، لاسيما القدرة العالمية للكمبيوتر والإنترنت والتلفزة عبر الأقمار الصناعية التي تتحكم فيها هذه الشركات.بل تشكّل الجهاز العصبي لها، حيث توظفها لخدمة أغراضها.

لقد أصبح العالم اليوم متلاصقاً بفضل تكنولوجيا الاتصال التي تتحكم فيها مع الأسف الدول الأكثر تقدماً، «فهناك الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية والأقمار الصناعية المتصلة بمحطات أرضية أو ما يسمى بأقمار التوزيع التي يمكنها نقل المكالمات الهاتفية والبرقيات ووسائل التيلكس، وهناك أقمار البث المباشر في المدار الثابت والتي تحمل معدات الإرسال أو القنوات القمرية (Trans ponders) وهي أجهزة مستقبلة مرسلة مع الانتقال من نظام البث العادي (Analogue)إلى النظام الرقمي (Digital) إلى التلفزيون عالي الجودة (High definition) والإرسال بواسطة الأسلاك (Cables) والألياف الضوئية التي تحمل الحزمة الواحدة منها أكثر من مائة قناة، وقد أتاحت تكنولوجيا الاتصال الفرصة كاملة أمام الدول الأكثر تقدماً في إحكام سيطرتها على العقول ومقدرات الدول الأخرى، بعد أن دخل عنصر التسلط التكنولوجي جنباً إلى جنب مع التسلط الاقتصادي والتسلط السياسي وتسلط الثقافة الأقوى».

وهذا ما لا يتوفر عليه الإعلام العربي، حيث يشير د. عبد الكريم أعراب إلى أن العرب تأخروا في تعميم الوسائل الحديثة، والمواطن العربي لا يتمتع بالإمكانات نفسها التي يتمتع بها مواطنو بلدان لها الدخل نفسه أو أقل.

كما يشير تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003م إلى أن مؤشر نفاذ الوسائط الإعلامية (الصحف، أجهزة الراديو، والتلفزيون لكل 1000 شخص) ضعيف في البلدان العربية. فعدد الصحف مثلاً لكل ألف شخص بلغ ثلاثة وخمسين (53)، في حين وصل إلى مائتين وخمس وثمانين (285) صحيفة لكل ألف شخص في البلدان المتقدمة، وجهاز التلفزيون سجل مائة وستون (160) لكل ألف شخص في البلدان العربية مقابل ست مئة وواحد وأربعين (641) جهازاً في البلدان المتقدمة. هذه المؤشرات الثلاثة تصنف البلدان العربية ما قبل الأخيرة، وتتفوق بشكل طفيف على الدول منخفضة الدخل، وتبقى أقل دائماً من المتوسط العالمي.

وتشير الدراسات إلى أن عدد مواقع لعشرة دول عربية تصل إلى 2797 موقعاً، في حين مثلاً لإسرائيل وحدها 29503 موقعاً. وعدد مواقع الثقافة الإسلامية 228 موقعاً بينما عدد مواقع الثقافة اليهودية 702 موقعاً.

كما تسيطر الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على أكثر من 65% من تدفق الأنباء في العالم، و35% من عمليات النشر، و 64% من الإعلام، و 45% من التسجيلات، و 90% من أشرطة الكاست والأخبار، و 28% من الأغاني الإذاعية، و 75% من البرامج المرئية، و72% من صناعة أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية، وأكثر من 90% من المعلومات المودعة في بنوك ومراكز المعلومات في العالم.

والمتتبع لتدفق الأخبار على المستوى الدولي، يلاحظ مدى احتكار الدول المتقدمة لمصادر الخبر. إضافة إلى الممارسات التمييزية. «فعادة ما تقوم مصادر صناعة المعلومات بترويج الخبر السار لصالحها، والخبر السيئ تستخدمه في حق غيرها بهدفين: هدف تحذيري لجماهيرها، وهدف لخلق التوازن الخبري. الأمر الذي يشد الاهتمام ويبعد تدفقه عن الروتينات، فالأخبار ليست كلها سارة مثل الحياة فيها الحلو والمر - الخير والشر. وبهذا صار الخبر السيئ مادة للبحث العلمي، بل ولتقارير بعض مراكز البحوث والمنتديات العلمية».

ولعل الأخطر من الاحتكار للمعلومات ومصادر الخبر ومن الممارسات التمييزية، هو التضليل. حيث يقوم بعض المكاتب على وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية بحملات تضليل لوسائل الإعلام في كافة أرجاء العالم، فالتضليل أصبح له تقنياته. حيث «أفادت الأخبار أن مكتباً متخصصاً قد أنشئ في البنتاغون تحت اسم (مكتب التأثير الاستراتيجي) في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001م ليقوم بحملات تضليل لوسائل الإعلام في كافة أرجاء العالم، وفي السياق نفسه صرح عدد من المسؤولين المدنيين والعسكريين الأمريكيين بأنهم بصدد تطوير برنامج يستهدف التأثير على صانعي القرار وراسمي السياسات الإعلامية، وموجهي الرأي العام عبر توزيع تقارير ومواد إخبارية، قد تكون مضللة وزائفة، على المؤسسات الإعلامية وبطرق غير مباشرة ولا تقليدية. ولا يستثنى من ذلك حتى الدول الصديقة والحليفة لأمريكا».

أما الإنتاج المعرفي العربي في مجال البحوث والدراسات الإعلامية والاتصالية، فيكاد يكون في درجة الصفر على حد تعبير الفيلسوف رولان بارت، بالرغم من الوعي المتزايد بأهمية وسائل الإعلام والاتصال ودورها في تطوير وتحديث المجتمعات.

ولعل هذا ما يشير إليه د. أحمد حمدي بقوله: «لا شك أن الإنتاج المعرفي العربي يعاني الكثير من المشاكل والمعوقات يعود أغلبها إلى التخلف الفكري والحضاري الذي ينخر أوصال الثقافة العربية، إضافة إلى انكماش الحراك الاجتماعي العربي، وتمترسه في حدود السياسي فقط عبر وسائل بدائية. الأمر الذي يكشف ويؤكد مظاهر الفشل العديدة للسياسات العربية التي تنطلق من أرضية رخوة لا تستند إلى العلم والمعرفة، بل إلى ردود الأفعال والنزوات الذاتية. يحدث كل ذلك في زمن يتجه -شئنا أم أبينا- بخطوات سريعة نحو عولمة كل شيء خاصة عولمة الثقافة والاتصالات، مما يعني زوال الحدود والجغرافيا».

كما أن «الإعلام العربي غالباً لا يعتمد على البحوث والدراسات واستبيان الرأي العام، ولا يستفيد كثيراً من مراكز المعلومات ومراكز الدراسات، ونادراً ما نجد في الأساس مركز دراسات أو معلومات عربي متكامل ومستقل يكفي احتياجات وسائل الإعلام العربية، كما لا ترتبط هذه الوسائل بشبكة معلومات موحدة تقدم المعطيات عن توجهات الرأي العام الداخلي والخارجي وتياراته وآرائه.ومن المعلوم أن وضع الاستراتيجيات والسياسات والخطط، يحتاج إلى جهود بحثية كبيرة جدًّا تساعد صاحب القرار على اتخاذ قراره الصائب، ووسائل الإعلام على التزام سياسات مجدية وفعالة.ولذلك نلاحظ خللاً أحياناً في السياسات الإعلامية العربية، إذ تتعرَّض للتأثر بردود الفعل والمصادفة والظروف الطارئة مواتية أو معاكسة. وبهذا المجال نشير إلى أن كثيراً من أصحاب القرار في وسائل الإعلام العربية أو من الكوادر التي تدير العملية الإعلامية غير مؤهلين تماماً لهذا العمل.ذلك أن الولاء يسبق الكفاءة في اختيار كثير منهم، وعندما يكون الولاء معياراً أساسيًّا في انتقاء المشرفين على تنفيذ السياسة الإعلامية، فإن احتمالات الفشل والوقوع في الخطأ تكون كبيرة».

2- ضغوطات العولمة الأيديولوجية

لقد سعى رموز العولمة في ظل وسائل الإعلام المعولمة ومع التفاوت الكبير بين الشمال والجنوب في موارد الاتصال ومصادر المعلومات وأنماط التدفق الإعلامي، إلى محاولة اختراق المنظومة الثقافية لدول الجنوب. وذلك بهدف الترويج للفكر العولمي، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بهدف تشويه صورة الآخر، خاصة الآخر العربي والمسلم. الأمر الذي أصبح يشكّل تحدياً كبيراً أمام الإعلام العربي على وجه الخصوص لاسيما مع ظهور الاستشراق الجديد بشقيه الأكاديمي والإعلامي الذي يختلف اختلافاً كبيراً عن الاستشراق التقليدي.

لقد اقترن الاستشراق في الوقت الراهن بدلالات لا يمكن حصرها في مفهومه الأكاديمي الصرف، حيث تحوَّل من الاستشراق التقليدي إلى هذا الاستشراق الجديد الذي له سماته الجديدة وأهدافه الخاصة. وتحوَّل المستشرق التقليدي إلى خبير ومتخصص عبر معاهد ومؤسسات بحثية تابعة للإدارة الأمريكية على وجه الخصوص.

وقد بدأ هذا التحول منذ عقود، غير أنه كشف عن وجهه بعنف بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة الأمريكية. فتحوَّل بذلك الاستشراق إلى صورته المعاصرة مع بداية القرن الحادي والعشرين، وأصبح له خطاب أيديولوجي تعزز بالخطاب الإعلامي. فتغيرت معه نظرة الآخر الغربي إلى الآخر الشرقي، لا سيما العربي والمسلم. ولعل هذا ما يشير إليه د. مصطفى عبد الغني، والواقع أنه لا يمكن فهم ما آل إليه حال (الآخر) الآن دون أن نشير إلى ما انتهت إليه دورة الاستشراق الغربي من غبن للشرق الإسلامي عبر مستشرقي الغرب على غبن أعنف عبر تحول الاستشراق التقليدي إلى تغييرات سلبية على يد الخبراء المستشرقين المعروفين خاصة عقب الحادي عشر من سبتمبر بفترة طويلة، غير أنه كشف عن وجهه بعنف شديد أبان تأكيد الخطاب الغربي الجديد.

لقد ظهر تيار الاستشراق الجديد - الخبراء في شتى الميادين بما فيه الميدان الإعلامي رويداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ووصل إلى أقصاه في ثوبه الجديد في عقد التسعينات من القرن الماضي إلى بداية القرن الجديد.خاصة مع سعي رموز الإدارة الأمريكية وخبرائها لوضع الإسلام في مواجهة الغرب بدلاً عن العدو السوفيتي، وبعد أن تنبهت الإدارة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أنها في سبيل وراثة الأوروبيين في مستعمراتهم.ومنه كان لابد من تعلم كيفية التعامل مع هذا الشرق، ومن ثَمَّ كان لابد من أن يترجم هذا التنبه إلى عمل.

وإذا جئنا نجمل الظروف التي سرّعت من ظهور هذا التيار، نجدها على النحو الآتي:

1- سقوط الاتحاد السوفيتي: لقد أدى سقوط الاتحاد السوفيتي إلى انهيار المعسكر الشيوعي وانتهاء الصراع الأيديولوجي. مما ولّد فراغاً أيديولوجيًّا رهيباً، فكان لابد من البحث عن توازنات جديدة لملء هذا الفراغ الذي وصل إلى درجة الصفر، على حد قول آلان منك (Alain Minc): «منذ قرون لم نعرف فراغاً أيديولوجيًّا مثل هذا، لقد تعودنا منذ العصر الوسيط على أن نهاية أية رؤية للعالم يتم تعويضها بأخرى. لكن مع انهيار الشيوعية، فإننا نقترب من درجة الصفر للأيديولوجيا».

2- صعود المد الإسلامي: لاسيما ما عُرف بالإسلام السياسي الذي شكّل في المخيال الغربي، لا سيما الأمريكي منه تحدياً وجب التصدي له. خاصة مع زوال عدو الغرب الرأسمالي العدو الشيوعي الذي استوجب خلق عدو جديد. فكان الإسلام الهدف الذي تم التنظير له، وترويج الخوف منه.

3- الإحياء الديني: حيث شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين الميلادي عودة الشعوب إلى أصولها الدينية، وتمسكها بتراثها الفكري والثقافي بعيداً عن الوافد الغربي الذي شكّل تحدياً لأصالتها، لاسيما الشعوب الإسلامية. فكان لابد من البحث عن سبل تكبح العامل الديني، حتى لا يتحوَّل إلى عامل مؤثّر في الشعوب ضد الغرب.

وقد تشكّل هذا التيار عبر خبراء استراتيجيين من أمثال: زبيغينيو بريزنسكي وهنري كيسنجر، وسياسيين من أمثال بول وولفويتز (نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق) وريتشارد بيرتي (رئيس مجلس السياسة الدفاعية في البنتاغون والرئيس الأسبق لوكالة المخابرات الأمريكية) وجيمس وولسي (عضو مجلس إدارة المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي)، ومنظّرين من أمثال: برنارد لويس الذي وصفه إدوارد سعيد بأنه أكثر صقور الفكر الأمريكي تهجماً على الإسلام، وصموئيل هنتنغتون صاحب نظرية (صدام الحضارات)، وفرانسيس فوكوياما صاحب نظرية «نهاية التاريخ»، وجون أولين (مدير مركز الدراسات الاستراتيجية) صاحب نظرية (الحدود الدموية للإسلام)، ومايكا والتزر أستاذ الفكر اليساري وصاحب مقولة (الحرب العادلة). فضلاً عن التيار الإعلامي الذي يقوم بدور خطير في الحركة الاستشراقية الجديدة ذات الصنع الأمريكي، من أمثال: جوديت ميللر الصحفية في جريدة نيويورك تايمز ودانيال بايبس الكاتب والإعلامي الصهيوني المتطرف، وغيرهم.

يعتبر الاستشراق الإعلامي أحد إفرازات المؤسسة الاستشراقية المعاصرة، حيث أصبح يشكّل أكثر خطورة من الاستشراق التقليدي الذي لا يقرأ كتاباته سوى المتخصصون، في حين أن المادة الاستشراقية الإعلامية في متناول الجماهير مباشرة عبر وسائل الإعلام المختلفة.

لقد أصبح الاستشراق الإعلامي في ظل العولمة مصدر المادة الإعلامية في مختلف وسائل الإعلام الغربية المعاصرة، لاسيما الأمريكية منها. خاصة حول الإسلام والعالم العربي والإسلامي، حيث أصبحت المراكز الإعلامية الغربية المختلفة تعتمد على المستشرقين المتخصصين في شؤون العالم العربي والإسلامي. وفي الوقت ذاته، هم متخصصون في الإعلام أو لهم علاقات حميمة مع وسائل الإعلام. فانتقل تأثير الاستشراق من الحيز الضيق إلى أوسع نطاق.

وليس معنى هذا الكلام أن الاستشراق الأكاديمي التقليدي، قد تقلَّص وتراجع أمام الاستشراق الإعلامي. بل فقط غيّر أثوابه وظل هو الأساس، يسيّر الهيئات العلمية الأكاديمية ويضع الخطط والمشاريع العلمية. ويكمّله الاستشراق الإعلامي الذي يقوم بدور المشهّر له في وسائل الإعلام، لذلك نجد الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، تشجع الفكر الاستشراقي بشقيه الأكاديمي والإعلامي. وذلك نظراً للتداخل الشديد بينهما، ولأهميتهما ودورهما الوظائفي في تشكيل الخلفية الأيديولوجية لسياسة الغرب الراهنة. يقول نديم قاسم نجدي: «حسبنا أن زمن الاستشراق التقليدي قد تقلص إلى أقلّ مما كان يجاهر به (بلفور) في زمن الاستعمار المباشر، نتبين من اختزالية (جولياني) «للغير»، ومن خلال تعميم إطلاقاته القيمية، أن الاستشراق التقليدي لم ينقضِ، بل تربص في متخيلة الغربيين على شاكلة نعت (جولياني) الشمولي لدول إرهابية، ودول ديمقراطية ليبرالية، وهذا يعنى أن ميكانزمات الاستشراق التقليدي ما زالت كامنة في العقل الباطني لأدعياء السلام بين أفرقاء ليست متحاربة، لأن الحرب بنظرهم تشترط تكافؤاً أخلاقيًّا، أو على الأقل اعترافاً ولو مضمراً بصدام المصالح بين طرف وآخر، لا أن تغدو محورية الغرب معياراً لإنسانية الباقين، وكل من يتطاول على مصالحه في الخارج أو أمنه في الداخل، هو عدو إرهابي للبشرية جمعاء». فالغرب إذن، ينمط أيديولوجيا اليوم باستشراق الأمس.

إن الاستشراق التقليدي الأمريكي هو الذي تحول مع المتغيرات الدولية الجديدة إلى هذا الاستشراق الجديد - فئة الخبراء على المستوى الأكاديمي والإعلامي. فأصبحا فئة واحدة سواء عادت الأصول إلى أوروبا أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية، منهم على سبيل التمثيل: برنارد لويس، ودانييل بايبس، ومارتن كريمر، وغيرهم.

إن هذا الخبير كما يشير مصطفى عبد الغني، وإن يكن من أصحاب الاستشراق القديم -وهي فئة انقرضت أو كادت- أصبحت له وظيفة يقوم بها لتوفير المعلومات الحديثة اللازمة للإدارة الأمريكية أو حتى في بلد أوروبي له مصالحه في الشرق العربي، وليس شرطاً أن يكون له معرفة بموضوعات الاستشراق الجديد قط، اللهم إلا في حدود ما يحتاج إلى تفسير لدواعي الإدارة الإمبريالية. وأصبحت المعلومات التي يقدمها معلومات حية لا ترتبط بعلم الاستشراق كما كنا نعرفه عند المستشرقين القدامى، وإنما هي مهام أو خدمات تؤدى في شكل تحليلات سياسية ودينية. بحيث تستفيد منها جهات معيّنة، وهو ما يقترب بنا من الواقع المعاصر.

ولهذا نجد الغرب والإدارة الأمريكية على وجه الخصوص، تشجع هذا التيار أيما تشجيع. والتشجيع الأمريكي للفكر الاستشراقي ليس جديداً، بل هو قديم منذ عقود سابقة منذ النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي. «حيث قامت وزارة الدفاع الأمريكية باستصدار قانون يخوّل لها الإنفاق بسخاء شديد على برامج الدراسات العربية والإسلامية وبرامج دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية، وفي مراكز البحوث والمؤسسات العلمية المختلفة. بل إنها استعانت لهذا الهدف بعديد من المستشرقين الأوروبيين، الذين تركوا بلادهم عقب الحرب العالمية الثانية إلى أمريكا لكونهم توصلوا بخبرتهم إلى احتياج الإدارة الأمريكية لهم. ويستطيع الباحث في هذه الفترة أن يرصد المئات من المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات وأقسام الشرق الأوسط والمعاهد العلمية الأمريكية، ولم تلبث أن أصبحت هذه المراكز هي عصب السياسة الأمريكية التي تمد الإدارة السياسية بما تريده عن هذا الشرق. وبهذا نلحظ أن عدداً من المستشرقين التقليديين الآتين من أوروبا انتقلوا إلى مثل هذه المراكز، خاصة أولئك الذين كانوا قد عملوا في بلاد عربية وإسلامية، فقدموا ثمرة خبراتهم وبحوثهم للكونغرس والمخابرات الأمريكية في جلسات خاصة في صيف وخريف عام 1985م». ومثال على تلك البرامج المشروع الذي قامت به جامعة شيكاغو/ قسم اللاهوت، وموّلته الأكاديمية الأمريكية للعلوم والآداب. وهو مشروع حول الأصولية، خاصة في العالم العربي والإسلامي، كان «هدف هذا المشروع محاولة فهم الأطر التاريخية المعاصرة للحركات الأصولية والطبيعة الاجتماعية والسيكولوجية والدينية للأصولية، والنتائج التي تترتب عن وصول هذه الحركات إلى السلطة وتأثيرها في الحكم والحياة السياسية والاقتصادية والتشريعية وعلى التعبير الثقافي والتنظيمات المدنية. كما هدف المشروع إلى إعداد بنوك لتخزين المعلومات عن الأصولية والحركات الأصولية والتي يمكن استعمالها ضمن أشياء أخرى بواسطة صناع القرار السياسي الذين يبحثون عن الوسائل المناسبة للتصدي للظاهرة الأصولية».

وقد قامت جامعة شيكاغو/ قسم اللاهوت بعقد مؤتمر لمناقشة المشروع ما بين 14 - 16 مارس سنة 1993م، عرضت ما جاء فيه مجلة «شؤون الشرق الأوسط»، وقدمت نقداً لهذا المؤتمر تمثل في النقاط الآتية:

1- غياب شخصيات متخصصة في موضوع المؤتمر - الأصولية، ولها إسهاماتها من خلال البحوث الميدانية، ولها كتابات منشورة، مثل: جون إسبوزيتو، وجون فول، وايقون حداد، وممتاز أحمد، وجون إيلتيس، وسعد الدين إبراهيم.

2- التركيز الإثني كان غالباً على المؤتمر، حيث حاول العديد من المشاركين الخروج بإدانات كاسحة وشاملة لكل الذين يرفضون التمسك بالتقاليد الغربية التي تحض على الفردية وفصل الدين عن الدولة.

على أساس ما سبق، فإن الحركة الاستشراقية المعاصرة بنوعيها أضحت أساساً لما يلي:

1- للحملات الإعلامية ضد الإسلام ورموزه.

2- لسياسات الحكومات الغربية، لاسيما الحكومة الأمريكية التي تسعى جاهدة إلى هدم الإسلام التقليدي والإسلام السياسي أو الأصولي -كما تسميه- بهدف إيجاد أو بعث إسلام جديد علماني، تصفه بأنه: إسلام مدني ديمقراطي.

يقول أحمد حمدي: «عاد الاستشراق الأوروبي إلى حالاته القبيحة التي تشكلت خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، والتي مهدت الطريق وفرشت السبل والأراضي لعمليات الغزو الاستعماري للعالم العربي والإسلامي، والأخطر من ذلك أنها تمكنت من أن تضع قوالب جاهزة وتعممها بشكل واسع حتى أصبحت بمثابة المسلّمة التي لا تقبل النقاش، واستطاعت عبر إنتاجها للعديد من الصور المقولبة (Stéréotypées) أن تصدر الكثير من الأحكام الاعتباطية والقيم السلبية، والتمايزات العرقية الكريهة. لقد عاد الخطاب الاستشراقي بعد أن انتهى في فترة سابقة، وصار إلى مقاربات تفسيرية ومحاولات تبريرية، إضافة إلى إنتاج الغرائبية (Exotique) المثيرة لعواطف التعجب والفرجة، والتي تريد أن تقدم تلك المعطيات والمعلومات عن الشرق في صورة الوسيلة المثلى لاستحضار شروط الحوار بين الحضارات والتعارف بين الأمم الذي يمدد الجسور ويضيق الفجوات، ويحدث شروط ومبررات التلاقي بدل التنافر والتلاغي. تلك العودة لم تكن وليدة هجمات 11 سبتمبر 2001م، بل كانت قبل ذلك بفترة أي منذ سقوط جدار برلين كانت تتحين الفرص. ولم يجد أحسن من تلك الفرصة المتاحة بهذه المناسبة الإجرامية المدوية، للخروج من حالة الترقب والظهور العلني. وبهذا الصدد يمكن للمتتبع أن يلاحظ ذلك السيل المتدفق من الكتب والمطبوعات التي تتحدث عن قضايا الإسلام والعنف، والطوائف المتناحرة في الإسلام والشمولية (Totalitarisme) الإسلامية التي تلغي التعددية والاختلاف والتنوع، وهي عناوين زائفة ومشحونة بعواطف التحريض والعداء، بيد أنها وجدت في جماعات المتطرفين والإرهابيين الذين يحملون لافتة الإسلام لتغطية جرائمهم، وهو بريء من أفعالهم وأعمالهم، الشماعة المناسبة للدفع بعجلة الاستشراق الجديد إلى الأمام في زمن العولمة وعصر المعلوماتية وتأجيج حماسة القائمين على إنتاج المفاهيم المشوهة والمزورة والمزيفة».

ونظراً لغياب تقاليد ثابتة لثقافة السلم والحوار والتعاون بين الدول والأمم، أسهمت وسائل الإعلام الأمريكية على وجه الخصوص في ظل الاستشراق الإعلامي وبتوجيه منه في تكريس العدوانية لتبنيها خطاب التفوق الانعزالي، وبالتركيز على الهوية الغربية التي لا تنفصل عن ثقافة التفوق ولا تتحدد إلا بشعار الهيمنة. هذه الثقافة التي تأسست منذ حقب زمنية على نفي الآخر بدءاً من سنة 1492م التي يعتبرها الغربيون سنة ميلاد الغرب، حيث تزامنت مع طرد المسلمين من إسبانيا ومن ثَمَّ انطلقت آلية إقصاء المصادر الشرقية من الحضارة الأوروبية، وبالتالي الحضارة الغربية.

ولعل أكثر القراءات عدوانية التي روّج لها الاستشراق الإعلامي، هو الخطر الإسلامي على العالم واعتبار العالم العربي والإسلامي عدوًّا جديداً يهدد الغرب. هذه القراءة التي هيمنت على غيرها من القراءات الأخرى ووضعت مستقبل العلاقة بين الطرفين في اضطراب شديد، كما وضعت الإعلام في الوطن العربي على وجه الخصوص أمام تحدٍّ كبير من أجل تصحيح هذه الصورة المشوهة.

لقد سخّر الغرب استراتيجيات عديدة لتخويف العالم من الإسلام ومن العرب والمسلمين، لا سيما الاستراتيجية الإعلامية في ظل الاستشراق الإعلامي. حيث لعبت وسائل الإعلام دوراً خطيراً في تنامي الخوف من الإسلام في أذهان الغربيين، إذ «لم تدخر وسعاً في تشويه ما يرتبط بالعالم الإسلامي ديناً وحضارةً وشعوباً مسالمة. واستغلت عمليات مسلحة صغيرة هنا وهناك لتشويه صورة العالم الإسلامي وإعطاء صورة غير سليمة عن المسلمين وكأنهم مجموعة من الوحوش غير العقلانيين، حتى أن نيكسون يذكر أنه ليس هناك من شعب له صورة سلبية عند الأمريكيين بالقدر الذي للعالم الإسلامي».

ولكي تثبت هذه الصورة المشوهة في المخيال الغربي والأمريكي على وجه التحديد، ترجمت إلى مشاهد مثيرة في المسلسلات والأفلام التي تلقى رواجاً كبيراً. يقول بشارة خضر: «صورة السينما هي الصورة الأكثر خدعة ودسًّا، فهنا التمويه واضح، وأسلوب التأثير وتوجيه الرأي خفي دقيق. فالسينما تركز في بضع لقطات كل ما يتعلق بسوء الفهم التاريخي القائم بين الغرب والشرق، بين الإسلام والعالم المسيحي، بين العرب وأوروبا. فتصبح الصورة التمثيلية كلها ثنائيات متعارضة. وهكذا ينظر إلى الشرق غالباً على أنه نقيض الغرب، فهو العاطفة مقابل العقل، والعنف مقابل الهدوء، والتقليد مقابل الحداثة، «والحريم» مقابل نظام الزوجة الواحدة، والحكم الفردي مقابل الديمقراطية، وباختصار الوجه الآخر للذات الغربية المثالية. وقد أجريت دراسات معمقة وشاملة حول الدور السيئ الذي لعبته السينما في تمثيل المشرق العربي. ومن الأفلام التي تندرج ضمن هذا النوع يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

Casablanca -Thief in Damascus - Laurence - Sahara - Harem - Harum - The son of the sheikh.

وغيرها. والصورة التي تبثها هي الأصعب محواً، وهي التي تعمل في الغالب خفية على تكييف تصورات الأشخاص عن الشرق والإسلام والعالم العربي».

إضافة إلى الصحافة المكتوبة على وجه التحديد، حيث يرى إدوارد سعيد أنه يصعب الحديث عن صحافة مستقلة حقًّا في الولايات المتحدة الأمريكية. فالمصالح التجارية والحكومية المتشابكة ترتبط بوسائل الإعلام أو تقيدها، حيث تمنع وسائل الإعلام من الانطلاق الحر وراء الحقائق التي يودّ صحافي طموح ونشيط كشفها. خاصة أن المجموعة الصغيرة صاحبة الخبرة المزعومة في موضوع الإسلام تحتكر الحديث عنه في وسائل الإعلام المكتوبة، والإلكترونية بشكل شبه كامل منذ نهاية الحرب الباردة. ويعطي أمثلة: برنارد لويس الأستاذ المتقاعد بجامعة برنستون، وجوديت ميللر الصحفية في جريدة نيويورك تايمز، وفؤاد عجمي رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بمعهد الدراسات المتقدمة بجامعة جون هوبكنز والمستشار لدى محطة (سي. بي. سي)، وستيف إيمرسون صاحب فيلم «الجهاد في أمريكا»، ودانيال بايبس. هذا الأخير الذي يصفه إدوارد سعيد بأنه ينحاز بصراحة وعناد إلى صف المستشرقين الاستعماريين من أمثال: سنوك هورفروييه ونايبول. بحيث يتاح له استسهال مراقبة الإسلام والحكم عليه من مرتكزه العالي في وزارة الخارجية أو مجلس الأمن القومي.

وهذا ما يؤكده جون. ل. إسبوزيتو(John.L.Esposito)، حيث يرى أن وسائل الإعلام الأمريكية المهووسة بتحقيق المبيعات العالية عبر العناوين المثيرة التي تحكي عن حوادث التفجيرات، تجد نفسها منساقة للتركيز على الراديكالية والإرهاب. وإذا كانت وسائل إعلامنا المحلية تفرد تغطية واسعة لجرائم القتل والاغتصاب وإرداء القتلى في الشوارع إلى غير ذلك من أشكال العنف، بحيث يبدو كما لو أن ذلك هو حال غالب المجتمع؛ فإن التجربة في العالم العربي والإسلامي لا تختلف، نجد أن الغالبية العظمى من العرب والمسلمين يتم إلحاقهم بالأقلية الراديكالية عند إصدار الأحكام. ومثلما تبرر التغطيات المحلية لسائح عادي أو شخص غير أمريكي أن يصل إلى نتيجة مؤداها، أن العنف هو التعبير الأقوى في مدن المجتمع الأمريكي. فإن الحكم الذي انتهى إليه الكثيرون في أمريكا والغرب بشأن الإسلام والمسلمين، هو الربط بينهم وبين الراديكالية والإرهاب. فالإسلام بالنسبة لكثيرين في أمريكا يعني الأصولية، والأصولية تعني الراديكالية. ليس مستغربـاً إذن أن يقوي حادث تفجير مركز التجارة الدولي بنيويورك هذه الرؤية للمسلمين والعرب. لقد تضررت صورة العرب والإسلام ضرراً أعظم بذلك النفر من المعلقين الغربيين الذين صوروا الإسلام خطراً ثلاثي الأبعاد. فهو خطر سياسي وخطر اقتصادي وخطر سكاني.وهم ما أنفكوا يشيرون إلى المواجهات التاريخية وحقب الصراع التي رسمت في مراحل سابقة علاقة المسلمين بالغرب بالقدر ذاته الذي يركزون فيه على ملامح الاختلافات الراهنة. كذلك صوّر هؤلاء المعلقون الإسلام والثقافة العربية على أنها ثقافة «غريبة» على نحو ما. ولم يكن هذا الموقف نابعاً من الوفاء لتقاليد ثقافتهم. أعني ثقافة المعلقين، ولكنه توطئة لتقنين صورة نمطية مفادها أن الثقافة العربية والإسلامية مفطورة على معاداة الديمقراطية. لهذا فهي عاجزة عن الاستجابة الإيجابية لقضايا المشاركة السياسية والتعددية الحزبية وحقوق الإنسان. إن هذه الصورة تقوم أيضاً بالترويج لفرادة التجربة.

كما يشير إسبوزيتو إلى برنارد لويس وصموئيل هنتنغتون، أنهما بعمليهما «جذور الغضب الإسلامي»، و«صراع الحضارات» أثّرا في تحديد قوة الجدل الذي استحوذ على انتباه الدبلوماسيين وصانعي السياسة والصحفيين والمحللين الأكاديميين. فبالنسبة إلى العديد من المعلقين الغربيين، الإسلام والغرب يسيران في طريق تصادمي غالباً ما توصف هذه المواجهة على أنها «صراع الحضارات».

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى التعاون بين الإعلام الأمريكي وبين الإعلام اليهودي في إسرائيل فيما يتعلق بقضايا العالم الإسلامي. ولهذا يكثر استشهاد الكتاب الأمريكيين بالصحافة الإسرائيلية، خاصة صحيفة (The jerusalem post). كما أن زعماء إسرائيل يستغلون كل فرصة لتحذير الغرب من الإسلام والحركات الإسلامية، مثل كتاب: الشرق الأوسط الجديد لشمعون بيريز.

ولعل أهم مظهر من مظاهر الاستشراق الإعلامي، حرب المفردات والمصطلحات التي صارت مجالاً خصباً لترويج العديد من المفاهيم المشوهة والمزيفة وتسويقها. «حيث يتم شحن الكلمات بالدلالات المعبّرة عن هذه المفاهيم وتسطير الصيغ التحريضية والقيمية على المواد المعلوماتية التي تشكّل المصدر المؤسس لمفردات الخطاب الإعلامي الدولي وقد صاحب ذلك انتقاء العديد من المفردات باللغة العربية وإدخالها الخطاب الإعلامي الغربي مستندين في ذلك على وجهيها التحريضي والقيمي السلبيين، مستغلين ترسبات الذاكرة الغربية ومخيال الملايين من الغربيين العاديين الذين يربطون بين تلك الكلمات وإيقاعها العربي وبين الصورة السيئة عن العربي بوجه خاص، والمسلم بوجه عام. فصارت مفردات مثل: الجهاد، الانتفاضة، الأمير، الفدائي، حزب الله، حماس؛ كلمات تتواتر بكثرة في الخطاب الإعلامي الأوروبي خصوصاً، مشحونة بمختلف الدلالات السلبية. لتضاف إليها بمناسبة الحرب في أفغانستان كلمات أخرى مثل: القاعدة والأفغان العرب، ويستحسن السياسيون والصحفيون الغربيون هذه الكلمات بدل ترجمتها إلى معانيها حتى تحدث الأثر النفسي المطلوب المتكئ على الغموض السحري».

وبهذا الصدد أيضاً «فقد حرصت شبكات التلفزيون الأمريكية والأوروبية على نقل مداخلات أسامة بن لادن بصوته الحقيقي وباللغة العربية، ولم تتم دبلجة ذلك كما يحدث مع أية جهة أجنبية أخرى. فاعتمدت بذلك على وتر إبراز الصوت نظراً لتأثيره البالغ على مشاعر من لا يتقنون اللغة العربية المرتبطة بالإسلام».

لقد ازدادت الذهنية الاستشراقية، لاسيما مع فتح المنابر الإعلامية لها في ظل العولمة تعنتاً واستكباراً، حيث بدت التصورات الغربية تعبّر عن نفسها أكثر شراسة وعنفاً. كما أصبح الخطاب الاستشراقي المعاصر ينطلق من استراتيجية جديدة تبلورت عبر عسكرة العولمة وتحويلها إلى خدمة الطرف المهيمن القطب الأوحد، سواء في النظر إلى الآخر أو في النظر إلى المصالح الأمريكية النابعة عن وعي القوة بنفسها. وهو ما يقترب بنا من تيار الاستراتيجية الإمبريالية الجديدة الذي يحمل أحد روافده عديداً من عناصر الاستشراق التقليدي السابق.

يقول د. محمد مصطفى عبد الغني: «إن الاستشراق الأوروبي أو الصهيوني أصبح يتماهى في الاستشراق الأمريكي، وبعد أن كنا نعرف أسماء صهيونية فاعلة الآن بشكل سلبي، مثل برناد لويس؛ اتضحت الصورة أكثر بشاعة، وأصبحنا أمام صورة هذا الاستشراق الأمريكي الذي يرتبط بصورته الإمبريالية المعاصرة. حيث تحددت أهداف الاستعمار الأمريكي الجديد عبر رموزه في وظيفة هذا الاستشراق الجديد الأمريكي في المهمات البحثية الكثيرة. وهو ما جعل المؤسسات والمراكز البحثية الاستشراقية تتخلى عن الاستشراق في مناحيه الأكاديمية والمعرفية لتربط مباشرة وفي الغالب بالأجهزة الاستخباراتية والعسكرتاريا. وعلى هذا النحو تحالفت الدوافع الصهيونية مع الحركة الإمبريالية الجديدة من أجل بلورة العمل الاستشراقي الجديد عبر الخبراء الجدد في المراكز المختلفة»، وأيضاً في المؤسسات الجامعية، مثل: جامعة برنستون، وجامعة هارفارد، وجامعة شيكاغو وغيرها.

وقد أشار الكثير من الباحثين إلى خطورة هذه المؤسسات أو المراكز البحثية، لا سيما الأمريكية منها ولا يوجد مثيل لها في الجانب العربي. تقول د. هالة مقصود: «إذا سألتني عن الذي ينقصنا وغير موجود في أي من المنظمات على الساحة، فهو أن يكون لدينا مركز (Think tanks)، ودائماً ما نشعر بالنقص الذي يواجهنا بسبب غياب مراكز الدراسات».

ويمكن التمثيل لمدى الاتصال الوثيق بين المراكز البحثية الاستشراقية والأجهزة الاستخباراتية والمؤسسات الإعلامية، بـ(فلينت ليفيرت)، وهو أحد المحللين في مكافحة الإرهاب، يعمل في معهد برولينجر للدراسات الاستراتيجية، وفي الوقت ذاته، يعمل في وكالة المخابرات الأمريكية المركزية (سي. آي. إيه)، وكثيراً ما يستخدم مؤسسات إعلامية أمريكية ودولية لتحقيق أغراض الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية مثل: «التعاقد مع المؤسسة الإعلامية الدولية لتطبيقات العلوم (إس. آي. أيسي) أبان غزو العراق، حيث كان يشرف على عمل المؤسسة مكتب وزارة الدفاع الأمريكية المتخصص في عمليات الحرب النفسية، وهو ما يمتد إلى بعض الدوائر في البنتاغون، وهو ما يشير إلى نشاط هذه المعاهد (الاستشراقية) السياسية التي ترتبط بشكل ما مع المراكز البحثية السياسية، وكلاهما (الإعلامية والسياسية)، يعملان ضمن الإدارة الأمريكية العسكرية وفي خدمتها».

خاتمــة

لقد أثّرت العولمة بشكل سلبي في الإعلام العربي، حيث أصبح يواجه في ظلها تحديات كبيرة على المستويين التكنولوجي والأيديولوجي. فأما على المستوى التكنولوجي فقد أصبح الإعلام العربي يعيش تبعية من حيث تدفق الأخبار والمعلومات، وفي مجال البحوث والدراسات الإعلامية والاتصالية، خاصة في ظل تحكم الدول المهيمنة في تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وفي ظل فلسفة الاحتكار والتحيّز التي أصبحت الأساس الذي يقوم عليه الإعلام المعاصر.

وأما على المستوى الأيديولوجي، فقد أصبح الإعلام العربي يعيش في مأزق مخندق، خاصة أمام حملات تشويه الإسلام، ونعت العرب والمسلمين بالتطرف والإرهاب، التي أصبحت الفلسفة الجديدة للسياسة الأمريكية الراهنة في ظل الاستشراق الجديد، حيث وظّفت الإدارة الأمريكية لها كل الإمكانات المادية والطاقات البشرية، ما وضع الإعلام العربي أمام تحدٍّ مزدوج لتغيير الصورة النمطية عن الإسلام والعرب والمسلمين عند الرأي العام الغربي، ولبناء جسور التواصل مع الآخر الإيجابي.

وإذا كانت السنوات الأخيرة خاصة الفترة التي أعقبت حرب الخليج الثانية، قد شهدت تغيراً ملحوظاً في أسلوب الأداء الإعلامي العربي على وجه التحديد في تعاطيه مع الأحداث العربية والإسلامية والدولية، تمثل في الفضائيات العربية الجادة الخاصة التي فتحت آفاقاً جديدة للرسالة الإعلامية، الأمر الذي أدى إلى نقلة نوعية في المجال الإعلامي العربي؛ فإنها تبقى جهود محدودة تحتاج إلى التشجيع والدعم وتوسيع نطاقها لكسر احتكار الإعلام الدولي، واختراق هيمنته، خاصة مع الحملة الشرسة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضد الإنتاج الإعلامي العربي والإسلامي، حيث سخّرت الإدارة الأمريكية لمحاصرته وسائل الاتصال التي تسيطر عليها بشكل مباشر ويومي، إضافة إلى وكالة الاستعلامات، وهي الجهاز السري الذي يعبّر عن رأي الحكومة الأمريكية، ويعمل فيها آلاف الموظفين، وتصل ميزانيتها إلى ملايين الدولارات، حيث تغطي برامجها التلفزية والإذاعية (إذاعة صوت أمريكا) أغلب أنحاء العالم، لاسيما الوطن العربي وذلك عبر بث متطور بأحدث التقنيات وبأكثر من لغة.

وما لاشك فيه أن إقامة صناعة عربية إسلامية للإعلام والمعلومات أصبحت أكثر من ضرورة في ظل العولمة التي تُروِّج لتجارة الفكر كترويجها لتجارة السلع، وذلك لتطوير المادة الإعلامية العربية التي تخدم قضايا الأمة العربية والإسلامية في إطار المنظومة الحضارية الإسلامية، وتصحح في الوقت ذاته المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والعرب والمسلمين عند الغرب، كما تفكك القراءة التي تبشر بعداوة الإسلام وخطره القادم، وبالتالي الخوف منه.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة