تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المسلمون الشيعة .. ومسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية

زكي الميلاد

المسلمون الشيعة..

ومسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية

زكي الميلاد

 

-1-
التقريب.. تجارب ومبادرات

من يؤرخ للتجارب والمشاريع التي حملت صفة التقارب والتقريب بين مذاهب المسلمين في العصر الحديث، سيجد أنها جاءت بمبادرة من المسلمين الشيعة، واتّصلت بهم حركة ونشاطًا، خطابًا ورجالًا، وهذا ما وجدته من قبل، ورصدته ووثقته في كتابي (خطاب الوحدة الإسلامية.. مساهمات الفكر الإصلاحي الشيعي) الصادر سنة 1996م، وهذا ما سيجده كل من يؤرخ لهذا النمط من التجارب التقريبية.

ولعل من أبرز التجارب التي يؤرخ لها في هذا النطاق، ثلاثة تجارب جاءت متعاقبة زمنًا وتاريخًا، وهي:

أولًا: تجربة الجامعة الإسلامية التي نهض بها السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/ 1838-1897م) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، واتّصلت بعصر الدولة العثمانية، وجاءت في زمن تعرضت فيه هذه الدولة إلى تصدعات داخلية، وإلى مطامع وتآمرات خارجية كانت تستهدف وحدة كيانها، والعمل على تجزئتها وتقسيمها إلى دويلات وكيانات تكون متباعدة ومتنافرة.

والذين درسوا تجربة الأفغاني وأرّخوا لحركته الإصلاحية، عربًا ومسلمين وحتى أوروبيين، اعتبروا أنه أطلق أعظم صيحة في الدعوة إلى وحدة المسلمين في العصر الحديث، وحين تطرق الكاتب المصري أنور الجندي (1917-2002م) إلى هذا الأمر، نقل تأكيد الشيخ محمد رشيد رضا (1282-1354هـ/ 1865-1935م)، في اعتبار أن جمال الدين الأفغاني هو أول من دعا إلى الوحدة الإسلامية بإصدار مجلة العروة الوثقى (1301هـ/ 1884م)[1].

هذه الدعوة إلى الوحدة الإسلامية جاءت في سياق اليقظة التي بعثها الأفغاني في الأمة، وقد عرف عند العرب والمسلمين في أدبياتهم الفكرية والتاريخية بموقظ الشرق، وحكيم الشرق، وباعث نهضة الشرق، وضمير العالم الإسلامي، وغيرها من أوصاف تشير وتؤكد عظمة الدور الذي نهض به في ساحة الأمة.

ومن هذه الجهة، يتقدم الأفغاني وبلا منازع على جميع رجالات النهضة والإصلاح في عصره وما بعد عصره، في الدفاع عن الأمة الواحدة والأمة الجامعة، حتى إن حركته عرفت بحركة الجامعة الإسلامية ومدرسة الجامعة الإسلامية.

ليس هذا فحسب، فقد تحول الأفغاني إلى مصدر استلهام وإشعاع مضيء ومؤثر في هذا الدرب، وكل من اقترب منه سيرة وخطابًا تأثر به من هذه الجهة، التي باتت واضحة ومتجلية عند الباحثين والمؤرخين لسيرة الأفغاني وحركته.

ثانيًا: تجربة جماعة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة التي تشكلت في النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين، ودامت ما يقارب ربع قرن، من سنة 1947 مع إقرار النظام الأساسي للجماعة، إلى سنة 1972م مع توقف مجلة رسالة الإسلام لسان حال الجماعة آنذاك.

هذه التجربة مثّلت أهم حدث فكري في تاريخ تطور العلاقات بين مذاهب المسلمين في العصر الحديث، وأسهمت في بلورة أفضل خطاب تواصلي يشجع على التقارب والانفتاح، وينبذ التباعد والقطيعة بين مذاهب المسلمين، كما وأثمرت هذه التجربة كتابات ودراسات عُدَّت من أجود التراث الوحدوي والتقريبي في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.

رائد هذه التجربة الداعي إليها، والناهض بها هو الشيخ محمد تقي القمي (1289-1369هـ/ 1910-1990م)، وهذا ما يعرفه ويذكره ويصرح به رجالات هذه التجربة الأوائل، وهكذا كل من وثّق وأرّخ لهذه التجربة، ومن بين الأقوال الكثيرة الدالة على ذلك، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال تنسب إلى ثلاثة من المؤسسين البارزين لهذه التجربة، وهي:

القول الأول: وينسب إلى الشيخ محمود شلتوت (1310-1383هـ/ 1893-1963م)، وجاء هذا القول في سياق حديثه عن قصة تأسيس هذه التجربة، وحسب قوله: «وكنت أود لو كتب قصة التقريب أحد غير أخي الإمام المصلح محمد تقي القمي، ليستطيع أن يتحدث عن ذلك العالم المجاهد الذي لا يتحدث عن نفسه، ولا عمَّا لاقاه في سبيل دعوته، وهو أول من دعا إلى هذه الدعوة، وهاجر من أجلها إلى هذا البلد، بلد الأزهر الشريف، فعاش معها وإلى جوارها منذ غرسها بذرة مرجوة على بركة الله، وظل يتعهدها بالسقي والرعاية بما أتاه الله من عبقرية وإخلاص، وعلم غزير، وشخصية قوية، وصبر على الغير، وثبات على صروف الدهر، حتى رآها شجرة سامقة الأصول، باسقة الفروع، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، ويستظل بظلها أئمة وعلماء ومفكرون في هذا البلد وفي غيره»[2].

القول الثاني: وينسب إلى الشيخ محمد محمد المدني (1325-1388هـ/ 1907-1968م)، وجاء هذا القول في سياق رسالة بعث بها إلى الكاتب المصري أحمد بهاء الدين (1927-1996م) الذي كتب مقالة امتدح فيها فكرة التقريب، نشرها سنة 1965 في مجلة المصور حين كان رئيسًا لتحريرها، وفي وقتها كان الشيخ المدني رئيسًا لتحرير مجلة رسالة الإسلام الصادر عن جماعة التقريب، في هذه الرسالة كتب الشيخ المدني يقول: «وكان أول من دعا إلى هذه الفكرة، وإلى تأليف هذه الجماعة، عالم من علماء الشيعة الإمامية بإيران –ما زال قائمًا إلى الآن في مصر يحمل لواءها- هو سماحة الأستاذ محمد تقي القمي، أطال الله حياته. وقد اعتنق هذه الفكرة مئات الألوف في مختلف البلاد الإسلامية فانتسبوا إلى جماعتها، واتصلوا بدارها في القاهرة، ومجلتها رسالة الإسلام التي تصدر بانتظام منذ خمسة عشر عامًا، وتعالج دعوة التقريب على مستوى عال، وفي إنصاف وهدوء وبعد عن التحمس أو التعصب»[3].

القول الثالث: وينسب إلى الأستاذ علي السيد الجندي، الذي كتب كلمة تحرير العدد الأخير من مجلة رسالة الإسلام، المؤرخ في رمضان 1392هـ/ أكتوبر 1972م، جاء في هذه الكلمة «لقد كان أول من دعا إلى تأليف هذه الجماعة، العالم الحجة المجتهد، الأستاذ محمد تقي القمي، منذ قدم مصر في أوائل الأربعينات، والتقى بصفوة رجالها وخيرة مفكريها الإسلاميين، وكان التقريب بين الطوائف الإسلامية شغله الشاغل، عاش معه، وحمل لواءه، وجاهد في سبيله، وبذل ما يملك من قوة مادية ومعنوية في الدعوة إليه، والتعريف به، وجمع السادة الأعلام من علماء السنة والشيعة على كلمته. وما زال أبقاه الله للمسلمين، يرعى فكرته، ويتعهد غرسه، ويوفر إقامته وأسفاره على كل ما يحقق أهداف التقريب، ويكسب النجاح لدعوته»[4].

ثالثًا: تجربة المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي تأسس في طهران سنة 1990م، وجاء امتدادًا وإحياء ومتابعة لتجربة دار التقريب في القاهرة، ويذكر لهذا المجمع أنه نهض بأوسع نشاط فكري وتحقيقي وأكاديمي في تاريخ تطور فكرة التقريب بين المذاهب في ساحة الفكر الإسلامي القديم والحديث والمعاصر.

فمن جهة، يعد هذا المجمع المؤسسة الوحيدة في العالم الإسلامي الذي ينظم مؤتمرًا دوليًّا سنويًّا، ومتخصصًا في قضايا ومسائل التقريب بين المذاهب الإسلامية بصورة خاصة، وقضايا ومسائل الوحدة الإسلامية بصورة عامة، ويحضره سنويًّا جمع كبير من أصحاب المذاهب الإسلامية علماء ومفكرين وباحثين، ومن مختلف أقطار العالم الإسلامي، وقد حضرت العديد من هذه المؤتمرات، وكنت شاهدًا على ذلك.

ومن جهة ثانية، يعد هذا المجمع أيضًا المؤسسة الوحيدة في العالم الإسلامي، الذي ينشط في مجال النشر على مستوى الكتب والمجلات التي تعنى بصورة متخصصة بقضايا ومسائل العلاقات والتقريب بين مذاهب المسلمين.

وخلال السنوات الماضية، نشر المجمع عشرات الكتب المهمة بلغات عدة، منها العربية والفارسية والأردية والإنجليزية والفرنسية وغيرها، وهكذا على مستوى المجلات والدوريات، فلديه مجلة بالعربية تصدر كل شهرين بعنوان (رسالة التقريب) صدر العدد الأول منها سنة 1413هـ/ 1993م، ومجلة أخرى بالعربية صدرت شهريًّا وتوقفت بعنوان (ثقافة التقريب) صدر العدد الأول سنة 1428هـ/ 2007م، ومجلة بالفارسية فصلية بعنوان: (انديشه تقريب - فكر التقريب) صدر العدد الأول سنة 1425هـ/ 2005م، ومجلة بالأردية بعنوان (شعور الاتحاد) صدر العدد الأول سنة 1428هـ/ 2007م.

ومن جهة ثالثة، وفي خطوة متقدمة وطموحة وغير مسبوقة أسّس هذا المجمع جامعة أكاديمية حملت اسم جامعة المذاهب الإسلامية، صدرت الموافقة عليها سنة 1992م، وتكونت من ثلاث كليات، الكلية الأولى كلية الفقه والحقوق للمذاهب الإسلامية، وتضم خمسة فروع في مرحلة البكالوريوس هي: فقه وحقوق مذهب الإمامية، فقه وحقوق المذهب الشافعي، فقه وحقوق المذهب الحنفي، فقه وحقوق المذهب الحنبلي، فقه وحقوق المذهب المالكي.

وفي مرحلة الماجستير تضم هذه الكلية ثلاثة فروع هي: الفقه المقارن والحقوق العامة الإسلامية، الفقه المقارن وحقوق الجزاء الإسلامي، الفقه المقارن والحقوق الإسلامية الخاصة.

الكلية الثانية هي كلية علوم القرآن والحديث، وتضم أربعة فروع في مرحلة البكالوريوس، هي: علوم القرآن، علوم الحديث، علم الرجال والتراجم، التاريخ الإسلامي، وفي مرحلة الماجستير تضم فرعين هما علوم القرآن، وعلوم الحديث.

الكلية الثالثة هي كلية الكلام والفلسفة والأديان، وتضم ثلاثة فروع في مرحلة البكالوريوس وهي: الكلام والفلسفة والعرفان الإسلامي، الأديان، المذاهب.

تكشف هذه التجارب الثلاث عن أن فكرة التقريب أخذت من ناحية الزمن مسارًا يكاد يكون ممتدًا خلال القرن العشرين، وأخذت من ناحية المكان مسارًا يكاد يتحدد في خط طهران - القاهرة، الذي يمكن أن نطلق عليه خط التقريب الحيوي في ساحة الأمة.

إلى جانب هذه التجارب، كانت هناك مبادرات أخرى في التواصل بين علماء الدين الشيعة والسنة، بقصد التحاور والتعارف والتقارب الفكري والمذهبي، واللافت أن جميع هذه المبادرات جاءت تقريبًا، وتحديدًا خلال القرن العشرين من الطرف الشيعي، وهذا ما توثقه لنا كتب السير والتراجم وكتب التاريخ.

وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى نماذج من هذه المبادرات، منها وبحسب تعاقبها الزمني:

أولًا: مبادرة السيد عبدالحسين شرف الدين (1290-1377هـ/ 1873-1957م)، الذي وصل إلى القاهرة قادمًا من بيروت سنة 1329هـ/ 1910م، وتواصل هناك وتحاور مع شيخ الأزهر آنذاك الشيخ سليم البشري (1248-1333هـ)، وحضر درسه في الأزهر، وعدّه لاحقًا من مشايخه، وقال عنه: «أستاذنا الشيخ سليم البشري المالكي شيخ الأزهر، وإمام علماء مصر في وقته، لقيته سنة 1329هـ بمصر، وحضرت درسه في الأزهر مدة من الزمان، وكانت بيننا مناظرات علمية، ومراجعات خطية، مثلت ورعه وإنصافه وعلو منزلته علمًا وأخلاقًا وأدبًا، أجازني بجميع كتب أهل السنة، وبعض طرقه إلى صحيح البخاري»[5].

ثانيًا: مبادرة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (1294-1373هـ/ 1877-1954م)، الذي ذهب إلى الحج سنة 1329هـ/ 1911م، ومن هناك توجه إلى دمشق، ومكث ما بين سوريا ولبنان ومصر مدة ثلاث سنوات، التقى فيها وتعارف وتحاور مع بعض العلماء والأدباء أمثال الشيخ أحمد طبارة (1871-1916م)، وعبدالغني العريسي (1891-1916)، وعبدالكريم خليل وأمين الريحاني (1876-1940م)، إلى جانب آخرين.

وفي مصر التي أمضى فيها الشيخ آل كاشف الغطاء أشهر عدة، التقى هناك وتعارف وتحاور مع علماء الأزهر أمثال الشيخ سليم البشري، والمفتي الشيخ محمد بخيت المطيعي (1271-1354هـ/ 1856-1935م).

ثالثًا: مبادرة الشيخ عبدالكريم الزنجاني (1304-1388هـ/ 1887-1968م)، الذي كانت له زيارة شهيرة إلى مصر سنة 1936م، لقي فيها حفاوة مميزة من شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد مصطفى المراغي (1298-1364هـ/ 1881-1945م)، الذي جمع كبار علماء الأزهر في لقاء تكريمي كبير له، عده بعض الحاضرين بالقول: «إن هذه هي المرة الأولى بعد أكثر من ألف سنة، تجتمع فيها كبار العلماء السنيين في الأزهر برئاسة أكبر زعيم ديني وهو شيخ الجامع الأزهر، لتكريم كبير علماء الشيعة الإمامية، وهو الإمام الشيخ عبدالكريم الزنجاني»[6].

وكانت هذه الزيارة فاتحة لبناء جسور من التواصل والتشاور ما بين الشيخين الزنجاني والمراغي، حول العديد من القضايا الإسلامية العامة، كشفت عن ذلك المراسلات المتبادلة بينهما.

كما احتفت به الصحافة المصرية التي تابعت وغطَّت أخباره ونشاطاته، وظلت تصفه برسول الوحدة الإسلامية.

ومن القاهرة توجّه الشيخ الزنجاني إلى دمشق، والتقى هناك وتعارف وتحاور مع علماء وأدباء الشام، أمثال الشيخ بهجت البيطار (1311-1396هـ/ 1894-1976م)، ومحمد كرد علي (1876-1953م)، وألقى محاضرات في جامعة دمشق، وفي الجامع الأموي، وأقامت له جمعية التمدن الإسلامي احتفالًا كبيرًا له في الجامع الأموي، أطلقوا على هذا الاحتفال يوم الوحدة الإسلامية، ووصفت مجلة التمدن الدمشقية الشيخ الزنجاني برسول الوحدة الإسلامية.

ومن بعد دمشق توجّه الشيخ الزنجاني إلى فلسطين، بناء على دعوة من الشيخ أمين الحسيني (1312-1394هـ/ 1895-1974م)، الذي التقى به وتحاور معه.

إلى جانب هؤلاء الثلاثة، الذين اشتهرت زياراتهم إلى مصر، وتعارفهم وتحاورهم مع علماء الأزهر في أزمنتهم، كانت هناك أيضًا زيارات أخرى لعلماء آخرين جاءت متصلة بهذا المسلك التقريبي، ففي سنة 1963م زار الشيخ محمد جواد مغنية (1322-1400هـ/ 1904-1979م) القاهرة، والتقى بشيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمود شلتوت، والشيخ مغنية من علماء لبنان الذين ساندوا جماعة التقريب في القاهرة، ونشروا مقالات في مجلة رسالة الإسلام.

وفي سنة 1392هـ زار وفد من علماء إيران القاهرة، وكان يتقدمهم الشيخ محمد واعظ زاده والسيد هادي خسروشاهي، والتقوا هناك وتحاوروا مع كبار مشايخ الأزهر، منهم شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الفحام (1894-1980م).

وفي سنة 1968م زار القاهرة السيد مرتضى العسكري (1322-1428هـ/ 1911-2007م)، والتقى هناك بالشيخ أحمد حسن الباقوري (1325-1405هـ/ 1907-1985م)، الذي كان آنذاك مديرًا لجامعة الأزهر، وزار جامعة القاهرة وعقدت معه جلسة علمية مع بعض أساتذتها جرت فيها حوارات ومناقشات فكرية وتاريخية.

ويتصل بهذا السياق كذلك، مبادرة السيد موسى الصدر في لبنان الذي عرض على المفتي العام في ذلك الوقت الشيخ حسن خالد (1340-1409هـ/ 1921-1989م)، فكرة تأسيس مجلس إسلامي أعلى للمسلمين في لبنان سنة وشيعة، وحينما أبدى الشيخ حسن خالد تحفظه على هذه الفكرة، بادر السيد الصدر لتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سنة 1969م.

هذه بعض التجارب والمبادرات التي تكشف وتؤكد ريادة المسلمين الشيعة، في إحياء ونهضة مشاريع التقارب والتقريب بين المذاهب الإسلامية في العصر الحديث.

-2-
التقريب.. الدوافع والغايات

لماذا جاءت هذه التجارب والمبادرات التقريبية من المسلمين الشيعة؟ ولماذا ارتبطت بهم خطابًا ورجالًا؟

هذه المسألة جديرة بالانتباه، وتلفت الاهتمام حقًّا، وهي بحاجة إلى تفسير وتحليل يلامس حقيقة هذه المسألة في عمقها وجوهرها من جهة الدوافع والبواعث، ومن جهة المقاصد والغايات.

والسؤال هل جاءت هذه المسألة بدافع البحث عن الاعتراف بالمذهب الإسلامي الشيعي كما ظن البعض؟ أم أنها جاءت بدافع التبشير بالمذهب الإسلامي الشيعي كما ظن بعض المتأخرين؟

في الجانب الآخر، لماذا أقدم المسلمون الشيعة على هذه الخطوة؟! ألا يخشون على أنفسهم من التلاشي والذوبان في محيط المسلمين السنة الذين يمثلون الأكثرية؟! أو ألا يخشون على أنفسهم من الاختراق، أو من المس ببعض خصوصياتهم أو غير ذلك، وهم الذين عملوا جاهدين خلال تاريخهم البعيد لحماية كيانهم من التصدع، ومن الانهيار والاقتلاع، ونجحوا في ذلك مع كل ما تعرضوا له من محن قاسية، وحسب قول الدكتور محمد عمارة: «والذين يعرفون ما تعرضت له الشيعة على مر التاريخ الإسلامي، من محن واضطهادات بلغت حد المأساة، لا يمكن أن يتصوروا بقاء التشيع رغم هذا الاضطهاد»[7].

أو حسب قول الدكتور فهمي جدعان: إن «أبرز ما يسم التشيع هو وجوده في التاريخ أو في العالم إن أمكن التعبير، إن هذا الوجود وجود مأساوي فاجع بإطلاق، فقد جعلت الكوارث والملمات التي أصابت أئمة الشيعة وأتباعهم، من الشيعة أناسًا ليلهم طويل، وشتاؤهم شديد، وانتظارهم عميق أليم»[8].

وهذا يعني أن المسألة المطروحة متصورة من وجهين، وليس من وجه واحد، وجه متصور عند بعض المسلمين السنة، ويتحدد في ربط فكرة التقريب بالاعتراف بالمذهب الشيعي أو بذريعة التبشير به، ووجه آخر متصور عند بعض المسلمين الشيعة، وهو الوجه الغائب عن تصور المسلمين السنة، في حين أن محاذير الوجه الثاني لا تقل حساسية وحرجًا في مقابل مكاسب الوجه الأول على افتراض هذه المكاسب، علمًا أن القاعدة الأصولية العامة المعروفة والمتداولة عند الفريقين أن «دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة».

وعند النظر في هذه المسألة حقيقتها وأصالتها، يمكن فهمها وتفسيرها في إطار العناصر والأبعاد الآتية:

أولًا: الدافع الإصلاحي، إن جميع الذين سلكوا هذا الدرب عرفوا بنزعتهم الإصلاحية، وكانوا من المصلحين، ويؤرخ لهم ولسيرتهم بهذه الصفة الإصلاحية، وهذه النزعة الإصلاحية هي التي ألهمتهم وعيًا وعزمًا، ودفعت بهم نحو الانخراط في هذا الدرب، وتبني هذا النمط من المواقف والمبادرات الداعية إلى إصلاح الأمة، وإصلاح العلاقات بين المسلمين، والتقريب بين المذاهب الإسلامية.

ولا شك في أن هذه دعوة إصلاحية في عمقها وجوهرها، وفي حكمتها وفلسفتها، ولا يمكن تفسير مواقف هؤلاء الرجال ومبادراتهم بعيدًا عن هذه النزعة الإصلاحية وفعلها وتأثيرها وأفقها.

والسيد جمال الدين الأفغاني الذي يعد رائد حركة الإصلاح في العصر الحديث، هو الذي أيقظ الوعي بهذه القضية، ومهّد الطريق إلى الذين سلكوا هذا الدرب الإصلاحي، في الدفاع عن قضية الوحدة الإسلامية، والتمسك بالأمة الإسلامية الواحدة، وبنهج الجامعة الإسلامية.

والذين نظروا وأرّخوا لسيرة وتجربة الشيخ محمد تقي القمي بوصفه رائد حركة التقريب في العصر الحديث، قد أشاروا لهذا النمط من العلاقة بينه وبين الأفغاني أثرًا وتأثيرًا، شبهًا وتشبّهًا.

وللدلالة على ذلك يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال جاءت من باحثين مطلعين، وعلى دراية بهذا الشأن، هذه الأقوال:

القول الأول: أشار إليه الباحث الإيراني الدكتور محمد علي آذرشب في كتابه التوثيقي (ملف التقريب)، الذي عرض فيه تاريخ جماعة التقريب في القاهرة، وفي مقدمة الكتاب اعتبر الدكتور آذرشب أن الشيخ القمي رجل عاش هموم العالم الإسلامي، ورأى ضرورة السير فيما بدأه السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني، في كسر الحواجز الإقليمية والمذهبية بين المسلمين[9].

القول الثاني: أشار إليه الباحث الإيراني السيد هادي خسروشاهي في كتابه (قصة التقريب) الذي وثّق فيه أفكار وآراء الشيخ القمي، واعتبره من الرجال الذين عاشوا هموم العالم الإسلامي، وساروا على خطى أهل البيت (عليهم السلام)، ونهج السيد جمال الدين الحسيني[10].

علمًا أن السيد خسروشاهي يعد من أبرز الباحثين المسلمين المعاصرين تخصصًا في رصد وتوثيق ودراسة سيرة وتجربة وتراث السيد جمال الدين الأفغاني، كما كانت تربطه علاقة شخصية بالشيخ القمي.

القول الثالث: أشار إليه الباحث والمؤرخ اللبناني الشيخ جعفر المهاجر الذي أبان عن هذا الرأي في مقالته التي حملت عنوان (محمد تقي القمي في القاهرة)، المنشورة في مجلة رسالة التقريب، العدد 81، رمضان شوال 1431هـ.

وعن هذه العلاقة من جهة النصوص، يكفي الإشارة إلى ما ذكره الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في حديثه عن جماعة التقريب في القاهرة، بقوله: «إن جمعية التقريب تريد أن تقرب بين الطوائف الإسلامية، وترفع العداء المستحكم بينهم، وتدعوهم إلى الأخذ بما أمرهم الله به من الاعتصام بحبل الإسلام، وألَّا يتفرقوا ويتنازعوا فتذهب ريحهم، ويتسلط عليهم أذل عباده وأرذل خلقه، وليست هذه الفئة المباركة بأول من نهض بهذه الدعوة، وقام بهذه الفكرة، بل سبقهم إلى ذلك جماعة من المخلصين الغيارى على الإسلام والمسلمين، كالسيد الأفغاني، وتلميذيه الشيخ محمد عبده والكواكبي وغيرهم»[11].

كما يتكشف هذا الدافع الإصلاحي، ويتجلى بوضوح كبير في الكثير من النصوص التي وردت في مقالات لهؤلاء المصلحين الشيعة حول هذه القضية، وفي مؤلفاتهم التي صنفوها لهذا الغرض، أو التي اقتربت من هذا الشأن، وهكذا في خطبهم حول هذه المناسبة، وفي مراسلاتهم.

وبالتأكيد فإن هذا الدور الإصلاحي يُثمَّن لعلماء الشيعة ويُذكر لهم، ويُذكر لهم أيضًا أنهم أكثر من أسهم في إحياء فكرة التقريب بين المذاهب في ساحة الأمة، وكان لهم دورهم الريادي في هذا الشأن، كما أنهم أكثر من التزم وسلك نهج الأفغاني في هذا الدرب.

ثانيًا: محاولة العبور من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة، وقد عالجت هذه القضية من قبل في مقالة متخصصة بعنوان: (جدليات الجماعة والأمة في المجال الإسلامي الشيعي الحديث والمعاصر)، نشرت في مجلة الكلمة العدد 81، خريف 2013م/ 1434هـ، واعتبرت في هذه المقالة أن فكرة الأمة والارتباط بهذه الفكرة، مثّلت دافعًا أساسيًّا عند المسلمين الشيعة نحو تبني وتحريك فكرة التقريب في ساحة المسلمين.

وتكشف عن هذه الحقيقة جميع النصوص تقريبًا التي كتبها علماء الشيعة المصلحون حول هذه القضية، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاثة نصوص مهمة، جاءت من ثلاثة هم من أبرز رجالات التقريب المؤسسين، وهذه النصوص بحسب تعاقبها هي:

النص الأول: في الثاني عشر من ربيع الأول 1340هـ الموافق الثاني عشر من تشرين الثاني - نوفمبر 1921م، ألقى السيد عبدالحسين شرف الدين كلمة في الجامع العمري الكبير في بيروت، بمناسبة المولد النبوي الشريف، افتتح هذه الكلمة بالقول: «لا حياة لهذه الأمة إلَّا بإجماع آرائها، وتوحيد أهدافها، بجميع مذاهبها، وشتى مشاربها، على إعلاء كلمتها بإعلان وحدتها، في بنيان مرصوص، يشد بعضه إزر بعض، وجسم واحد إذا شكا منه عضو أنَّت له سائر الأعضاء، حتى ليكون المسلم في المشرق، هو نفسه في المغرب، عينه ومرآته، دليله ومشكاته، لا يخونه ولا يخدعه، ولا يظلمه ولا يسلمه، بذلك يكون المسلمون أمة واحدة»[12].

النص الثاني: في سنة 1936م ألقى الشيخ عبدالكريم الزنجاني كلمة في مقرر رابطة الشباب العربي في القاهرة، جاء فيها: «إن الذي استفز دعاة الإصلاح وقادة الرأي في العالم العربي منذ أوائل هذا القرن الهجري، فبذلوا كل جهودهم في سبيل الدعوة إلى الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب الإسلامية.. إن قضية الوحدة الإسلامية خرجت عن طور الدعوة والبرهان، والحجة والبيان، وصارت بحيث ترى ضرورتها بالعين وتلمس باليد، وإنما الأمر المهم اليوم السعي والعمل والدعوة الجديدة العملية، والاستغناء عن الكتابة والأقوال بالجهود والأعمال، نحن يلزمنا العمل، يلزمنا الصدق، يلزمنا الإخلاص»[13].

النص الثالث: في العدد الرابع، من السنة الحادية عشرة، سنة 1959م نشر الشيخ محمد تقي القمي مقالة في مجلة رسالة الإسلام بعنوان (قصة التقريب)، جاء فيها «لقد كان الإقدام على العمل للتقريب مجازفة خطيرة، تدفع الذهن إلى التفكير العميق في أسئلة كثيرة:

هل في طاقة المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم؟

هل هناك مبادئ من صميم الإسلام تضمن للأمة الإسلامية وحدتها، وبالتالي تضمن لها عزها ومجدها؟

هل يفهم المسلمون أن التقريب معناه نبذ كل خلاف؟ أو أنهم لا يرون بأسًا بأي خلاف يتبع الدليل، ويراعي الأصول التي لا يحق لمسلم أن يخرج عليها؟

هل تتحكم المصلحة في النهاية أو يسيطر التعصب؟

وأخيرًا هل المسلمون يريدون حقًّا أن يعيشوا أو أنهم سيظلون يتهاونون حتى في وجودهم، ويتركون الأمر لأعدائهم الذين يعرفون كيف ينتهزون الفرصة، ويحسنون الانتفاع بموقف كل من المتزمتين الذين يسيطر عليهم الجمود، وأصحاب الهوى الذين يخدمون السياسات الأجنبية، وبذلك يزداد ضعفهم، ويعجزهم صد أي تيار خارج على مبادئهم، فيسهل تحطيمهم والقضاء عليهم؟

كانت هذه الأسئلة تدور بخلد كل من يفكر في الإصلاح، وتراود عقل كل من يرغب في العمل لخدمة الدين والأمة»[14].

هذه النصوص الثلاثة وغيرها من النصوص الأخرى، تكشف عن مدى وعي المصلحون الشيعة بفكرة الأمة، التي كانت عامل تحريك لهم نحو تبني فكرة التقريب، سعيًا نحو العبور من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة، على أمل نهضة هذه الأمة، والدفع بها نحو طريق النهوض والتقدم.

ثالثًا: العمل على تصحيح الرؤية تجاه المسلمين الشيعة، الرؤية التي تعرّضت إلى تشويه وتزييف وتحريف، وتحوّلت إلى صورة نمطية جامدة تصور المسلمين الشيعة على غير حقيقتهم، وتكوّن عنهم انطباعات لا تمت صلة بواقعهم، وبشكل تثير تعجب ودهشة المسلمين الشيعة، وتكشف عن حالة من الجهل، ومن سوء الفهم، ومن عدم التبيّن والتثبّت، وبطريقة يترتب عليها مواقف وتصرفات تنافي العدل والإنصاف، وتصل إلى حد الظلم والجور.

هذه الرؤية المشوهة التي أرَّقت المسلمين الشيعة وأزعجتهم، دفعت بالمصلحين منهم إلى التواصل مع المسلمين السنة علماء ومفكرين وباحثين، لتصحيح هذه الرؤية، وجاءت هذه الخطوة في إطار إيجابي هو إطار التقريب بين المذاهب الإسلامية.

ويذكر في هذا الشأن أن الشيخ القمي حينما وصل إلى القاهرة في أول زيارة له سنة 1938م، كانت القضية التي شكّلت مدخل التحاور والتلاقي مع علماء الأزهر تحددت في التصور الآتي: أن الشيعة ليس كلهم غلاة، وأن السنة ليس كلهم نواصب، فالسنة في نظر الشيعة ليس كلهم نواصب، وهذا ما ينتظر السنة سماعه ومعرفته من الشيعة، في المقابل أن الشيعة ليس كلهم غلاة، وهذا ما ينتظر الشيعة سماعه ومعرفته من السنة.

هذه القضية استحسنها علماء الأزهر، ووجدوا فيها معقولية، وطرحًا متوازنًا، وأنها تمثل مدخلًا للتحاور والتلاقي، وهذا ما ثبت عندهم لاحقًا، وتأكد لهم أن الشيعة ليس كلهم غلاة، وليس هذا فحسب بل ولهم موقف متشدد من الغلاة، كما ثبت عندهم أيضًا أن السنة في نظر الشيعة ليس كلهم نواصب، وأنهم يفرّقون بين السنة والنواصب ويمايزون بينهم.

وكان لا بد من هذه الخطوة، التي تأكدت ضرورتها بالنسبة للطرفين، فكانت من جهة بمثابة دافع لعلماء الشيعة نحو المبادرة والإقدام على هذه الخطوة، وبمثابة دافع من جهة أخرى لعلماء السنة نحو تقبّل هذه المبادرة واستحسان هذه الخطوة، والسير في ركبها، والمضي في جادتها، وذلك بعد أن تبدّلت الرؤية، وتصحّحت الصورة تجاه المسلمين الشيعة.

هذه هي حقيقة الدوافع والغايات التي حفّزت علماء الدين المصلحين الشيعة، في المبادرة نحو تبني مشاريع التقريب بين مذاهب المسلمين.

-3-
التقريب.. والتراث الزاهر

هذه التجارب وهذه المبادرات، بهذا المسار الزمني الممتد من القرن الماضي إلى هذا القرن، أثمرت تراثًا فكريًّا مثّل أجود تراث في مجاله، تراثًا اتَّسم بالعقلانية والتوازن والاعتدال والإنصاف، وعن طريق هذا التراث أصبح من الممكن دراسة تاريخ المذاهب الإسلامية بصورة تحقق التعارف والتقارب بين المذاهب وأتباعها، وتعزز أواصر التآلف والتضامن بينها.

وتتأكد أهمية هذا الإنجاز وقيمته، عند معرفة ما أصاب تاريخ مذاهب المسلمين قديمًا وحديثًا من تباعد وتنافر وتنازع، بقي قائمًا ومستمرًا لزمن طويل، اشتكى منه، وتأسف له العقلاء والحكماء والمصلحون من أصحاب جميع المذاهب، وقدم هذا الوضع صورة تبعث على عدم الرضا عن سيرة العلاقات بين هذه المذاهب.

واللافت في هذا التراث الفكري المنجز، أن القسم الأكبر منه جاء من المسلمين الشيعة، وذلك حرصًا منهم وعناية وتأكيدًا على هذا المنحى التقريبي، وعلى هذا المسلك الإصلاحي في إصلاح وتدعيم العلاقات بين المسلمين مذاهب وجماعات.

ومن الصعوبة الإحاطة بكل هذا التراث الواسع والكبير كمًّا ونوعًا، المتعدد والمتنوع بعدًا ومجالًا، والذي ما زال في حالة تطور وتراكم دائم ومستمر، لكن العمل الذي لا بد من الإشارة إليه، والتنويه به، هو الإنجاز العلمي الكبير المتمثل في (موسوعة الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة)، التي صدرت في أكثر من ستين مجلدًا، تناولت خمسين موضوعًا في المجالات الكلامية والفقهية والتاريخية والأخلاقية وغيرها.

أنجز هذا العمل المركز العالمي للدراسات التقريبية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران، وكان قد بدأ العمل بهذا المشروع سنة 2000م، والهدف الأساسي منه -كما جاء في وثيقة المشروع- الكشف عن وجود مساحات مشتركة بين المدرستين العريقتين السنية والشيعية، في ثاني أكبر مصدر للتشريع وهو السنة الشريفة.

ومن جهة المنهج، اعتمد المشروع على منهج علمي في العرض والطرح، بعيدًا عن التعصبات والميول المذهبية والطائفية، وفي قالب مشترك محض، وتم تجنب عرض الأحكام الفردية أو المذهبية أو الطائفية، فدونت المرويات من دون تعليق أو شرح أو حاشية، ربما تنقض الهدف من تأليف الموسوعة.

علمًا أن هذا المشروع قد طرح وجرى التداول في شأنه، والتأكيد على أهميته، والسعي لإنجازه، قبل ما يقارب نصف قرن، وذلك في نطاق جماعة دار التقريب القاهرية، ونشرت عنه مجلة رسالة الإسلام تقريرًا تعرف وتبشر به، حمل عنوان (مشروع علمي جليل بين شلتوت والقمي).

وجاء في هذا التقرير «لقد بُذلت في دراسة هذا المشروع جهود كثيرة من رجال التقريب في مصر وغيرها، استغرقت وقتًا طويلًا، وعملت تجارب في مختلف الأبواب والموضوعات أسفرت عن نتائج تؤذن باستقامة الفكرة، وتبشّر بنجاحها».

وختم التقرير بالقول: «إننا نبشّر أصدقاء التقريب، وهم المسلمون الواعون في كل بلد إسلامي، وفي كل طائفة ومذهب، بهذا المشروع العلمي النافع، الذي نعتقد بحق أنه الأول من نوعه في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ علم الحديث»[15].

هذا المشروع الذي عُدَّ على أنه الأول من نوعه في تاريخ الإسلام، توقف آنذاك لأسباب تتعلق بالدار نفسها، وتجدّد العمل به بعد نصف قرن، وتكلل بالنجاح، وخرج إلى النور، وأصبح في نطاق التداول، ومثّل إنجازًا علميًّا كبيرًا في مجال علم الحديث، وفي ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.

وكسر هذا المشروع حاجز الفصل في مصادر الحديث بين السنة والشيعة، وبات بإمكانه أن يمثّل مصدرًا مرجعيًّا في الحديث لكلا الفريقين، في سابقة لعلها لأول مرة تحصل في تاريخ تطور علم الحديث، وسيكون بالتأكيد هذا العمل مصدرًا مرجعيًّا مهمًّا ومبهجًا لكل المهتمين والباحثين والمشتغلين بحقل التقريب، والسالكين هذا الدرب.

بهذا العمل العلمي الكبير، وغيره من الأعمال الأخرى الكثيرة والمتنوعة، أصبح لنا تراثًا حيًّا ونابضًا ومبهجًا في ميدان التقارب والتضامن والتعارف بين المسلمين، والناظر لهذا التراث والفاحص سيجد أن الإسهام الأكبر جاء من المسلمين الشيعة، لا لشيء سوى لأنهم هم الذين تقدّموا الصف، ونهضوا بهذا النمط من التجارب والمشاريع التي فيها عافية الأمة وصلاحها.

 



[1] أنور الجندي، الوحدة الإسلامية ضرورتها والوسائل العملية لتحقيقها، القاهرة: دار الصحوة، 1994م، ص22.

[2] محمود شلتوت، قصة التقريب، مجلة رسالة الإسلام، القاهرة، السنة الرابعة عشرة، العدد 55، 1964م، ص194. نقلًا عن: حسان عبدالله حسان متولي، كشاف مجلة رسالة الإسلام، بيروت: الدار الإسلامية، 2005م، ص14.

[3] محمد علي آذرشب، مسيرة التقريب عرض لجوانب من معالم مسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية خلال السنوات المائة الماضية، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2010م، ج1، ص71.

[4] محمد علي آذرشب، المصدر نفسه، ج2، ص67.

[5] عبدالكريم آزر شيرازي، مقارنة المذاهب في تاريخ الفقه والفقهاء، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2014م، ص213.

[6] نشرت هذا الكلام صحيفة البلاغ المصرية بتاريخ 26 شعبان 1355هـ/ 11 نوفمبر 1936م، نقلًا عن: محمد سعيد آل ثابت، الشيخ الزنجاني والوحدة الإسلامية، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2006م، ص50.

[7] محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، القاهرة: دار الشروق، 1991م، ص219.

[8] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان: دار الشروق، 1988م، ص38.

[9] محمد علي آذرشب، ملف التقريب، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 1421هـ، ص5.

[10] هادي خسروشاهي، قصة التقريب، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2007م، ص21.

[11] زكي الميلاد، خطاب الوحدة الإسلامية مساهمات الفكر الإصلاحي الشيعي، بيروت: دار الصفوة 1996م، ص215.

[12] زكي الميلاد، المصدر نفسه، ص 229.

[13] زكي الميلاد، المصدر نفسه، ص195-196.

[14] حسان عبد الله حسان متولي، كشاف مجلة رسالة الإسلام، مصدر سابق، ص19.

[15] محمد علي آذرشب، مسيرة التقريب، مصدر سابق، ج1، ص47.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة