شعار الموقع

ظاهرة النبوّة في الدرس الكلامي بين حركيَّة الواقع ونظريَّات العقل

حسين منصور الشيخ 2012-10-04
عدد القراءات « 773 »

مقدّمة

صدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام في شبه الجزيرة العربية في مدينة مكّة المكرّمة، العاصمة الدينية للجزيرة العربية التي لم يكن كثير من أهلها يعيشون حالة من التديّن بأحد الأديان الإلهية، ولم تكن كثير من المفردات الدينية متداولة بينهم، ما خلا بعض الطقوس العبادية التي توارثوها، فكانوا يحجّون ويطوفون حول الكعبة المشرّفة ويمارسون بعض أعمال الحج والعمرة التي هي من آثار الديانة الحنيفية الإبراهيمية.

ولمّا صدع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدين الإسلام حاول أن يغرس في نفوس هؤلاء العرب الإيمان بالله سبحانه، ويعمّق هذا الإيمان في نفوسهم ليكون وسيلة لإيقاظ الفطرة الإنسانية فيهم، ولينعكس ذلك على واقع سلوكهم اليومي.

وقد حاول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق تعريف المسلمين بالعقائد الإسلامية الحقّة -التي كان من أهمها بيان صفات الخالق وإعطاء صورة موجزة عن النبوات السابقة ويوم المعاد- ربط المسلمين نفسيًّا وتاريخيًّا بالله سبحانه مصدر الوجود ومنتهاه.

وقد ساهم القرآن الكريم في وضع أسس العقيدة الإسلامية بجانب أحاديث ووصايا وتعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان الغرض الأساس من توضيح هذه الأسس وشرحها هو تعميق هذه العقائد في نفوس المسلمين وربطهم بالله سبحانه بشِكْل أوثق وأعمق وأكثر تعلّقًا، وذلك لما لهذه الأسس من دور في إعطاء صورة مشرقة عن الدين الإسلامي مبدأً ومعادًا، مقارنة بما سواه من معتقدات في ذلك الوقت.

وتشكّل النصوص الإسلامية الأولى (القرآن الكريم وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) العناصر الأولى لنشوء علم الكلام فيما بعد.

وقد صيغت هذه النصوص بطريقة تتناسب والدور الذي كان من المفترض أن يؤدّيه علم الكلام لاحقًا، وهو تعميق الروح الإيمانية التوحيدية لدى الفرد المسلم وربطها بخالقها الذي يهبها الصفاء والإخلاص النفسيَّين.

ولكن المسلمين اختلفوا بعد رحيل نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) على عدّة مذاهب وطرق واتجاهات، أخذ كل فريق منهم يضع تصوّره الخاص حول مسائل العقيدة وأصول الدين، وأخذ -كذلك- يستدلّ على هذه التصوّرات، ما جعل علم الكلام ينحصر دوره في التدليل على المسائل العقدية وردّ شبهات كل فريق على الفريق الآخر، الأمر الذي حرف هذا العلم عن أن يكون له الدور الإيجابي في مسألة تعميق العقيدة وتمكينها في نفوس المؤمنين بها.

كما أنّ «انفتاح المجتمع الإسلامي على تجارب وثقافات الأمم الأخرى خلق حالات توتّر في داخله، [وذلك] بفعل تمازج العناصر الوافدة مع النسق الفكري الإسلامي، فسعى بعض علماء المسلمين لصياغة مفاهيم ورؤى ملفّقة لا تعبّر بوضوح عن روح الإسلام، وشاعت في الحياة العقلية لدى المسلمين في تلك الفترة إفرازات هجينة طبعت هذه الحياة بهموم غريبة، واصطنعت حاجات فكرية لم تألفها من قبل، فطفق المهتمّون بالشأن العقائدي يفكرون في إطار هذه الحاجات، ويجولون في مدارات تلك الهموم التي أزاحت المشكلات الحقيقية في الحياة الإسلامية واستقرّت كبديل لها، وأضحى الفكر العقائدي يكرّر نفسه في عصور لاحقة عبر الشروح والتعليقات والحواشي على المتون العقائدية، ولم يستطع الإفلات من قبضة رؤيته التقليدية التي تشكّلت في فضاء ذلك الواقع».

العقيدة.. من روحيّة الانتماء إلى تأصيل العلم

وبسبب التحوّلات الاجتماعية داخل البيئة الإسلامية، انحصرت وظائف علم الكلام -كما يعدّدها الأستاذ عبد الجبّار الرفاعي في تقديمه لكتاب السيد محمد باقر الصدر (موجز أصول الدين)- في الأمور التالية:

1- «تبيين الأصول العقائدية للإسلام وتحديدها، وتشخيص الحدود بينها وبين ما سواها من أصول العقائد الأخرى، وبعبارة أخرى: بيان ما هو من أصول الدين مما ليس منها، وهذا التحديد ذو وجهين: فبينما يحدّد للمؤمنين بالإسلام معتقداتهم، في نفس الوقت يكشف عناصر المغايرة والاختلاف بين معتقداتهم هذه ومعتقدات أتباع الأديان الأخرى.

2- البرهنة على المعتقدات، فإن الجهد الأكبر في أعمال المتكلمين ينصبّ على إشادة الأدلة والبراهين -التي تمرّ عبر قنوات القياس الأورسطي- على المعتقدات، والسعي لتكثير هذه الأدلة، وعرضها بأساليب فنية متنوّعة، كيما تترسّخ هذه المعتقدات لدى المؤمنين.

3- دحض الشبهات والإجابة عن الإشكالات، فإن امتداد رقعة الإسلام والتحاق جماعات جديدة فيه، واحتكاك المسلمين بالملل الأخرى، وانفتاحهم على ثقافاتها، أفرز استفهامات وإشكالات عديدة لم يألفها العقل المسلم في الفترة المنصرمة، فكان لا بدّ من الإجابة عن الاستفهامات ونقض الإشكالات، وهي وظيفة انبرى لها المتكلمون بأسرهم. من هنا مُلِئت مدوناتهم بعرض الشبهات والإجابة عنها، وصارت بُنية تلك المدونات قائمة على هذا النهج، حتى إن الأدلة والبراهين المسوقة فيها ولدت في سياق دحض الشبهات».

وهي الوظائف عينها -تقريبًا- التي يعدّدها السيد كمال الحيدري في دراسته عن «مناهج المعرفة في المدارس الإسلامية الخمس»، إذ يشير هناك إلى وجود الوظائف التالية لعلم الكلام:

1- «تبيين (أصول الدين) وتمييزها عن غيرها من التعاليم الإسلامية.

2- إثباتها بالأدلة العقلية.

3- الدفاع أمام الشبهات والشكوك التي تحوم حولها».

واقتصار علم الكلام على هذه الوظائف «يختزل وظيفة هذا العلم ببعد واحد حينما يحبسه في حدود النظر فقط، فضلاً عن أن هذا المنهج تنجم عنه آثار ونتائج تُفرِغ علم أصول الدين من روحه وتحيله إلى مفاهيم عقلية ساكنة»، وفي هذا السياق يجب التنبيه إلى مسألة مهمّة، وهي «أن ضعف فاعلية الإنسان المسلم وتخلّفه إنما يعود في أحد أسبابه الرئيسة إلى فتور فاعلية العقيدة في نفسه، فنحن بحاجة إلى إيقاد جذوة الإيمان لديه، وهذا لا يتمّ إلَّا بتفكيك بُنية علم الكلام التقليدي وإحالة كلّ عنصر منها إلى جذوره التي استقى منها، ثمّ النهوض ببناء علم كلام جديد يتجاوز المشكلات الموروثة في الكلام القديم».

ولذلك عندما يحدّد الأستاذ الرفاعي وظائف علم أصول الدين -وهو العلم الذي يتعرّف من خلاله المسلم ما يرتبط بالشأن العقائدي والأيديولوجي في اتجاهه الملتزم دينيًّا- يقترح أن تكون هذه الوظائف في مسارين، فيقول: «إن وظيفة علم أصول الدين تجلّت -تاريخيًّا- في بعدين أساسيين: الأول عملي والآخر نظري، فبينما تواشج البعدان في عصر البعثة ومهّد الثاني منهما للأول، حينما كانت النبوة ظاهرة ربّانية تنتج الإيمان وتغذيه في الأنفس باستمرار، عبر إيقاظ الفطرة وإضاءة البصيرة، ليكون الإيمان ينبوعًا تستقي منه فعاليات الحياة ومتطلباتها بأسرها، طغى البعد النظري بالتدريج على حساب البعد العملي، حيث أخذ الأخير بالاضمحلال كلما ابتعد المسلمون عن عصر البعثة وتقنعوا بإطارٍ جديدٍ باعَدَ بينهم وبين روح القرآن، حين ارتدى علم أصول الدين لباسه الآخر، منذ أن أصبح يُعرَف بعلم الكلام، فتراجعت وظيفته التي أنجزها في عصر البعثة في تعميق الصلة بالله وتأطير الحياة بهذه الصلة، وصار يُعنى بالتأكيد على البعد النظري، وينزلق بعيدًا عن وظيفته الحقيقية».

ولكنه في هذه النقطة يدعو إلى وجود نوعٍ من التوازن في آلية تقديم الدرس الكلامي، ذلك أن الإغراق في طرح المسائل الكلامية بصورة عاطفية جياشة قد يدفع بعض الجماعات إلى استثمارها فيما يولّد نوعًا من المشاحنات والحروب البينية ذات الخلفية الدينية العقائدية، حيث «عملت الجماعات الإسلامية في النصف الثاني من القرن الأول الهجري على توظيف علم أصول الدين -قبل أن يتحوّل إلى علم الكلام- في تسويغ مواقفها السياسية، واستخدامه كوقود لاستنهاض جماعاتها في لحظات الصراع المسلح، ذلك أن هذه الجماعات -نظرًا لاتصال عصرها بعهد البعثة- ضمّخت بعطر النبوة، فأدركت البعد العملي للعقيدة، وما يمكن أن يفجّره من طاقات هائلة في الحركة والتغيير، واعتمدت العقيدة كمموّن رئيس تستند إليه في التعبئة الثورية، بقطع النظر عن محاولات بعضها تفسير العقيدة تفسيرًا لا يخلو من زيف وشطط في ضوء رؤاه الملتبسة ومواقفه الخاطئة».

وانطلاقًا من المؤاخذات التي يطرحها الأستاذ الرفاعي أعلاه، يقدّم تصوّرًا منهجيًّا جديدًا للدرس الكلامي مستَمَدًّا من الروح القرآنية في معالجة وغرس المسائل العقائدية، وذلك في بعدين أساسيين، هما:

1- ربط مسألة التوحيد بالفطرة الإنسانية، ذلك أن القرآن الكريم حينما يطرح مسألة الإيمان بالله تعالى لا يكون ذلك طرحًا مجرّدًا، بل يربط التوحيد بتكوين الإنسان وأساس إيجاده، فالتوحيد القرآني «توحيد الفطرة، يحكي عن البعد التكويني في خلق الإنسان، فالقرآن (يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري والأخلاق الفاضلة الغريزية، ويدعي أن التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين والوجود)، وعلى هذا يعتبر أي انفصال في فعاليات الفرد والمجتمع العلمية والعملية هو فصام بين النواميس التكوينية والإنسان، وسيؤول هذا الفصام إلى تخلخل حالة الاتساق والانسجام في البُنية الوجودية للعالم، التي تفضي إلى تداعي مقوّمات الحياة الاجتماعية الصالحة في نهاية المطاف، وإن لم يأتِ ذلك عاجلاً».

2- اقتران الإيمان بالعمل الصالح، حيث يشير الأستاذ عبد الجبار إلى هذا الاقتران الملحوظ في التعبير القرآني بين الإيمان والعمل الصالح، إذ نجد أن «المواضع التي يذكر فيها القرآن الذين آمنوا، يقرن بينهم وبين العمل الصالح بشكل صريح، فيما يقرن الإيمان بألوان من الرؤى والقصد والسلوك في المواضع الأخرى، يجسّد العمل الصالح روحها ويمثّل مادتها التي تتقوَّمُ بها، فإن أركان الإيمان وثمراته في الدنيا وثوابه في الآخرة، كلها تأتلف مع العمل الصالح متواشجة في منظومة واحدة، يكتسي ظاهرها وباطنها بالعمل الصالح. ويتجلّى لنا ذلك بوضوح عندما نتأمّل الآيات التي اقترن فيها الإيمان بالله بالعمل الصالح، فقد ارتبط العمل الصالح ارتباطًا عضويًّا بالإيمان، وبدا العمل الصالح كمعطًى للإيمان في الآيات التالية:

- ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾.

- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾.

- ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾.

إن هذا التأكيد المدهش على مزاوجة الإيمان والعمل الصالح لا تجده يتكرّر بهذه الدرجة في أية قضية أخرى من قضايا الاعتقاد فيما يتّصل بالفكر والسلوك في الكتاب المجيد، ومن الملفت للنظر أن جميع هذه الآيات التي قرنت بينهما صريحة في مداليلها، ولم تعبّر عن معناها بأسلوب يحتاج إلى تأمّل عميق لاستكناه المغزى، وكأن الخطاب الإلهي في هذا المورد يريد أن يتحدّث لكافة الناس ويثير وعيهم بمجموعهم باتجاه هذه المسألة، لا يستثني طبقة أو فئة».

وفي مقابل تأكيده على أهمية مرجعية المنهج القرآني في معالجة الدرس الكلامي، وبخاصّة ما يرتبط منه بتكوين الشخصية الفكرية للمسلم، ينتقد «طغيان المسائل الفلسفية في علم الكلام، فأضحت هذه المسائل تشكّل الأصول النظرية لهذا العلم، إذ يجب أن يهتمّ علم الكلام ببحث هذه الأصول ويقرّر القول الفصل فيها، كي ينتقل إلى دراسة المسائل العقائدية، وهي بذلك تستهلك مساحة لا تقل عن ثلثي المساحة المخصّصة للإلهيات بالمعنى الأخص في المصنفات الكلامية، فعندما نعود إلى أحد هذه المصنفات نجد ما يحتلّ الصدارة فيها عناوين: (الوجود والعدم والماهية، والعلة والمعلول، والجوهر والعرض، والإمكان والوجوب، والقدم والحدوث.. إلخ)، وكل عنوان من هذه العناوين عادةً ما يبحث بإسهاب لا يخلو من إطناب واستطراد مملّ، قبل الوصول إلى مباحث العقيدة».

العقيدة بين الانتماء العام ومعرفة الخواصّ

ما يذكره الأستاذ عبد الجبّار الرفاعي من مؤاخذات حول منهجية الدرس الكلامي لا يخلو من وجاهة في الرأي، وبخاصّة ما يرتبط منه بانفصال علم الكلام عن التجربة النبوية في معالجة الشأن العقائدي، سواءً فيما ورد من آيات أو أحاديث شريفة تناقش المسائل العقائدية.

ولكنه قد يلاحظ عليه أنه جعل المرحلة النبوية ودورها في تأسيس العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين مرحلةً من مراحل الدرس الكلامي، كما أنه لم يفرّق في بعض الأحيان بين العقيدة حالةً نفسيةً يعيشها المسلم وبين العقيدة علمًا له أصوله وقواعده ومسائله، وهي نقطة عالجها الشيخ حيدر حبّ الله فيما نقرؤه له حول هذه النقطة في دراسته القيّمة (علم الكلام المعاصر)، إذ يقول هناك: «إن عملية المعارف الدينية تعدّ ظاهرةً متأخّرة عن القيم والمعارف الدينية نفسها من الناحية الزمنية ومن ناحية طبيعة الأشياء، فالأصول الاعتقادية التي جاء بها الإسلام على سبيل المثال -كالتوحيد والنبوّة والآخرة و... إلخ- تختزن بُعدًا خبريًّا، أي إنها في الحقيقة مجموعة من القضايا في نهاية مطافها، لكن مجرّد وجود مجموعة قضايا معيّنة لا يعني وجود علم يتعلّق بهذه القضايا؛ لأنَّ مرحلة ظهور العلم تستدعي بروز مجموعة عناصر تاريخية ومنطقية تحوّل هذه القضايا من تبعثرها إلى انضمامها المنطقي وترتيبها الذهني.

هذا معناه أن العقيدة الإسلامية سوف تنفصل بهذا التصوّر عن علم العقيدة الإسلامية؛ لأنّ علم العقيدة يتّخذ من القضايا والموضوعات العقائدية موضوعًا وأساسًا لعمله وفق اقتضاء الموضوعية لها في هذا العلم، فلا يمكن افتراض وحدة بين العقيدة والعلم المختصّ بها، وهذا الأمر يسمح لنا بالإطلالة على العقيدة وعلمها إطلالةً تاريخيّةً.

هذا معناه أن العقيدة الدينية كانت موجودة في الصدر الأول والمرحلة النبويّة، دون أن يكون هناك وجود لعلم مختصّ بها يحتوي خصائص العلم كفرع معرفيٍّ حتى لو فرض وجود بذور لهذا العلم تشتمل تساؤلات صدرت عن الصحابة فيما يخص الصفات الإلهية، كما ورد في بعض الحوادث التاريخية زمن حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمرحلة عقيدية العقيدة أسبق مختلفة عن مرحلة علميتها.

الذي حصل هو أن النسق النبوي (إن صحّ التعبير) للحديث عن العقيدة كان من الطبيعي أن يختلف عن النسق المتأخّر الذي أعقب ظهور علم العقيدة، ونظرًا لتعاطي العلماء والباحثين مع الموضوعات العقائدية في الفترة المتأخّرة تعاطيًا علميًّا، أدّى ذلك إلى بروز طبيعي ومترقّب لنوعٍ من النخبوية في التفكير الكلامي».

والنقطة الأخيرة التي يشير إليها الأستاذ حبّ الله هي للتفريق بين المرحلة النبوية المؤسِّسة للعقيدة الإسلامية وبين مرحلة التقعيد العلمي لمسائل العقيدة، إذ يَعُدُّ النصوص المؤسِّسة لأصول العقيدة الإسلامية مرحلةً عامّةً يتفاعل معها جمهور صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتولِّد فيهم انتماءً جامحًا نحو الإخلاص للدعوة الإسلامية ورسولها الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما أدّى تعاطي علماء الكلام والباحثين في مسائله إلى نوعٍ من النخبوية في تناول الشأن العقائدي، ولذلك -عندما تناول الأستاذ حبّ الله تجربة السيد محمد حسين فضل الله F الكلامية، حيث عقد فصلاً خاصًّا في دراسته هذه عن هذه التجربة- عدّها متجاوزة «للمرحلة التاريخية لعلم الكلام التي كونته كعلمٍ من العلوم، وبالتالي العودة بهذا العلم إلى المنطق النبوي الذي كان يعيشه في مرحلته الأولية؛ لأن خطاب الجماهير لن يخرج -عادةً- عن أحد شكلين:

1- تنازل عن الصيغة العلميّة للفكرة،...

2- ابتكار صياغات علمية غير نخبوية».

مُرْجِعًا ذلك إلى طغيان الحالة الجماهيرية على خطاب السيد فضل الله العام، بما في ذلك تناوله للشأن العقائدي، فكان طرحه للمادة الكلامية طرحًا جماهيريًّا يشارك فيه المتلقّي كما الملقي إثراءً ومناقشة، ولذلك «عندما يريد السيد فضل الله أن يقرأ مسألة عقائدية، فإن قراءته لها ستكون بالطبع متناغمة وطبيعة وسائل الاتصال الثقافي التي يستخدمها لنقل الفكرة، وتغلُّب الطابع الخطابي (أي الخطاب لا الخطابة) على حركيات السيد فضل الله صاغ عنده كلامًا يتصل بالخطاب الإسلامي العام، وهو ما أدّى إلى انحسار النخبوية في تفكيره ككل، ومنه التفكير الكلامي».

وهذه النقطة التي طرحها الأستاذ حبّ الله تعدّ من الإشكاليات المهمّة في تحديد المنهجية الصحيحة في معالجة الدرس الكلامي، ذلك أنّ هذا العلم ينفرد عن بقية العلوم الدينية الأخرى بأن «المعادلة في علم الكلام تقع بين العقل الفردي والحقيقة العقائدية، أي إن هذا العلم يعتمد على قيام كل فرد بالتوصّل بطريقته إلى القناعة بمجموعة معتقدات يلتزم بها، وبالتالي فعلم الكلام يتميّز عن الفيزياء والكيمياء؛ لأن عامّة الناس لا تعبّر في هذين العلمين عن قوّة مساهمة في صنع معرفة كيميائية أو فيزيائية.

فهذه العلوم -وفق ما تنبني عليه من قضايا ومعطيات- لا يساهم عقل عامّة الأفراد في صنع شيء أساسي فيها، إلا في دائرة إعانة المتخصّص في عملية الصنع والإبداع، وهذا بخلاف علم الكلام الذي هو علم عقدي يهدف إلى أن تقتنع الناس بقضايا العقيدة -أي عقيدة-، وهو لا يكتفي بمجرّد الإذعان العملي من طرف عامّة الناس لمتخصصي هذا العلم عندما يتكلّم عن اقتناع الناس بعقائدياتهم، بل يصرّ على وصول الإنسان -كل إنسان- إلى حالة استقرار نفسي بالقضية العقدية التي ينتمي أو يريد أن ينتمي إليها، بقطع النظر عن الطرق التي توصله إلى هذا الاستقرار».

وتقريرًا لهذه الإشكالية المنهحية، يتساءل الأستاذ حبّ الله حول كيفية المحافظة «على الناحية العلمية في هذا العلم؟ أي كيف نمنحه الجودة والدقّة والتخصصية والتطوّر العمودي دون تشكيل نخب متخصّصة يفرض تشكيلها عقلاً نخبويًّا بالمعنى السلبي للكلمة، أي ذاك العقل الاحتكاري؟ وكيف ينبغي لهذه النخب أن تمارس دورها؟ وهل من المنطقي افتراض المساواة بين النخب وجهود عامّة الناس على صعيد هذا العلم؟».

وحسمًا للجدل بين الاتجاهين المقترحين لدراسة المسائل الكلامية، يجيب الأستاذ حيدر حبّ الله عن التساؤل أعلاه بالتالي: «بمقدور علم الكلام أن يمارس دور الجهد العلمي الناضج بتشكيل نخب متخصّصة تفكّر بعقل تخصصي، لكن من دون أن يمارس عمليًّا نوعًا من إقصاء الفكر الآخر إيمانًا منه برؤيته المعرفية وليس فقط الحقوقية والأخلاقية،... وهذا معناه -في العمق- التخلّي عن احتكار الحقيقة من جهة، والإيمان بجمعية التفكير العقدي من جهةٍ أخرى، دون أن يعني كلّ هذا رفع اليد عن المعتقد الصحيح لدى أي إنسان، والتعددية المعرفية (بالمعنى الإيجابي للكلمة الذي لا يتورّط في النسبية الواقعية أو النسبة المعرفية) يمكنها هنا أن تساهم في تجويد أداء علم الكلام على هذا الصعيد».

الموازنة بين الرأيين

لكل علمٍ من العلوم تاريخٌ طويلٌ يمرّ به، تتطوّر فيه مسائله، وتتنوّع أساليبه، وتتجدّد مناهج البحث فيه، بما في ذلك العلوم الإسلامية التي يأتي علم الكلام في مقدّمتها بما يتناوله من مسائل العقيدة وما يتّصل بها من أبحاث تتعلّق بالذات الإلهية والنبوات الكريمة وما ينتظر الإنسان من مصير أخروي غامض، وغيرها من الموضوعات.

وقد صدرت العديد من الدراسات والإصدارات الكلامية التي تتناول مسألة التجديد في هذا العلم، مقدِّمَةً لذلك بالحديث عن أهم مواطن الخلل المنهجية التي وقع فيها الدرس الكلامي القديم.

وكان من بين تلك الدراسات: الدراسة التي عقدها الأستاذ عبد الجبّار الرفاعي في تقديمه لكتاب (موجز أصول الدين) للسيد محمد باقر الصدر F، ومعه كتاب (علم الكلام المعاصر) للأستاذ حيدر حبّ الله، وبجانبهما صدرت الكثير من الدراسات التي تعالج الموضوع ذاته.

وبخصوص هاتين الدراستين اللتين نحن بصددهما، وكانتا قد صدرتا في وقت متقارب -حيث صدرت الأولى سنة 1421ﻫ والأخرى سنة 1423ﻫ-، نجد أن كلاًّ منهما عالجت موضوع علم الكلام من زاوية مختلفة، بحيث لم تكن إحداهما ردًّا على الأخرى، وإنما هما دراستان تتناولان التجديد في علم الكلام من زوايا مختلفة، وهي نقطة من المهم الإشارة إليها، ذلك أننا حينما نوازن بينهما لا نفضِّل رأيًا على آخر بقدر ما نحاول تقديم صيغة مقترحة في معالجة تجديد علم الكلام، وذلك من خلال الاستفادة مما ورد في هاتين الدراستين من حلول مقترحة.

العقيدة الإسلامية.. مبدئيَّة فاعلة

علمُ الكلام علمٌ تختصُّ مسائله بمعالجة العقيدة الإسلامية التي رسَّخ أسسها نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما ورد عنه من آيات قرآنية ونصوص حديثية شريفة ومواقف نبوية سامية، مثّلت لاحقًا مجموعةً من القيم والمبادئ الإسلامية حول أهم التساؤلات الكبرى فيما يعتقده الإنسان ويشكّل أهم الأسس والمرتكزات الفكرية لشخصيته المبدئيَّة.

وما يميّز العقيدة الإسلامية عن مثيلاتها من العقائد والاتجاهات الفكرية الأخرى أنها مرتبطة بالذات الإلهية وبمجموعة من القواعد والأسس التي بشّر بها مجموعة من أنبياء الله، بذل كلُّ فردٍّ منهم كلَّ طاقته وتحمّل وضحّى في سبيل تبليغها بالغالي والنفيس.

والإيمان بالعقيدة الدينية ينطلق في رحاب النفس الإنسانية ويختزن داخلها تاريخًا طويلاً ومشرقًا من الجهاد والتضحية من أجل ترسيخ قيمها ومبادئها التي أخلص أنبياء الله (عليهم السلام) في سبيل التبشير بها وإرسائها في المجتمعات الإنسانية، وذلك ضمن علاقةِ حبٍّ صوفيٍّ للبارئ -جلّ وعلا- انطبعت لاحقًا على العلاقة المتبادلة بين هؤلاء الأنبياء وأتباعهم، حيث ضحّى كلٌّ منهم من أجل الآخر.

ولذلك لا يمكن -بحجّة تنظيم مسائل وقضايا العقيدة- أن تُغفَل هذه الجوانب، بحيث تعرض العقيدة الإسلامية كما غيرها من العقائد الحزبية التي نراها اليوم مجرّدةً عن أي انتماء فاعل ومؤثّر في نفس الإنسان، فذلك من شأنه أن يُوجِد نوعًا من الازدواجية بين ما يعيشه المسلم في قراءته واستحضاره للتراث النبوي وبين ما يدرسه حول أسس وأصول الدين الذي يبشّر به ويؤسّس له هذا التراث.

وهذه حال تتطلّب وضع العديد من الدراسات حول المنهجية النبوية في التبشير والدعوة إلى هذه العقائد، وبخاصّة ما نجده حاضرًا في القرآن الكريم الذي يختزن مادّةً عقائدية وفيرة، يمكن للدرس الكلامي الإفادة منها والتأسيس عليها لبناء قاعدة جديدة لعلم الكلام، تستهدي النموذج القرآني في طرح المادة العقائدية للمسلم.

علم الكلام بين حركة الواقع ونظرات العقل

كانت بدايات انطلاقة علم الكلام الأولى متمثّلةً «في مسائل من العقيدة أثارها الاختلاف في تفسير الآيات المتشابهات من القرآن الكريم من جانب، ومن جانب آخر أثارتها الأهداف السياسية لتحقيق مطامع بعض الحكّام المسلمين»، وهو أمر استمرّ طويلاً إلى أن بُوّب هذا العلم ونظّمت العديد من مسائله ضمن أصول عقدية محدّدة أيام الدولة العبّاسية، وهي الفترة التي كان المسلمون متأثرين فيها بما وصلهم من معارف يونانية، كان المنطق الأورسطي على رأس هذه القائمة، حيث نظّمت وبوّبت جميع العلوم الإسلامية -تقريبًا- وفق قواعده المنطقية المعروفة، وكان علم الكلام من تلك العلوم التي تأثرت بالمنطق الأورسطي في تبويب وبحث تفصيلات مسائله، فكان «تاريخ علم الكلام يكشف عن اعتماده على المنطق الأورسطي كمنطق وحيد وحَكَم متفرّد في الجدل العلمي، حيث قدّم هذا المنطق على أنه حقائق ثابتة عامّة شاملة كلية ويقينية، غير أن تطوّر المعارف البشرية كشف عن ثغرات في هذا المنطق لا أقل أنه بوضعه الحالي ليست لديه قابلية لحل كل المشكلات اليوم، ومن هنا ونظرًا لتجدد الكثير من الإشكاليات ذات الطابع المنطقي المختلف؛ فإنه من الضروري للكلام الجديد الاتكاء على مخزون منطقي أكبر، يشمل إلى جانب المنطق الأورسطي: المنطق الاستقرائي والرياضي والتجريبي والذاتي والديالكتيكي و... وإلا فإن أزمةَ تخاطبٍ ستنشأ تبعًا لهذه الهوّة الحاصلة بين الهيكلية المنطقية التي تحكم علم الكلام».

وهو أمرٌ يشير إليه الأستاذ عبد الجبار الرفاعي في تقديمه لكتاب (موجز أصول الدين) للسيد محمد باقر الصدر، إذ يقول: «لما كان علم الكلام القديم يجري عبر قنوات القياس الأورسطي، فإنه يمعن في الاستغراق فيما هو نظريّ مجرّد، فيما يظلّ غائبًا عن الكون وآفاقه الرحبة، وتتلاشى في ساحته الظواهر الطبيعية، وتحجب عنه السنن التي تسير بموجبها تلك الظواهر.

وهذا يعني أن الكلام القديم انحرف بدرجة شديدة عن منهج القرآن في تنبيه الفطرة وترشيد العقل؛ لأن عملية الاستدلال على التوحيد في القرآن تقوم على الاستقراء وتوجيه عقل الإنسان نحو آيات الآفاق والأنفس».

الاستدلال المنطقي بين القياس والاستقراء

وتعقيبًا على ما ذكره كل من الأستاذين الرفاعي وحبّ الله من المهم بيان قيمة كل من: القياس والاستقراء -طريقين من طرق الاستدلال المباشر- في المنطق الأورسطي، ذلك أن النتيجة المنطقية لكي يصل إليها الباحث عليه أن يتوسل إلى ذلك بإحدى الطرق المباشرة أو غير المباشرة، حيث يتسنّم القياس المرتبة العليا في طرق الاستدلال المنطقي، فالقياس هو الطريق الوحيد الذي من الممكن أن تكون نتيجته يقينية، وذلك وفقًا للمقدّمات التي تستند إليها هذه النتيجة، خلافًا للاستقراء أو التمثيل اللذين غاية ما يوصلان إليه هو الظنّ أو الاطمئنان القريب من اليقين وفقًا للمذهب المنطقي الأورسطي.

وللاستدلال بالقياس يحتاج المنطقي إلى قضيتين مثبتتين مسبقًا، تكون إحداهما قضية تعالج أمرًا جزئيًّا (هذه القطعة حديد)، فيما تمثّل القضية الأخرى قاعدة عامة (كل حديد يتمدّد بالحرارة)، فتنتجان قضية جزئية أخرى: (هذه القطعة تتمدّد بالحرارة). فنجد أن المستدِلَّ بالقياس ينتقل من قضية كلية (عامّة): (كل حديد يتمدّد بالحرارة) إلى قضية جزئية (خاصة): (هذه القطعة تتمدّد بالحرارة)، وهو مسار معاكس لمسار الاستقراء، الذي ينتقل فيه الباحث من تتبّع الجزئيات العديدة وصولاً -من خلال هذا التتبّع- إلى نتيجة عامّة، يستفيد منها المنطقي لاحقًا في موادّ القياس، ففي مثالنا السابق استفاد المنطقي في القضية العامّة (كل حديد يتمدّد بالحرارة) من تتبّع واستقراء جزئيات قطع الحديد الكثيرة التي تُعرَّض للحرارة وما يُلاحَظ من تمددها بفعل هذه الحرارة.

والمناطقة عندما يوازنون بين قيمة الطريقتين، يقدّمون القياس على الاستقراء، «على الرغم من شيوع طريقة الاستقراء وكثرة استعمالها، إلا أنها لا تفيد يقينًا علميًّا، وإنما تفيد رجحانًا ظنيًّا فقط، لاحتمال تعدّد الأسباب للظواهر المتماثلة»، عادّين القياس أقوم طرق الاستدلال إنتاجًا. بل إننا نجد نجم الدين القزويني في الرسالة الشمسية يعدّ الاستقراء مجرّد لاحق من لواحق القياس، ولا يعدّه طريقًا مستقلاًّ من طرق الاستدلال يوازيه في القيمة والمنزلة.

ويشير إلى هذه الإشكالية الدكتور عبد الكريم سروش في قراءته النقدية لكتاب السيد محمد باقر الصدر «الأسس المنطقية للاستقراء»، فيقول: «مشكلة عقم الدليل الاستقرائي ليست جديدة، فمنذ بداية تدوين المنطق والمنطقيون مذعنون دائمًا: بأن مجرّد مشاهدة اقتران (أ) و(س) في موارد معدودة لا تسمح لنا في الحكم بصدق هذا الاقتران في سائر الموارد، فَنَسْتَلَّ حكمًا كليًّا من خلال مشاهدة الجزئيات. ومن هنا عدُّوا «القياس» -في باب الحجّة- الدليل الوحيد، بينما عدّوا التمثيل والاستقراء عقيمين.

ليس هناك خلاف حول ما تقدّمَ بين المناطقة القدامى والمحدثين، إنما تبدأ بينهما المشكلة حيث إن هناك قسمًا كبيرًا من القضايا الكلية التي تستعمل في العلوم ليس لها مصدر ومنبع سوى الحسّ والمشاهدة. وإذا كان عمل الحسّ مشاهدةَ الجزئيات واستقراءها، وكان الاستقراء عقيمًا عندنا فسوف تتزلزل كل هذه القضايا الكلية، ويُضْحِي صدقها وصحّتها موضع شكّ وتردّد».

المنطق الأورسطي وعلم الكلام

أشرنا سابقًا إلى أن نشوء علم الكلام تزامن مع ظهور معظم العلوم الإسلامية التي تأثرت جميعها -تقريبًا- بالمنطق الأورسطي، فبُوِّبت ونظِّمَت وفق أسس وقواعد هذا المنطق، وهو ما أثر في هذه العلوم جميعًا في طرق الاستدلال المتبعة فيها وما يتعلّق بها من نتائج.

ولم يكن علم الكلام بعيدًا عن هذا التأثُّر، ذلك أن عمدة طرق الاستدلال وأقومها إنتاجًا هو القياس -حسب منطق أورسطو-، الذي هو في جوهره عملية فكرية بحتة لا تمس الواقع بصورة مباشرة، خلافًا للاستقراء الذي يعتمد -للوصول إلى النتيجة- على تتبّع الجزئيات في الواقع الخارجي، وهو الأمر الذي سينعكس تاليًا على المنهجية الكلامية في معالجة المسائل العقائدية، إذ ستكون المنهجية -في معظمها- مغلِّبةً الجانب النظري والفكري على الجانب العملي والواقعي الخارجي، لذلك نجد من بين الدعوات من يدعو -في بحث المسألة العقدية- إلى «الاتكاء على مخزون منطقي أكبر، يشمل إلى جانب المنطق الأورسطي [القياسي]: المنطق الاستقرائي، والرياضي، والتجريبي، والذاتي، والديالكتيكي»، وذلك لإغناء علم الكلام بالدراسات الميدانية، من خلال إحصائيات عملية من واقع حياة الأنبياء لاستنتاج المزيد حول الظاهرة النبوية، وكذلك فيما يرتبط بعظمة الخالق -جلّ وعلا- وما يمكن أن تضيفه هذه الدراسات من أدلة على وجود الخالق وأحقيته في العبادة وحصرية حقّ التشريع.

ظاهرة النبوة بين التأصيل العلمي والواقع التاريخي

القرآن الكريم هو المؤسِّس الفعلي للعقيدة الإسلامية في مجتمعها الأول الذي عاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد سلك القرآن الكريم في تأسيس هذه العقيدة منهجية تعتمد في جانب كبير منها على إحياء الفطرة الإنسانية التي تشوّهت وتبدلت المفاهيم والقيم فيها بسبب التراكمات الاجتماعية السلبية، متوسِّلاً في ذلك بالواقع التاريخي الذي عاشته المجتمعات السابقة في مواجهة دعوات الأنبياء، وهي منهجية كان من المفترض أن تلقي بظلالها على علم الكلام، الذي يعدّ العلم المتعهّد بهذه العقيدة والمدافع عنها، والرادّ للشبهات حولها، والمرسِّخ للعديد من أسسها، ففي الوقت الذي تدعو فيه الآيات القرآنية إلى المنهجية الاستقرائية في الاستدلال على عظمة الله وأحقيته في العبادة، تسلك الأدلة الكلامية منهجية عقلية صرفة عمدتها القياس، «فلا يخفى على الباحث في كتاب الله ما يشتمل عليه هذا الكتاب [القرآن] من دفع إلى اتخاذ طريق الاستقراء -بقسميه التام والناقص- وسيلةً إلى تحصيل كثير من المعارف.

فحين يوجه القرآن إلى الاتعاظ والاعتبار بقصص الأولين، فإنه يلفت النظر إلى طائفة من الأحداث التي جرت للأمم السابقة، واعتبار هذه الأحداث كافية للتنبيه على سنة الله في عباده والاتعاظ بها والاعتبار.

ولا يكون هذا إلا على أساس استفادة قواعد كلية وسنن عامّة من أحداث محدودة لم تبلغ الاستقراء التام، لكنها تجعل الفكر يقيس ما سيأتي على ما مضى، نظرًا إلى أن مدبّر الكون واحد، وأن حكمته التي قضت فيما مضى بإهلاك من طغى وبغى، تقضي فيما يأتي بإهلاك من يفعل فعل السابقين،...

وحين يوجه القرآن إلى دراسة الطبيعة لمعرفة كيف بدأ الله الخلق، فإنه يوجه إلى طريقة الاستقراء، بالسير في الأرض وتتبع دراسة الجزئيات الكونية، لتكون هذه الجزئيات هادية لهم إلى معرفة الحقيقة الكلية، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة العنكبوت 19 - 20: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾».

إننا حينما نجد هذه المفارقة بين المنهجين (القرآني والكلامي) في بحث مسألة التوحيد، نراها أكثر جلاءً ووضوحًا في بحث مسألة النبوة، ذلك أن التوحيد وما يتعلّق بالذات المقدّسة أمور غيبية، يمكن دراستها بالاستناد إلى المنهج العقلي وما يؤيّده من النصوص الشرعية، خلافًا لظاهرة النبوة التي تعدّ أمرًا واقعيًّا، يمكن دراستها من خلال الظروف الموضوعية التي أحاطت بها، وهو أمر لا نجده حاضرًا في مباحث علم الكلام القديم، ذلك أننا عندما نطالع بحث (أصل النبوة) في مفردات علم الكلام الإمامي القديم، نجد أنها تُتناول ضمن العناوين التالية:

- أهمية/ ضرورة بعث الأنبياء.

- الدليل على صدق دعوى الأنبياء.

- صفات الأنبياء.

مع الإشارة إلى بعض العناوين الأخرى، مثل: بعض الدراسات المتعلّقة بظاهرة الوحي الإلهي للأنبياء، أو الفرق بين النبي والرسول، أو تعدد الرسل والتدرّج في الرسالات، وغيرها من الموضوعات ذات العلاقة. ولكنني أكتفي هنا بالإطلالة على العناوين الثلاثة الرئيسة المشار إليها أعلاه:

بعثة الأنبياء طريق إلى ترسيخ قيم الدين

إن الهدف من بعث الأنبياء هو التبشير بالدين الإلهي، الذي هو مجموعة الضوابط القانونية والأخلاقية والفكرية التي تكفل السعادة والعدالة الاجتماعية للمجتمعات البشرية، ذلك أن «طبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الإنسان التي تتطلّب الوقوف أمام نوازع الإنسان الشريرة أن تتغلّب فتضرّ بالعلاقة الاجتماعية، إن هذه وتلك تقتضيان وجود نظام مستقيم يحقق العدل في العلاقات الاجتماعية، وفي جميع السلوك الإنساني.

ولأن وضع هذا النظام من قبل الإنسان لا يأتي مستقيمًا محقِّقًا للعدل بسبب نقص الإنسان، والنقص لا يُوجِد الكمال؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، لا بدَّ -إذن- من أن يكون وضع النظام من قبل المتصف بالكمال المطلق، وهو الله تعالى، لطفًا منه بعباده.

ومن هنا يكون بعث الأنبياء إلى الناس من قبل الله تعالى بما يشرعه من شرائع لتنظيم سلوك الإنسان فكريًّا وعمليًّا، لطفًا، واللطف واجب في الحكمة فتجب البعثة».

والعبارة الأخيرة التي يذكرها الدكتور الفضلي في خلاصته لعلم الكلام شرح لما يشير إليه الشيخ المفيد في نكته الاعتقادية، إذ يقول هناك: «فإن قيل: ما الدليل على أن نصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة؟

فالجواب: الدليل على ذلك أنه لطف، واللطف واجب في الحكمة، فنصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة،...

فإن قيل: ما الدليل على أن اللطف واجب في الحكمة؟

فالجواب: الدليل على وجوبه توقّف غرض المكلِّف عليه، فيكون واجبًا في الحكمة، وهو المطلوب».

والدين كما أنّ له دوره الأبرز في حفظ النظام الاجتماعي الإنساني وفق ضوابط إلهية تحفظ للجميع حقوقهم وكرامتهم، يقدّم للإنسان التصوّر الصحيح لمسألة المبدأ والمعاد، ولكن الشيخ جعفر السبحاني يقدِّم الوظيفة الأولى على هذه الأخيرة من حيث درجة الأهمية، بل يذهب إلى أنّ حصر دور الدين في التعريف بالمبدأ والمعاد فكرة نصرانية بحتة، يقول: «ربما يُتَصوَّر أن الهدف الوحيد من بعثة الأنبياء هو هداية الناس إلى المبدأ والمعاد، ولكن هذه الفكرة نصرانية بحتة، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك، فإنهم قد بعثوا لهداية الناس إلى وسائل السعادة والشقاء»، ذلك أن «التعرف على عوامل السعادة والشقاء له صلة وطيدة بسلوك الإنسان في الحياة».

وما يذكره الكلاميون حول الهدف من بعث الأنبياء أعلاه، لا يختلف عمّا يشير إليه الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة)، إذ يقول هناك: «وإذا كان رقيّ الإنسان الروحي الذي به انتظام شؤونه في الدنيا ووقوعها على وجه الحكمة والصواب، هو هدف الحكمة الإلهية من الرسالات إليه، وكان الإنسان من مبدأ الخليقة هو المخلوق الذي وُضِعَ في مكان الصدارة من الخلق، والذي ركبت فيه قوتا الخير والشر، كانت رسالة توجيهه إلى الخير وتقوية جانبه سنّةً إلهية في جميع أطواره،... ولذلك تعاقبت الرسالات على الإنسان».

ولكننا عندما ندقّق قليلاً في هذه الإجابات المطروحة نجدها تجيب عن سؤال محدَّد، وهو التساؤل حول أهمية الدين في حياة الإنسان، ولا نجدها تعالج أهمية الوسيلة التي اصطفاها البارئ -جلّ وعلا- لتكون الموصل لهذا الدين والمخبر به والواسطة بينه وبين عباده.

فإننا عندما نطرح التساؤل التالي: الدين حاجة إنسانية لا يمكن للإنسان أن يعيش حياته دون انتماء ديني، وقد أنزل الله الأديان اقتضاءً لهذه الحاجة والضرورة، واختار أنبياءَه وسيلةً لتبليغها دون بقية الوسائل الأخرى التي لا يعجز سبحانه عن أيٍّ منها، فما الحكمةُ من ذلك؟ وما أفضلية الإنسان ليكون هو الواسطة بين الخالق تعالى وبين بقية إخوانه من بني البشر؟

وعند البحث لا نعدم أن نجد من أجاب عن هذه النقطة، فنقرأ للشيخ محمد تقي المصباح اليزدي تأكيده أهمية مسألة الاقتداء فيما يرتبط بتطبيق الأحكام، ذلك أنّ: «من أهم العوامل التي لها تأثيرها الفاعل في التربية وفي رشد الإنسان وتكامله: وجود القدوة في العمل،... والأنبياء الإلهيون الذين يمثلون الإنسان الكامل، والذين نشؤوا في ظلال التربية الإلهية، يقومون بذلك خير قيام، إنهم -بالإضافة إلى التعليمات والمعلومات التي يزودون بها البشرية- يقومون بمهمّة تربية الناس وتزكيتهم»، ويطرح الفكرة نفسها -تقريبًا- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، فيقول: «نحن بحاجة إلى التربية الأخلاقية على يد مُربٍّ، وإلى «الأسوة» الذي علينا أن نحاكيه في الأقوال والأفعال ونحذو حذوه،... فمَنِ الحقيقُ بأن يكون المربي والقائد غير نبي معصوم؟ لهذا فإن الله القادر الرحيم لا يمكن أن يحرمنا من أمثال هؤلاء الأنبياء المربين الهداة».

ويشاركهما الفكرة عينها الشهيد السيد محمد باقر الصدر في مقدّمته لفتاواه الواضحة، إذ يشير هناك إلى دور الأنبياء في تحويل مصالح الجماعة إلى مصالح الفرد، يقول F حول هذه الفكرة: «والنبوة -بوصفها ظاهرة ربّانية في حياة الإنسان- هي القانون الذي وضع صيغة الحل هذه [حينما يكون هناك تعارض بين مصالح الفرد والجماعة]، وذلك بتحويل مصالح الجماعة وكل المصالح الكبرى التي تتجاوز الخطّ القصير لحياة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطّه الطويل، وذلك عن طريق إشعاره بالامتداد بعد الموت، والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر فيها الناس ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالح للفرد نفسه على هذا الخطّ الطويل.

وصيغة الحل هذه تتألّف من: نظرية، وممارسة تربوية معينة للإنسان على أساسها. والنظرية هي المعاد يوم القيامة، والممارسة التربوية على هذه النظرية عملية قيادية ربّانية. ولا يمكن إلا أن تكون ربّانية؛ لأنها عملية تعتمد على اليوم الآخر، أي على الغيب، فلا توجد إلا بوحي السماء، وهي النبوة.

ومن هنا كانت النبوة والمعاد واجهتين لصيغة واحدة، هي الحل الوحيد لذلك التناقض الشامل في حياة الإنسان، وتشكّل الشرط الأساسي لتنمية ظاهرة الاختيار، وتطويرها في خدمة المصالح الحقيقية للإنسان».

وما يذكره كلٌّ من: الشيخ المصباح اليزدي والشيخ ناصر مكارم والسيد الصدر يؤيده ما تشير إليه الآيات الكريمة حول فلسفة بعثة الأنبياء، ذلك أن «إرسال الرسل وإنزال الكتب -وبعبارة أخرى بعثة الأنبياء (عليهم السلام) ونزول الكتب السماوية- لها علاقة مباشرة بالنظرة الكونية للقرآن الكريم، فحينما يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، أو ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾، تظهر بكل وضوح حاجة الإنسان الماسة إلى القادة الإلهيين لسلوك هذا الطريق الطويل المحفوف بالمخاطر والمخاوف باتجاه الكمال المطلق، ذات الباري جلّت قدرته، وبدونهم سيقع الإنسان حتمًا في دوّامة الضلال والضياع.

ولهذا السبب يُعدُّ الأنبياء (عليهم السلام) بمثابة القادة، والكتب السماوية بمثابة القوانين التي تأخذ بيد الإنسان لتوصله إلى غايته وتخرجه من الظلمات. وبعبارة أخرى، لا يمكن تصوّر الحياة الاجتماعية للإنسان مجرّدة عن هداية عالم الغيب والذات المقدّسة، لا في مرحلتي التقنين والتنفيذ، ولا في مجال ضمان العدالة الاجتماعية، فالأنبياء (عليهم السلام) في الواقع يمثّلون همزة الوصل بين عالَمي الإنسانية والغيب».

ولعل تفسير نفحات القرآن -الذي حاول فيه مؤلفه الاستهداء بالآيات القرآنية في تأصيل أصول الدين الإمامية قرآنيًّا، من خلال جمع الآيات ذات العلاقة بهذه الأصول- يُعَدُّ أوسع من بحث الهدف من (النبوة العامّة في القرآن)، فنجده يحدّد أمورًا عشرة أشارت إليها الآيات القرآنية هدفًا لبعثة الأنبياء، لا نجد من بينها أي إشارة إلى مسألة أهمية الدين في الحياة الإنسانية، وهي: التربية، التعليم، إقامة القسط والعدل، حرية الإنسان، النجاة من الظلمات، البُشرى والإنذار، إتمام الحجّة ورفع الخلاف، التذكير بالقضايا البديهية، الدعوة إلى الحياة الإنسانية الواقعية الجامعة.

وما كان ينبغي للدرس الكلامي إثارته بخصوص البحث في ظاهرة النبوة هو الحديث عن أهمية اختيار الأنبياء وسيلةً اختيرت لإيصال الرسالة الإلهية في مقابل الوسائل الأخرى، ذلك أن الحديث عن أهمية الدين في واقع الحياة الإنسانية حديث كان ينبغي أن يكون في مقدّمة البحث حول أصول الدين، وهو أمر تنبّه له السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب الميزان في كتابه (الإسلام الميسّر)، حيث مهّد للحديث عن أصول الدين بعقد فصل خاص عن دور الدين في حياة الإنسان، مشيرًا هناك إلى هذه النقطة تحت عنوان: (حاجة المجتمع للضوابط) التي يقول حولها: «لما كانت حصيلة فعاليات المجموع مختلطة فيما بينها، وأن الجميع يريد أن يستفيد منها، فستبرز بالضرورة حالة من التزاحم وتدافع المنافع هي من اللوازم الحتمية لمثل هذا التماسّ والارتباط الدائم.

ولكيلا تتلاشى روح التوافق والانسجام بين الأفراد، يحتاج المجتمع إلى مجموعة من الضوابط، تفضي رعايتها للحؤول دون الفوضى واضطراب الأمور»، وبعد أن يناقش مجموعةً من المذاهب والنظم الوضعية يطرح الدين نظامًا أنسب للحياة البشرية، «فالدين علاوةً على اشتراكه مع القوانين البشرية في سنّ القوانين الجزائية لمواجهة المخالفين والمتجاوزين، واعتماده على الشرطة [قوة حفظ النظام] تراه يعتمد أيضًا وسائل جبّارة أخرى، يستطيع أن يغلب أية قوّة معارضة ويقهرها»، مستعرضًا بعض الخصائص التي يتميّز بها الدين عن غيره من القوانين والأنظمة الاجتماعية الأخرى.

ولا يخفى أن تركيز علم الكلام -في مسألة أهمية النبوة- على بيان حقانية الدين نظامًا يلتزمه الإنسان فردًا وجماعةً دون الإشارة إلى أهمية النبوة ظاهرةً كان لها الدور الكبير في ترسيخ أساس هذه الأديان والرسالات الإلهية، وما كانت تختزنه من قيم إنسانية سامية في المجتمعات التي عاصرت تلك النبوات الطاهرة ومن آمن بدعوتهم في الأزمان اللاحقة، لا يخفى أنه كان له دور مهم في أن تظلّ هذه الدراسات بعيدة عن مواقع الفعل النفسي الذي من المفترض أن يكون ناتجًا مباشرًا لالتزام الإنسان ما يؤمن به من عقيدة، كما أن بحث المسألة بهذه الطريقة فيه إغفال كبير لدور النبي في إرساء قواعد الرسالة التي يبشّر بها، وكذلك فيما يقوم به من دور في تطبيق ما يدعو إليه من نظام وقيم تطبيقًا أمينًا ودقيقًا دون أي خطأ أو تراجع أمام ما كان يواجهه من ضغوط في سبيل نشر الدعوة.

وتثمينًا للدور الذي يقوم به الأنبياء (عليهم السلام)، نقف مع ما يذكره السيد فضل الله (رحمه الله) من إشارة إلى أن «النبوة ليست مهمة «ساعي بريد»، ينقل الرسالة ليبلغها للناس وتنتهي مهمته عند هذا الحدّ، بل نحن نقرأ قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، ونقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾، فهو -بالإضافة إلى كونه مبشِّرًا ونذيرًا- يمثّل الشاهد على الناس، كما يمثّل السراج الذي يضيء للناس درب الحقّ، وهكذا كان موقع النبي، أن يحكم بين الناس بالحق، وأن يقيم الحياة على أساس الحق».

علم الكلام والاستدلال على صدق النبوات

ظاهرة النبوة ظاهرة لها ارتباطها الوثيق بعالم الغيب وعالم ما وراء الطبيعة، وهي في الوقت نفسه لها ارتباطها بالمحيط الخارجي الذي تتفاعل أحداث دعوتها معه، ولبيان أثر الظاهرة النبوية في الواقع الاجتماعي الذي تظهر فيه، يمكن دراسة هذه الظاهرة من خلال عقد المزيد من الدراسات الاجتماعية التي تدرس تلك التغيرات المصاحبة لهذه الظاهرة، ليخرج منها الدارسون بالعديد من النتائج المهمّة التي تستفيد منها العلوم ذات العلاقة، حيث يأتي علم الكلام في مقدّمتها، كما ستكون مثل هذه الدراسات مقدّمات للوصول إلى القواعد العامّة والأسس التي تنبني عليها الكثير من المسائل العقائدية التي يتناولها علم الكلام.

إن هذا التسلسل الاستدلالي الذي نفترضه أعلاه لا نجده في الدراسات الكلامية، وذلك يعود في معظمه إلى المنهجية التي تحكم مثل هذه الدراسات، وهي المنهجية التي تعتمد على الطريقة الأورسطية في الوصول إلى النتائج، إذ يأتي القياس مقدَّمًا على جميع طرق الاستدلال الأخرى، ولا نجد ذلك الحضور الجيد لاستقراء وتتبّع الأمثلة والجزئيات ذات العلاقة بالمسألة العقدية، وبخاصّة فيما يرتبط بظاهرة النبوة، فعندما نستعرض ما يذكره الكلاميون حول (ما تثبت به دعوى النبوة) غاية ما يشيرون إليه من تلك الأدلة: (المعجزة)، وفي بعض المصادر: نصّ النبي السابق على النبي اللاحق، وهو أمر لا يستند في تقريره على عملية استقرائية قام بها الكلامي خرج بها إلى هذه النتيجة، وإنما هي عملية استنتاجية لا تقوم إلا على مجرّد الانطباع غير الموثّق بإحصائيات ودراسات مقارِنة.

إن الاقتصار على موضوع المعجزة أو التركيز الأكبر عليها دليلاً على صدق دعوى النبوة يغفل دور السيرة الاجتماعية وما يحيط بها من ظروف موضوعية في إثبات صدقية وحقانية هذه الدعوة، بل إن السيرة الاجتماعية للنبي غالبًا ما تكون الداعم الأكبر في اتِّباع الجمهور لهذا النبي أو ذاك الوصيّ، ودافعًا مهمًّا لتطبيق مبادئ وقيم الدعوة التي ينادي بها أنبياء الله، وهي نقطة أشار إلى أهميتها الشيخ ناصر مكارم في كتابه معرفة النبوة، إذ يقول هناك: «هناك طريق آخر غير طلب المعجزة لإثبات صحة دعوى النبوة أو عدمها، وهو طريق يعتبر بحد ذاته دليلاً حيًّا آخر للوصول إلى الهدف المنشود، وذلك من خلال دراسة القرائن التالية وتوفّر عدد منها في مدعي النبوة:

1- مميزاته الأخلاقية وتاريخه الاجتماعي.

2- الظروف التي تسود المحيط الذي ظهرت فيه الدعوة.

3- الظروف الزمانية.

4- محتوى الدعوة.

5- خطط الدعوة التنفيذية ووسائل الوصول إلى الهدف.

6- مقدار الأثر الذي تتركه الدعوة في المحيط.

7- مقدار إيمان صاحب الدعوة بهدفه ومدى تضحيته في سبيله.

8- عدم المساومة مع الأعداء لحرفه عن طريقه.

9- سرعة تأثير الدعوة في الرأي العام.

10- دراسة الذين يؤمنون بالدعوة وطبيعتهم الاجتماعية».

وهذا النوع من الدراسات في الاستدلال على صدق النبوة له أثره في الأجيال اللاحقة، وذلك لما يحدثه في نفوسهم أكثر مما تحدثه فيهم أخبار تلك المعجزات التي لم يحضروها، وهي حوادث لعل كثيرين يشككون في صحتها، وهو أمر لا ينطبق على مثل هذه الدراسات التي ندعو إليها، إذ لا يمكن التشكيك في نتائجها المستندة إلى براهين وأدلّة دامغة، فهذا النوع من الاستدلال «معتمد عليه في حلّ الدعاوى والنزاعات، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم، ويستند إليه المحامون في إبراء موكليهم، خاصّة في المحاكم الغربية، التي تفتقد إلى القضاء بالأَيْمان والبيّنات، وتقضي هذه الطريقة بجمع كل القرائن والشواهد التي يمكن أن تؤيِّد دعوى المدعي، أو إنكار المنكر، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحّة دعواه أو إنكارها».

ولعلّ الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (الإلهيات) يعدّ أكثر من توسّع في بحث هذا الطريق للاستدلال على صدق دعوى الأنبياء، وذلك ضمن العناوين التالية:

1- نفسيات النبي.

2- سمات بيئته.

3- مضمون الدعوة.

4- ثباته في طريق دعوته.

5- الأدوات التي يستفيد منها في دعوته.

6- المؤمنون به.

مشيرًا إلى «أن أول من طرق هذه الباب [من الأدلة على صدق دعوى الأنبياء] وجعل القرائن المفيدة للقطع بصدق المدعي دليلاً على صحة الدعوى، هو قيصر الروم، فإنه عندما كتب إليه الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به، أخذ -بعد استلامه الرسالة- يتأمّل في عبارات الرسول، وكيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجوّل في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، ومطّلع على أخلاقه،... فطرح الأسئلة التالية:

- قيصر: كيف نسبه فيكم؟

- أبو سفيان: محضٌ، أوسطنا نسبًا.

- قيصر: أخبرني، هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبّه به؟

- أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.

- قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيَّاه، فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟

- أبو سفيان: لا.

- قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟

- أبو سفيان: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء، وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.

- قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أيحبه ويلزمه؟ أم يقليه ويفارقه؟

- أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.

- قيصر: أخبرني، كيف الحرب بينكم وبينه؟

- أبو سفيان: سجال، يدال علينا وندال عليه.

- قيصر: أخبرني، هل يغدر؟

- أبو سفيان: (لم أجد شيئًا عنه أغمزه فيه غيرها، فقلت): لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره (وأضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه)».

وفي ختام حديثه حول هذا الدليل يؤكّد الشيخ السبحاني على نقطة مهمّة، وهي أن «سلوك هذا الطريق وجمع القرائن والشواهد الدالة على صدق دعوى المدّعي أكثر ملاءمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في كتب الحديث، التي مضت عليها قرون. نعم، المعاجز أشدّ تأثيرًا، وأسرع في جلب القلوب لمن شاهدها بأمّ عينيه، ولأجل ذلك كان عامّة الأنبياء مجهّزين بها بالنسبة إلى أبناء زمانهم».

وبالإضافة إلى هذه النقطة المهمّة التي يثيرها الشيخ السبحاني، يجب الإشارة إلى أن إثارة هذه المسائل فيما يرتبط بمسيرة دعوة الأنبياء وبيان أثرها في تصديق دعواهم، له الأثر الكبير في إسقاط تلك الأساليب على واقعنا المعاصر، وللتأسيس الواعي لحركة الدعوة اليوم من خلال الاستهداء في ذلك بالتجربة النبوية الشريفة.

المعجزة.. الدور والوظيفة

وفي خصوص مسألة الاستدلال على صحة وصدق دعوى النبوة، لا بدّ من الإشارة إلى بحث المعجزة، فهي تمثّل أحد أهم الأدلة التي يسوقها الأنبياء في إثبات صحّة ما يدّعون، وهي الدليل الذي يأخذ المساحة الأكبر في الدرس الكلامي، حيث يستعرضون فيه حولها العناوين التالية: تعريف المعجزة، أن تكون المعجزة مطابقة لدعوى النبي، المعجزة وعلاقتها بنظام الكون، الفرق بين المعجزة والكرامة، الفرق بين المعجزة والسحر، وغيرها من العناوين.

وكان من المناسب أن يضاف إلى هذه العناوين: الظروف التي يلجأ فيها النبي إلى المعجزة، دور المعجزة في تصديق الجمهور وترسيخ عقيدة المؤمنين، الدور الإعلامي الذي تقوم به المعجزة. ذلك أن المعجزة كما تقوم بدور كبير في تدعيم دعوى الأنبياء، غالبًا ما يكون تأثيرها الأكبر هو الجانب الإعلامي.

فعندما نستعرض أمثلة الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، نجد أن من بين أهم العقبات التي كانت تحول دون إيمان أقوامهم هو وجود سلطة مركزية كانت تتحكم في جميع مفاصل المجتمع، بحيث لم يكن باستطاعة هؤلاء الأنبياء إعلان دعوتهم وإيصالها إلى الجمهور دون أن يكون هناك تعتيم إعلامي أو تشويه لصورة ما يدعون إليه، لذلك كان للمعجزة الدور المهم والبارز في تسليط الضوء على خطاب هؤلاء الأنبياء إلى أقوامهم دون أي تعتيم، وذلك بسبب ما تحدثه هذه المعجزة من إبهار يكون من الصعب على السلطة منع جمهور الناس من الانجذاب إليها، ومن ثَمَّ الاستماع بإنصات إلى ما يدعو إليه هذا النبي.

وهذه الحال بخلاف دعوة كلٍّ من: نبي الله نوح (عليه السلام) أو النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لا نجد -فيما ترويه الآيات القرآنية من قصص النبي نوح (عليه السلام)- وجودًا لسلطة مركزية، وإنما هي حالٌ من العناد والإعراض التي كان يمارسها قومه طواعيةً، ولذلك لم يكن نبي الله نوح (عليه السلام) بحاجة إلى معجزة ينجذب قومه إلى قوّة فعلها، ليستطيع من خلال حالة الانبهار هذه مخاطبتهم دون أي حاجز من قبل السلطة الحاكمة آنذاك، وإنما كانت معجزته هو ما سلّطه الله عليهم من عقاب جماعي نتيجة طغيانهم وجحودهم الذي مارسوه بصورة جماعية تجاه نبي الله نوح.

وهكذا الحال مع رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يعرض دعوته على قبائل يؤلِّف بينها مجموعة من الأعراف والتحالفات البينية التي سرعان ما تتبدّل بفعل المصالح والأحداث العابرة، فلم يكن حينها بحاجة إلى معجزة صارخة تجذب إليه أنظار هؤلاء العرب الذين لم تكن هناك أي سلطة مركزية تجمعهم، وإنما كان بحاجة إلى هذا القرآن الذي بهرهم بجمال وبلاغة أسلوبه، وهي حالة بلاغية لم يكونوا ليتصوّروا أن يسمعوا بمثلها، فكان كافيًا -ببلاغته- أن يجذبهم إليه ويدغدغ -بجماله- مشاعرهم.

ونحن هنا لا نعلِّق مسألة المعجزة ودورها في مسيرة الدعوة على وجود سلطة من عدمها، إذ لا نعدم أن نجد أنبياء مارسوا دعواتهم ضمن مجتمع لا يخضع لأي سلطة مركزية قويّة ومؤثّرة -كما هي الحال مع قوم نبي الله صالح (عليه السلام)-، اضطرّوا فيها إلى الاستدلال على صدق دعواهم بالمعجزة (معجزة الناقة)، كما أننا عندما نقرأ سيرة نبيّي الله: يونس ويوسف (عليه السلام) وغيرهما من الأنبياء نجد أن الظروف المحيطة لها دورها المؤثِّر في مسألة اللجوء إلى الاستدلال بالمعجزة، كما أنّ بعض الحوادث التاريخية هي في واقعها أقرب إلى العقاب الإلهي منها إلى المعجزة، كما هي الحال مع نبيّي الله لوط وهود (عليه السلام) وما أشرنا إليه في مثال نبي الله نوح (عليه السلام) وغيرها من الأمثلة والنماذج.

إننا في حال دراستنا للظروف المحيطة بكل معجزة والحال التي يلجأ فيها النبي لإبراز هذه المعجزة سيساعدنا ذلك في فهم هذه الظاهرة بصورة أجلى وأوضح، ولذلك نجد أنّ من المناسب إعادة النظر في دراسة المعجزة في الدرس الكلامي لاستجلاء هذه المسائل، لعلّ في الكثير من جوانبها ما يستحقّ التأمّل والخروج بنتائج مغايرة للمألوف والمرتكز في العرف الكلامي القديم.

صفات النبي ودورها في ترسيخ القيمة

الدين -وفق الأيديولوجيات الدينية- ضرورة إنسانية وحياتية لا يستطيع الإنسان -دونَه- العيش بكرامة وسعادة واطمئنان. ولطفًا من الله بعباده، أرسل لهم مجموعةً كبيرةً من الأنبياء ليكونوا القادة والقدوة في تطبيق مبادئ وقيم هذا الدين.

ولم يكن اصطفاء هؤلاء الأنبياء -حسب التعبير القرآني- إلا وفق ضوابط ومواصفات تمّ على أساسها اصطفاء هذا النبي أو ذاك من بين أقرانه.

ولاستجلاء هذه المواصفات والضوابط التي اتصف بها أنبياء الله، لا بدّ للدارس أن يرجع إلى سِيَرهم من خلال الكتب الإلهية التي كانت تحكي العديد من قصصهم بالإضافة إلى النصوص التاريخية المؤيِّدة، وفي هذه النقطة يأتي القرآن الكريم في مقدّمة المصادر المعتمدة في توثيق وبيان صفات الأنبياء والضوابط التي اصطفاهم الله تعالى على أساسها.

والقرآن الكريم في توثيقه للقصص النبوي لم يسلك في بيان هذه الصفات طريقًا مباشرة، وإنما أورد لنا العديد من المواقف في قصصهم كانت في معظمها محطّ اختبار وابتلاء لهؤلاء الأنبياء بما كانت تمثّله من مواقف حرجة وصعبة وذات فائدة وموعظة، وهي المواقف التي غالبًا ما تكشف عن شخصيتهم الحقيقية.

ولذلك فإنّ تتبّع هذه المواقف، للخروج منها بنتائج محدّدة، ومن ثَمَّ تنظيمها مع المواقف الأخرى المشابهة، يوصل الدارس إلى صورة قريبة من الواقع الفعلي للشخصية النبوية المصطفاة من البارئ جلّ وعلا بما كانت تمتلكه من صفات شخصية عالية استحقوا بموجبها أن ينالوا شرف الرسالة.

وهذا النوع من الدراسات له الدور الأبرز في الكشف عمّا كان هؤلاء يمثّلونه من قيم إنسانية عالية، ضحّى الكثير منهم من أجلها بأغلى ما يملكون، وتحمّلوا في سبيلها أصنافًا من العذابات والحروب النفسية الكبيرة، ولعل ما سنتبينه لاحقًا في دراستنا هذه يكشف عن جانب من ذلك.

العصمة بين الواقعية والغيبية

ما يدفع الباحث في علم الكلام للحديث عن صفات الأنبياء إنما هو مقدّمة للحديث الموسّع عن صفة العصمة، ذلك أنها الصفة الأهم من بين بقية الصفات النبوية، إذ يعدُّ توافرها في أي نبي واجبًا لضمان الوثوق في صحّة ودقّة ما يبلّغه من أحكام وما يقوم به من أدوار متعدّدة فيما يتعرّض له من مواقف وردّات أفعال تجاه ما يواجهه أثناء مسيرة الدعوة.

والتركيز على العصمة دون بقية الصفات في الدرس الكلامي له من الوجاهة المنطقية جانب كبير، ولكننا عندما ندقّق النظر في آلية بحث هذه المسألة نجد أنها تُبحث بنزعة مجرّدة عن الوقائع التاريخية التي يرويها القرآن الكريم أو تلك التي تحدثنا بها النصوص الحديثية الشريفية، فبدلاً من أن يستفيد الكلامي نظريته في معنى العصمة ودلالاتها وحدودها من الواقع الفعلي للأنبياء من خلال استقراء الكثير من المواقف التي تكون محطًّا للاختبار بين الوقوع في الخطأ والثبات على الموقف وصولاً إلى النتيجة التي تحكي عن مجموع هذه المواقف، نجده يستبق تلك المواقف بتحديدٍ نظريٍّ للعصمة من خلال بعض البحوث العقلية التي توصله إلى نتيجة محدّدة، يحاول لاحقًا أن يطبّقها على بعض الأمثلة للمواقف التي يعرضها القرآن الكريم لبعض الأنبياء نافيًا معارضتها لما توصّل إليه من مفهومٍ خاص حول العصمة.

وتمثيلاً للمسلك العامّ في دراسة عصمة الأنبياء في الدرس الكلامي الإمامي، نقف مع العناوين التي يطرقها الشيخ جعفر السبحاني في كتابه الموسّع الإلهيات، إذ نجده يطرق العناوين التالية في دراسته لبحث العصمة:

- العصمة عن الذنوب، يشمل النقاط التالية: حقيقة العصمة عن المعاصي، مبدأ ظهور فكرة العصمة، دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذنوب. سؤالان مهمّان: هل العصمة تسلب الاختيار؟، العصمة موهبة فلا تكون مفخرة. وعنوانه الأخير في دراسة هذه النقطة: العصمة في الكتاب العزيز.

- عصمة النبي في تبليغ الرسالة.

- العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأمور العادية.

وربما كان الاستغراق في بحث مسألة العصمة وفق هذه المنهجية أوقع الدرسَ الكلاميَّ في تخريج الكثير من المواقف النبوية التي تتعارض والفهم الكلامي للعصمة بصورة متكلِّفة بعيدة عن واقع الموقف موضوع الدرس.

ذلك أننا -في درسنا الكلاميّ- نصوّر النبي حينما يتّصف بالعصمة إنسانًا لا يقع في أي نوع من الخطأ، سواءً كان ذلك الخطأ مرتبطًا بالمعصية أو مرتبطًا بالسلوك اليومي العام، وهي حالة قد لا يتصوّر إنسان اليوم إمكانية تحقّقها، وبخاصّة مع أسلوب العرض الأقرب للأسطوري الذي نقدّم به نحن المسلمين سيرة الأنبياء، فـ«العصمة عُرِّفت دائمًا بالتعاريف الفلسفية أو التعاريف الكلامية، وهذه لا تُفهَم عادةً، فالبعض قد يستغرب أن يكون هناك إنسان معصوم لا تصدر منه أي معصية أو مخالفة صريحة، فيما تجد كثيرًا مِنَ الناس مَنْ لا يكذب في حياته، أو لا يزني، ولا يفعل الكثير من المنكرات، وهذا هو ما يقصده الكلاميون من العصمة، فالعصمة -ابتداءً- أمر طبيعي موجود عند الإنسان؛ لأنها تحاكي في الواقع الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

لا يوجد شيء غير طبيعي فيما يقدّمه البعض حول العصمة، فالمسلمون كلّهم يعتقدون بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم في التبليغ، والذي يعطي العصمة في التبليغ يمكنه أن يعطي العصمة في السلوك، لماذا؟ لأنه لا يوجد ما يمنع ذلك، فأمثال العصمة في السلوك كثيرة».

إن القرآن الكريم حافل بعشرات القصص النبوية التي تحكي - في أكثرها- مواقف صعبة مرّ بها الأنبياء (عليهم السلام)، ويمكن للدارس أن يركّز بحثه حول هذا الجانب في هذه القصص وعلاقة هذه الأخطاء بفكرة التزام الأنبياء ما ينادون به ويدعون إليه فيما يعرف بالعصمة، ومن ثَمَّ الخروج بنتائج مهمّة حول العصمة، لعلها في كثيرٍ منها تختلف عن الصورة العامّة حول هذه الصفة.