شعار الموقع

الملف: رؤية ومدخل

الدكتور عبد القادر بوعرفة 2012-10-04
عدد القراءات « 712 »

الملف: رؤية ومدخل

إعداد: الدكتور عبد القادر بوعرفة

قدمنا في أحد الأعداد السّابقة ملفًّا حول أزمة المنهج في الفكر الغربي، حيث تمحور البحث حول طبيعة الأزمة التي يُعاني منها البحث العلمي المعاصر، خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وكنا عقدنا العزم أن نُعدَّ ملفًّا ثانياً حول إشكالية المنهج في الفكر الإسلامي لأجل معرفة بعض النّواحي التي لم يذكرها مؤرخو المناهج في الفكر الإسلامي، وأقصد أن الملف المقدم لا يتعرض بالضرورة إلى مناهج البحث عند مفكري الإسلام كما عرضها د. سامي النشار مثلاً، بل المقالات المختارة تبحث في بنية المنهج من حيث بُعدها النفسي والأنطولوجي، أو بمعنى آخر تُحاول أن تَنفذ إلى معرفة اللاّمنطوق والمسكوت عنه.

إن المنهج ليس مجرد بناء نسقي، أو مجرد آلة صماء تعصم عند مراعاتها العقل من الوقوع في الزلل والشّطط، بل يحمل فلسفة وأبعاداً خفية مرتبطة بالإنسان الدّارس والمدروس. إننا لا نختار المنهج لكونه آلة وصناعة، بل نختاره لأنه يُلبي رغبات دفينة في أعماقنا، فمنهج الكشف الصوفي مثلاً يحمل معطيات نفسية تتجاوب مع حالات الإلهام والحدس الإشراقي.

رتبنا الملف وفق التّحقيب الكُرنولوجي، وحاولنا قدر الإمكان طرح تصورات جديدة، ولم نعمد لشرح المنهج عند قيس أو عيلان، بل حاولنا فهمه من خلال البناء والمرجعية التي تُؤسسه، وجاء الملف على النّحو التّالي:

منهج التّعقيل عند الفارابي (د. موسى عبدالله)

نعلم جيداً أن الفارابي لم يكن مجرد شارح لفلسفة أرسطو وأفلاطون، بل كان فيلسوفاً مبدعاً، استطاع من خلال تجربته البسيطة أن ينسج فلسفة متماسكة، تعتمد على نظرية المعرفة الأرسطية ونظرية المثل الأفلاطونية ثم نظرية الفيض الأفلاطونية. وهذه التّوليفة (التّوفيق) تحتاج إلى استعمال منهج رصين تمثل فيما اصطلح عليه الباحث موسى عبدالله بمنهج التَّعقل، وحاولت في مقدمة الملف أن أستبدله بالتّعقيل، لكون التعقيل يفيد الضبط المنهجي.

أسس الباحث مقاله على مقولة أن نصوص الفارابي تُعد بمثابة قراءة تأملية تحليلية لحالة الخروج بالعقل النّظري ( في تحديده الإغريقي ) وربطه بالعقل العملي (التّعاملي) على نحو تعقلي.

ويعتبر أن التّعقيل يُعد عنده غاية داخلية تُضبط عند المطابقة بين العقل والواقع، من خلال محاولة الفارابي القضاء على انعزال الذّات بإرساء علاقات بين الذّوات قائمة على «الخير، الجمال، الحق» كما يُحدده الفارابي في رسالة «التنبيه على سبيل السعادة».

إن منهج التّعقيل هو محاولة درأ التّعارض الموجود بين الإيمان والنظر، فالتّعقيل هو محاولة الجمع بينها مثلما جمع الفارابي بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو المتعارضين.

حاول كل من الفارابي وابن رشد وضع منهج تستطيع من خلاله الذّات وضع نقطة التقاء بين الإيمان والنظر، بين الظاهر والباطن، بين العرفان والبرهان... عن طريقة قصدية الجمع.

انطلق الباحث موسى عبدالله من الإشكالية التالية: هل ثمة إمكان لنقل دون نظر؟ وما المدى الذي يبلغه العقل عند قراءة النّقل؟ وما حدود النقل والعقل ووظيفة كل منهما؟...

إن منهج التّعقيل جعل الفارابي يُقرب بين الفلسفة والشريعة من خلال القول بأن الوحي ذو طبيعة عقلية لكونه أُنزل أصلاً لكائن عاقل هو الإنسان.

وخلص الباحث آخر الأمر إلى القول بأن فلسفة الفارابي فلسفة تعقلية، شعارها التّدبير بمختلف أنواعه مثلما أشار إليه في أغلب النصوص المتأخرة...

منهج قراءة الخبر عند البيروني (أ. حمادي سايح)

بُني التاريخ كله على الخبر، ويقتضي البناء السّالف الإيمان باحتمال سقوطه وانهياره، لأن الخبر يحتمل الصّدق والكذب، وتلك الاحتمالية تجعل التاريخ لا يقترب من العلمية بل يظل دوماً يدور في فلك الفنية والرواية.

إن التاريخ هو ذاكرة العالم والأرض، وتلك الذّاكرة حبلى بالكذب والأغاليط، بيد أن ما هو صادق منها يُؤوَّل تأويلات ذاتية تُفقد الخبر مصداقيته وموضوعيته، ولا غرو القول: إننا ننعش ذاكرتنا بالكذب، وأننا نُمرجع حاضرنا في أغلب الأحيان بتاريخ مزيف أو مغلوط ومكذوب.

أصبح هاجس كتابة التَّاريخ كتابة علمية هاجس أغلب المؤرخين، نظراً لوعيهم بخطورة وظيفة التاريخ، وكذا أهميته في التّواصل والانتماء وبناء الهُوية. لذا دأب بعضهم على إيجاد مناهج تدرس الخبر دراسة موضوعية تكسبه شرعية المَرْجَعة، وتعطيه آليات التّدوين والتوثيق، وتخرجه من فضاء الرواية إلى فضاء العلم.

حاول الباحث حمادي سايح في السّياق نفسه، أن يُقدم نموذجاً فذًّا من تاريخنا الإسلامي استطاع أن يدرس التاريخ ضمن آليات إبستيمية استقاها من قراءاته للتاريخ وتجاربه وهواجسه. لقد كان البيروني متأثراً بظاهرة الكذب في الخبر، فحاول أن يعالجها من خلال وضع منهج خاص بالخبر التاريخي، حاول الباحث أن يقدمه وفق الآلية التالية:

1- انطلق البيروني أول الأمر من جرد وتحديد العوائق التي تحول دون الكشف عن الحقيقة التاريخية، وتبيان مشكلات الخبر في أفق ثقافي يُحسن استثمار وتوظيف الخبر.

وأغلب العوائق تتعلق بالذات الباحثة والعارفة ثم بالموضوع، ومنها أيضاً ما يتصل بسبل بلوغ المعرفة، ويمكن حصر تلك العوائق وفق النظرة البيرونية فيما يلي:

- الذاتية والأنانية الإنسانية: تتعلق بالشهوة والغضب ومحبة الغلبة والسيطرة. وهي دواعٍ تجنح بصاحبها لا محالة عن جادة الصواب.

- الطبيعة البشرية: يرتبط الأمر بالشرارة وخبث الطبيعة البشرية، واستعمال الخبر لخدمة العدوانية البشرية والتّمكين للشر.

- الجهل المركب: ظاهرة غلبت على الرّواة وشبه المؤرخين، وينشأ الجهل المركب من طبيعة الخبر أصلاً، ومن آفة التّقليد والاتِّباع (المنهج)، ويُصبح المعني بالأمر جاهلاً بالخبر والمنهج معاً.

2- حاول البيروني أن يقترح منهجاً بديلاً عن الرّواية والسّرد، من خلال نبذ الاعتماد على منهج التقليد والرواية، باعتباره منهجاً عقيماً يساعد على تدوين الكذب والتدليس، ويخلط الصحيح مع المنحول، فيفقد التاريخ وظيفته الربانية والمتمثلة في العبرة. إن ذم الاتِّباع والتقليد هو محاولة تخليص التاريخ من الخبر المنقول والملقوط من غير تهذيب ولا تشذيب، بأساطيره وأباطيله، بغثه وسمينه... مما يجعل الخلف لا يعرف السلف كما هو، بل يرسمه وفق ما أُخبر عنه وفق الكذب والتدليس.

3- محاولة توجيه الكتابة التاريخية نحو الاحترافية والمهنية، عن طريق منهج علمي يقوم على العقل، وآلية التّجريب. ولا يكون ذلك إلا من خلال:

أ- الشروط الإبستمية:

أولاً: الموضوعية: حضور الذاتية أمر لا يمكن إنكاره أو نفيه، بيد أنه يمكن إنكار الذات في لحظة التعبد العلمي، وإقرار مبدأ العزوف عن استغلال العلم ونتائجه.

ثانياً: التوسطية: لا يمكن أن نقترب من الموضوعية إلا من خلال ممارسة التّوسطية عند التّعامل مع الخبر، والتّوسطية هي نزعة منطقية تعمل على محاولة القبض على نقطة التعادل بين حدي الخبر، فلكل خبر حدين (الإفراط والتفريط) والتوسط بينهما هو عين الموضوعية.

ثالثاً: التدرج: معالجة الخبر تقتضي التدرج في الأحكام والصبر على النتائج والحق في الفصل والجزم.

رابعً: الابتعاد عن النظرة التراكمية: وجوب الاعتقاد بأن المعرفة التاريخية معرفة تراكمية، والبناء التراكمي عيوبه أكثر، وأغلاطه أوسع. وعليه يجب الابتعاد عن هذه النظرة التي دأب المتقدمون على ممارستها.

ب- الشروط التقنية فهي على النّحو التالي:

- التّحلي بروح الدّقة: الخبر يمارس الغّواية ويثير شهوة التسطير (مصطلح قرآني) ولا نسلم من غوايته إلا من خلال التّحلي بالدّقة والبحث عن الآليات التي تساعدنا على تطبيقها، ونلمس ذلك التّوجه من خلال شرحه للمذاهب وتحريه الدّقة في عرض الآراء والأقوال.

- التأكد من غاية الخبر: التاريخ ليس فقط جرد وتدوين للخبر، بل البحث عن علله وأسبابه وأهدافه، ومعرفة قوانينه وبيئته التي نشأ فيها.

- العقل الاستنباطي: طبيعة الخبر ليست واحدة، فهناك ما يستوجب الوصول إليه عن طريق التّحليل والتّركيب، كما هو الحال في معرفة علله وغاياته، واستخلاص العبر والقوانين.

-العقل الاستقرائي: تفرضها طبيعة الخبر المتماهية مع التجربة الإنسانية، فالمؤرخ عليه أن يستفيد من التجارب الإنسانية لدراسة الخبر وفق قواعد الاستقراء، فملاحظة المكان الذي وقعت فيها الحادثة مثلاً يُمكن المؤرخ من اختبار صحة المعلومة التاريخية.

- الأسلوب الرياضي: اعتبر البيروني الرياضيات نموذجاً رائعاً في تحقيق الدقة والاقتراب من اليقين، نظراً لكونه رياضيًّا ومارسها في حساب مستويات البحر وارتفاع الجبال، وعليه حاول تطبيقها على الخبر من خلال نظام الجداول التاريخية التي استخدمها تسهيلاً منه للإحاطة والدّراية.

ج- الشروط الإثيقية:

- التّحلي بالصّبر والتّواضع: الكتابة التاريخية صعبة المراس، كثيرة المصائب والمتاعب، مليئة بالمخاطر، وعلى المؤرخ التّحلي بالصّبر والتّواضع معاً. ونلمس ذلك في سلوكه كما أكد صاحب المقال ذلك في قوله: عندما وصل البيروني إلى الهند عام 1019م مع إحدى حملات السلطان محمود الغزنوي، وبعد أن تعلم اللغة السنكسريتية لأنها أداة للتواصل الحضاري، دخل المعترك مع الهنود وبدا لنا في مواقف عدة، لا عالماً ولا مجادلاً ولا موبخاً إنما كان يقف موقف التلميذ بينهم.

وأكبر عنصر أخلاقي ركّز عليه البيروني هو التّحلي بالصدق والنزاهة؛ لأن التاريخ أمانة إلهية تفرض على صاحبها نقله كما يجب.

منهج الكشف (د. حميد حمادي)

اعتمد أهل العرفان على الكشف كمنهج للتّعرف والتّشوف، أو التعبد والتّصوف، معتبرين مناهج العقل والتجربة الحسية قاصرة وعاجزة عن إدراك الحقيقة، فالحقيقة أكبر مما نعتقده في عالم المعقولات أو المحسوسات، نظراً أن الحقيقة تنقسم عندهم إلى الظّاهر والباطن، والباطن هو كُنه الحّق ومربط اليّقين ولا تتأتى معرفة الباطن إلا بمنهج الكشف والذّوق.

إن منهج الكشف يُحدد معناه القاموسي بمصطلحين، الأول يفيد «الاستبطان» «introspection»، والثاني يُفيد «حدس» «intuition»، ومصطلح الحدس أقرب إليه من معنى الاستبطان.

ومن خلال ما سبق انطلق الباحث د. حميد حمادي ليناقش منهج الكشف من خلال آلية فلسفية بحتة، إنه يحاول أن يتعرف على طبيعة الكشف من خلال الخبرات الفلسفية التي ناقشت مسائل الحدس والإلهام، ولتحقيق الغرض انطلق من الإشكالية التالية: بم يتميز حدس الصّوفية أو الحدس الكشفي عن الحدس الباطني (العامل) عند الفلاسفة عامة؟

يعتبر الباحث أن الإجابة عن السؤال السّالف تقتضي بالضّرورة تعريف الكشف أصلاً، والذّي يُعرف عامة على أنه نوع من المعرفة المباشرة التي لا تحتاج إلى وسائط، بل تتجلى كخواطر في بؤر الذّات، إنها تقترب من حالة النّبوة أو الإلهام...

حاول الباحث فهم منهج الكشف من خلال التّفسير النفسي القائم على نظرية التحليل النفسي التي تُحيل رموز العمل أو التجربة إلى الذّات (أو إلى جانب من الذات = اللاوعي)، فالكشف يمكن أن يندرج ضمن ما يلفظه اللاّشعور إلى ساحة الشعور، إنه كما يؤكد يمكن اعتبار «تجربة الكشف» تجربة نفسية بالأساس قائمة على تحويل الرموز الباطنة في الذّات إلى العالم الخارجي والتي يشير إليها المصطلح الفرويدي بـ«عودة المكبوت».

إن الخبرة والتجربة الإنسانية يمكن أن تُفرز حالات العرفان من خلال التجربة اللامحدودة المرتبطة بتجربة القائل، المتكلم، وفي ذات تجربة المتلقي.

إن منهج الكشف لازال يثير الكثير من التأملات، فهل ما يصل إليه المتصوف هو مجرد انعكاس قوي للّاوعي في شعوره المرهف؟؟؟

يمكن فهم حالة المُتصوف في تعامله مع الحقيقة بحالة الشّاعر عند تعامله مع الصّورة، كلاهما يستدعي الحدس في عملية بناء الصورة، وكلاهما يثير في النّفس مظاهر الإعجاب والغرائبية بعد بناء الصّورة.

منهج الهجرة إلى الله في الخطاب العرفاني (أ. غوزي مصطفى)

المنهج في الفكر الإسلامي غير محصور في مجالات البحث فقط، بل هو متشعب ومتنوع، حيث استطاع المفكر والمثقف الإسلامي وضع مناهج للبرهان وأخرى للبيان وأخرى للعرفان، بحيث يختلف كل مقام عن الآخر بطبيعة حقله المعرفي وأدواته، فالحقل العرفاني في تاريخ الأفكار الإسلامية يتسم بمنهج الذوق والإشراق، ويتنوع من عرفاني لآخر، وذلك التّنوع هو سر شغف الغرب بالخطاب الصوفي الإسلامي.

لقد حاول أ. مصطفى غوزي أن يبحث في جزئية من القول العرفاني والمتمثلة في منهج الهجرة إلى الله، وقد وسم بحثه بـ«منهج الهجرة في القول الصوفي: أبعاد القول الصوفي وإيحائية الإشارة».

عالج الباحث الموضوع وفق مناهج غربية صرفة، حيث اعتمد على المنهج الوجودي لتحليل دلالات مقولة الهجرة، موظفاً وجودية كيركارد، ونفثية الفيلسوف الفرنسي إميل سيورون، وحفريات ميشال فوكو، وتفكيكات جاك دريدا.

يعتبر الباحث الشخصية الصوفية شخصية وجودية في حمولتها اللغوية والدلالية، بالرغم من كونها تنفر من الوجود بمعناه الضّيق إلى أفق الغيّب الذي يتطابق مع مقولة اللاّوجود الذي هو موجود بدرجة لا تقل عن الوجود ذاته. والتّعبير عن ذلك الصراع بين كينونة الوجود وكينونة الغيب تقتضي التّعبير بالقول أو الإشارة، بالحرف أو العبارة، بالشّطحة أو الجذبة، فالتعبير العرفاني هو نوع من الهجرة إلى الله باعتبارها: «القاطرة التي تحمله من طبيعة ماهوية، يستشف منها الدعوة إلى الارتقاء والسمو وتجاوز الزيف الاجتماعي السائد والمسيطر» كما يقول صاحب المقال.

إن جمالية القول الصوفي تكمن في الرمزية والإشارات الدلالية التي من خلال وعيها تنجح الذات في الوصول إلى الله، وفق منهج الهجرة الذي حدده الكاتب في القواعد التالية:

1- قاعدة الالتزام والمخاطرة.

2- قاعدة أولوية العودة إلى الذات.

3- قاعدة التّشظي باليأس والقلق.

4- قاعدة التّماهي بالقول والإشارة.

ومن خلال تحليل مفهوم الهجرة ومعرفة منهجها يمكن الوصول إلى أن القول الصوفي قول جميل جليل، قول يناصب العداء للذات حتى تنشطر انشطار اللاّمُحب لتعاود الاجتماع في ذات المُحب لله، وهو منهج يعطي أولوية النفور من كل تسطيح وتمييع للوضع الإنساني، وتخاطب كل البشر بدون استثناء.

إن منهج «الهجرة» هو منهج التّغرب والتّوحد والتّدبر، منهج الاغتراب عندما تكون الذات واعية، ومنهج استلاب عندما تكون الذّات مسلوبة الإرادة، ينقل الذات من أزمة الوجود والعبث إلى رحابة الحدس والإشراق والتأمل. لقد استطاع صاحب المقال أن يصل إلى نتيجة مفادها أن التّجربة الإنسانية هي تجربة معاناة ومكابدة من أجل الحرية والمعرفة، ومن وأفضل ما يمكن الإشارة إليه ما عبر عنه الكاتب في قوله: «وإجمالاً فإن القول الصوفي من طبيعة إشارتيْه، يُشير إلى حقيقة اللانهائي، المنسحب دوماً، فالقول يجد بين الفينة والأخرى، ذواتاً تستقبله ترحاباً، وتتلقاه انجذاباً، فتتذوقه اشتهاءً، لتتمتع به تلذذاً، فيخرجها من ضغط الآن وعبئه».

العقل ومكانته في المنهج العرفاني عند مصطفى العلاوي (أ. رزقي بن عومر)

تطرقت بعض المقالات سالفة الذكر إلى تحليل ونقد المنهج العرفاني عند المتصوفة وغيرهم من أهل الإلهام والحدس، والمقال التالي للباحث رزقي بن عومر يحاول أن يؤسس لمكانة العقل في المنهج العرفاني. لقد انطلق الباحث من النتيجة التي تؤكد أن الأصل في العلوم الإسلامية هو التمحور حول النص الديني سواء من خلال الأخذ بظاهره أو تأويله بما يوافق نتائج البحث المتوصل إليها في مستوى كل علم، أي أن الباحث يحاول أن يثير مشكلة التوفيق بين الظاهر والباطن، بين النقل والعقل،... والغاية من التوفيق ضمان شرعية النتائج.

يُعتبر العرفان في حقول العلوم الإسلامية ظاهرة عصية عن التّعريف،لأنه لم يعتمد عند إنتاج مفاهيمه على العقل ولا على ظاهر النص الدّيني، بل يرجع أصل إنتاج مفاهيم العلم فيه إلى الإلهام والتلقي عن مصدر متعالٍ.

بدأ صاحب المقال البحث أول الأمر في البحث عن مفهوم العرفان وفق ما اصطلح عليه أهله، يقول الباحث: فهم يرون أنّ منهجهم وطريقهم أفضل المناهج وأرقى الطرق الموصلة إلى الحقيقة، وبالتالي فإن معرفتهم هي أشرف المعارف، ذلك أنها متوقفة على الوهب والفيض الإلهيين ليس للإنسان في ذلك من جهد سوى تحسين الاستعداد لتقبل هذا الفيض.

حاول الباحث من خلال الشيخ العلاوي أن يُثبت مكانة العقل في الثقافة الإسلامية كأداة فعالة في يد النخبة، حيث استعان به الفقيه والأصولي والمتكلم والفيلسوف وعالم الطبيعة، لذلك كان التشكيك في الوثوق به ليس بالأمر الهين خاصة في مجال هذه الحقول.

لقد ظهرت موجة في تاريخ الإسلام تشكك في قدرة العقل على طرد الشك وتحقيق اليقين لدى النفس الإنسانية التّواقة إلى النّجاة من همّ السؤال الذي لا يجد له نهاية، فالعقل لا يفيد النفس يقيناً.

إن العقل بمجرد عدم إيمانه بالتّعارض والتّناقض يفقد قدرته على النظر ويتقلص دوره في اليقين والمعرفة. إن أداة المعرفة الحقة هي التي تستطيع أن تتجاوز التعارض والتضاد ليس بفكه أو تفسيره وفق ما يريد العقل بل هي التي تستطيع فهمه كما هو.

منهج جمالية تلقي النص الأدبي. (د. ملياني محمد)

جاء مقال د. ملياني محمد ليُكمل شطراً من التّكامل المعرفي للحقول الإنسانية، فمناهج البحث في الفكر العالمي كلها، كان الهدف منها إحداث عتبة لدى الذّات العارفة والمتلقية على السّواء، وتلك العتبة تتمثل في جمالية التلقي. نعتقد أن المنهج مهما بلغ من الاتساق والضبط والدّقة لا يمكنه أن يؤدي وظيفته كاملة إلا إذا استطاع أن يجعل الذّات تنجذب نحو موضوع المعرفة وفق منطق جمالية التّلقي. يمكن تصوير الحال كما صورها الغزالي في مثال الفراشة وضوء المشكاة.

يعترف الباحث منذ بداية المقال أن الحديث عن جمالية تلقي النّص الأدبي تكتسح حيّزاً واسعاً في الدراسات النّقدية الحديثة، حيث كانت الانطلاقة من جامعة كونستانس الألمانية (Constance) وعلى يد العالم الألماني هانس روبرت ياوس Robert Jauss Hans، ثم تلاه في ذلك فولفجانج إيزر Wolfgang Iser الذي تبنّى آراء مواطنه ياوس لبلورة مفهوم جديد يحتفي بالعلاقة المتبادلة بين النّص والقارئ، إيماناً بما للقارئ من دور فاعل ومهمّ في صياغة معنى النّص.

عالج الباحث الموضوع من خلال ارتكازه على نقطة منهجية، تتمحور حول ضرورة تقيد الموضوع في المفاهيم المحورية التي تُشكل قاعدته المفاهيمية، والمتمثل في المصطلحات التالية: الجمالية، تلقي النص.

أراد الباحث البرهنة على أن نظرية جمالية التّلقي ليست وليدة الفكر الغربي الحديث والمعاصر، فأسلافنا لم يغفلوا في دراساتهم طبيعة الصّلة والتّفاعل بين المبدع والمتلقي، واستدل على هاجس جمالية التلقي بمثال الفرزدق عندما أجاب ابن الأعرابي: «علينا أن نقول وعليكم أن تؤوّلوا».

انبرى الباحث في تحليل مضمون جمالية تلقي النص، موضحاً تصوراته بأمثلة وشواهد من الأدب العربي، ليصل آخر الأمر إلى القول: «وفي ضوء ما سبق يتبيّن لنا أنّ النقد العربي القديم تعامل مع النّصّ من خلال ثلاث عناصر هامة (النّص - المتلقي - المبدع)، ولم يهمل المتلقي (مستمعاً أو قارئاً أو مخاطباً) في عملية التفاعل مع قدرات النّص الفنية الكامنة فيه.

نخلص إلى أن التلقي ظل ملازماً للنص الأدبي لا يفارقه، إذ يوجد بوجوده وينعدم بانعدامه، ومن الصعب تصور انصراف الدراسات النقدية الحديثة عن مفهوم مهم مثل التلقي».

نرجو أن نكون قدمنا للقارئ ملفاً دسماً وشيّقاً، يجد فيه بعض الهواجس التي تخالطه من حين لآخر، وبعض المواقف التي تعرض لها ضمن محاولته فهم الفكر الإسلامي في أبعاده المتنوعة. إن السّلف بالمفهوم الحضاري لا المذهبي أكدوا قدرتهم على فهم وظيفة المنهج، إذ لم يكن المنهج عندهم مجرد صناعة نظرية أو آلة، بل كان يحمل هُوية الذّات العارفة ويُعبر عن أمالها ومآلها، عن انفعالها وتفاعلها... إن المنهج لم يكن موضةً وتقليداً كما هو الحال اليوم، فالنخب العربية والإسلامية المعاصرة تتلقف المناهج الغربية تلقفاً مما يجعل الذّات العارفة غريبة عن بيئتها وثقافتها، ومن ثمة لا تستطيع فهم تراثها ولا واقعها، وتُقدم صورة سلبية عن مجتمعاتها.