شعار الموقع

قراءة نقدية لمنهج البحث في المصنف الأصولي المعاصر

الدكتور بوبكر جيلالي 2012-10-04
عدد القراءات « 1194 »

«من النص إلى الواقع» لحسن حنفي

الملخّص باللّغة العربية

انصب المقال على تحديد منهج البحث في المصنف الأصولي المعاصر «من النص إلى الواقع» لصاحبه حسن حنفي، المنهج الذي ارتبط بالمخطط العام الذي تبنّاه مشروع التراث والتجديد، القائم على الجمع والتوحيد بين التراث وعلوم العصر، بين الأنا والآخر والواقع، استند البحث ميتودولوجيا إلى مناهج تراثية وأخرى معاصرة، كانت الطريقة الظاهراتية هي الغالبة، وكانت الأولوية فيه للعقل على النقل وللواقع على النص وللعمل على النظر، مما جعله ومنهجه يتعرض لعدة انتقادات.

* * * *

إن دلالات مضمون البحث وتحليلاته العامة والجزئية وسائر إيحاءاته التجديدية في المصنف الأصولي الجديد والمعاصر «من النص إلى الواقع» في الجزء الأول «تكوين النص» وفي الجزء الثاني «بنية النص» عبّرت عن أساس علم أصول الفقه وبنائه الثلاثي على مستوى تحليل الشعور، وفي التجربة الإنسانية عامة فردية ومشتركة، وهي تمثل ساحة واسعة وغنية بالأفكار القابلة للمناقشة وللنقد، كمادة ومعرفة وكصورة ومنهج، كمنهج له أسسه الفلسفية والمنطقية وله خطواته ومراحله وله مصباته وأهدافه. وعلم أصول الفقه الكلاسيكي ذاته يمثل منهجاً في النصوص الأصولية القديمة، التي تؤكد طابعه الاستدلالي الفقهي الاستنباطي المنطقي المسؤول عن كيفية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية كما هو محدد في تحديدات الأصوليين القدماء. وربما يصبح «من النص إلى الواقع» منهجاً أصوليًّا معاصراً معتبراً في الفعل التشريعي الاجتهادي المعاصر. ويرتبط المنهج الأصولي في «من النص إلى الواقع» بالمنهاج العام الذي يحكم مشروع «التراث والتجديد» ككل بأقسامه وأجزائه وأهدافه ومراميه. والمنهاج العام في «التراث والتجديد» يرتبط أساساً بمنطق التجديد اللغوي، وبمستوى حديث في التحليل وهو المستوى الشعوري والخبرة الشعورية وسائر تجارب الإنسان في ذاته ومع الموضوعات، وبتغيير البيئة الثقافية من بيئة قديمة غير مناسبة للعصر وظروفه ومطالبه إلى بيئة جديدة قادرة على التكيف مع ظروف وحاجات وتحديات الواقع المعاصر الذي يعيش على الموروث والوافد. كما يستند المنهاج العام للمشروع في حل أزمة التغيير الاجتماعي وأزمة البحث العلمي التي هي أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية على طرائق التجديد اللغوية طبقاً لروح العصر، واتخاذ موقف حضاري من الغرب وثقافته بواسطة «علم الاستغراب» واتخاذ موقف حضاري من الواقع المعيش بالتنظير المباشر له في إطار الموروث والوافد وفي سياق الحاضر والماضي والمستقبل.

إن منهج «التراث والتجديد» تعرض للمناقشة في فلسفته وأسسه. اختياره لمنطق التجديد اللغوي كمنهج في قراءة التراث انطلاقاً من الواقع المعاصر وتغيير البيئة الثقافية داخل الواقع بحسب التجديد اللغوي يوقع في اللفظية والصورية وحتى في المثالية؛ لأن المشكلة ليست مشكلة ألفاظ تتغير وتتبدل بل هي قضية موروث ووافد في واقع ذي أزمة عميقة ثقافية واجتماعية ومادية. وإذا كانت الأزمة هي أزمة تغيير اجتماعي وأزمة بحث علمي أي في مناهج الدراسات الإسلامية فكيف لمنطق التجديد اللغوي حل الأزمتين: الأزمة الاجتماعية والأزمة العلمية؟. وهو منطق مرتبط بأبعاد الفكر الثلاثة: اللفظ والمعنى والشيء. والتغيير المطلوب إيجاد إصلاح ونهضة انطلاقاً من التراث والواقع المعاصر والأخذ في الاعتبار ظروف العصر ومطالبه وتحدياته، وهو أمر ليس سهلاً يمكن معالجته بواسطة تجديد اللغة، وتجديد اللغة مرتبط بتجديد الأفكار والمعاني والأشياء والواقع ككل، ولمّا نجد التركيز المفرط على اللغة وربطها بمستوى التحليل النفسي في محاولات إعادة بناء التراث في قسمه الأول العلوم التراثية العقلية والنقلية هو نوع من الصورية والشكلانية على حساب المضمون مثلما هو الحال في الجزء الأول من «من النص إلى الواقع» في «تكوين النص». ويعترف صاحب المشروع بأنه مشروعه يكون عبارة عن خطاب أيديولوجي يفتقد العلمية والبرهان في نظر الكثير، فيقفز هو على الأيديولوجيا والخطابة ليغلّب المعرفة والاستدلال والمنطق إلى حدّ الشكلانية والصورية في مجال آخر؛ فهو يقول: «نظراً لكثرة ما وُجه إلى «من العقيدة إلى الثورة» من أنه أيديولوجي وليس علميًّا، خطابي وليس برهانيًّا، يريد تثوير النص أكثر مما يريد تغيير الواقع، قراءة للنص عن طريق إعادة التعبير عنه بلغة جديدة أكثر منه تحليل للواقع الاجتماعي والسياسي الذي نشأ فيه النص ارتدّ «من النقل إلى الإبداع» إلى النقيض وغلب المعرفي على الأيديولوجي والتاريخي على الفكري». هذه صورة من اللاّتوازن في منهج «التراث والتجديد» وعدم التحكم في البحث بما يسمح بالإلمام الكافي بموضوع البحث ومن جميع جوانبه، فيأتي البحث يغلب عليه الطابع النظري البحت أو الطابع الأيديولوجي البحت أو الطابع التاريخي البحت أو الطابع التجريبي النفسي فيفقد خصائص الروح العلمية، ويفقد قيمته العلمية التي تعطيه المشروعية العلمية والقدرة على حل أزمة التغير الاجتماعي، وعلى حل أزمة البحث العلمي، وهو الهدف الذي وجد لأجله.

ولما كان التناقض صفة تميّزت بها مواقف «حسن حنفي» في نظر الكثير من الباحثين والنقاد، حتى قيل بازدواجية العقل في كتاباته؛ نظراً لكثرة التناقض، و «لو شئنا حصر كل تناقضات «حسن حنفي» في كتاباته لكان علينا أن نعيد كتابة جميع مؤلفاته تحليلاً وتلخيصاً ومقابلة؛ وهو أمر ننوء به، فضلاً عن أنه سيكون مبعث سأم شديد للقارئ، والأجدى لنا من حصر التناقضات وإحصائها في هذه الحال تصنيفها تحت عناوين عامة، ثم سوق عينات تمثيلية على كل عنوان أو بند في التصنيف. وبالفعل، يمكن إجمال تناقضات «حسن حنفي» تحت العناوين التالية:

أ - تناقض في الموقف المنهجي.

ب- تناقض في الموقف من القضايا.

ج- تناقض في الموقف من الواقع.

د - تناقض في الموقف من النصوص.

هـ- تناقض في الموقف من الأشخاص».

ومن جهة أخرى في الموقف المنهجي وفي قراءة التراث والواقع وحتى في قراءة الآخر يعتمد «حسن حنفي» على طريقة المحدثين، وهي تحليل التراث عامة والخطاب الأصولي خاصة، أي تحليل النص باعتباره تجربة شعورية ضمن رؤية فلسفية فينومينولوجية يمتزج فيها الموضوع والذات، أي القارئ والمقروء، ويزول الانفصال والتمايز بينها. هذه الرؤية نمت وتطورت في عصرنا في الفكر الغربي وهي من الوافد في ثقافتنا المعاصرة، وهو الأمر البديهي الذي يرفضه حسن حنفي إذ يرُدّ التحليل الشعوري في مصدره إلى التراث وينفي كونه من آثار الوافد الخارجي، ويبحث في معرض تحليلاته في كتاباته الأصولية بل ينقب عن مسوّغات تُبرز وجود التحليل الشعوري في النصوص التراثية الكلامية والفلسفية وفي علم أصول الفقه وفي التصوف وفي غيرها، وذلك لإضفاء المشروعية على منهجه في البحث من مشروعية التراث، وغاية البحث ليست تبرير استخدام المنهج وتبرير مشروعيته في دراسة التراث النصي بل دراسة هذا التراث وفق منهج يسمح بالكشف عن قوة التراث ويسمح بتحريكه في الواقع المعاصر بفعّالية وإيجابية مساهمة في تغييره وتطويره. ومنهج تحليل الخبرات أو المنهج الظاهراتي الذي يعلّق عليه «حسن حنفي» آمالاً كثيرة وكبيرة في قراءة التراث طبقاً لروح العصر، وبغض النظر عن مصدره وإن كان من الوافد الخارجي فإنه منهج لا يعطي أهمية إلى تاريخية النص ولا إلى بنيويته حتى ولو يصف الماهيات المستقلة ويتوجه نحو الدلالات ويحلل لغة الخطاب، إلا أنه منهج ذاتي استنباطي ذو نزعة نفسية لا يرى النص إلا انطلاقاً من الذات وتجاربها وخبراتها في واقعها وفي سياقها التاريخي، متجاهلاً التمايز بين التجارب والخبرات الشعورية في الحقب التاريخية التي تتمايز في ظروفها الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية. والظاهراتية كمنهج في دراسة التراث القديم أو في تحليل الواقع تتميز بالأحادية، فلا يظهر من البحث العلمي سوى ما يراه الباحث الظاهراتي انطلاقاً من تجاربه وخبراته وتأويلاته وما يؤمن به، فتجعل البحث مثل العين التي تريد أن ترى نفسها من خلال مرآة هي التراث أو رؤية التراث من خلال مرآة هي الأنا، وفي كلا الحالين لا الأنا يعبر عن الغير ولا الغير يعبر عن الأنا، لأن الأنا منفصل عن الغير انفصال المرآة عن الصورة التي تعكسها. وطغيان الذاتية في البحث الظاهراتي يحيل البحث إلى دفاع وتبرير لا إلى تأسيس وبرهنة واستدلال استنباطي أو استقرائي، وهذا لا يقيم وزناً للروح العلمية ومقوماتها التي ينبغي أن يُؤسس عليها البحث في التراث قراءةً وتحليلاً ونقداً وإعادةَ بناء.الروح العلمية بمقوماتها مثل الموضوعية والوضعية والإبداع كانت وراء قيام النهضة الأوروبية الحديثة والحضارة المعاصرة. والظاهراتية كرؤية فلسفية ومنهج دراسة يتناول «موضوع الخطاب الأصولي، كموضوع مجرد من حيثياته التاريخية الفاعلة فيه ليقيمه من ثم على رؤية فلسفية خاصة (فينومينولوجية)، يمتزج فيها القارئ والمقروء، وينمحي الانفصال والتمايز بين الذات والموضوع، فإننا مع ذلك لا نملك إلا أن نرى في المواقف السياسية والمعرفية داخل التراث الأصولي مشاكل «إنسانية» مهما كانت درجة خصوصيتها فإن الباحث مضطر أن يدخل معها كأحداث تاريخية في تجربة مشتركة، حتى يستطيع «فهمها» وإدراك عمق «دلالتها» على الحدث الإنساني فكريًّا أو كان سياسيًّا أو اقتصاديًّا».

تتميز أعمال «حسن حنفي» في التعاطي مع الفكر الإسلامي عامة، ومع الأعمال الأصولية بصفة خاصة، بنوع من الاستقلال في المنظور والرؤية في القراءة والتحليل والتقويم، ففي علم أصول الفقه تمثل «مناهج التفسير» دراسة متميزة، «وفي تقديمه لهذه الدراسة، يرى برانشفيك أنه لأول مرة في تاريخ الفكر الإسلامي يحاول صاحب هذه الدراسة خوض مغامرة كبرى، تتمثل في محاولة إعادة تفسير كامل لعلم أصول الفقه التقليدية، وذلك انطلاقاً من رؤية فلسفية جديدة، توظف الإمكانيات الحديثة في التحليل والفهم، والتي لم تكن متاحة للعلماء من قبل، مشيراً بذلك إلى محاولة المؤلف توظيف أسس «الفينومينولوجيا» التي كانت لا تزال تحتفظ في ذلك الوقت بنفوذ على الساحة الفلسفية». وبعد حوالي أربعين سنة من وضع رسالة «مناهج التفسير» يظهر مضمون الرسالة بطابع أوضح وأدق وأوسع وأعمق وأشمل للموضوع ضمن بحث أصولي جديد وفي مصنف أصولي معاصر هو «من النص إلى الواقع» في جزأين: «تكوين النص» «وبنية النص»، وذلك من منظور فلسفي وظّف فيه إمكانات حديثة في التحليل والفهم والتفسير مثل توظيف أسس الظاهراتية التي ربما فقدت القليل أو الكثير من نفوذها على الساحة الفلسفية بعد مرور أكثر من أربعين سنة على نشأتها وتطورها في العالم الغربي لما يعرفه الفكر المعاصر من تطور وازدهار خاصة في علوم اللغة وعلوم النص «الهيرمينيطيقا» وسائر مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية. هذا إذا لم نأخذ في الحسبان ارتباط المناهج العلمية بالماضي واستمدادها من التاريخ وهو رأي «حسن حنفي» في اتصال الظاهراتية بالتراث العربي والإسلامي القديم وبغيره قديماً وحديثاً، ناهيك عن ظاهرة تقارب الثقافات والحضارات في المناهج وفي الموضوعات. ومن جهة أخرى إذا لم نأخذ في الحسبان الطابع العام والدائم نسبياً للمنهج العلمي التجريبي أو الظاهراتي أو التاريخي فيه خصوصيات يفرضها الموضوع وهي مواطن التباين بين المناهج، وهي التي أفرزت ظاهرة التعدد والتنوع في مناهج البحث والدراسة، وفي المنهج نقاط الثبات التي تتميز بالشمول والعموم والوحدة تشترك فيها جميع المناهج وتتقاطع.

استخدم «حسن حنفي» في بحوثه في إعادة بناء التراث في «من العقيدة إلى الثورة» وفي «من النقل إلى الإبداع» وفي «من النص إلى الواقع» منهج تحليل المضمون، وانتهى به -حسب تصريحه- إلى ضرب من الشكلانية والصورية، وذلك عيب المنهج وليس عيب التطبيق، حتى وإن كان منهج تحليل المضمون يقوم على القراءة والتحليل والتركيب والتعليق والنقد والاستنتاج، وقادراً على وصف النص وصفاً يتميز -إلى حد بعيد- بالدقة والموضوعية والضبط لمكونات وعناصر وخصائص ومقاصد الموروث والوافد والواقع المعيش، وقادراً على الابتعاد عن الأحكام المسبقة والأحكام المطلقة وعن إعادة الأخطاء الشائعة، فإنه يهتم بالدرجة الأولى بشكل النص وبنيته النظرية، مما يجعل البحث صوريًّا لا يعبر إلا على صورة النص الداخلية والخارجية في غياب مادة النص وهو مضمونه وواقعه وسياقه التاريخي، فيصبح النص كائناً منطوياً على نفسه مُغلقاً، متقوقعاً على صورته خارجاً عن الواقع والتاريخ. في حين أن النص جزء من الواقع داخل فيه وخارج منهُ وجزء من التاريخ داخل فيه وجزء منه. وبالتالي تكون الدراسة أحادية الجانب تنصب على الصورة دون المحتوى وهو أمر يتعارض مع ما يقتضيه المنهج العلمي، ومع ما تتطلبه الغاية من دراسة النص التراثي.

ومنهج تحليل المضمون يغلب عليه منهج العرض والوصف والإلقاء أكثر من أسلوب التحليل والتعمق والتركيب والنقد والاستنتاج، وأسلوب العرض طغى على جميع محاولات إعادة بناء التراث التي ظهرت حتى الآن وآخرها محاولة إعادة بناء أصول الفقه خاصة في الجزء الأول «تكوين النص» من «من النص إلى الواقع»، حيث أدى تحليل المضمون إلى الشكلانية والصورية وإلى العرض والوصف في التعاطي مع أكثر من مائة نص أصولي في مراحل زمنية مختلفة وفي حالات مختلفة ظهر عليها «النص الأصولي» ببنيته وهي حالات الكشف والحجب والاجتزاء والتحريك والتثبيت. ويرتبط منهج تحليل المضمون بالمنهج البنيوي القادر على تتبع بناء النص الداخلي وليس في سياقه التاريخي وسياق صاحبه الاجتماعي. وهذا ما جعل منهج تحليل المضمون الذي يقوم على التحليل البنيوي للنص يزيد البحث في «تكوين النص» وحتى في «بنية النص» صورية ليغلب عليه الطابع النظري العقلي وحتى المثالي التجريدي، وبهذا لا يعطي البحث التحليل الكامل والتفسير الكافي للنص المدروس؛ لأن الاشتغال بمنطق النص الداخلي على حساب التجارب التاريخية الفردية والاجتماعية التي تكوّن فيها النص الذي هو جزء منها وهي جزء منه، إذ لا يمكن للإنسان أن يسير بقدم واحدة، لا يمكن ذلك المنهج في البحث والدراسة أن يقدم نتائجه على درجة كافية من الضبط والدقة والصحة والكفاية من خلال الاكتفاء بدراسة النص من حيث بنيته المنطقية الداخلية وإغفال السياق التاريخي بكافة مجالاته، باعتباره السياق الذي نشأ فيه النص وتكوّن وعمل، فتوقف عمله أم مازال جارياً حتى الآن.

وإذ غلب على منهج تحليل المضمون أسلوب «العرض أكثر من منهج التحليل، عرض أقوال العلماء، ثم الدخول معها في حوار من أجل مراجعتها ثم خلخلتها والشك فيها دون تحليل النص وبيان مكوناته، كيف نشأ وتطور ثم انغلق حتى تحول إلى سلطة... وكان قد تمّ استعمال هذا المنهج من قبل في «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» ولم يكن مرضيًّا بسبب خروج نص يختفي فيه التمايز بين القديم والجديد، بين التراث والتجديد، مجرد قراءة لا أساس لها ولا منطق، عمل فلسفي خالص، ذهنان يتحاوران في لا زمان ولا مكان بهدف بيان إمكانية التجاوز والانتقال من مرحلة تاريخية قديمة بأسلوبها ومناهجها وموضوعاتها إلى مرحلة تاريخية جديدة مخالفة في تطلعاتها ووسائل تعبيرها وأهدافها. وسمي ذلك منهج النقل، أي مجرد إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد مستعملة لغة العصر، مثالية الشعور، ومنهج العصر، منهج تحليل التجارب الشعورية تحت تأثير الحركات الإسلامية المعاصرة». ويتكرر الوضع في البحث بالنسبة للعرض الوصفي خارج التحليل الموضوعي التاريخي في «تكوين النص» وفي «بنية النص» في «من النص إلى الواقع» بعد ورود ذلك في رسالة «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، وتكراره في «من النقل إلى الإبداع». وطغيان هذا المنهج على محاولات إعادة بناء التراث يعود إلى محاولة «حسن حنفي» التجرد من التأثير الأيديولوجي والتمسك بالمنهج العلمي، والتأثير الأيديولوجي يطبع كافة الدلالات والتحليلات في فلسفة «حسن حنفي» وفي مشروعه «التراث والتجديد». وإلى جانب محاولة التجرد مما هو أيديولوجي تأسيساً للعلم وتقيّداً بمقومات الروح العلمية، وارتباط منهج تحليل المضمون القائم على العرض لا التحليل بالمنهج البنيوي الذي يقدم النص خارج سياقه الزمني والإنساني، مركزاً على منطقه الداخلي وبنيته الباطنية.

ويرتبط من جهة أخرى منهج تحليل المضمون أو تحليل النصوص بشروطه ولوازمه في «التراث والتجديد» وفي فلسفته بالمنهج التاريخي الذي يعتبره «حسن حنفي» المنهج الذي «يبين أن النص جزء من مكونات الواقع ومتكوناً فيه، وأن النص ما هو إلا الواقع يتحدث عن نفسه، لسان حاله له، ومرآة تعكسه، كما أن الواقع مرآة تعكس النص. وعيبه في فقد المكونات الداخلية للنص وبنيته المستقلة» بناء على هذا الرأي الذي يذكر مزايا المنهج التاريخي ويحدد نقائصه، ويتّبع المفكر في «تكوين النص» المنهج البنيوي وتحليل المضمون خارج المنهج التاريخي، وعلى أساس المنهج الظاهراتي، وهو منهج يجعل من الذات الدارسة والموضوع المدروس شيئاً واحداً تحكمه القصدية ونزوع الذات نحو الموضوع ضمن منظور «ذاتي تأويلي تحديثي ينقل الماضي إلى الحاضر مع تغيير اللغة ومستوى التحليل وإعادة توجيه القصد، لما ينقص الواقع الحالي من القدرة على التشريع وصياغة القانون وفهم مضمون النص باعتباره تجربة حية في الشعور. وهو منهج يعتمد على تحليل النصوص لا الأفكار، وتحليل اللغة وليس المعاني، والدخول إلى الفكر عن طريق اللغة، والاتجاه إلى المضمون ابتداء من الشكل، واللغة عالم بأكمله عالم الكلام وعالم العقل وعالم الوجود».

فالمنهج الذي يقوم على الذاتية والقصدية في التعاطي مع الموضوع تحكمه الخصوصية والتغيّر والتعدّد والتنوّع في الفكر وفي الموقف وفي الفهم وفي التفسير، في حين أن منطق المنهج العلمي الاستدلالي الاستنباطي والاستقرائي وحتى التمثيلي منطق واحد، يرفض التغير المطلق ويقرّ بالوحدة في إطار بنيته الحقيقية التي تتكشّف بالتدرج والمرحلية، وليس بالإلهام والإشراق مثلما هو الحال في المشاهدة الصوفية. والاعتماد على التأويل، الذي تطورت علومه في العصر الحديث والمعاصر، يفتح الباب في التعاطي مع النصوص على أكثر من احتمال في القراءة والفهم والتفسير، ويفقد البحث علميته في تناثره بين المفهوم والتأويلات المختلفة، خاصةً إذا كانت تأويلات تدخل إلى الفكر من عالم اللغة وعالم التحليلات الشعورية الذاتية والقصدية ذات الطابع الشكلاني الصوري، الذي يتجه نحو المضمون انطلاقاً من الشكل والصورة فقط. همّه الانتقال من قصدية النص الكلاسيكي إلى قصدية قارئ النص في الواقع المعاصر، قاصداً حل مشكلة التشريع ووضع القوانين، معتمداً على تجديد اللغة باعتبارها عالماً يشمل الكلام والفكر والوجود. وهي النظرة التي طبعت محاولة إعادة بناء أصول الفقه في «من النص إلى الواقع»، وجاء التأليف الأصولي الجديد والمعاصر مبنيًّا عليها في «تكوين النص» حيث التوجه البنيوي الصوري على حساب الإطار التاريخي والواقعي. وفي بنية النص حيث التوجه الظاهراتي في عرض ووصف بناء علم أصول الفقه وفي جانبيه المفاهيمي والاصطلاحي على حساب بنية العلم الداخلية وسياقه التاريخي العام.

ومن مظاهر التناقض في الموقف المنهجي لدى «حسن حنفي» يصفه «جورج طرابيشي» في كتابه «المثقفون العرب والتراث» من خلال المنهج التاريخي الذي يستخدمه «حسن حنفي» ويشيد بدوره وأهميته في البحث، وينقده ويعيب عليه في مناسبات أخرى. «ويكاد موقفه من أحد مناهج العلوم الإنسانية، وهو المنهج التاريخي تخصيصاً، أن يشكل قضية منطقية. فكتاباته في شطر منها يؤسس عبادة للتاريخ «فالإنسان كائن تاريخي، وواقعه واقع تاريخي، ومجتمعه مجتمع تاريخي»... أما من الناحية الثانية فإن ما كان سياحة في التاريخ أو حتى غرقاً فيه من أخمص القدمين إلى فروة الرأس ينقلب إلى تعالٍ عليه. وما كان أصلاً يصير فرعاً، وما كان مهمًّا مهمازاً يصير معوقاً. فخطأ المستشرقين القاتل، كما رأينا في نص سابق، هو أنهم «يرون أن الوحي ذاته نتاج التاريخ» ويحاولون أن يجدوا للظاهرة الدينية «أصولاً تاريخية واجتماعية»، ووجهة نظر التعالي تعلن عن نفسها غالباً في مثل هذه العبارة المحكمة، الجامعة المانعة: «نحن لا نتعامل مع وقائع بل مع ماهيات»، «ونحن بدورنا نشعر أننا ما عدنا نتعامل مع حسن حنفي التنويري أو الهيجلي أو الماركسي، بل مع «حسن حنفي» الهوسرلي». وحال الموقف المنهجي في فلسفة حسن حنفي وفي مشروعه «التراث والتجديد» مع المناهج الأخرى غير المنهج التاريخي تحديداً. ومع المنهج البنيوي ومع منهج وتحليل المضمون ومع المنهج الظاهراتي حتى وإن اعتبره المنهج الأكمل لكونه «يبدأ من التجربة الحية التي تتكون في الواقع وكما عرض هوسرل في «التجربة والحكم». وفي نفس الوقت يصف الماهيات المستقلة ويتجه نحو المعاني. كما أنه يحلل لغة الخطاب. فالفكر قول وكما وضح في الهيرمنيطيقا»، والظاهراتية الهوسرلية، والوجهة التنويرية والتحليلات الجدلية الفكرية الهيجلية والتحليلات الاجتماعية والمادية الاقتصادية، والتحليلات العقلية النقدية لدى «سبينوزا»، وفلسفة الثورة والمقاومة النيتشوية، والتحليلات الوجودية لدى جون بول وغيرها مما اطلع عليه «حسن حنفي» في التراث الغربي الوافد، والمنهج الاعتزالي ومواقف الحركة الإصلاحية الحديثة عند جمال الدين الأفغاني، ولدى محمد عبده ومحمد إقبال وغيرهم، كل هذا كان وراء مشروع «التراث والتجديد» ووراء فلسفته، ووراء محاولة تجديد علم أصول الفقه. فاطلاع صاحب المشروع على التراث الثقافي العربي والإسلامي القديم وعلى التراث الغربي الوافد القديم والحديث والمعاصر، وإدراكه للواقع ومشاكله وتحدياته وحاجاته، منحه ثقافة واسعة في المعرفة وحول المناهج، الأمر الذي جعله لا يستقر على منهج واحد في الموقف وفي الاستخدام. ويتضح ذلك في المناهج التي استخدمها في إعادة بناء التراث من خلال محاولات إعادة بناء العلوم العقلية والنقلية، وعلى الخصوص محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع» في الجزء الأول «تكوين النص» وفي الجزء الثاني «بنية النص».

على الرغم من الانتقادات التي نالها فكر «حسن حنفي» ومشروعه «التراث والتجديد»، ونالتها محاولات إعادة بناء العلوم العقلية النقلية، خاصة محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه من قبل العديد من الباحثين والنقاد؛ يبقى «حسن حنفي» بفلسفته ومشروعه ومحاولاته الجارية إعادة قراءة وتفسير التراث وإعادة بنائه؛ يتصدر المثقفين العرب والمسلمين في عصرنا، كما يتصدر مشروعه الحضاري كافة المشاريع التي تشهدها الساحة الثقافية والفكرية في العالم العربي والإسلامي المعاصر. فهو بحق مفكر وباحث وصاحب مشروع فكري إصلاحي نهضوي حضاري، وصاحب فكر يستحق كل اهتمام وكل تقدير.