السؤال الذي نبحث له عن جواب هو: هل نستطيع أن ننشئ حواراً مع الغرب؟ والإجابة على هذا السؤال تقتضي التساؤل أولاً عن مشروعية الحديث عن حوار الحضارات عموماً، وعن حوارنا مع الغرب خصوصاً، فإن كان هذا الحوار مشروعاً؛ انطلقنا إلى الحديث عن عقلية الإنسان الغربي وبعض ملامح نموذجه المعرفي، بوصفه طرفاً ثانياً في الحوار. لنستنتج في الأخير أنواع الحوار المترتبة ومواصفاتها.
إذا أعدنا صياغة السؤال الذي انطلقنا منه بطريقة أخرى فسنورده على النحو التالي: هل يستطيع الغرب، بعقليته الحالية وبنموذجه المعرفي المعروف، أن ينشئ حواراً مع الأمة الإسلامية؟ وإذا نجح في ذلك، ما هو هدف ذلك الحوار وما هو موقعنا فيه؟.
والإجابة على هذا السؤال تقتضي أولاً البحث في مشروعية حوار الحضارات، ثم في مشروعية حوارنا مع الغرب.
سأفترض أولاً أن مفهوم الحضارة واضح ومشترك لدى الجميع، خصوصاً وأن جل التعريفات الرائجة حالياً ليست ذات تأثير كبير على الموضوع وتحليلنا له.
وسأكتفي أيضاً بفهم عام وبسيط لمفهوم الحوار ما دام هذا الأخير سيزداد تحديداً عند حديثنا عن أنواع الحوار في العنصر الثاني، وإن كنا نعلن منذ الآن أن تحليلنا للحوار سيرتكن على البعد المعرفي.
وحديثنا عن مشروعية حوار الحضارات سيكون مختصراً للغاية؛ وعذرنا في ذلك أنه كلما تقدم أكثر في هذه المقالة زادت تلك المشروعية وضوحاً.
وهكذا نجد أن مشروعية حوار الحضارات مستمدة من دافعين أحدهما داخلي والآخر خارجي، فأما الداخلي فنعني به البعد الإنساني للخطاب الإسلامي القرآني، وهو خطاب تكررت فيه مشاهد حوار الله مع المشركين وكذا دعوة الرسول عليه السلام إلى الحوار/ الجدال معهم وبالتي هي أحسن. كما اتخذت تلك الدعوة بعداً حضارياً صريحاً في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (سورة الحجرات: الآية 13).
والدافع الخارجي يتمثل فيما يمكن أن نصطلح عليه بوحدة المصير الإنساني وتعقد علاقات التأثير والتأثر؛ ولعلّ أكثر المجالات تعبيراً عن ذلك هو مجال البيئة: ثقب الأوزون؛ تناقص مساحات الغابات، التخلص من النفايات النووية، تناقص الموارد الطبيعية ونضوب مصادر الطاقة، التلوث..
أما مشروعية الحوار مع الغرب خصوصاً، فسببها أن هذا الأخير يقدم خطاباً يسميه كونياً ويرسي دعائم نظام يعتبره عالمياً وجديداً؛ وهو حوار نرى (كما سيتضح لاحقاً) أننا مقحمون فيه شئنا أم أبينا؛ ولا يبقى لنا إلا أن نحدد موقعنا فيه ومدى قوة هذا الموقع.
سيكون همنا في هذا البعد أن نقف على أهم أسس الفكر الغربي مروراً عبر أكبر محطاته، غير أننا لا نزعم الإحاطة الشاملة؛ وإنما سنستعير طرح د. عبد الوهاب المسيري الذي يسميه مسلسل التحديث والعلمنة، حتى نتمكن من استخراج خمس أسس مؤثرة في الحوار الذي ننوي إنشاءه، وهي: أصالة فلسفة الصراع، ظاهرة التحييد، تشييء الإنسان، الرؤية الخطية للتاريخ، العنصرية والخطاب العرقي.
غير أن هذه الأسس مجتمعة هي من سمات علمانية الفكر الغربي، ونحن لا نستعمل العلمانية بمعناها الخاص والضيق والذي يعني فصل الدين عن مؤسسات الدولة المختلفة؛ وإنما نعني بها «فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نزع القداسة تماماً عن العالم (الإنسان والطبيعة)، بحيث يصبح مادة استعمالية قابلة للتوظيف، وتصبح الطبيعة والمادة هي المرجعية الوحيدة لسلوك الإنسان ورؤيته في الكون»(1).
لا شك أن البداية الحقيقية موغلة في القدم؛ ربما تعود إلى عصور فلاسفة اليونان، وربما أقدم من ذلك، لكن البداية الأكثر وضوحاً كانت بتمرد الإنسان (الغربي) على الله / الكنيسة، وعلى أرضية الفلسفات الإصلاحية الجديدة، استطاع أن يعلن انتصاره في الصراع الذي خاضه بكل ضراوة مع الله. فيصبح الإنسان مركز الكون، ومن ثم يواجهه دون وسائط. ويسعى إلى إثبات جوهره الإنساني مقابل الطبيعة، وذلك باسم الإنسانية جمعاء في بداية الأمر، لتظهر ثنائية الإنسان - الطبيعة، فمع الإيمان المتزايد بقدرة العلم، وأمام اتساع رقعة المعلوم، تكرس خطاب السيطرة على الطبيعة أكثر. حيث تم استبعاد كل التفسيرات الغيبية والخرافية عن دراسة ظواهر الطبيعة. وأصبح التعامل معها يعتمد على العلوم العقلية الموضوعية اللاشخصية بعيداً عن أية قيمة أو غاية تحقيقاً للموضوعية. فالمجهول مرحلة مؤقتة سيتم تجاوزها، بعد أن أصبح الأمر مجرد اكتشاف للقوانين (العلمية) التي تحكم حركة الكون، لكن بتنامي السيطرة على ثروات الطبيعة، وبتضارب المصالح؛ ظهرت ملامح صراع جديد، إذ أصبح خطاب السيطرة على الطبيعة مقروناً بخطاب السيطرة على البشر، فأصبح كل واحد يسعى إلى إثبات جوهره الإنساني مقابل الطبيعة باسم ذاته الفردية. واتخذ خطاب السيطرة على البشر أبشع صورة وأكثرها دموية (لكن ليست الأكثر خبثاً) وهي الاستعمار، والاستعمار صراع غير متكافئ بين المبشرين بإله العلم وبين بدائيين غير متمدنين. وكما يقول Rene Bureau: (عندما يكون المرء قادراً على صنع صواريخ زنة مائة طن تصعد في عشر دقائق إلى ارتفاع عشرة كيلو مترات، تكون له حقوق على أولئك الذين لم يخترعوا العجلة، هذا ما نعتقد، اعترفوا بهذا)، وهو يضيف: «شر من ذلك، سمعت أفارقة يقولونها»(2).
قد نتفهم غطرسة المستعمر وتجبره، ولكن كيف نفسر استلاب الإفريقي وخنوعه؟! لقد تمكن الغرب من توظيف مجموعة من المقولات والاستعدادات الاقتصادية والجغرافية والثقافية، مكنته «من أن يبلور بواسطتها، صورة عن ذاته، وتخلق بشكل موازٍ صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، ثم رسم مصير متعال له ليجعل من نفسه محوراً، بل مرجعاً تاريخياً عالمياً وحيداً في معالجة مجتمعات ما وراء البحار.وذلك من خلال إنشاء منظومات فكرية، متوخياً من ورائها إجماعاً نسبياً على رسالته التبشيرية (التحضيرية) بين مواطنيه، لكي يتسنى له تصديرها من خلال إغواء وتنشئة نخب في المجتمعات المفتوحة، لتكون معابر لبسط سيطرته وترسيخها في جسم هذه المجتمعات. لاشك في أن هذا المسار قد تطلب استخدام مفاهيم العقلنة لإضفاء المشروعية على فتوحاته عبر تمثيل المجتمعات الخارجة عن حدوده على شكل (زوائد عائمة) من مخلفات تاريخية متدنية محكومة آجلاً أو عاجلاً بالانقراض والفناء» (3).
ونتيجة لهذا الأمر، لم يعد المستعمر يشعر بالذنب وهو يمارس رسالته (التحضيرية) وواجبه (التمديني) تجاه الشعوب (البدائية)، لدرجة أن يخاطب أحد الجنود الإنجليز صديقه قائلاً: «كم هم متوحشون هؤلاء السود! لقد عضني أحدهم وأنا أذبحه»! وقد تم التركيز على مقولتين اثنتين: خطية التاريخ وتفوق العرق. فمع الثورة التي عرفها علم اللغة على يد المستشرقين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، شهد العالم ميلاد علم مقارن مؤسس على فرضية انتماء كل اللغات إلى عائلات.. «فالهند - أوروبية والسامية هما مثالان مهمان، منذ البداية أبدى الاستشراق خطين: الوعي اللغوي للشرق بمنظار أوروبا ومقاييسها، والميل إلى التجزئة والتفريع وإعادة التجزئة لمباحثه، دون أن يغير قط من رأيه حول الشرق بحجة أنه نفس الموضوع دائماً، غير متحول، متماثل وخصوصي بصورة جذرية، فقد بين Frieedrich Schlegel الذي تعلم اللغة السنسكريتية في باريس كل هذه الملامح (...) فبنظره أن الساميين هم من عرق أدنى ومتأخرون بسبب لغتهم (الملونة) الميكانيكية والمجردة من الجمال.. أما اللغة العبريةفهي تتناسب مع التعبير النبوي والتأليه. إلا أن المسلمين ارتبطوا بتوحيد ميت فارغ وبإيمان موحد سلبي» (4).
وانطلاقاً من هذه الحجة اللغوية تم اعتماد تصنيف أنثروبولوجي لا يقبل الجدل، وأعلنها صراحة عالم السلالات فيكتور كورتيه دوليل في العام 1832م: (إني أقول لكم بأن أزمة الأوروبيين لن تتوقف إلا يوم تكافأ مختلف المجتمعات بطريقة تمنح فيها أشكال اللامساواة والفروق العرقية حدوداً متمايزة، إني لا أجاهر برأي يجرح شعور الكرامة الإنسانية، إني أصرح بواقعة سيكون لها صدى في تاريخ كل شعوب العالم) (5)، وهكذا وضع العرق الآري على رأس التصنيف، فهو يتميز (بالطول والقوّة والجمال) كما لمعت فيه أعظم العبقريات عبر العصور،وهو مهد العقل والفلسفة.. واعتبر العرق السامي عرقاً منحطاً ألصقت به كل النعوت السلبية*، فهو عرق «لموحّدين مسعورين وغير منتجين للأساطير والفن والتجارة والحضارة»(6).
كما اعتمد باحث آخر تصنيفاً أدرج فيه خمسة عشر عرقاً يحتل فيه العرق الأبيض المرتبة الأولى، والبشر من (النوع الأسترالي) آخر التصنيف. ويضيف المصلح الاشتراكي سان سيمون (سنة 1803م) - باسم العلم دائماً! -: «لقد قام الثوريون بتطبيق مبادئ المساواة مع السود: فلو استشاروا علماء وظائف الجسم لكانوا تعلموا أن الأسود بسبب حاله العضوية غير قابل لشرط مساوٍ في التربية حتى ينشأ على نفس مستوى الذكاء لدى أوروبا.. لقد كانوا مخطئين في اعتناق عرق أدنى منهم»(7)، وتفاقم الأمر أكثر ليصبح العرق مقرراً للتاريخ ونشوء الحضارة: «العرق هو المقرر لكل شيء في الشؤون الإنسانية، إنه ببساطة الواقعة الأكثر بروزاً والأكثر عمومية، التي لم تعلن عنها الفلسفة قط في تاريخها قبل الآن، إن العرق هو كل شيء: الأدب، العلم والفن، وبكلمة واحدة تتوقف الحضارة عليه»(8).
وتوجت تلك النزعات العرقية بالنظرية الداروينية التي يعلق عليها ماكس نوردو قائلاً: «منذ أن انتشرت نظرية التطور صار بإمكانهم - يقصد العسكريين - باسم داروين، تغطية بربريتهم الطبيعية وإطلاق العنان لغرائزهم الدموية لكون هذه النظرية كانت تعتبر آخر صيحة في العلم»(9).
عموماً، عمل المستعمرون على توظيف الفكرة القائلة بتفوق العرق إلى فكرة التقدم الإنساني أو خطية التاريخ، التي راجت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لتشكيل خطاب علمي يبرر استعمار الشعوب الأخرى بل ويجعله أمراً بديهياً وواجباً للرجل الأبيض. وخلاصة نظرية التاريخ الخطي، أن التاريخ البشري يسير في خط واحد متصاعد ترتب عليه الدول طبقاً لقربها أو بعدها من أوروبا. «فآدم سميث يقسم مراحل التطور البشري إلى خمس: صيد، ورعي، وزراعة، وتجارة، وصناعة، وماركس يقسمها إلى شيوعية، بدائية، ومجتمع عبودي، ومجتمع إقطاعي، ومجتمع رأسمالي، ومجتمع شيوعي. وكارل بوش كذلك يقسم التطور البشري إلى ثلاث مراحل: اقتصاد ريفي، واقتصاد حضري، واقتصاد عالمي»(10)، والملاحظ أن كل هذه التقسيمات تنتهي إلى المرحلة التي نعيشها الآن. وكأن الإبداع البشري وصل إلى السقف، وعلى رأي د. نصر محمد عارف فإن كل تلك التقسيمات لتطور التاريخ البشري ليست سوى محاولة لتعميم مراحل التاريخ الأوروبي والنظر إلى البشرية من خلالها. على أساس أن جميع المجتمعات الأخرى مرت وسوف تمرّ بنفس مسار التاريخ الأوروبي، مع تجاهل تام لما في هذه المجتمعات وخبراتها وهويتها وقيمها وأنماطها الحياتية، بل أصبحت هذه المجتمعات تصور على أساس أنها مرحلة دنيا أو مرحلة معاكسة للمدنية الحديثة التي تجاوزت - كما هي طبيعة الفكر الأوروبي - ماضي أوروبا نفسها على الرغم من استبطان قيمه (11). وهذا ما نلمسه بوضوح عند هيجل حينما يقرر ما يلي: «هذا الشعب هو الشعب المسيطر في التاريخ العالمي والعصر المناسب. ولا يمكن أن يحدث مثل هذا العصر إلا مرة واحدة في التاريخ لقاء هذا الحق المطلق الذي يملكه، لأنه ممثل الدرجة الراهنة لروح العالم. أما بقية الشعوب فهي بلا حقوق ولا يحسب لها حساب في التاريخ العالمي»(12). كما أن العلم الغربي قد توصل، حسب منطق المؤرخ فيكو، إلى رسم المحور الأبدي للتاريخ المثالي الذي تدور حوله تواريخ كل الأمم انطلاقاً من نشوئها وعبوراً بتقدمها حتى انحطاطها ونهايتها (13). لكن هذه النظرة إلى التاريخ بقيت راسخة إلى الآن وما زالت الحضارات الأخرى تعامل الطريقة إقصائية. فـ«باليقين المطلق لمؤمن نفترض أن التدوين التاريخي الذي ندرج فيه أحداث وتغيرات ذلك الجزء الضئيل من الأرض أي هذا النتوء لأوراسيا الذي نسميه أوروبا الغربية هو أيضاً التدوين التاريخي للبشرية»(14).
ما نود التركيز عليه هو أن الاستغلال والتوظيف العلمي لمقولتي تفوق العرق وخطية التاريخ كان بهدف التبرير لبداهة الاستعمار، كما أن هذه التبريرات التي شملت أيضاً الرسالة التبشيرية وحملات التنصير؛ لم تكن لتفلح في إخفاء الدافع الحقيقي وراء كل هذا... المصلحة الشخصية والربح.. دائماً في سياق مسلسل العلمنة، ووقوفاً عند محطة صراع الإنسان ضد أخيه الإنسان وخطاب السيطرة على الطبيعة وعلى البشر «لا، لا، وألف لا، لا تحدثوني عن التعاطف مع السود. رسالة الرجل الأبيض هي أن يكون مقاول العالم، ولا ينبغي له أن يتوقف كثيراً عند عوارض هي خطرة بقدر ما هي عديمة الجدوى»(15).
نعود الآن لنتابع مسلسل العلمنة؛ فبينما يكون الإنسان (الغربي دائماً) غارقاً في فتوحاته العلمية والجغرافية؛ تبدأ ثقته في انتصاره على الطبيعة في التزعزع، إذ يكتشف أن هذه الأخيرة مستقلة بذاتها، تعمل وفق قوانينها الخاصة.. بل إن «العالم بأسره مكون من مادة واحدة تشكل كلاً من الطبيعة والإنسان، وهي مادة تكون أكثر تركيباً في الإنسان منها في الطبيعة، ولكنها تظل في نهاية الأمر والتحليل الأخير مادة عامة لا قداسة لها ولا أسرار فيها، وليس لها حرمة خاصة سواء أكانت في الشجرة أم الفراشة أم الإنسان؛ مادة خاضعة لقانون طبيعي واحد أو مجموعة من القوانين الطبيعية التي تتسم بالوحدة النهائية، فلا يوجد قانون للإنسان وآخر للطبيعة»(16).
الآن أصبحت المادة: الإنسان الطبيعة. مركز الكون ومرجعه، لتختفي كل الثنائيات، فالمعرفة العلمانية معرفة بالضرورة منفصلة تماماً عن قيم أخلاقية أو مثالية أو مطلقة، بل وعن أي قيم إنسانية، إذ أن المعرفة العلمانية ملتزمة بنموذج معرفي مادي لا يعترف بأي قيمة خاصة لأي شيء (بما في ذلك الإنسان) وإلا سقط في الميتافيزيقا.. ومن ثم نجد أن النموذج المعرفي العلماني يشكل هجوماً على أي إيديولوجيا ترى أن الإنسان أو حتى بعض جوانب وجوده الإنساني يستعصي على التفكير المادي، إذ أن هذا يترك ثغرة معرفية واسعة ميتافيزيقة تهدد النموذج المعرفي العلماني. ومن هنا محاولات المعرفة العلمانية أن ترى الإنسان جزءاً من منظومة كونية، تتحدث من خلاله ولا يتحدث هو كإنسان فرد - من خلالها. فهو نتاج البيئة والعوامل الوراثية والقوى التاريخية والصراعات الطبقية والحتميات المختلفة التي اكتشفتها العلوم الإنسانية العلمانية (17) لنصل في نهاية المطاف إلى تشييء الإنسان، والنتيجة أنه أصبح مادة قابلة للاستعمال، ولا يتعلق الأمر بإنسان المستعمرات وحده.. أليس الإنسان الغربي ذاته مجرد آلة إنتاجية وسوق استهلاكية، ليصبح بدوره وحدة إنتاجية / استهلاكية ضمن عملية (الترشيد)([1]) التي طالت كل شيء. وإلا ما الحق الذي يخول لقلة قليلة تشكيل أذواق الناس وتحديد طريقة تفكيرهم وتوجيه آرائهم بل وتنميط خيالهم بما يتوافق وأهوائهم([2])؟!
غير أن تلك الأحاديث المستمدة من مركزية المادة لن تدوم طويلا، إذ يفقد الإنسان المنهزم صوابه، ويبدأ في تدمير كل شيء.. فتتعدد المراكز وتضفى القدسية على كل شيء، لتُنتزع القداسة عن كل شيء. متوجاً بذلك عصر ما بعد الحداثة حيث يضمحل الإنساني في عالم لا مركز له، ويوجه الإنسان طاقة الصراع لديه نحو ذاته ليرتد إلى الإحباط التام والعدمية القاتلة. فالإنسان الغربي مصارع صنديد، صارع الله جل ثناؤه، وصارع الطبيعة، كما صارع أخاه الإنسان، ولما لم يجد عدواً آخر انكفأ إلى ذاته يذيقها من بطشه (18)، ويكفي أن نذكر بصراع الطبقات عند ماركس، وصراع الأجناس عند داروين، وكذا الصراع بين مكنونات الشخصية عند فرويد، لنتأكد من أصالة فلسفة الصراع في الفكر الغربي.. وهو صراع لم تسلم منه حتى الآلهة في التراث اليوناني القديم!
أوضحنا خلال تتبعنا لمسلسل العلمنة؛ أصالة فلسفة الصراع في الفكر الغربي وتوظيف هذه الفكرة لمقولتي تفوق العرق وخطية التاريخ من أجل تبرير خطابه للسيطرة على البشر.. كما أوضحنا مرجعيته المادية التي أوصلته إلى تشييء الإنسان.. وبقي لنا أن نشير إلى ظاهرة «التحييد» وهي نتيجة حتمية لتطور مسلسل العلمنة؛ فحين تسري قوانين العلمانية الشاملة على مجال من مجالات النشاط الإنساني، فإن هذا المجال ينفصل عن المعيارية والغائية الدينية والأخلاقية والإنسانية، ويصبح مرجعية ذاته ويستمد معياريته من ذاته، فتصبح المعايير في المجال الاقتصادي اقتصادية، وفي المجال السياسي سياسية، وفي المجال الجمالي جمالية. وهذا ما يسمي التحييد، الذي يتصاعد إلى أن يصبح العالم بأسره مجالات محايدة لا يربطها رابط، وتختفي أي معيارية إنسانية عامة..، وتسقط فكرة الحقيقة والحق والخير والجمال والكل (19). والتحييد أمر حتمي حين يغيب مرجع ثابت مطلق وهو حد لدى الجميع (الله سبحانه وتعالى النموذج المعرفي الإسلامي) ولنوضح مسألة التحييد هذه سنورد مثالين: أحدهما في الحياة الخاصة للإنسان والآخر في المجال الاقتصادي..
يتعلق المثال الأول بموضوع الجنس «فعلى سبيل المثال إلى جانب الجنس الغرضي (أن يضاجع الرجل أنثى بهدف المتعة الجنسية المحضة) حيث يصبح النشاط الجنسي هدفاً في حد ذاته، منفصلاً عن أي تركيبة إنسانية، توجد الآن ظاهرة الإحجام عن الإنجاب في المجتمعات العلمانية.. وهذا مرده أن الجنس قد انفصل عن الإنجاب، وتحرر تماماً من مشاعر الحب والألفة المركبة، ولذا قد تمارس الأنثى نشاطاً جنسياً مع رجل، ولكنها تنجب من رجل آخر، ثم تعيش مع ثالث، فكأن النشاطات الثلاثة (الجنس - الإنجاب - الحب) أمور مستقلة تمايزت وظيفيا بحيث أصبح كل نشاط يشير إلى ذاته. ولكن نلاحظ انه مع استقلال النشاطات الإنسانية هذه، أنها تفقد بعدها الباطن وتصبح نشاطات برانية كفئاً، بما في ذلك الحب، الذي يلاحظ أن علاقات الرفقة أو التعايش تتسم بقدر كبير من التعاقدية البرانية والانضباط الشديد، وهي صفات تسم علاقة المرء برئيس المستخدمين لا علاقة المرء بمن يحب»(20).
ولعلّ المثال الثاني - ضمن المجال الاقتصادي - يظهر مسألة (التحييد) بوضوح أكثر: إذا سألت امرأة ربة بيت عن مهنتها، فسيكون جوابها أنها جالسة في البيت، لا تعمل شيئاً، وإذا تجرأت أكثر وطلبت منها بطاقة تعريفها، فلاشك أنك ستجد فيها العبارة: «بدون» وهذا أمر مفهوم؛ فنشاط المرأة داخل البيت لا يمكن قياسه بالمعايير الاقتصادية المادية: عدد ساعات العمل، كمية الإنتاج، انخفاض تكلفة الإنتاج.. وهكذا يصير عملها داخل البيت غير ذا قيمة.. بل وستجد المسكينة نفسها تشعر بالنقص أمام جارتها التي تعمل في معمل لتصبير السردين. لكن إذا نظرنا إلى العمل كنشاط اقتصادي بمعايير أخلاقية وحضارية وإنسانية، فالأمر سيختلف: ألا يعد إنتاج الإنسان أهم وأكثر قيمة من إنتاج السردين؟.
أليست وظيفة التربية أهم بكثير من ترتيب ثلاث سمكات أو أكثر داخل علبة قصديرية بصفة آلية؟ الأمر نفسه يتكرر مع قطاع التعليم. الذي لا تعتبره الدولة قطاعاً منتجاً ما دامت لا تحصل منه على رزم النقود الورقية مباشرة (21).
نكون الآن قد أوضحنا سمات خمساً للفكر العلماني الغربي، نراها محددة لنوع الحوار الذي نريد إنشاءه، وهي: أصالة فلسفة الصراع، ظاهرة التحييد، تشييء الإنسان، الرؤية الخطية للتاريخ عوض دورة الحضارة، فكرة تفوق العرق؛ ويبقى أن نبين كيف أنها مؤثرة فيه.
حوارنا مع الغرب حوار خارجي، وهناك حوار داخلي لا يقل أهمية عن الأول، بل نعتبره محدداً ومعبرا عن مدى قوة موقفنا داخل حوار الحضارات عموماً، وهو الحوار بين مختلف مكونات ما يسمى بالمجتمع المدني وبينها وبين السلطة. غير أن هذا النوع من الحوار يصطدم بعدة معيقات لعل أكبرها مشكل اختلاف المرجعيات، فبدل أن يكون الحوار الداخلي حواراً حول الوسائل ضمن أفق تصوري واحد ليتحقق غاية موحدة، أصبح حواراً حول الوسائل والغايات المتنافرة تبعاً لاختلاف المرجعيات. «وعلى سبيل التمثيل نشير إلى أن التعددية السياسية في إطار الناظم الحزبي وفق المنظور السياسي، تعتبر تشخيصاً لحق الوجود بما يعنيه، من حق الاختلاف وحق الاعتراض وحق المساءلة، وهي من العناوين الصغرى لمفاهيم الحقوق والحريات العامة. بهذه التجريدية في التأويل السياسي لمبدأ التعددية غُيِّبت ظروف وملابسات وخلفيات نشوء الظاهرة الحزبية في التجربة الغربية، واستعير النموذج الحزبي التعددي، ليصبح في السياق الاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي وسيلة تفكيك لبنية الاجتماع السياسي. وآلية داحضة ومقوية للصراع الأيديولوجي، وعامل إنهاك وإضعاف للقدرة على النهوض والتغيير؛ الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في الفلسفة السياسية المؤسسة لثقافة التحزب، حيث حصل الاهتداء إلى التعددية الحزبية. بحسبانها أوعية لضبط وتنظيم التنافس السلمي على السلطة. على أرضية الصراع داخل المرجعية الكلية الواحدة، في حين أنها في المجال العربي والإسلامي، ساهمت في تشتيت القوة الكلية وتشييع الإرادة الجماعية للأمة، على أرضية الصراع بين المرجعيات الكلية المتناقضة»(22).
ونضيف إلى الحوار الداخلين عاملاً آخر من عوامل تقوية موقفنا في الحوار الخارجي، وهو عامل الأخذ بالأسباب والسعي نحو تحقيق توازن القوة، هذا لأن التقدم التقني يعبر من جهة عن الكفاءة والقدرة على الفعل الحضاري كما أن توازن القوة([3]) يخلق شيئاً من الجدية في الحوار واحترام الطرف الآخر والشعور بنديته، خصوصاً عند الحوار مع الطرف الغربي الذي يدين بمنطق القوة من جهة أخرى.
إذا استحضرنا خاصية خطية التاريخ عند الفكر الغربي؛ ونظرته إلى الشعوب الأخرى على أنها بدائية، فلا شك أنه في حواره معنا، سيتعامل وفق أحد منطقين اثنين، فإما أن يكون طيباً فيعمد إلى إشباعنا بقيمه الحضارية بتفان وإخلاص لرسالته التحضيرية وواجبه التمديني، وإما أن يكون شريراً فينظر إلينا على أننا غثاء عائم على مجرى الحضارة والتاريخ، فيعطي لنفسه الحق في استغلالنا وتوظيفنا كأي مادة خام لا قيمة لها ولا احترام. وإذا أضفنا إلى خطية التاريخ، تشييء الإنسان وأصالة فلسفة الصراع ومقولة تفوق العرق فلا شك أننا سنرجح الاحتمال الثاني.
الأصل في الحوار (وفق المنظور الإسلامي) أن يكون بين كل البشر، وذا بعد إنساني هدفه تحقيق الاستخلاف بما هو أفضل طريقة لعمارة الأرض، ما دام تعدد الحضارات مطلباً إنسانياً يحقق التدافع، لكن الواقع يفرض علينا أن يكون الحوار في البداية بين طرفين منفصلين، يفصلهما تسالب مجالي قيمهما، ليصبح بعد ذلك بين طرفين متصلين يتعاليان على مجالات اختلافهما لتحقيق التعارف، وذلك بشرط تجاوز نظرة الاحتقار والتوجس من الآخر ونظرية التصادم الحتمي([4]).
ونحن نستمد تصورنا للحوار من قوله تعالى في سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلنا كم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) آية (13). ومن خلال الآية الكريمة نستنتج أن اختلاف الحضارات وتعددها أمر بديهي وعادي، وأن العلاقة التي يجب أن تسود تلك الحضارات هي علاقة التعارف، (التعارف مرحلة متقدمة وغير محدودة سنوضحها لاحقاً)، وأنه ليس هناك أساس للتفاضل سوى حجم الجهد المبذول في تحقيق العبادة بمعناها الشامل. لكن كيف يمكن أن تكون هناك علاقة تعارف بين حضارتين لا تعترف إحداهما حتى بجدوى الحوار - أيا كان نوعه - مع الأخرى وكذا نديتها؟!
حوار البداية هو حوار وسيط وموصل إلى حوار التعارف؛ والغاية منه أن يحقق شعوراً متبادلاً بالندية لدى المتحاورين وكذا الرغبة المشتركة في التعارف. ولتحديد هذا النوع من الحوار سنركز على بعض أركانه، وهي ثلاثة: المجال، القصد، المنطق، فالحوار الذي يتم الآن تحت اسم حوار الأديان أو المسيحية والإسلام هو حوار في المجال الديني، يديره الغرب بقصد التنصير([5])، بينما يكون قصد المسلمين (بسذاجة) هو حوار الأديان فعلاً، كما أن منطق الطرف الغربي منطق خداعي ما دام اتخذ الحوار مطية للتنصير، وفي المجال السياسي نأخذ كمثال الحوار بين الفلسطينيين والصهاينة؛ فالقصد المعلن (والذي يتبناه المفاوضون الفلسطينيون بسذاجة وببلادة أمام تتابع المؤامرات) هو تحقيق السلام؛ لكن القصد الحقيقي للمستوطنين هو ربح الوقت، وامتصاص الغضب الشعبي، وتحطيم آخر الحصون الفلسطينية؛ الروح المعنوية ووحدة الصف، فالمنطق أيضاً خداعي.. فنتيجة لظاهرة التحييد تعددت وتجزأت مجالات الحوار بشكل كبير، لكن الخطير في الأمر أن يكون الأساس المرجعي للمتحاورين داخلياً؛ فالمحاور في المجال السياسي مثلاً؛ لا يهمه سوى تحقيق التفوق والسبق السياسي دون اكتراث لحقوق الآخرين ومشاعرهم، كما أن حوار الأديان يهدف فقط إلى التنصير ونشر المسيحية، ولو أدى الأمر إلى تشويه الديانات الأخرى، واستغلال بؤس المستهدفين وقساوة ظروفهم الاجتماعية([6]).
فالحوار المطلوب الآن هو ما نسميه حوار البداية، ويجب أن نخوضه بذكاء، وسيمتد هذا الحوار على عدة مجالات.. وقصدنا من هذا الحوار سيكون تحقيق التعايش عملياً وتحقيق الندية، وجلب الرغبة الحقيقية في التعارف، مع الانتباه إلى المنطق الخداعي لدى المحاور الغربي، وقد لا أبالغ إذا طلبت افتراض سوء النية المسبق في كل حوار نقيمه مع الغرب.
فحوار البداية، إذن هو حوار التعايش وإن تعددت مجالاته.. مطلبه العاجل هو العيش في سلام بعيداً عن المؤامرات والخطط التي يجري تمريرها عبر أي حوار تتم الدعوة إليه. أما مطلبه الآجل فهو الوصول إلى حوار التعارف. وللوصول إلى هذه النتيجة لا بأس من نهج منطق خداعي أيضاً، وسميناه خداعياً فقط لأنه يخالف ما هو معلن عنه، إذ يجب استغلال أي حوار لتمرير خطاب بديل، وهو خطاب لابد أن يقدم أجوبة جديدة للأسئلة التي تؤرق بال الإنسان الغربي؛ فتجعله يدرك أن هناك حلاً لمأزقه الوجودي، وهو حل يقدمه ممثلوا تلك الحضارة البدائية المتخلفة، وهنا فقط يتزعزع توازنه المعرفي ليحس بحاجته إلى التعارف معنا، لكن لا ننسى أن ننبه إلى أن حوار التعايش لن يوجد أصلاً إذا كان الإحساس بالندية مفقوداً عندنا نحن أصلاً، نتيجة للانبهار بالغرب نفسياً من جهة، ولمأسورية خطابنا العلمي والمعرفي عملياً من جهة أخرى([7]). ولهذا نؤكد مرة أخرى على أهمية الحوار الداخلي والأخذ بالأسباب.
ففي حوار التعايش يكون المجال واحداً، والقصد يختلف كما أن المنطق يختلف، وإن كان واحداً فلا شك أنه سيكون منطقاً خداعياً.
هذا النوع من الحوار وإن أسميناه حوار النهاية، هو حوار لا نهائي يطبعه السعي نحو الكمال، وإنما سميناه كذلك لأن حوار البداية ينتهي إليه.. إذن حينما ننجح في تجاوز عقدة النقص والانبهار أمام الآخر، وحينما تتحرر أنماط تفكيرنا، وحينما يغير الغرب من نظرته الاحتقارية ويخفف جشعه المادي.. آنذاك فقط يمكن أن تولد الرغبة الحقيقية في التعارف... فالحوار بدايته التعايش، وغايته التعارف وتحديد مواقف مشتركة من الطبيعة والإنسان، وذلك عبر استغلال تقاطعات النماذج المعرفية مما يقتضي دائماً الإيمان بمصداقية وأهلية الرأي الآخر. وحينها سيكون مجال الحوار هو الحضارة، وبعبارة أكثر دقة هو طرائق عمارة الأرض، أما القصد فهو واحد، التعارف، ومن ثم فلا شك أن منطق الحوار سيكون التناصح.
وحوار التعارف ليس ذا حدٍّ نهائي نصل إليه ونقف، وإنما حوار مستمر يسعى نحو الكمال، نحو معرفة أكثر للآخر، نحو الاستفادة من تجاربه.. غير أنه لابد أن ننبه إلى صعوبة الفصل بين الحوارين، أو نقطة الانتقال من حوار البداية (التعايش) نحو حوار النهاية (التعارف)، لأن الحضارات ليست ذواتاً عينية تتحاور فيما بينها، كما أنها لا تختار ممثلين عنها وترسلهم للتحاور باسمها.. إن حوار الحضارات يتم على عدة مستويات وفي مجالات عدة.. فحتى لو وصلنا إلى حوار التعارف على المستوى الرسمي، فنحن نحتاج دوماً إلى حوار التعايش، الذي ينبغي أن يتغلغل في عمق البنيات الاجتماعية ليخلق باستمرار تلك الحاجة إلى حوار التعارف، فمعظم الكتابات التي تتناول حوار الحضارات (حوار التعارف) تتناول التأصيل له ومستوياته وفوائده.. في حين أنه حوار غير موجود أصلاً وغير قابل للوجود بالشروط الحالية.
ويبقى أن نشير - من باب الأمانة العلمية - أن هذا التفسير الثنائي للحوار؛ قد سبقنا إليه أ.د. أبو يعرب المرزوقي في مقال له بعنوان: (مقومات الحوار السوي بين الحضارات وشروطه)، م. المنهاج ع22 / 2001، وإن كانت طريقته في معالجة الموضوع مختلفة عما قدمنا.
رغم تعدد الحضارات وتنوعها فإن هناك خطابين كونيين بارزين، الخطاب الإسلامي والخطاب الغربي. وإذا كان الخطاب الإسلامي يستمد كونيته من عوامل داخلية ذات علاقة بالدين الإسلامي بوصفه دين كل البشر، وبحثّه على قيم العدل والمساواة، وباحتضانه لكل الديانات والعقائد، فإن كونية الخطاب الغربي خارجية وقسرية، لكن كيف ندّعي أنها قسرية وعهد الاستعمار قد ولّى وكل دولة منشغلة بتحقيق التنمية؟! يصرح Christian Maurel: (إذا أرّخنا للمعارك فقد أخفق الاستعمار، ويكفي أن نؤرخ للعقليات لنتبين أننا إزاء أعظم نجاح في كل العصور، إن أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار، لقد انتقل البيض إلى الكواليس، لكنهم لا يزالون مخرجي العرض المسرحي)(23)، فما هي أنساق القوة الجديدة؟ «لقد غربت الشمس منذ وقت طويل على أوروبا العجوز، أصبحت الحروب الصليبية منسية، وشاخت الملحمة الكولونيالية بضربة واحدة من سنوات قمرية عديدة، ولم يعد العالم المسيحي التجاري والصناعي يمتلك أي سر ليسيطر به على العالم، ولم يعد مجد الرجل الأبيض سوى أثر مؤقت من الماضي، ومع ذلك فإن آلة اجتثاث الجذور من أجل اجتثاث جذورها ذاتها (الغرب) خارج مسقط رأسها تظل أكثر شباباً مما كانت في أي وقت مضى، فهي تشكل العالم في تكنوبول (قطب تقني) ضخم، ساحقة كل الشعوب في دواليبها الشرسة، مستأثرة بالنخب، نابذة نفاية الأجساد المستنزفة والمخلوعة الأوصال، والواقع أن الاقتصاد والتقنية هما قلب النسق ولكنهما ليسا بدايته ولا نهايته»(24).
فكيف تتحقق كل هذه السيطرة؟! في كل ثانية تتدفق ملايين الرموز والإشارات والمعلومات والمعايير من دول المركز نحو الأطراف.. والمشكل أن «سوق المعلومات شبه احتكار لأربع وكالات: أسوشيتد برس ويونايتيد برس (الولايات المتحدة)، ورويترز (بريطانيا العظمى)، وفرانس برس (فرنسا) وتشترك في هذه الوكالات كافة إذاعات العالم، كافة شبكات تلفزيون العالم، كافة صحف العالم، ويتدفق 65% من (المعلومات) العالمية من الولايات المتحدة، ومن 30% إلى 70% من البث التلفزيوني مستورد من المركز (...)، وهذا الفيض من المعلومات لا يمكنه إلا أن يشكل رغبات وحاجات المستهلكين، أشكال سلوكهم، عقلياتهم، منهاج تعليمهم، أنماط حياتهم، وتعد هذه الدعاية الخبيثة (هبة) لا تقاوم تشهد على الحيوية الطاغية للمجتمعات العالية التطور، لكنها تخنق كل إبداع ثقافي لدى الأسرى السلبيين للرسائل»(25).
وهذا هو جوهر كونية الخطاب الغربي؛ فهو خطاب عالمي بنجاح، شرط محو الثقافات الأخرى، وكما يقول سيرج لاتوش: «..فالمشروع الحضاري للحداثة ليست له ذات خاصة به ولا قاعدة إقليمية محددة تحديداً صارماً، على أنه حتى في ذلك لن يكون هذا المجتمع متخلفاً كثيراً عن (حركات) عالمية كالإسلام، والواقع أن ما يميز هذه العالمية هو أن قوتها المحركة هي المنافسة بين الأفراد والسعي وراء الأداء. ويمكن للعالم بأسره أن يشارك في ذلك وأن يلعب فيه دوراً؛ وحتى إذا كانت الفرص غير متساوية للغاية فإن الفوز ليس مستبعداً. ذلك أن الكل الاجتماعي قابل للعمل بوصفه سوقاً، وبذلك يمكن (للمتوحش) من أقاصي المعمورة أن يصبح رقم واحد الإعلامي عندما يفوز في الماراثون في الألعاب الأولمبية.. فالغرب إذن محرر من حيث أنه يحرر من الكثير جداً من كوابح المجتمع التقليدي ويفتح لا نهاية من الممكنات؛ غير أن هذا التحرير وهذه الممكنات لن تحقق إلا لأقلية تافهة، وفي المقابل، سيجري تدمير التضامن والأمن بالنسبة للجميع»(26).
ففي حوارنا مع الغرب، إذا جلسنا ننتظر منه أن يصمت لنأخذ دورنا في الكلام، فلن نتحدث أبداً.. ربما يجب أن نرفع صوتنا عالياً جداً لنجبره على الصمت والاستماع، ليصير الأمر أشبه بسوق شعبي يُزايد كل واحد على بضاعته، ويتغزل بمحاسنها بصوته المرتفع، عساه يحجب دعاية منافسه، لكن الأمر يصبح في هذه الحالة حواراً أحادي الاتجاه، وحينها هل يصح أن نسميه حواراً؟ لكن ربما يعد هذا الأمر بدايةً لحوار البداية!.
(1) عبد الوهاب المسيري، اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية، مجلة إسلامية المعرفة السنة الثالثة ع10.
2- Rene Bureau, Le peril blanc, Propos d'un ethmologue sun l'ocident نقلاً عن Serge Latouche، تغريب العالم: بحث حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، ترجمة: خليل كلفت، مطبعة النجاح الجديدة ط2/ البيضاء 1999.
3- غريغوار منصور مرشو، مقدمات الاستتباع: الشرق موجود بغيره لا بذاته، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي (18)، ط1/ 1416هـ/1996م).
4- إدوارد سعيد: الغرب خلف الشرق، نقلاً عن مقدمات الاستتباع.. مرجع مذكور ص91.
5- مذكور في كتاب ليون بولياكوف، (الأسطورة الآرية) نقلاً عن (مقدمات الاستتباع) مرجع مذكور ص94.
6- E.Renan: L'histoine Generale نقلاً عن نفس المصدر ص96.
7- الأسطورة الآرية: نقلاً عن نفس المصدر ص94.
8- Robert Knaox, the Races of Man نقلاً عن نفس المصدر ص101.
9- مرجع سابق ص101.
10- د. نصر محمد عارف، الحضارة - الثقافة - المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، س. المفاهيم والمصطلحات (1)، ط1/ 1994م ص40.
11- نفس المصدر ص40.
12- Hegel, Primcipes de la philosophire du droit، مذكور في مقدمات الاستتباع ص80.
13- مذكور في نفس المصدر ص83.
14- روبرت نيسبيت، نقلاً عن تغريب العالم، مرجع سابق ص90.
15- أورده: Jack London، نقلاً عن نفس المصدر ص4.
16- عبد الوهاب المسيري؛ العلمانية.. رؤية معرفية: الإنسان ع10، السنة الثانية، إبريل 1993 ص52.
17- نفس المصدر ص53.
18- هشام المكي؛ تأملات في المجتمع المدني: دعوة إلى تحرير المعرفة، بحث في سبيله إلى النشر.
19- اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية؛ مرجع مذكور ص94.
20- العلمانية.. رؤية معرفية: مرجع مذكور ص58.
21- تأملات في المجتمع المدني، مرجع مذكور.
22- ميمون نكاز: ملاحظات حول فكر ومشاريع النهوض، مجلة المنعطف، عدد 18/19، سنة 2001، ص131.
23- نقلاً عن تغريب العالم: مرجع مذكور ص5.
24- نفس المصدر ص59.
25- نفس المصدر ص27.
26- نفس المصدر ص53.
--------------------------------------------------------------------------------
* بغرابة شديدة تم استثناء اليهود من تلك النعوت، بدعوى أن إسرائيل هي الوحيدة من بين شعوب الشرق التي تملك امتياز الكتابة للعالم بأسره، كما أن اللغة العبرية تتناسب مع التعبير النبوي والتأليه! فاليهود قد اضطلعوا برسالة الدين.
([1]) نستعمل مصطلح الترشيد هنا بالمعنى الذي جاء به فيبر، أي تحويل العالم إلى حالة المصنع.
([2]) لمزيد من التفصيل، انظر: تغريب العالم: يحث حول دلالة ومغزى وحدوية تنميط العالم، سيبرج لاتوش، ترجمة خليل كلفتن مطبعة النجاح الجديدة ط2 1999. وانظر كذلك المتلاعبون بالعقول، تأليف Herbert Schiller ، ترجمة: عبد السلام رضوان من عالم المعرفة: ع 243، مارس 1999م.
([3]) يجب أن نفرق بين توازن القوة وتوازن الرعب؛ فالجانب الفلسطيني استطاع - مثلاً أن يحقق توازن الرعب بفضل العمليات الاستشهادية، لكن ميزان القوة مختل بشكل كبير أمام القوة الإسرائيلية.
([4]) نظرية التصادم تبرز بوضوح أكثر في المجتمع الأمريكي: فبعد سقوط المعسكر الشرقي أصبح العدو الآن هو الإسلام، وهذا الأمر حيوي لصناع القرار في الولايات المتحدة، إذ يتيح من جهة تأليف وتوحيد المجتمع المادي الخالي من أية قيمة غائية وكذا شحذ طاقته وتوجيهها؛ ومن جهة ثانية يبرر نمط الإنفاق في مجال التسلح وفي أي مجال يختاره أصحاب القرار حيث يبقون بعيدين عن المساءلة في غمرة الأحداث.
([5]) لمزيد من التفصيل انظر: عبد المجيد الصغير: التباس مفاهيم إعلامنا في عصر العولمة؛ مجلة المنعطف/ مجلة فكرية ثقافية فصلية العدد 20 السنة 1423 - 2002.
([6]) انظر: على سبيل المثال كيف توظف الحياة الشخصية للمنافسين في الحملات الانتخابية الأمريكية، ولعل ابلغ مثال هو جلسات المحاكمات الأمريكية، حيث يكون الحكم لصالح من ينجح أكثر في التأثير على هيئة المحلفين واستمالتهم إلى موقفه باعتماد (خدع) سيكولوجية بالغة التأثير تتيح تزييف الحقائق وتشويهها.
([7]) للأسف الشديد أصبحنا لا نستطيع أن نعبر عن ذواتنا إلا من خلال الآخر. وهذه المأسورية تغلغلت حتى في حياتنا اليومية. وفي عمق خطابنا العلمي. انظر مثلاً: د. عبد الوهاب المسيري، إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة إلى الاجتهاد من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي.