قد لا يكون مجافياً للحقيقة القول أن المؤسسية فكراً وممارسة، تاريخاً وحاضراً، حقيقة وتصوراً هي من أهم الإشكاليات السياسية عند المسلمين منذ ظهور كيانهم السياسي حتى اليوم؛ فالثراء الفكري في مختلف جوانب الحياة المجتمعية لا يشتمل في إطاره على فكر مؤسسي يتناسب معه، والتجربة التاريخية المتميزة لصيرورة الأمة عبر تاريخها لم تقدم لنا نضجاً مؤسسياً يكون جديراً بها. وهنا يثور سؤال محوري مؤداه أن هذه الأطروحة التي تصدرت هذا البحث تحتوي على قدر غير قليل من التناقض الداخلي. أليس الازدهار الحضاري سواء أكان فكرياً أو مجتمعياً أو سياسياً أمراً لا ينفك عن آليات ودوافع وقوى تحمله وتنهض به وتدفعه إلى الأمام؟ أليست النهضة الحضارية لأية أمة من الأمم هي نتاج عمل جماعي يتم إنجازه من خلال شبكات معقدة من العلاقات؟ وأليست المؤسسية هي في جوهرها المعرفي شبكات علاقات مستقرة، وفعالة، ومنسجمة؟ وهل شهد التاريخ أمة تنهض بنفس الصورة التي نهض بها الإسلام دون أن يكون هذا النهوض مؤسساً على منظومة فعالة من المؤسسات؟
وهنا أجدني مضطراً لإعادة صياغة أطروحة هذا البحث وذلك من خلال الانطلاق من تفرقة دقيقة بين الحقيقة التاريخية وبين إدراك هذه الحقيقة، أو بين ما حدث في التاريخ الإسلامي وبين ما وصلنا منه أو ما بحثنا عنه فيه. فلا يوجد باحث منصف يستطيع القول أن الباحثين المعاصرين قد استطاعوا رسم صورة كاملة للتاريخ الإسلامي ولحضارته وفعالياته الاجتماعية والمؤسسية، بل على العكس قد تم التركيز على أبعاد دون أخرى وتم تضخيم أجزاء على حساب أخرى؛ حتى بدت الصورة مشوهة أشد ما يكون التشوه، فقد تم على سبيل المثال تضخيم البعد الفقهي على البعد التطبيقي، وضخمت الدولة على حساب المجتمع، وضخم النشاط العسكري على حسب النشاط الحضاري، وبولغ في دور النخبة على حساب دور الجماهير، وتم التركيز على السياسة على حساب الاقتصاد والاجتماع، وأعطي الفرد دوراً محورياً على حساب دور المؤسسة والمجتمع والجماعة، وتم التركيز على الأحداث ونتائجها وليس على عملية صناعتها ومقدماتها..الخ.
وانطلاقاً من تلك الوضعية يكون من أكثر ضروريات البحث العلمي في هذا المجال البدء بمجموعة من المقدمات التي تشكل في جوهرها السياق المعرفي الذي سينطلق منه هذا البحث وعليه يتأسس وبضوابطه تتحدد مقولاته وخطواته ومن ثم نتائجه. وهذه المقدمات يمكن إجمالها في التالي:
1- إن التراث الإسلامي في مجمله والسياسي منه بصفة خاصة لم يتم الاقتراب منه ومعرفته بصورة منظمة وعلمية؛ إذ أن ما تمت معرفته ونشره وذيوعه قد حددته عوامل غير علمية سواء أكانت اهتمامات المحققين أم تفضيلات الناشرين أم الانحيازات المذهبية والعقائدية لجمهور القارئين. وفي كل الأحوال تم اكتشاف أجزاء من هذا التراث وتم تجاهل أجزاء أخرى في نفس الوقت([1]). لذلك لا نستطيع الوصول إلى تعميمات علمية ذات مصداقية حول التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية بما فيها من أبعاد مؤسسية وإدارية وتنظيمية. ومن هنا سوف تكون دراستنا محدودة في تعميماتها بحدود المصادر التي تم الاعتماد عليها والمعلومات التي احتوتها هذه المصادر.
2- طغيان الفقه على الواقع: حيث تم تقديم التجربة التاريخية الإسلامية على أنها تجربة فقهية قانونية أكثر من كونها حركة مجتمعية. وعلى الرغم من أن الفقه هو إطار قانوني يتفاعل مع الواقع ويستجيب له إلا أن هذه الحجة لا تبرر غياب أو تضاؤل الكتابات التي تتناول الوقف كتجربة واقعية وكحركة مجتمعية وكمؤسسات غطت معظم - إن لم يكن كل -جوانب الحياة في المجتمعات الإسلامية على مر التاريخ، وطغيان المؤلفات التي تقنن الوقف وتتعامل مع أبعاده النظرية والفقهية. وإلقاء نظرة على المكتبة العربية نجد أنها تكاد تخلو من مؤلفات تراثية أو معاصرة تعالج الوقف في حركته المجتمعية، بينما تتعدد الكتابات التي تتناول الوقف كموضوع فقهي قانوني. ففيما عدا دراستي د. محمد محمد أمين، ود. إبراهيم البيومي غانم([2]) لا نكاد نجد في هذا المجال دراسات تقترب من الوقف كحركة مؤسسية اجتماعية في المجتمعات الإسلامية.
وبإجراء مقارنة بين الدراسات العربية المعاصرة حول الوقف والدراسات الإنجليزية نجد أنه خلال القرن العشرين لم تخرج الدراسات الوقفية باللغة العربية عن حيز الفقه والقانون فيما عدا دراستي د. أمين ود. غانم السالف الإشارة إليهما، واللذان يقدم الأول دراسة معمقة للصيرورة المجتمعية للوقف في العصر المملوكي تسمح برسم صورة لكيفية حركة الوقف وإدارته في تلك الفترة، بينما يتناول الثاني العلاقة بين الوقف ومجمل الحركة السياسية على مستوى الدولة والمجتمع في مصر منذ محمد علي حتى اليوم، حيث تخطو هذه الدراسة خطوة بل خطوات للأمام في منهجية دراسة الوقف في الأدبيات العربية.
فمنذ أن بدأ الجدل الفكري يدور حول جدوى الوقف، وأهميته، وإشكالاته، وكيفية تنظيمه و تفعيله، أو التخلص منه وإلغاؤه - خصوصاً في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى اليومٍ - وهناك استلاب فقهي وقانوني لموضوع الوقف. ومنذ أن نشر محمد قدري باشا كتابه (قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف) عام 1894م([3]) مروراً بإسهامات عزيز بك خانكي في كتابيه (رسائل في الوقف) المنشور عام 1907م و(قضايا المحاكم مسائل الأوقاف) المنشور عام 1908م([4]) حتى إسهامات الشيخ محمد بخيت المطيعي في رده على وزير الأوقاف عام 1927م([5]) ثم الشيخ محمد أبو زهرة ومناقشته لقانون تنظيم الوقف عام 1943م([6])، وانتهاء بدراسة محمد سلام مدكور حول الوقف من الناحية الفقهية والتطبيقية المنشورة 1957م([7]) وهناك تقليد بحثي تم تأسيسه يقوم على أن الوقف موضوع فقهي قانوني ليس لدارسي الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة كبير اهتمام به، بل قد يتعالى في كثير من الأحيان عن الدخول فيه على أساس أنه مؤسسة دينية قانونية تم وصمها بالتخلف والفساد. ولذلك فإن تحليل الأدبيات المعاصرة حول الوقف يعطي دلالة شبه مؤكدة على أن هذه المؤسسة تنتمي إلى التاريخ زماناً، وإلى الفقه والقانون مجالاً وموضوعاً، وإلى الفساد الإداري والمالي منهجاً وسلوكاً كما رسخت ذلك السينما والمسرح في الوعي الجمعي للمجتمع.
أما الأدبيات الإنجليزية في موضوع الوقف فإنها تنحو منحى آخر، إذ تركز بصورة أساسية على التجربة المجتمعية للوقف سواء في بعدها التاريخي أو المعاصر، حيث يتراجع الاهتمام بصورة ملحوظة بالأبعاد الفقهية والقانونية للوقف مقارنة بالاهتمام بالحركة الواقعية للمؤسسات الوقفية وآلياتها والمؤثرات الاجتماعية والسياسية عليها. ومن خلال مراجعة أهم تلك الأدبيات خلصت هذه الدراسة إلى أنها غطت مجموعة من الجوانب المجتمعية للوقف، أولها: جدلية العلاقة بين الوقف والحكام والمجتمع([8])، وثانيها: الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للوقف([9])، وثالثها: العلاقة بين الوقف والعمارة وتخطيط المدن([10])، ورابعها: أثر نظم الوقف الإسلامي على نشأة وتطور المؤسسات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني في الدول الغربية خصوصاً الإنجلوسكسونية([11])، وخامسها: حالة الوقف في ظل الاحتلال الأجنبي وتأثير إدارة الاحتلال على الوقف([12]).
ومن خلال مطالعة هذه الجوانب التي مثلت طريقة اهتمام الأدبيات الأجنبية بقضية الوقف، يتضح مدى الفارق بين الرؤية القانونية للوقف التي سيطرت على معظم الأدبيات العربية، والرؤية السياسية والاجتماعية التي عكستها معظم الأدبيات الإنجليزية. وهنا تتضح مدى صعوبة دراسة الإشكاليات المؤسسية للوقف في الواقع العربي نظراً لأنه لم يترسخ بعد تقليد علمي يتناول الوقف كظاهرة اجتماعية، اقتصادية، سياسية.
3- طغيان الاقتراب المثالي على التحليل الواقعي لتطور تاريخ الوقف كمؤسسة اجتماعية: إذ عادة ما يتم تناول الأوقاف في سياق افتخاري بإنجازات الحضارة الإسلامية وذلك في صورة تعداد لتنوع هذه الأوقاف واتساعها واهتماماتها بقضايا ذات طبيعة إنسانية أو خيرية. ولم يتم التركيز بصورة كافية على تحليل تلك المؤسسة وما نتج عنها من نظم ومؤسسات فرعية تحليلاً واقعياً يركز بصورة أساسية على تطورها التاريخي والقوى الاجتماعية التي شكلتها أو أثرت فيها وآلياتها الاجتماعية، وقد لا يعدو الوقف حالة خاصة في هذا السياق، إذ أن مجمل الدراسات التي تناولت التاريخ الإسلامي ركزت على ظواهر معينة وأهملت أخرى، وكان من أهم ما تم إهماله المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي أنشأها المجتمع وطورها وحافظ عليها. بحيث يمكن القول دون تجاوز أن التاريخ الإسلامي تم تقديمه على أنه تاريخ دول وليس تاريخ مجتمعات.
4- انشغال الخطاب الإسلامي بالإجابة على كل الأسئلة المتعلقة بالتراث والتاريخ ما عدا السؤال كيف؟ إذ أن البحث الإسلامي المعاصر قد انشغل لفترة طويلة ولم يزل بالاهتمام بما حدث؟ ولماذا؟ وأين؟ ومتى؟ ومن؟ ولكن السؤال عن الكيفية أي كيف حدث ما حدث لم يستحوذ على اهتمام يذكر. ومن ثم تراجع الاهتمام بالمؤسسات ودراساتها والنظم الاجتماعية وفعالياتها والأساليب الإدارية وتعقيداتها المختلفة. وغني عن البيان التأكيد على أن الوقف في مجمله ينضوي في إطار سؤال الكيفية، لأنه بطبيعته فعالية اجتماعية ذات طبيعة دينامية تتعاطى مع المجتمع في تطوره وصيرورته، ومع مشكلاته المتعددة، ومن ثم فإن دراسة الأبعاد المؤسسية والإدارية للوقف لم تزل حقلاً خصباً لم تضرب فيه الأقلام بعد. وهذا يجعل من دراسته مسألة تحوطها العديد من الصعوبات والمحاذير.
وبعد تقديم هذه المقدمات يمكن للباحث أن يقترب من مناقشة الجوانب المؤسسية والإدارية للوقف في منظمة هي القلب من العالم الإسلامي، إذ فيها تلاقحت كل التجارب والثقافات والمذاهب والمدارس الإسلامية. ومن ثم كانت وبحق، حالة نموذجية تلخص مجمل التجربة الإسلامية، خصوصاً وأن حدودها التاريخية تختلف كثيراً عن حدودها الجغرافية المعاصرة بما يعرف اليوم بوادي النيل أو مصر بصفة خاصة، فقد كان هذا الإقليم يشمل في إطاره - تاريخياً - الحجاز والشام.
وفي السياق التالي نعالج موضوع هذه الدراسة في المحاور الآتية:
أولاً: الدولة والمجتمع، طبيعة العلاقة وموقع ودور الوقف
لعله قد لا تكون هناك طريقة للاقتراب من موضوع الوقف وإشكالياته أفضل من مقاربته من زاوية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وذلك أن الوقف تحرك أو تم تحريكه على مختلف نقاط محور هذه العلاقة بحيث اقترب في معظم الفترات مركز ثقله من المجتمع على حساب الدولة، وفي فترات أخرى جرت محاولات لتحويله إلى قيمة مضافة إلى قوة الدولة على حساب المجتمع.
وفي كل الأحوال كان الوقف واحداً من القوى ذات الوزن الثقيل التي تحكم طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة، أو تكون موضعاً للصراع بينهما، وسوف يتم تناول هذه الإشكالية تحليلاً وتفسيراً في النقاط التالية:
1- في أنماط العلاقة بين المجتمع والدولة
مثل بروز الاهتمام بالعلاقة بين المجتمع والدولة - كواحد من أهم اقترابات التحليل السياسي - بداية تحول في دراسة النظم السياسية وقضاياها الكبرى، إذ ارتبط هذا الاقتراب بنهاية المرحلة السلوكية في علم السياسة وبداية مرحلة ما بعد السلوكية. وعلى الرغم من حداثة هذا الاقتراب سواء في ظهوره أو توظيفه إلا أنه في جوهره يعكس حقيقة الظاهرة السياسية عبر العصور.
حيث أن هناك من موضوعات علم السياسة، ما لا نستطيع دراستها إلا من خلال هذا الاقتراب وبالاعتماد عليه. بل إن هناك من التجارب السياسية الممتدة عبر التاريخ ما لا يمكن فهمها إلا إذا نظرنا إليها من زاوية العلاقة بين المجتمع والدولة. وزيادة على ذلك يمكن الادعاء بأن موضوع الوقف في جملته لا يستطيع الباحث فك شفرته، ومعرفة رموزه، واختراق جملة الحجب التي أحاطت به إلا إذا تعاملنا معه على أنه طرف أساسي في العلاقة بين المجتمع والدولة.
وقد ارتبط ظهور هذه النظرية باسم Joel Migdal ([13]) الذي رأى أن الدولة والمجتمع يتصارعان عبر التاريخ على السيطرة على سلوكيات الأفراد وتحديد معاييرها والتحكم فيها، وأنهما يتصارعان أيضاً على التحكم في المؤسسات والأنظمة الاجتماعية، بل ومجمل شبكة العلاقات الاجتماعية بحيث أن كلاً منهما يسعى لأن تكون له اليد العليا في ذلك، أو أن يحتل موقع المرجعية، ويحتكر الشرعية. وفي ظل هذا الصراع بين الدولة والمجتمع وجدت أربعة أنماط بين الدول والمجتمعات، أولها: نمط الدولة القوية والمجتمع القوي. وثانيها: نمط الدولة القوية والمجتمع الضعيف، وثالثها: نمط الدولة الضعيفة والمجتمع القوي، ورابعها: نمط الدولة الضعيفة والمجتمع الضعيف. وهذه الأنماط في مجملها أنماط أو نماذج مثالية قد لا تتحقق في الواقع، ولكن تقترب مختلف النظم السياسية التاريخية أو المعاصرة من أحد هذه الأنماط بصورة تدرجها فيه ولا تجعلها متطابقة معه.
2- الدولة والمجتمع في النموذج الإسلامي في الحكم
إذا نظرنا إلى التجربة السياسية للمسلمين على مر التاريخ نجد أنها تقترب بدرجة قد تصل إلى حد التطابق من نموذج الدولة الضعيفة والمجتمع القوي. وذلك لأن طبيعة مفهوم السياسة في الإسلام تجعل من الدولة راعية للمصلحة العامة في حدود قد لا تتقاطع مع حياة الأفراد إلا في نقاط محدودة على فترات زمنية متباعدة؛ وفي نفس الوقت نجد أن مركز الثقل الحضاري يقع في يد المجتمع الذي أبدع فكرة الوقف ونماها ونشرها لتحافظ على قوته واستقلاله واستمراريته بغض النظر عن حالة الدولة من القوة والضعف، أو من العدل والظلم أو من الفعالية والفساد.
ويمكن إثبات صحة هذه الأطروحة أي فرضية ضعف الدولة وقوة المجتمع من خلال الحقائق التاريخية والنظرية التالية: أولها: إن الدولة لم تمتلك في تاريخها مصادر قوة المجتمع الأساسية فلم تكن هي الزارع أو الصانع أو التاجر، أي أنها لم تكن تملك ما يعرف اليوم (بالقطاع العام)، بحيث تركت جميع الأنشطة الاقتصادية على تعددها للألإراد وتفاعلاتهم، ومن ثم اقتصرت وظائف الدولة على أربع هي: الدفاع الخارجي، والأمن الداخلي، والقضاء أو فض المنازعات، والرقابة على الأنشطة التجارية والاقتصادية، ولذلك كان هناك ديوان للجند وآخر للإنشاء أو السياسة الخارجية، وثالث للخراج، ورابع للقضاء وخامس للحسبة.. إلى آخر ما هنالك من خدمات عامة أو رقابية، ولكن لم يكن هناك ديوان للزراعة أو الصناعة أو التجارة، وثانيها: إن الدولة والمجتمع في التجربة السياسية للمسلمين كان لهما مساران تاريخيان مختلفان؛ فقوة الدولة قد لا تعني قوة المجتمع والعكس بالعكس. ولعل التأمل في تجربة المغول مع العالم الإسلامي، وتجربة العثمانيين مع مصر يقدم دليلاً على ذلك. فلأول مرة في التاريخ تتم هزيمة الدولة إلى حد زوالها وتدمير رموزها وعاصمتها، ثم يستطيع المجتمع هزيمة من هزم الدولة، إذ أن قوة المغول التي كسحت الدول الإسلامية في الشرق حتى قضت على عاصمة الخلافة، قد استطاع المجتمع أن يهزمها ثقافياً وحضارياً ودينياً، وأن يحول المغول قاطبة إلى الإسلام، ويجعل منهم إضافة نوعية ومتميزة للأمة الإسلامية. كذلك فإن الجيش العثماني الذي هزم دولة المماليك وجد نفسه مهزوماً أمام التقدم الحضاري للمجتمع المصري الذي لم يتطابق خط تطوره وتقدمه ونهوضه مع دولة المماليك. فقد انحنت رؤوس الفاتحين العثمانيين أمام عبقرية المجتمع وخبرته حتى وجدت نفسها في حاجة إلى استعارة هذه الخبرة لبناء عاصمة الخلافة العثمانية. ولا يمكن اعتبار وجود الخبراء والفنيين إلا نتاجاً لقوة المجتمع ومؤسساته وشبكة علاقاته. وثالثها: إن الدول الإسلامية المتعددة لم تستطع أن تحول مجتمعاتها إلى مذاهبها الفقهية أو الاعتقادية؛ فالفاطميون لم يستطيعوا تحويل مصر إلى دولة شيعية، والعثمانيون لم يستطيعوا فرض المذهب الحنفي، فقد ظل انتشار المذاهب الفقهية والمدارس الاعتقادية خاضعاً لتفاعلات في المجتمع واختياراته.
3- موقع الوقف في العلاقة بين الدول والمجتمع في النموذج الإسلامي للحكم
قد لا يكون من قبيل المبالغة التأكيد أن الوقف كان هو المصدر الأساسي لقوة المجتمع، فبدون وجود فكرة الوقف وما نتج عنه من مؤسسات لم يكن متخيلاً أن يكون المجتمع المسلم بهذه الدرجة من القوة أمام الدولة. فقد مثل الوقف مصدر الاستقلال المالي المتجدد اللامتناهي لمجمل الفعاليات الحضارية، والخدمات الاجتماعية والإنسانية في المجتمع، ولعل تأسيس الوقف من الناحية المعرفية على فكرة (فروض الكفاية) جعل من هذه المؤسسة مصدر الفعالية والتجدد والتنوع في المجتمع، وجعل منها أيضاً التحقق الواقعي لمجمل مقاصد الدين الإسلامي، وذلك لأن (فروض الكفاية) كما يقول الإمام السيوطي هي «...أمور تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فطلب الشارع تحصيلها دون أن يكلف أحداً بعينه خلاف فرض العين، وإذا ما قام بها من فيه كفاية سقط عن الباقين، ولكل فرض إذا تعطل إثم على من قدر عليه إن علم به، وكذا إن لم يعلم إذا كان قريباً منه يليق به البحث والمراقبة، ويختلف بكبر البلد، وقد ينتهي خبره إلى سائر البلاد فيجب عليهم»([14]).
وقد عدد السيوطي فروض الكفاية حيث بدأها من الجهاد حتى وصل إلى الحرف والصنائع والمهن الصغيرة اللازمة لاستمرار المجتمع وازدهاره. وانطلاقاً من قاعدة فرض الكفاية نشأ الوقف لرفع الحرج والإثم عن الأمة، فامتد من الجهاد وتجهيز الجيوش حتى وصل إلى مساقي الكلاب ومزارع الخيول المتقاعدة.
وتأسيساً على هذا كان الوقف هو الإجابة العملية للمجتمع على جميع الإشكاليات والحاجات والمستجدات التي تطرأ على حياته وتواجه تطوره وحركته التاريخية، ومن هنا نشأت إشكالية الوقف التاريخية التي جعلته قوة تعظم دور المجتمع ولو على حساب الدولة، وفي نفس الوقت جعلته هدفاً تسعى الدولة لامتلاكه ووضع اليد عليه أو تقليصه والقضاء عليه.
فكون الوقف كفكرة منطلقاً من فروض الكفاية وساعياً للإجابة عليها، وكونه كمؤسسة منحازاً بطبيعته للمجتمع لأن من ينشئه هم أفراد المجتمع؛ حتى أن الحاكم عندما يؤسس وقفاً فهو يؤسسه بصفته الفردية وليس بصفته السياسية. كل هذا جعل الوقف هو أداة المجتمع ووسيلته لتحقيق فروض الكفاية ورفع الحرج عن الأمة، وهذا يعني أنه مصدر لقوة المجتمع في مواجهة الدولة بصورة تجعل المجتمع بصفة دائمة أقوى من الدولة.
هذه الحالة النظرية والواقعية ولدت نوعاً جديداً من الصراع بين المجتمع والدولة تمثل في حالة دائمة من تمدد المجتمع لملء فراغات الدولة عندما تضعف. ففي مختلف الفترات التاريخية يلاحظ أنه بصورة دائمة هناك تمدد لقوة المجتمع على حساب الدولة ليحتل مواقعها ويقوم بوظائفها، ويكفي الإشارة إلى أنه كانت هناك أوقاف لبناء ثغور وتجييشها، وإعدادها لمقاومة الأعداء الخارجيين([15])، على الرغم من أن هذه هي الوظيفة الأساسية للدولة في النموذج الإسلامي للحكم، كذلك كانت هناك أوقاف لتحقيق الأمن الداخلي في صورة شرطة أو بوليس، وأيضاً كانت هناك أوقاف لتأسيس وتسيير منارات السفن وإرشادها، وهذه جميعها من جوهر وظيفة الدولة. ولكن المجتمع تدخل للقيام بها بصورة تلقائية عندما شعر أن الدولة في حالة عجز وتراجع أو تقصير عن القيام بها.
ولذلك فإنه عندما تشتد قوة الدولة فإن أول ما تسعى إليه هو وضع اليد على الوقف أو تقليصه أو ضمه إليها أو إدراجه في جهازها البيروقراطي؛ لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة أمامها لاستعادة دورها وهيبتها وتحقيق تغلغلها المطلوب في المجتمع وسيطرتها على أطرافه، بغية التحكم فيه لضمان استقرار الحكم واستمراره بغض النظر عن شرعية هذا الحكم وفعاليته. ولعل تجربة محمد علي باشا مع الوقف مثال جيد على ذلك، وهناك تجارب أخرى وإن كانت أقل في المدة سواء في العصر الفاطمي أو العصر المملوكي تعكس إلى حد بعيد صحة هذه الفرضية.
ومن ناحية أخرى فإن اعتبار ملك المغرب وزارة الأوقاف وزارة سيادية - لأنه على الأوقاف أسس مفهوم المخزن الذي يجعل الدولة هي دائماً المتحكم الأقوى في المجتمع - لهو دليل شديد الوضوح على طبيعة هذه العلاقة بين الدولة والمجتمع، تلك العلاقة التي اتصفت في معظمها بالصراع للسيطرة على الوقف خصوصاً من جانب الدولة.
ثانياً: الوقف والأوقاف، المؤسَّسة المؤسِّسة والمؤسَّسات المؤسَّسة
اعتاد الباحثون في علم السياسة الإسلامي التفرقة بين نوعين من المؤسسات، أولاهما أطلق عليها مؤسَّسات التأسيس، أي تلك المؤسَّسات التي يناط بها تأسيس مؤسَّسات أخرى وإنشاؤها، وقد اعتبرت مؤسَّسات: أهل الحل والعقد، وأهل الشورى من المؤسسات المؤسِّسة([16])، وذلك لأنها تتولى عملية تأسيس باقي مؤسَّسات النظام السياسي من خلافة ووزارة وغيرها.
وقياساً على هذه التفرقة بين مؤسَّسات التأسيس وما تقوم ببنائه من مؤسَّسات، يمكن مقاربة الوقف من نفس الزاوية وبنفس المنهجية، حيث نجد أن الوقف - كعملية قانونية مؤسسية اجتماعية يتم بموجبها تحويل ملكية خاصة إلى مصدر دائم لتمويل مؤسسة أو مؤسسات عامة - يمثل في حد ذاته مؤسَّسة مؤسِّسة لمؤسَّسات أخرى متعددة تغطي مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والخدمية..الخ.
وهنا يجب التفرقة بين الوقف كصيغة فقهية وعملية قانونية يتم بموجبها حبس الأصل وتسبيل الثمر، وبين الأوقاف أي تلك المؤسسات التي تقوم على ذلك الثمر المسبل. وبعبارة أخرى فإن لكل وقف أوقافاً تنهض عليه وتستفيد من عوائده. كأن يوقف شخص بستاناً على دار للأيتام، فيكون البستان هو الوقف وتكون دار الأيتام أحد الأوقاف، ومن ثم فإن دراسة الوقف تستلزم دراسة الأبعاد القانونية والفقهية لعملية الحبس ذاتها حتى تكون مؤبدة التحبيس خارجة عن ملكية الأفراد لا يجوز التصرف فيها أو تغيير الجهات التي أوقفت عليها، أما دراسة الأوقاف فتكون دراسة اجتماعية سياسية مؤسسية لتلك الفعاليات والوظائف الاجتماعية التي أنشئت على هذا الوقف. ومن هنا فإنهما موضوعان متمايزان انشغل الفكر العربي بالوقف باستثناء دراستي د. أمين ود. غانم([17])، بينما ركز الفكر الغربي على الأوقاف كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وهنا نجد أن التفرقة بين الوقف كمؤسَّسة مؤسِّسة والأوقاف كمؤسَّسة مؤسَّسة تسهم في إعادة تعريف الإشكالية وإعادة صياغة الأسئلة المتعلقة بها، فأوجه القصور التاريخية في هذا الشأن تعلقت في معظمها بالأوقاف وليس بالوقف، حيث أن الوقف كفكرة وكصيغة فقهية ومنظومة قانونية قدم قاعدة تمويلية غاية في الثراء لتفعيل المجتمع من ناحية، ومواجهة متطلباته من ناحية أخرى. أما الفساد وسوء الإدارة والإهدار وتعطيل موارد المجتمع الاقتصادية فيعود إلى أسباب تتعلق في مجملها بإدارة الأوقاف وليس بالوقف ذاته، ففيما عدا الإشكاليات التي نتجت عن سوء استخدام شرط (الاستبدال) كأحد الشروط العشرة للوقف، فإنه نادراً ما نجد إشكاليات تاريخية تتعلق بالوقف، وإنما نجد أن مجمل المشاكل ارتبط بالأوقاف؛ كالفساد المرتبط بتوزيع العوائد، أو عدم القيام بالوظائف المرتبطة بالمؤسسة المعنية، أو إهدار مواردها والاستيلاء عليها... الخ.
كل ذلك يثبت أن الوقف كمؤسسة مؤسِّسة فكرة تتجاوز التاريخ وحدود خصوصيات الزمان والمكان، أما الأشكال المؤسسية والإدارية التي ارتبطت بالأوقاف كمؤسسات مؤسَّسة، أي مؤسسات أنشأها الوقف فإنها تجارب اجتماعية محدودة بحدود الزمان والمكان وخصوصية الإنسان. ومن ثم ينبغي أن تتم دراستها في ضوء خصوصياتها، ومعطياتها الواقعية وليس في ضوء أطرها القانونية أو الفقهية أو أسسها النظرية والمعرفية. ولعل الناظر في تجارب الوقف وما نشأ عنها من أوقاف في العالم الغربي يجد أن صور الأوقاف وأشكالها المؤسسية، وطريقة إدارتها وتثميرها تختلف اختلافا جذرياً عن مثيلاتها في العالم الإسلامي، لأنه تمت عملية نقل لفكرة الوقف كمؤسسة مؤسِّسة وليس للأوقاف والأشكال والتمظهرات التاريخية لهذه الفكرة.
فعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة التي يوجد بها أكبر قدر من الأوقاف في العالم - حيث تبلغ وقفية جامعة هارفارد مثلاً 16 مليار دولار - لم تعرف في تاريخها مفهوم ناظر الوقف، وإنما عرفت مفهوم (مجلس الأمناء) الذي يجدد ذاته في انتخابات دورية. وما أجدر العالم الإسلامي أن يسعى لبذل الجهد واستفراغ الطاقة في تجديد كل ما يتعلق بالأوقاف إدارة وتنظيماً وتأسيساً ونوعية بدلاً من أن تهدر الجهود في مناقشة أهمية الوقف ومدى مشروعيته ودليل وسند إسلاميته، وحقيقة تاريخيته.. الخ.
ثالثاً: الفرد والمؤسسة، دور الفرد في التاريخ الإسلامي
على الرغم من أن الفقه الإسلامي التاريخي قد عرف حقيقة الشخصية المعنوية أو الاعتبارية أو ما أطلق عليه (الذمة الحكمية)([18])، خصوصاً فيما يتعلق بالوقف حيث كان للأوقاف الحق في أن تكون طرفاً في عمليات التقاضي، حيث كانت تجب عليها الحقوق المالية للدولة كالخراج وغيره، ولكن على الرغم من كل ذلك فإن هذا الفهم للشخصية المعنوية أو الاعتبارية لم يتجاوز دائرة القانون الضيقة إلى دوائر الفعل الاجتماعي الأوسع، المؤسسي والاجتماعي والاقتصادي. وذلك لأن الفقه الإسلامي في معظمه قد بني على أساس أن الفاعلين الاجتماعيين هم أشخاص طبيعيون، فمعظم - إن لم يكن كل - الأحكام الفقهية كما يرى الدكتور علي جمعة محمد([19]) قد خاطبت الأشخاص الطبيعيين أي الأفراد وتعلقت بهم وتأسست على أنهم موضوعها وأطرافها والمستفيدون منها، ولذلك كانت العلل الكامنة خلف هذه الأحكام تتعلق بمصلحة الأشخاص الطبيعيين، وتضاءلت إلى حد بعيد أهمية الأشخاص الاعتباريين أو المعنويين.
ومن هنا فإن هذه الحقيقة الفقهية قد رتبت تداعيات مختلفة على أصعدة متعددة، فعلى سبيل المثال لم يتطور فكر مؤسسي إسلامي بنفس الدرجة التي تطور بها الفكر القانوني أو الفقهي؛ بحيث يمكن القول أن جوهر الأزمة في تاريخ النظم الإسلامية ومنها الوقف لم يكن هناك تطور في الأبعاد المؤسسية والإدارية يتناسب مع ما شهدت المجتمعات الإسلامية من تطور في مناح مجتمعية عدة. والناظر في هذه الحالة التاريخية من عدم نضج تفكير أو تنظيم مؤسسي في المجتمعات الإسلامية التاريخية يجد أنها تعود إلى أسباب عديدة أهمها:
1- ارتبطت البذور المؤسسية الأولى في الإسلام بنظام الحكم الشوروي الذي أسسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبعه الخلفاء الراشدون. ففي تلك الفترة بدأت تظهر بذور مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، فقد ظهرت مؤسسات مثل: النقباء وأهل الشورى، بل إن مفهوم الصحابة في حد ذاته قد يمثل مفهوماً مؤسسياً خصوصاً في فترة الخلفاء الراشدين. كما برزت هناك مؤسسة أهل الحل والعقد. والمتأمل في طريقة انتقال الخلافة من أبي بكر إلى عمر ومن عمر إلى عثمان (رضي الله عنهم) بل ومن عثمان إلى علي (عليهما رضوان الله) يجد أن علمية انتقال السلطة تمت بصورة مؤسسية، سواء أكان ذلك في تحديد مجموعة يتم الاختيار من بينها أو مجموعة هي التي تختار، أو أن يعود الأمر إلى الصحابة. ففي جميع الأحوال كانت عملية انتقال السلطة تتم بصورة شبه مؤسسية بالمعنى المعاصر. ولكن عندما انتزع معاوية بن أبي سفيان الخلافة وحولها إلى (ملك) جبري تم القضاء على تلك المحاولات الجنينية لبناء مؤسسات، وتراجعت الشورى حتى صارت أمراً شكلياً يتعلق بنتائج عملية الحكم وليس بأسسها، وبمخرجات النظام السياسي وليس بمدخلاته. ومن هنا بدأ الاهتمام يتركز على الفرد أو الشخص الطبيعي وتراجعت إمكانية ظهور اهتمام بالمؤسسات أو الأشخاص الاعتبارية. ومن ثم جاء الفقه الذي هو في جوهره تنظيم لحياة المسلمين مستجيباً للحقائق الواقعية ومنظراً لها، فتم التركيز على الأشخاص الطبيعيين وتضاءل الاهتمام بالمؤسسات أو الأشخاص الاعتباريين.
تأسيساً على السابق أصبح التاريخ الإسلامي يتمحور حول الفرد([20])، بل قد لا يكون من قبيل المبالغة القول أنه أصبح تاريخ أفراد عظام وليس تاريخ مؤسسات أو نظم إدارية وسياسية. فدائماً الفاعل التاريخي هو شخص فرد ابتداء من هارون الرشيد حتى جمال عبد الناصر مروراً بصلاح الدين وقطز ومحمد الفاتح وسليمان القانوني وغيرهم. وعادة ما يتغاضى المؤرخون عن الفعاليات الاجتماعية التي أوجدت هذا الفرد أو حققت إنجازاته وانتصاراته، إذ لا يعقل أن فرداً مثل صلاح الدين هو الذي دحر الصليبيين، بل إن صلاح الدين ذاته هو نتاج لمؤسسات اجتماعية وفعاليات مجتمعية عديدة، ومن حقق النصر هو الأمة في مجموعها بمؤسساتها وفعالياتها. ولكن منذ أن تحول الحكم في الأمة الإسلامية من خلافة راشدة تقوم على الشورى والحرية والعدل والمساواة إلى ملك أموي يقوم على الفرد والعصبية وهناك تعظيم لدور الفرد وتضخيم أسطوري له؛ لأن هذا هو المصدر الأساسي لاكتساب الشرعية.
2- انصراف الفكر السياسي الإسلامي إلى الاهتمام بالفرد وتوجيه معظم الخطاب الإصلاحي إليه([21])، بل إنه حتى إذا تعلق الفكر السياسي بمؤسسات فإن الخطاب عادة يكون موجهاً إلى الحاكم الفرد لإقناعه بإصلاح هذه المؤسسات. وبذلك ارتبط إصلاح الأمة بصلاح الفرد وتدهوره وضعفها بتدهور الفرد وضعفه. ولم يكن غريباً والحال هكذا أن يرتبط مصير الوقف بناظر الوقف ويتحدد نموه وازدهاره وفعالياته بأمانة ناظر الوقف وأهليته وجديته وإخلاصه، والعكس بالعكس. فكلتا الحالتين تعكسان حقيقة واحدة هي أن الفرد هو محور الحركة السياسية والاجتماعية عموماً وأن المؤسسة إن وجدت تكون تابعة للفرد، مرتبط مصيرها ودورها وفعالياتها بطباعه وأخلاقياته وحالته العقلية والنفسية. ومن ثم لم يكن ممكناً والحال هذه نضوج فكر مؤسسي أو تنظيمي أو تطور بنية مؤسسة أو تنظيمية فعالة تتناسب مع فلسفة الوقف وغاياته المثالية. وكان طبيعياً أن تعاني الأوقاف من توالي الأزمات التي ترجع في جوهرها إلى غياب البعد المؤسسي وهيمنة المصالح الشخصية وتلاعبها بالأوقاف سواء في عوائدها أو في أصولها أو في وظائفها ودورها الاجتماعي([22]).
رابعاً - البنية المؤسسية - الإدارية للأوقاف
إن تحليل البنية المؤسسية - الإدارية للوقف يستلزم مقاربة متعددة الأبعاد والزوايا، ليس لتقديم وصف دقيق لهذه البنية ولكن لبيان أهم ملامحها العامة وخصائصها الأساسية، حتى ترتسم صورة ذهنية لهذه المؤسسة يمكن معها تحديد مواطن ضعفها ومصادر الخلل فيها التي أدت إلى تعرج مسارها التاريخي وتعدد مزالقه وأخطاره.
ولعل مقاربة البنية الإدارية الداخلية لمؤسسات الوقف يعد من أيسر القضايا في هذا السياق، وذلك لأن التكوين الإداري الداخلي لمختلف المؤسسات الوقفية قد اشتمل على مجموعة الوظائف الأساسية القادرة على تسييرها، والكافية لاستمرار تلك المؤسسات منفردة، حتى وإن لم تحقق كامل وظيفتها أو غاية وجودها، فقد فرضت ظروف الواقع والمجتمع على الأوقاف أن توجد جهازاً إدارياً متكاملاً لتسيير شؤونها في سياق فكرة التسيير الذاتي للأوقاف تحت إدارة ناظر الوقف، وقد اشتمل هذا الجهاز على العديد من الوظائف الإشرافية والمالية والقانونية والفنية([23])، ومع تعدد مؤسسات الأوقاف وانتشارها على مساحة جغرافية وتاريخية واسعة، صنف الباحثون الجهاز الإداري للأوقاف في مجموعتين من الوظائف هما([24]):
1- مجموعة الوظائف الإدارية وتشتمل على: أولاً، وظيفة (المباشر) وهو الموظف الإداري الذي يقوم بمباشرة شؤون الوقف، ويشترط فيه أن يكون عارفاً بصناعة الكتابة وتنظيم الحسابات وأن يكون عالماً تقياً عادلاً... الخ. وثانياً، وظيفة (الشاد) أو (المشد) وهو بمثابة الملاحظ أو المشرف أو المفتش، وكان يشترط فيه أن يكون أميناً جاداً ذا عفة ونهضة وقوة وعزم. ثالثاً: وظيفة الجباية ويتولاها (الجابي) وكان يشترط فيه أن يكون من أهل الخير والدين والأمانة، وأن يكون قادراً على استخراج الريع والإيجار والأقساط وسائر مستحقات الأوقاف. ورابعاً، وظيفة (الصيرفي) ويقوم بعمليات القبض والصرف لأموال الأوقاف. وخامساً، وظيفة (الشاهد) ودوره ينحصر في الشهادة على المعاملات المالية للأوقاف وكأنه مراجع ومعتمد لعمليات القبض والصرف.
2- مجموعة الوظائف الفنية، وتشتمل على المهن الفنية اللازمة لكل وقف على حدة مثل وظيفة المهندس أو المعمار أو أي وظيفة حرفية أخرى.
أما ما يتعلق بالبنية المؤسسية للوقف فعلى الرغم من تعدد أشكال ومسميات المؤسسات الوقفية إلا أن تطورها خضع لعاملين أساسيين هما: تنظيم مؤسسة الوقف من ناحية وعلاقتها بالدولة من ناحية أخرى. وفي ضوء هذين المعيارين أو المحددين نجد أن مؤسسة الوقف مرت بمراحل ثلاث هي:
1- مرحلة الاستقلال مع اللامركزية:
وهي المرحلة التي اعتمد فيها الوقف صيغة التسيير الذاتي البعيد كل البعد عن تدخل الدولة، وبذلك اتصف بهاتين السمتين: الاستقلال واللامركزية اللتين اعتبرهما د. غانم من أهم ملامح التكوين التاريخي للوقف في مصر([25])، وهذه المرحلة لا نقصد بها مرحلة تاريخية معينة وإنما حالة قد تتحقق في فترة تاريخية وتتراجع في أخرى، ولعل خير مثال للتعبير عن هذه المرحلة يوجد في فترة ما قبل تأسيس أول ديوان للأوقاف في مصر في عهد هشام بن عبد الملك سنة 118ه- 736م حين عهد إلى القاضي الأموي توبة بن نمر بتأسيس هذا الديوان. وهنا ينبغي ملاحظة أن هذا الديوان كان خاضعاً للقضاء ثم بعد ذلك انفصل عن القضاء وتشعب وأصبح هناك دواوين عدة للأوقاف منها ديوان الأحباس وديوان الأحباس السلطانية..الخ([26]). وفي حالة خضوع ديوان الأوقاف للقاضي أو إشراف القضاء على الأوقاف، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال خروجاً عن شرطي الاستقلال واللامركزية، حيث أن دلالة تولية القاضي الإشراف على الأوقاف تعني أن الوقف يقع خارج سيطرة الدولة، وأنه مسألة تعاقدية قانونية يحدد مجالها وحدود حركتها أطرافها وهم الواقف والموقوف عليه طبقاً لشروط الوقف. وإن على ناظر الوقف مراعاة هذه الشروط وتطبيقها وذلك لأن مؤسسة القضاء في النموذج الإسلامي للحكم تقع نظرياً بعيداً عن سيطرة الدولة بالمعنى المعاصر. وإن اعتبار الوقف تابعاً للقضاء يعني تأكيداً واقعياً على استقلاليته، وفي نفس الوقت هو تأكيد على مسألة عقد من العقود التي يراعي القاضي عملية تنفيذها.
2- مرحلة الاستقلال مع المركزية
وهي المرحلة التي أوجد فيها ديوان مستقل للأوقاف يحافظ على استقلالها كل وقف على حدة، ولكنه يديرها بصورة مركزية ولو من خلال استخدام القضاة في تعيين النظار أو في الموافقة على التحكير والتأجير، أو في تطبيق شرط (الاستبدال) تطبيقاً مغرضاً فاسداً. وقد تحققت هذه المرحلة في فترات مختلفة من العصرين الفاطمي والمملوكي، حيث برزت محاولات عديدة للسيطرة على الوقف أو إعادة تشكيله أو توظيفه لخدمة أغراض الدولة والحاكم. ولعل أبرز تحقق فعلي لهذه المرحلة جاء في عهد محمد علي باشا الذي أنشأ عام 1251ه/1835م ديواناً عمومياً للأوقاف ضمن مجموعة من القرارات قضى بها على معظم الأوقاف ما عدا تلك التي تخص المساجد، ومنع إنشاء الأوقاف الأهلية، وقد استمر التقليد الذي وضعه محمد علي باشا سارياً فيما بعده ما عدا فترة عباس الأول الذي حاول أن يصلح من سياسات محمد علي التي أضرت بالأوقاف وأدت إلى انحسارها انحساراً شديداً([27]). وفي هذه المرحلة أي مرحلة الاستقلال مع المركزية ظلت الأوقاف لها ميزانياتها الخاصة مع خضوعها لإدارة مركزية، ولكنها احتفظت باستقلالية في تحقيق أهدافها والإنفاق على من أوقفت عليهم.
3- مرحلة فقدان الاستقلال مع المركزية
وهي المرحلة التي بدأت مع ثورة يوليو في مصر ثم امتدت إلى السودان والصومال وجيبوتي([28]) وباقي الدول العربية والإسلامية، وفيها أصبحت الأوقاف ملكية عامة للدولة تفعل فيها ما تشاء وتتصرف فيها تصرف المالك. وأصبحت موارد الأوقاف جزءاً من ميزانية الدولة وكذلك نفقات الأوقاف جزءاً من نفقات الدولة. بعبارة أخرى انتهت فلسفة الوقف مع بقاء مظاهره وأعراضه؛ فالدولة تحصل على عوائد الأوقاف وتدخلها ميزانياتها كدخل قومي لها، وتخرج من ميزانيتها للإنفاق على الأغراض الموقوف عليها من نفقاتها العامة ومن ثم فقدت العلاقة بين الواقف والموقوف عليه، وأصبحت الدولة أكثر نظار الوقف فساداً على مر التاريخ الإسلامي.
خامساً: الإشكاليات الهيكلية في مؤسسة الوقف
تعددت مصادر المشكلات المتعلقة بمؤسسة الوقف حتى لا يكاد يخلو بعد من أبعاده أو طرف من أطرافه إلا وكان مصدراً للعديد من الإشكاليات التي عرقلت هذه المؤسسة عبر تاريخها أو كانت مبرراً ومسوغاً للجهات التي خططت للاستيلاء عليها أو إضعاف تأثيرها أو القضاء نهائياً على وجودها، وفي السياق التالي سنعرض لأهم الإشكاليات الهيلكية المتعلقة بالمؤسسة الوقفية:
1- إشكاليات نابعة من جانب الواقفين أنفسهم
وذلك من قبيل استخدام الوقف كوسيلة لتحقيق أهداف غير ذات صلة بفلسفة الوقف وحكمة وجوده؛ مثل استخدام الوقف الأهلي لحرمان بعض الورثة من حقوقهم الشرعية، أو لتوزيع الميراث بطريقة غير تلك التي نص عليها فقه المواريث. أو من قبيل وقف الأراضي التي تقطعها الدولة للتهرب من الضرائب الواجبة عليها كما كان الحال في العصر المملوكي([29]).
2- إشكاليات نابعة من القواعد الفقهية للوقف
وذلك مثل عدم وجود إجماع فقهي على تأبيد الوقف، وخروجه عن ملك واقفه، فقد رأى الشافعية والحنابلة تأبيد الوقف وخروجه عن ملك الواقف، بينما رأى الحنفية والمالكية أن الوقف كالعارية يجوز للواقف الرجوع فيه([30])، مما أعطى إمكانية حل الوقف بعد عقده، كذلك فإن نص الواقفين على شخصية الناظر وجعلها في ذرية الواقف قد أدى إلى ظهور نظار غير مؤهلين علماً وخلقاً لإدارة الوقف بالصورة التي ينبغي أن يكون عليها.
3- إشكاليات نابعة من الشروط العشرة للوقف
خصوصاً شرط (الاستبدال) الذي يعطي الحق في بيع العين الموقوفة واستبدالها بغيرها. وهذا الشرط فتح الباب على مصراعيه للاستيلاء على الأوقاف وتحويلها إلى ملكية خاصة، فقد وظف سلاطين المماليك هذا الشرط في حل الأوقاف والاستيلاء عليها بعد أن فشلوا في إصدار قرارات تضع أيدي الدولة على الوقف، نظراً للمقاومة والرفض من قبل الفقهاء والقضاة الذي برروا رفضهم أنه لا توجد حجة شرعية تمكن السلطان من الاستيلاء على الأوقاف. لذلك تم توظيف شرط (الاستبدال) كحيلة شرعية للاستيلاء على الأوقاف، هذه الحيلة تقوم أحياناً على شهود القيمة الذين يشهدون أن هذا الوقف أو ذاك ضار بالجار أو المسار أو أن الحظ والمصلحة في بيعة أنقاضاً، فيحكم القاضي ببيعه([31])، لذلك عندما فتح العثمانيون مصر أرادوا أن يظهروا أنهم أكثر إيماناً من المماليك فأصدروا (قانون نامة) الذي نص على منع (الاستبدال)([32]).
4- إشكاليات نابعة من وظيفة ناظر الوقف
أدى ترك عملية تعيين ناظر الوقف للواقف ثم لمن يعتبرهم أوصياء من بعده إلى ظهور متوالية من الأوصياء كل وصي يعين الوصي الذي يأتي بعده وهكذا([33])، بصورة تكرر حالة ولاية العهد في الخلافة والملك في الدولة الإسلامية، التي سارت في خط منحنٍ هابط بصفة دائمة حتى تنتهي دولة وتظهر أخرى تسير في نفس الخط. وهكذا كان الوقف يخضع تعيين الناظر فيه للأوصياء الذين قد لا يكونون مؤهلين لتلك المهمة.
5- إشكاليات نابعة من عدم وجود سياسة واضحة لمحاسبة النظار والمتولين على الوقف.
تركت عملية المحاسبة للمستحقين الذين يحق لهم كما يحق للناظر أن يلجأ للقاضي لأبطال حجة الآخر. ومن ثم يستطيع الناظر حماية نفسه من محاسبة المستحقين من خلال تقديم حسابات للقاضي وشهادة تثبت تعنت المستحقين([34])، ومن ثم لم يكن لأي جهة سلطة مراقبة سلوك النظار وإخضاعهم للمحاسبة بصورة دورية روتينية، ومراقبة القضاء بالطريقة التي كانت تحدث تجعل دور القاضي متوقفاً على استدعائه من قبل المستحقين. فكما يرى الشيخ أبو زهرة أنه «.. ليس لهذا القضاء - القضاء الشرعي - سلطان المحاسبة الترتيبية المنتظمة، بل لا يتعرض للحساب إلا إذا تقدم له النظار يطلبون الإذن بتصرف يقتضي تقديم حساب كالاستدانة، أو الاستبدال للضرورة، وكثيراً ما يكون النظار قد أعدوا العدة في هذا الحساب لستر ما يؤخذ عليهم من فساد وتضييع للحقوق)([35]). كما لم تكن هناك جهات رقابية أخرى. وتعد هذه الإشكاليات من أهم الأزمات التي تعرض لها الوقف، فقد أسهمت في إفساده ومن ثم تضييعه أو تبرير الاستيلاء عليه وإلغائه.
6- إشكاليات نابعة من الطرق التي كان يتم بها الانتفاع من الأعيان الموقوفة
وجدت هناك حيل متعددة لسرقة الوقف أو تحويله إلى ملكية شخصية، وذلك من مثل:
أ) التأجير لفترات طويلة من خلال دفع (خلو) أي مقدم إيجار كبير، وقد انتشر هذا الأسلوب مع السلطان الغوري الذي كان يؤجر الوقف بمبالغ كبيرة نظير حقوق واسعة للمستأجر تصل إلى حد توريثه لأولاده من بعده. وذلك على الرغم من أن وثائق وحجج الوقف تنص على عدم إمكانية تأجيره لأكثر من ثلاث سنوات، ولكن التطبيق الواقعي وصل إلى تأجيره لتسعين عاماً([36]).
ب) إقطاع الأراضي الزراعية وتحكير المصالح التجارية والعقارات. حيث تقطع الأراضي لمماليك يتكفلون بجميع الإيجارات لصالح الوقف، ولكن عادة ما تتحول إلى ملكية خاصة([37]).
ج) نتج عن الإقطاع والتحكير والإيجار لمدد طويلة إهمال عمارة الاوقاف، ومن ثم تسرب إليها الخلل والتخريب، أو ضاعت بالتقادم. أو تم نهب محتوياتها في حالة العقارات، أو في حالة الإيجار الطويل يتم تأجير الوقف بعد استئجاره ومن ثم يحصل المستأجر الأول على فارق كبير..الخ([38]).
7- إشكاليات نابعة من الدولة
مثل رغبة الحكام في الاستيلاء على الوقف سواء لشخص الحاكم مثل حالة السلاطين المماليك، الذين سلكوا طرقاً للاستيلاء على الأوقاف أقرها قضاة ذلك العصر، منها إرغام الواقف على الأشهاد على نفسه أن أملاكه وأوقافه جميعها إنما جاءت من مال السلطان، أو إرغامه على جعل الوقف موقوفاً على أولاد السلطان([39])، أو رغبة الحكام في الاستيلاء على الوقف لصالح الدولة، وذلك بغية تثبيت دعائم حكمهم وإضعاف المجتمع، مثل حالة محمد علي باشا الذي استولى على جميع الأوقاف ما عدا الأوقاف الخاصة بالمساجد فقد تركها بعد احتجاج العلماء على تلك السياسة([40]).
8- إشكاليات نابعة من إدارة الاحتلال الأجنبي
وذلك مثل محاولة التدخل في شؤون الوقف لمنع توظيفه في مساندة الحركات الوطنية أو للاستيلاء عليه([41])، أو من خلال إجبار الجهات المشرفة على الوقف للتنازل عنه لصالح جهات أجنبية، مثل سياسة حكومة الحماية الفرنسية في تونس بعد 1881م حيث ألزمت الجمعية المشرفة على الأوقاف على التنازل عن مقدار لا يقل عن ألفي هكتار من الأحباس العامة لفائدة المعمرين الفرنسيين([42]).
وخلاصة القول فقد تضافرت مجموعة من الإشكاليات القانونية والإدارية والمؤسسية والسياسية والأخلاقية أدت إلى وصول مؤسسة الوقف إلى حالة من التدهور، بدا معها أنه مؤسسة تعاني من انهيار أخلاقي في عملها وطرق إدارتها، وأنها تخضع لنظم إدارية مختلفة، وأن إدارتها مغلقة العقول غير مدربة تستخدم وسائل غير فعالة، وفي غالبها تعود إلى عصور قد خلت، وخصوصاً فيما يتعلق بتثمير أموالها واستثمارها([43])، إلى حد أن الصورة الذهنية المنتشرة في الوعي الجمعي عن مؤسسة قد أصبحت تعكس صورة مؤسسة فاسدة لا تخضع لرقابة، يتسلط عليها العديد من القوى لنهبها والاستيلاء عليها ابتداء من الإداريين إلى السياسيين والقضاء وأعضاء النخبة([44]). وقد أدى تراكم هذا الوضع واستمراره إلى بروز حالة من الغضب العام على نظام الوقف، أرجعه الشيخ أبو زهرة إلى أنهم - أي عموم المجتمع - (قد وجدوا كل ما هو متصل بالأوقاف فاسداً، المستحقون إن كان ما يستحقونه موفوراً صاروا خاملين لا يعملون، وتلك قوة في الوطن ضائعة، وأعيان الأوقاف تؤول إلى خراب أو قحول، وتلك أموال ضائعة، وأموال البدل مكدسة في الخزائن لا فائدة منها لأحد، ثم وجدوه نظاماً يغري القوامين على الإدارة فيه بالخيانة والفساد، ويغري بالعداوات المستمرة بسبب التنازع على النظارة، أو النزاع بين المستحقين والنظار)([45]).
سادساً: الإصلاح معكوساً: تجارب إصلاح أم محاولات إفساد؟.
إن دراسة ما أطلق عليه محاولات إصلاح الوقف من منظور فلسفة الوقف ومنطلقاته المعرفية تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن معظم إن لم يكن غالباً تلك المحاولات كان في جوهره إفساداً للوقف؛ لأنه وببساطة كان محاولة إصلاح مؤسسة على غير الأسس التي قامت عليها، ومن خلال قيم وأهداف غير تلك التي أسس عليها الوقف، ولأغراض في غالبها لا تسعى لتحقيق الإصلاح بمعنى إطلاق عقال الوقف، ودفعه لتعظيم دوره وتحقيق أهدافه والمحافظة عليه كمؤسسة مجتمعية مستقلة، مثلت في جوهرها فكرة عبقرية في تحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع، وحفظ المجتمع من طغيان الدولة، والمحافظة على حضارة الإسلام حتى عندما تنهار أو تضعف الدول.
وفي السياق التالي سنعرض لمحاولات الإصلاح أو الإفساد التي مر بها الوقف عبر تاريخه الطويل:
1- الإصلاح من خلال التنظيم:
وهي تلك المحاولة التي قام بها توبة بن نمر الذي ولي قضاء مصر في عهد هشام بن عبد الملك سنة 118ه/ 736م، وحين قدم إلى مصر وجد أوقاف مصر مع كثرتها في أيدي المستحقين أو نظار الوقف حسب شروط الواقف، فقام القاضي توبة بتأسيس ديوان للأحباس يخضع مباشرة لإشراف القاضي([46])، وهنا يجب أن يتم إدراك مفهوم ديوان على أنه عملية تنظيم وتسجيل وحفظ للأوقاف، أكثر منها إدارة مركزية بالمعنى المعاصر؛ وذلك لأن مفهوم المسجل أو التسجيل المركزي للمفردات موضوع الديوان. ومن هنا كانت هذه المحاولة عملية إصلاح بمعنى الكلمة، لأنها حققت نوعاً من مركزية التسجيل والحفظ دون أن تلغي استقلالية الأوقاف. وأخضعت الأوقاف لإشراف القاضي وهو أمر في حد ذاته يعد إضافة نوعية إلى مؤسسة الوقف؛ حيث أن مجرد إلحاق الوقف بالقضاء فيه إقرار باستقلالية الوقف وتبعيته للمجتمع لا للدولة، وفيه أيضاً بواكير فكرة المحاسبة والرقابة التي لو قدر لها التطوير والاستمرار ما كان حال الوقف يؤول إلى ما وصل إليه في عصور تالية.
2- الإصلاح من خلال التقنين أو الإصلاح القانوني
وهي تلك المحاولات التي برزت منذ دخول العثمانيين مصر، ورغبتهم في الحفاظ على استقلالية الوقف وإبعاده عن سيطرة الدولة، فعلى الرغم من قيامهم بتحويل الإشراف على الوقف من القاضي الشافعي إلى القاضي الحنفي عند دخولهم مصر، إلا أن القاضي الحنفي لم يقم بأي تغيير في البنية القانونية، بل أبقى على سريان ونفاذ المذاهب الأربعة في كل ما يتعلق بالوقف، وترك للفقهاء المفتين الحرية في تطبيق مذاهبهم. ثم أصدر العثمانيون بعد ذلك (قانون نامة) الذي نص على منع الاستبدال وعلى حفظ سجلات كاملة للأوقاف([47]).
وفي نفس الاتجاه برزت محاولات فكرية وتشريعية لتحقيق إصلاح قانوني للوقف في مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان من أبرزها محاولة المرحوم محمد قدري باشا الذي قدم مشروعاً قانونياً متكاملاً لإصلاح الوقف في كتابه (قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف)([48])، حيث وضع في هذا الكتاب 646 مادة قانونية تعالج جميع جوانب الأوقاف ومشاكلها، وهي مجمل الكتاب وتمثل محاولة لتقديم رؤية إصلاحية من منظور معين للوقف.
ثم جاء بعد ذلك مشروع تشريعي قدم إلى البرلمان المصري بمجلسيه النواب والشيوخ عام 1926م، وقد تناوله الشيخ أبو زهرة بالمناقشة والنقد في دراسة مطولة([49])؛ حيث اعتبر أن هذا المشروع غير كاف وتشوبه العديد من أوجه القصور، فعلى سبيل المثال: ينص على محاسبة النظار دون إشارة إلى محاسبة موظفي الوزارة التي تحاسب النظار، كما أنه يطلق يد القاضي في عزل ناظر الوقف دون اشتراط ثبوت الخيانة وعدم الكفاءة، وأخيراً رفض الشيخ أبو زهرة سريان هذا القانون على الأوقاف القائمة على أساس مبدأ عدم رجعية القانون أي عدم سريان القانون على المعاملات التي تمت قبل صدوره.
وهاتان هما المحاولتان اللتان انطلقتا من نفس فلسفة الوقف وسعتا إلى إصلاحه في إطاره المعرفي ونسقه المجتمعي وأهدافه وغاياته، أما المحاولتان الأخريان فهما محاولتا إفساد أكثر منهما إصلاح كما سنرى في السياق التالي.
3- محاولات الإصلاح الفاسد من خلال إخضاع الوقف لإدارة مركزية تفقده استقلالية وتجعله جزءاً من الدولة.
وقد بدأت بواكير هذه المحاولات منذ الدولة الفاطمية في مصر، حيث أمر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله سنة 636ه/ 974م بأن يتم تحويل جميع المتحصلات المالية المجباة من الممتلكات الموقوفة إلى بيت المال، بحيث لا يتم توزيع أي منها على المستحقين بصورة لا مركزية، بل يتم تجميع جميع عوائد الوقف بصورة مركزية ويتم إيداعها في بيت المال، ويعد ذلك فرضاً على المستحقين والمنتفعين بهذه الأوقاف، أي على الموقوف عليهم أن يظهروا الوثائق التي تدل على أحقيتهم في ريع هذه الأوقاف([50]). وقد أدى هذا بصورة واقعية إلى تحويل الوقف إلى مصدر دخل للدولة، وحرمان مستحقيه منه من خلال جعل وصولهم إلى مستحقاتهم نوعاً من المستحيل؛ إذ لا يكاد يحصل أي منهم على وثيقة تثبت أنه مستحق، وأيضاً صعوبة الوصول إلى بيت المال خصوصاً من قبل سكان أقاليم مصر البعيدة.. الخ. كذلك جاءت محاولات محمد علي باشا في نفس الاتجاه، إذ أن غاياتها كانت إخضاع الوقف بصورة كاملة لسيطرة الدولة. وهذا النوع من الإصلاح يحقق درجة معينة من الإصلاح الجزئي على مستوى الإدارة الجزئية لمؤسسات الأوقاف، ولكنه في نفس الوقت يخلق نوعاً أوسع وأكثر عمقاً من الفساد السياسي على المستوى الكلي. وإذا كان الصلاح هو عكس الفساد، فإن هذا النوع من الإصلاح يقضي على فساد صغير على مستوى النظار والمباشرين والمتولين للوقف، ولكنه يدخل الوقف برمته في متوالية من الفساد السياسي الكبير على مستوى المديريات والإدارات العليا والوزارات. ومن ثم فهو إصلاح من وجه وفساد من وجه آخر، وحقيقة الأمر أن فساده يفوق صلاحه مستوىً وحجماً وتأثيراً.
4- محاولات الإصلاح المفسد من خلال ضم الأوقاف بالكلية إلى ملكية الدولة
بحيث تصبح جميع الأوقاف ملكية عامة تخضع لكل القواعد المنظمة للملكية العامة للدولة، وفي نفس الوقت تكون عوائدها جزءاً من الدخل القومي للدولة وتكون مصارفها على المستحقين والمنتفعين أيضاً جزءاً من النفقة العامة للدولة. وهذه المحاولة التي ترافقت مع ثورة يوليو 1952م في مصر وقوانينها الاشتراكية ما لبثت أن امتدت إلى دول وادي النيل وباقي الدول العربية. وهي محاولة لم تبق من حقيقة الوقف سوى الاسم المشحون بشحنات سلبية في الوعي الجمعي. وما عدا ذلك فإن حقيقة فلسفة الوقف وجوهرها لم يبق منها شيء، فقد تم توزيع أراضي الأوقاف طبقاً لقوانين الإصلاح الزراعي، وتم وضع يد النخبة العسكرية الناشئة على ممتلكات الأوقاف تماماً مثلما حدث مع المصادرات والمؤممات من ممتلكات رموز الإقطاع وأعوان الاستعمار وبقايا الملكية. وأصبحت مصارف الوقف جزءاً من توجه عام للدولة يقوم على رعاية الطبقات الفقيرة وتوفير الخدمات لها. ومن ثم أصبح الوقف جزءاً لا يتجزأ من الدولة وفقد كل مبرر لوجوده.
وقد لا يكون من قبيل المبالغة وصف هذا النوع من محاولات الإصلاح بأنه مفسد، لأنه أفسد أغراض الوقف وأهدافه وطبيعة وظيفته، ويكفي أن نشير إلى مثال واحد متمثل في الوقف على المضايف مثل وقف الشندويلي الذي ناقشه الدكتور غانم([51])، والذي وضعت الدولة يدها عليه، وهو وقف خصص لضيافة الغريب وعابر السبيل الزائر، وهي جملة من الوظائف الاجتماعية النفسية التي يستحيل أن تدار بصورة بيروقراطية من قبل موظفين عموميين، ومن ثم كان مصيرها الضياع على المستويين مستوى الوقف الذي ابتلعته الدولة ولم يبق منه شيء، ومستوى الوظيفة التي فقدت ولم تعد قائمة ولم يعد ممكناً القيام بها.
وختاماً فإن تاريخ مؤسسة الوقف يعكس صورة مثالية طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة، وهي علاقة اتسمت بصورة الصراع في معظم الفترات، حيث سعت الدولة بدون كلل للسيطرة على مصادر قوة المجتمع ومن ثم إفلاسه تمهيداً لإخضاعه والسيطرة عليه، وضمان دوام الاستمرار حتى وإن فقدت الشرعية وعدمت الفعالية. وقد كانت الدولة في جميع الفترات قادرة على السيطرة على الوقف، ولم يمنعها من ذلك سوى حرصها على ضمان تأمين مصادر شرعيتها وعدم الخروج عن أسس مشروعيتها، لذلك حينما كانت الدولة تحرص على الشرعية القائمة على الالتزام بأحكام الشريعة، كانت تتراجع عن اتخاذ أية خطوات غير مشروعة ضد الوقف أو الأوقاف الناشئة عنه، وذلك لأن الحاكم لم يكن ليتجاوز حدود هذه الشرعية ويعرض حكمة لفقدانها من أجل السيطرة على الوقف الذي يمكن أن يتم من خلال حيل مشروعة أخرى كالاستبدال أو التحكير أو الإيجار طويل الأجل..الخ. ولكن حينما ضعفت المصادر الدينية للشرعية، وأصبح النظام يسعى لتأسيس حكمه على مصادر شرعية سياسية خارج إطار المصادر الإسلامية، كان من اليسير عليه وضع اليد على الوقف أو القضاء عليه، ولذلك نجد سلوك محمد علي باشا تجاه الوقف قد اختلف كثيراً عن سابقيه، لأنه سعى لإنشاء دولة حديثة تستمد شرعيتها من بناء مجتمع عصري ودولة على النسق الأوروبي، ومن ثم لم يكن في حاجة لمصادر الشرعية التقليدية، لذلك قضى على القوى الاجتماعية التقليدية كالمماليك وشيوخ التجار ونقابة الأشراف، وهمّش دور الأزهر. ومن ثم لم يكن الاتهام بمخالفة الشريعة عند مصادرة الأوقاف ليعنيه كثيراً، لأنه لن يؤثر على مصادر شرعية حكمه، ولعل النظر في سياسته تجاه الوقف يعكس طبيعة الدولة في منظوره السياسي، فالقضاء على جميع الأوقاف ما عدا الخاصة بالمساجد هو تجلٍّ واقعي لفكرة الفصل بين الدين والسياسة، فالدين له المسجد أما باقي شؤون المجتمع فللدولة وسياستها التي قد لا تكون لها علاقة بالدين، أي أنه يعكس رؤية علمانية للوقف تجعله فعلاً خيرياً دينياً يقتصر على خدمة أماكن العبادة فقط، ولعل تجربة ثورة يوليو وما جاء بعدها لا تحتاج إلى مزيد توضيح، فقد مثلت خطوة أكثر تقدماً من تجربة محمد علي سواء في علاقة الدولة بالمجتمع أو في النظرة إلى مصادر الشرعية.
الهوامش:
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) في دراسة نشرت عام 1994م تم الكشف عن مصادر للتراث السياسي الإسلامي لم يعرف المعاصرون منها أكثر من 18% ومنذ أن نشر هذا الكتاب تم العثور على مصادر أخرى تجعل من هذه النسبة تتراجع إلى حدود أدنى من ذلك، ومراجعة هذه الدراسة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الباحثين المعاصرين يتعاملون مع التراث الإسلامي بصورة انتقائية غير علمية. يحددها لهم المحققون والناشرون وليس الواقع التاريخي أو لزوميات المنهج العلمي. راجع: نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، (واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1994م).
([2]) انظر: د. محمد محمد أمين، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر 648- 923 هجرية/ 1250 - 1571م: دراسة تاريخية وثائقية (القاهرة دار النهضة العربية، 1980م)، د. إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر - القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى 1998).
([3]) صنف المرحوم محمد قدري باشا كتابه في صورة مواد قانونية حيث ضمنه 646 مادة تعالج مختلف جوانب الوقف. انظر: محمد قدري باشا، قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف (القاهرة: المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية، 1311ه/ 1894م).
([4]) نشر عزيز بك خانكي ستة رسائل في مجلة المقطم ينتقد فيها نظام الوقف تم جمعها في كتاب. انظر: عزيز بك خانكي، رسائل في الوقف (القاهرة: مطبعة الأخبار، 1907م). كذلك قام عزيز بك خانكي برصد أحكام المحاكم خصوصاً محكمة الاستئناف الأهلية منذ إنشائها 26 مارس 1884م إلى غاية 1906م ثم ما صدر عن عامي 1908م، 1907م كذلك ترجم ما صدر عن محكمة الاستئناف المختلطة منذ إنشائها 1876م إلى 1906م، ثم الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية من 1900م إلى 1907م، وجمع كل هذه الأحكام ووضعها في كتاب حيث بلغت 565 حكماً قضائياً تعالج جميع جوانب وإشكاليات الوقف في ذلك الوقت. انظر: عزيز بك خانكين قضايا المحاكم في مسائل الأوقاف (القاهرة: مطبعة الأخبار، 1908م).
([5]) قام الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية بإلقاء محاضرة في الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 8 شعبان 1345هـ 10 فبراير 1927م كان عنوانها (في نظام الوقف) رد بها على المحاضرة التي ألقاها محمد علي باشا وزير الأوقاف والتي كان عنوانها (هل الوقف من الإسلام)، وقد تمحورت محاضرة الشيخ المطيعي على إثبات أسانيد ومبررات الوقف وتأكيد إسلاميته. انظر: الشيخ محمد بخيت المطيعي، في نظام الوقف (القاهرة: المطبعة السلفية 1345ه/ 1927م).
([6]) انظر الشيخ محمد أبو زهرة، مشروع تنظيم الوقف، مجلة القانون والاقتصاد، العدد السادس والسابع، السنة الثالثة عشر، ذي القعدة وذي الحجة سنة 1362هنوفمبر - ديسمبر 1943م، حيث ناقش فيها مشروع القانون الذي قدم للبرلمان المصري آنذاك حول الأوقاف.
([7]) محمد سلام مدكور، الوقف من الناحية الفقهية والتطبيقية (القاهرة، 1957) كذلك انظر في نفس الاتجاه معوض محمد مصطفى سرحان، الوقف في نظامه الجديد (القاهرة: مطبعة رمسيس، 1366ه/ 1947م) حيث يتم الاقتراب من موضوع الوقف من الزاوية الفقهية القانونية.
([8]) Mirian Hoexter, Endowments Rulers, and Community: Wagf al- Haramyn in Ottoman Algiers (Leiden: Brill, 1998).
([9]) R.D. McChesney, Wagf in Central Asia: Four Hundrel years in the Histiry of Muslim Shrine, 1480 - 1889 (Princeton, NJ:
princeton university press, 1991).
([10]) Richard Van Leeuwen, Wagf and Urban Structures: The Case of Ottoman Damascus, (Leiden: Brill, 1999), and Doris Behrens- Abouseif, Egypts Adjustment to Ottoman Rule: I nstitutions, Wagf and Architecture in Cairo, 16 and 17 Centuris (Leiden, Brill, 1994).
([11]) Keith Chritofferson, Wagf: A Critical Analysis in Light of Anglo - America Laws of endowments (M.A thesis, McGill University, 1998), and Monica M. Gaudiois, The Influence of the Islamic Law of Wagf on the Development of the Trust in England, University of Pennsylvania Law Review, vol 136, 1988.
([12]) Randi Carolyn Deguilhen - Schoem, History of Wagf and Case Studies from Damascus in Late Ottoman and French Mandatory Times (ph. D. theseis New York University, 1986), and Ytizhak Reiter, Islamic Endwments in Jerusalem under British Mandate (New York: Frank Cass Publication, 1997.
([13]) Joel S. Migdel< Strong Socie ties and Weak StatesL State - Soci ety Relations - and state Capabilities in the Third World (New Jersy: Princeton University press, 1998).
([14]) جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، ب.ت) ص 439 - 444.
([15]) انظر نص وقفية برج الأمير جلبان المعروف ببرج عز الدين في ميناء طرابلس 0لبنان) في مجلة أوقاف العدد التجريبي، الأمانة العامة للأوقاف - دولة الكويت، شعبان 1421ه/ نوفمبر 2000، ص 164 - 169.
([16]) د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، التجديد السياسي والخبرة الإسلامية: نظرة في الواقع العربي المعاصر، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد العلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1987 ص 537 - 549.
([17]) انظر: د. محمد محمد أمين، مرجع سابق، د. إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق، حيث نجد أن كليهما قد عنون دراسته بمفهوم الأوقاف وليس الوقف، فقد درس الأول الأوقاف والحياة الاجتماعية في عصر المماليك، ودرس الثاني الأوقاف والحياة السياسية في مصر الحديثة، وكلتا الدراستين درست هذه المؤسسات كفعاليات اجتماعية تخضع لقوانين المجتمع وحدوده.
([18]) د. إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق ص58 - 61.
([19]) د. علي جمعة محمد، المدخل (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).
([20]) قد لا يحتاج إلى كثير نقاش القول إن كتب التاريخ في جملتها ركزت على الحكام والقواد والوزراء ورجالات الدولة أكثر من تركيزها على المؤسسات والفعاليات الاجتماعية، وحتى تلك التي أرخت للمجتمع مثل الأغاني للأصفهاني فإنها تعاملت مع الطبقات الدنيا الهامشية فيه، وبذلك نجد أن المجتمع الإسلامي قد تم رصد حركة قمته وقاعه، أما وسطه وفعالياته الأساسية فإنها تحتاج إلى مزيد دراسة وجمع ورصد وإعادة كتابة.
([21]) تتعامل معظم كتب التراث السياسي الإسلامي مع الظاهرة السياسية من خلال إصلاح رأسها وهو الحاكم سواء كان خليفة أو سلطاناً أو أميراً، ولهم في ذلك منطق لا يمكن فهمه إلا من خلال اقتراب يدرك هذا المنطق ويستوعبه، ولأن الشاهد في هذا السياق أن الاهتمام بالمؤسسة لم يصل إلى حد الاهتمام بالفرد حتى وإن اعتبرنا الفرد في بعض الأوقات مؤسسة، فما نقصده في هذا السياق المؤسسة كمنظومة من الفعاليات الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية التي تشتمل على قواعد وإجراءات تحكم هذه الشبكة من العلاقات.
([22]) د. إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق ص89.
([23]) المرجع السابق، ص84.
([24]) د. محمد محمد أمين، مرجع سابق، ص304 - 319.
([25]) د. إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق، ص89.
([26]) المرجع السابق ص85.
([27]) المرجع السابق ص383 - 390.
([28]) انظر: د. زهير عثمان علي نور، الأوقاف في السودان وبيان الواقفين (الخرطوم: مطبعة جامعة الخرطوم، 1996)، د. حسن عبد الله الأمين (محرر) إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، ندوة نظمها المعهد الإسلامي من الأوراق للبحوث بالبنك الإسلامي للتنمية 1404ه/ 1983م وقدمت فيها مجموعة من الأوراق يهمنا منها ورقة الدكتور عبد الملك الجعلي ممثل السودان وورقة موجي دير سمتر ممثل جيبوتي وورقة محمد نور عبد الرحمن ممثل الصومال.
([29]) Behrens - A bouseif, op. cit. 149.
([30]) الشيخ محمد إبراهيم جناتي، فقه الوقف على ضوء المذاهب الإسلامية، مجلة أوقاف؛ مجلة فصلية تصدرها الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت، العدد التجريبي شعبان 1421هنوفمبر 2000، ص29 -31.
([31]) د. محمد محمد أمين، مرجع سابق ص322 - 346 كذلك انظر، د. جمال الخولي، الاستبدال واغتصاب الأوقاف: دراسة وثائقية (الإسكندرية: دار الثقافة العلمية، 2000).
([32]) Behrens- Abouseif, op. cit. p. 148.
([33]) د. سليم حريز، الوقف: دراسات وأبحاث (بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1994) ص131 - 136.
([34]) المرجع السابق، ص165.
([35]) الشيخ محمد أبو زهرة، مرجع سابق، ص391.
([36]) Behrens- Abouseif, op. cit. p. 154..
([37]) د. محمد محمد أمين، مرجع سابق ص57 - 59، د. سليم حريز، مرجع سابق، ص200 - 2003.
([38]) د. محمد محمد أمين، مرجع سابق، ص180 - 356 - 361.
([39]) المرجع السابق، ص351.
([40]) عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار 0القاهرة، 1322ه/ 1904م) الجزء الرابع، ص141 نقلاً عن د. إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق ص174.
([41]) محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، الوقف في الفكر الإسلامي 0الرباط، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1416ه/ 1994م) المجلد الثاني ص311 - 322.
([42]) أحمد قاسم، الوقف في تونس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في: راندي ديغيليم، محرر، الوقف في العالم الإسلامي: أداة سلطة اجتماعية وسياسية، تقديم اندريه ريمون (دمشق: المعهد الفرنسي للدراسات العربية، 1995) ص17
([43]) Dr, Monzer Kahf, Contemporary Issues in the Management of Investment Awgaf in Muslim Countries and Communities, a paper presented at the International Seminar on Awgaf and Economic Development, Kuala Lumpur, 2-4 march 1998, p3.
([44]) Reiter, op, cit.
([45]) الشيخ محمد أبو زهرة، مرجع سابق، ص392.
([46]) د. محمد محمد أمين، مرجع سابق، ص48.
([47]) Behrens- Abouseif, op. cit. p. 148.
([48]) محمد قدري باشا، مرجع سابق.
([49]) الشيخ محمد أبو زهرة، مرجع سابق.
([50]) د. محمد محمد أمين، مرجع سابق ص52.
([51]) د. إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق ص324 - 332.