شعار الموقع

تاريخ التشريع الإسلامي للدكتور الفضلي

حسين منصور الشيخ 2012-10-04
عدد القراءات « 871 »

رؤية مغايرة لنشأة المذاهب الفقهية
وبحث في مراحل الفقه الإمامي

الكتاب: تاريخ التشريع الإسلامي.

تأليف: الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي.

الناشر: الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية - لندن.

سنة النشر: الطبعة الأولى 1993م.

 

خلق الله الإنسان وأنزله على هذه الأرض، فعاش عليها يتنقّل من حالته البدائية في أنماطها الحياتية إلى حالات أكثر يسر وسهولة، ولم يكن إذ ذاك ما يؤرّخ لتفاصيل تنقلاته تلك، فظلّت الكثير من الظواهر الاجتماعية في تلكم الحقبة التاريخية غامضة إذ لايزال الإنسان حائرًا في تحليلها والوصول إلى نتائج مؤكّدة حولها، لعل من أهمها: ظاهرة التخاطب الإنساني، حيث لا تزال البحوث والدراسات المدوّنة حول نشأة اللغة وتطوّرها مجرّد فرضيّات لا يمكن الجزم بإحداها في مقابل الفرضيات الأخرى.

فحينما يذهب البعض منهم إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية توقيفيّة وهبها الله للإنسان، ويذهب آخر إلى أنها ظاهرة اجتماعية نمت مع نموّ المجتمعات بسبب الحاجة الملحّة إليها في تواصل الإنسان مع أخيه الإنسان، ثمّ يذهب ثالث إلى أنها محضُ تواضعٍ إنسانيٍّ بدأ بما يشبه التصويت الصوتي إلى أن تطوّر إلى هذه الصور من الأصوات المفيدة للمعنى، ورابع إلى غير تلكم الفرضيات السابقة، إنما يظلّ كل ذلك مجرّد فرضيات لا يمكن الجزم بإحداها فترقى إلى مستوى الحقائق العلمية المثبتة من خلال التتبّع الخارجي الواقعي، ذلك أن بدايات النشأة الإنسانية لم تدوّن في سجلّ التاريخ، ولا يمكن الجزم بفرضية دون أخرى ما لم تعضّد بدليل حسّي مشهود.

وقريبًا من هذه الظاهرة اللغوية: ظاهرة التديُّن عند المجتمعات البشرية، حيث نجد وفرةً من الفرضيات والنظريّات العلمية التي يدرسها علم الاجتماع الديني حول نشأة الظاهرة الدينية أو «الدِّين»، وهي تبقى مجرّد فرضيّات لا يمكن الجزم بإحداها مقابل البقية منها، ولذلك عندما يدرس الدكتور حليم بركات أصول الدين ونشأته في المجتمع العربي ضمن نظريات علم الاجتماع الديني يشير إلى أنهم لا يتفقون على نظرة واحدة، فيقول: «تشكّل مهمّة تحديد الدين وتحليل أصوله في المجتمع قضايا مركزية في حقل علم الاجتماع الديني والعلوم الاجتماعية والنفسية الأخرى. وليس من مقاربةٍ واحدة في العلوم، فيشدّد البعض على أصول الدين في المجتمع ودوره في تعزيز وحدة الأمة والانتماء، والبعض الآخر على كونه تعبيرًا عن الحاجات الإنسانية للقيم والمبادئ الأخلاقية، أو للتغلّب والتحرُّر من القلق والخوف والبؤس، أو لفهم معنى الحياة والإجابة عن أسئلة غامضة محيّرة للعقل البشري، كمسألة نشوء الكون والمخلوقات، أو عن كل هذه مجتمعةً.

وفي تحديد الدين، قد يكون التركيز على الآلهة أو القوى الخارقة المتفوّقة على الإنسان، أو على الصراع بين المقدّس والمدنّس والله والشيطان ووحدانية الآلهة أو تعدّدها، أو على التجارب الذاتية، أو على الوظائف والأدوار التي يؤدّيها الدين في المجتمع وحياة الفرد.

بسبب ذلك، لا يتّفق الباحثون الاجتماعيون حول أصول الدين وطبيعة وظائفه في المجتمع ونوعيّة علاقته بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والنظام السائد».

وقريبًا من هذا المعنى ما تشير إليه الموسوعة العربية الميسّرة في حديثها عن الدين، إذ تشير إلى أن «النظريات المتصلة بتاريخ الأديان تقوم على مجرّد افتراضات أكثر من قيامها على علاقات واضحة بين السبب والمسبِّب،... ولا تعتمد هذه الآراء التطوّرية في الدين على بحث علمي، وإنما هي مجرّد فروض يمكن أن يبرهن الإنسان على عكس ما تذهب إليه، ولذلك وضعت تصانيف متعدّدة للأديان، درس كل منها الدين من زاوية مختلفة خاصّة في مظاهره التاريخية والاجتماعية».

بين الديني والعلمي في مناهج البحث

تعتمد العلوم الحديثة الطبيعية منها والإنسانية نمطًا محدّدًا في مناهج البحث العلمي، ذلك أنها تعتمد إلى حدٍّ كبير منهجية الاستقصاء والتتبّع للمفردات المطلوب بحثها ومن ثَمَّ جمعها للخروج بمجموعة من الفرضيات التي تخضعها للتجربة، ومن ثَمّ الوصول إلى النظرية التي يراها الباحث أنها الأقرب إلى الواقع الذي تتبّع مجموعة كبيرة من جزئياته الخارجية.

ولذلك فإن مصدر المعلومة وما يتلوها من فرضيات ونظريات علمية: الحسّ الذي يتوسّل به للوصول إلى الواقع الخارجي، ويضاف إليه العقل الذي يتوصّل به إلى العملية الاستنتاجية التي تؤدي إلى النظريات العلمية.

وتطبيقًا على ذلك، نجد أن العالم في علم الاجتماع الديني -أحد فروع العلوم الإنسانية- عندما يريد تفسير الظاهرة الدينية، أو دراسة نشأة الدين سيواجه صعوبةً في مهمّته تلك، ذلك أن تاريخ الأديان ظهر مع بدايات الوجود الإنساني على هذه البسيطة، وهي المرحلة غير المدوّنة من التاريخ البشري، وإذ ذاك لا يكون الباحث أمام وقائع حيّة يمكن دراستها وتحليلها للوصول منها إلى النظرية المفترضة.

كما أن نشأة الدين -حسب التصوّر الإسلامي وتشاركه بقية الديانات الإلهية- تستند إلى عالم الغيب وما وراء الطبيعة، ولا يمكن دراستها دراسةً مبنية على ظواهر يمكن مشاهدتها بالحسّ ومن ثَمَّ تحليلها تحليلاً ماديًّا بحتًا.

وفي هذا الموضوع تحديدًا يتبيّن الفرق بين المنهجية المعتمدة في تحصيل المعرفة لدى العلوم الطبيعية والإنسانية وبين العلوم الشرعية، إذ «دأب دارسو نظرية المعرفة -فلسفيًّا أو علميًّا- على حصر مصادر المعرفة في مصدرين، هما:

- الحسّ.

- العقل.

كما دأبوا على استعراض الصراع الفكري والجدلي بينهم في أن المصدر هو الحسّ فقط أو هو العقل فقط، أو هما معًا.

وكان هذا لأنهم استبعدوا الفكر الديني أو المعرفة الدينية من مجال دراساتهم للسبب الذي ذكرته آنفًا؛ ولأننا نؤمن بالدين الإلهي -كما تقدّم- تتربّع المصادر لدينا، وكالتالي:

1- الوحي.

2- الإلهام.

3- العقل.

4- الحسّ».

إن دراسة الظاهرة الدينية وفق المنهجية العلمية الحديثة دون الاكتراث بما تشير إليه الرؤى والنظريات الدينية يرجع في جانب كبير منه إلى ما بين الديني والعلمي من قطيعة، لعلّها ترجع إلى أمور نشير إلى بعضها، وذلك كالتالي:

1- التداخل الكثيف بين الأسطورة والتراث/ الثقافة الدينية، ذلك أن كثيرًا من الأحداث المرتبطة بالتاريخ النبوي تروى بطريقة فيها جانب كبير من المبالغات في حدوث الخوارق والمعجزات، ما يجعلها أقرب للأسطورة منها إلى الواقع، وحول هذه الفكرة يحدّثنا الدكتور الفضلي فيقول: «أما عن علاقة الدين بالأسطورة، فتقول (الموسوعة العربية الميسّرة، ط2، 1972م، ص 148): «وبين الأسطورة والدين علاقة، وكثيرًا ما تحكي الشعائر أحداث أسطورة». وهي تشير بهذا إلى معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، أمثال: عمر نوح، وفوران التنور بطوفانه، وتحوّل نار النمرود مع إبراهيم إلى بردٍ وسلام، وقصّة قصر بلقيس، وعصا موسى، وكذلك خلق الكون.. وإلخ. فإن جميع هذه وأمثالها كانت قبل التاريخ المدوّن، ولم نعثر على ما يشير إلى شيء منها من آثار، وإنما تعرفناها من الكتب الدينية والحكايات الأسطورية، وهي بهذا تدخل إطار الغيبيات، والعلم الحديث لا يؤمن إلا بالمشاهد والمحسوس، أو ما يمكن أن يخضع للملاحظة أو التجربة».

2- معظم العلوم الحديثة نشأت في الغرب الذي تحتضن شعوبه ومجتمعاته مجموعة من الأديان، وهذه لا تتساوق في مبادئها وقيمها، بل إن كثيرًا منها يعتمد على مجموعة من الأساطير والخيالات الذهنية، ولذلك قد يعذر الباحث في أن تكون لديه هذه النظرة حول المعرفة الدينية وعدم علمية الاعتماد عليها في مسألة التقنين والتنظير العلمي.

3- بسبب هذا النوع من القطيعة -ويضاف إليه صعوبة تغيير ما يرتبط بالشأن الديني لما يحمله من قداسة- تطوّرت هذه العلوم في بيئتين مختلفتين، ما جعل لكلٍّ منهما نمطًا مختلفًا في البحث ومعالجة وتبويب وتقسيم مسائل العلوم، كما أن لكل منهما اللغة والمصطلحات المختلفة في المعنى والمؤدّى.

وقريبًا من هذا المعنى نقرأ للمؤلِّفة زهية جويرو إشارتها إلى هذا النوع من القطيعة، إذ تقول: «إن الإقرار بالاختلاف وبتعدُّد المستويات في إطار المنظومة الدينية الواحدة، وبأن الدين ظاهرة متحوِّلة شأنها شأن سائر الظواهر الاجتماعية، ما كان ليتحقّق إلَّا في إطار الدرس السوسيولوجي [الاجتماعي] للظاهرة الدينية، ذلك أنه درس قائمٌ على القطع مع التصوُّر اللاهوتي الذي اهتمّ بالدين المعياري، فصوّره معطًى ثابتًا ومطلقًا ونهائيًّا ومتعاليًا على تغيُّر الأزمنة والأوضاع».

وقد تميّزت العلوم الدينية بتلكم النمطية القديمة في التعليم، ما يجعل من مخرجاتها العلمية حاملة ومتأثّرة بالجوّ التراثي القديم، فيما تميّزت العلوم المدنية -التي تضمّ داخل دائرة درسها وبحثها العلوم الإنسانية والأخرى الطبيعية وما إليهما- بالحداثة وسرعة التقدّم فيها، ما يجعل مخرجاتها أكثر ملاءمة للحياة المعاصرة.

الدكتور الفضلي في رؤيته للواقع الإسلامي وتحدياته المعاصرة

أشرنا بعاليه إلى أن هناك نوعًا من الضبابية حول الدين ونشأته في المجتمعات البشرية فيما تنتجه النظريات الحديثة في العلوم الاجتماعية والنفسية، وهي حالة ما كانت لتنشأ لولا القطيعة بين نتائج البحث العلمي المدني وبين ما تذهب إليه النظرات الدينية. وهذه الضبابية لا تنحصر في التأريخ لهذه الظاهرة في بعدها الاجتماعي، بل هي تتجاوز ذلك لتعمّ معظم الشأن الديني، ذلك أنّ كثيرًا من علماء الاجتماع عندما يؤرخون لهذه الظاهرة ولظروف نشأتها يُعنَون بما يجدونه من طقوس وممارسات عبادية، ذلك أنهم يعرّفون الدين بأنه: «تعبير الإنسان عن إيمانه بقدرةٍ أعظم منه وإجلاله لها، بوصفها خالقة هذا الكون ومسيّرته،... والدين -من ناحية ثانية- هو: كل مجموعة متكاملة من الشعائر والطقوس المبنية على أساس هذا الإيمان»، أو يعرفونه بأنه: «مؤسسة اجتماعية لها جانبان، أحدهما روحي مؤلَّف من العقائد والمشاعر الوجدانية، والآخر مادي، مؤلَّف من الطقوس والعادات،.. والدين اعترف بالخوارق والمعجزات والقوى فوق الطبيعة».

وهذه التعريفات -عندما تحاول أن تجمع في مضمونها جميع المعتقدات والأديان بحيث تشملها في عبارة جامعة- تقصر الشأن الديني في مجموعة من الطقوس والشعائر والعبادات، في حين أن «الدين -فيما يعرّفه به الإسلاميون-: وضعٌ إلهيٌّ يرشد إلى الحقّ في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات»، أي إن الدين كما يشمل مجموعةً من الطقوس العبادية بحيث تمثّل ركيزة أساسية من ركائز أي دين، فهو في بعض تمظهراته -كما هي الحال مع الدين الإسلامي- يحمل فكرًا شاملاً للكون والإنسان والحياة تمثّل رؤية عامّة يستطيع الإنسان المسلم اليوم الاحتكام إليها لتنظيم شؤونه الحياتية المعاصرة.

وفي ذلك نقرأ للدكتور الفضلي تعليقًا مهمًّا حول هذه التعريفات، إذ يقول: «هناك تعريف غربي للدين، وهو: «الدين: علاقة فردية بين الإنسان وخالقه»، وهو تعريف لا يلتقي وواقع ديننا الإسلامي، ذلك أن الإسلام لم يقتصر على توجيه وتنظيم علاقة الإنسان بربّه فقط، بل شمل كل علاقات الإنسان: فردية واجتماعية، بين الإنسان وربّه، وبين الإنسان وجميع ما في الكون والحياة».

ولذلك عندما يعرّف الفضلي الإسلام يعرّفه بالتالي: «الإسلام هو: الدين الذي بعث الله تعإلى به نبينا محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البشريّة كافّة، ويتألف من ركنين أساسيين، هما: العقيدة والنظام.

العقيدة هي: الإيمان بالله تعالى وبأنبيائه وما أنزله عليهم وبأوصيائهم وباليوم الآخر. وتسمّى أصول الدين. والنظام هو: التشريع الإلهي الذي وضع لتنظيم الحياة البشرية كافّة، ويسمّى: فروع الدين».

وانطلاقًا من ذلك يؤكّد الدكتور الفضلي أن «الإسلام يعرض رؤيةً للإنسان بحيث يضعه فيها الموضع الوسط بين التهميش والتأليه، فالإنسان -في الرؤية القرآنية- خليفة الله في الأرض، بمعنى أنه موكَّل على هذه الطبيعة، فيتصرَّف فيها موكَّلاً وليس مستقلاًّ، وذلك وفق وثيقة ومعاهدة بينه وبين الله سبحانه لها بنودها وأحكامها الضابطة لها، وهي ما تعبِّر عنها الرسالات الإلهية ﺑ«الدين».

إن هذه الرؤية التي يقدّمها الإسلام تضعه نظامًا وفكرًا قادرين على قيادة الحياة على هذه الأرض، بمرونة وصلاحية عالية، تعطي للإنسان الأمل في أن يعيش بسعادة وكرامة وهبتها له السماء، ودون مِنّة من نظام أو قوّة مسيطرة، كما هي الحال مع بقية الأنظمة والحضارات الأخرى».

كما يؤكّد في الدراسة ذاتها أن «الإسلام اليوم يطرح نفسه بديلاً حضاريًّا عالميًّا، وهو بذلك ينافس ويتحدّى الحضارة الغربية، وذلك فيما يقدّمه من قيم ومبادئ وقوانين وفكر إنساني سامٍ ينسجم والطبيعة الإنسانية السليمة، وهو الأمر الذي دفع بالفكر السياسي الغربي إلى محاصرته تمهيدًا للمواجهة والصراع اللذين يراهما الغربيون أمرين حتميَّين، وبخاصّة بعد انهيار قطب النظام الاشتراكي الشرقي (الاتحاد السوڤييتي السابق)، وذلك لعدم إمكانية تعايش هاتين الحضارتين جنبًا إلى جنب، وإذ ذاك لا مناص من حالة الصراع والتحدي والغلبة».

وما تحتاجه الأمّة لاستنهاض قواها هو تمكين مكامن القوّة فيها، ومن أهم ما تمتلكه الأمة الإسلامية هو الفكر التشريعي، ذلك أن «من أهم ما يصنع الحضارة ويعطي للأمة وجهها الحضاري، ويخصّها بحضورها المتميّز بين الأمم هو الفكر التشريعي (الفقهي أو القانوني).

فالأمة التي لديها نتاج فكري تشريعي فبركته في قواعد حوّلته إلى علم = (الفكر المنظم)، ثم قولبته في مواد قانونية نقلته بواسطتها إلى نظام = (الفكر المقنن)، هي أمة متحضرة، لها مركزها الخاص بين الأمم المتمدنة، ذلك أن تحويل الفكر الخام إلى فكر منظم ثم إلى فكر مقنّن، عمل يعرب عن سمو في التفكير ونضج في أدواته من ذهنيات وخلفيات ثقافية».

وهذه الإشارات التي يذكرها الدكتور الفضلي حول الإسلام فيما يختزنه من نظام وفكر يؤهل الحضارة الإسلامية لأن تكون الحضارة العالمية السائدة، يدرك أنها لا تزال في كثير من مواقع الفعل والتأثير لا تزال مختزنة وتحتاج إلى ما يحوّلها إلى أنظمة وقوانين وتشريعات تتلاءم والعصر الحاضر، ذلك أن واقع مراكز الدراسات الدينية لا تزال بحاجة إلى مزيد من التطوير لكي تستطيع النهوض بهذه المهمّة، إذ نجده أثناء حديثه عن تجربته مع التعليم الحوزوي دراسةً وتدريسًا يشير إلى بعض المقترحات التي يرى أن من شأنها تطوير الوضع القائم، إذ يقول: «فإن كان لي أن أقترح فإني أضع بين يدي أسيادنا وشيوخنا العلماء الأجلاّء من المسؤولين عن الحوزات العلمية سواء في النجف الأشرف أو في قم المقدّسة أو غيرهما، المقترحات التالية:

1- وضع شروط للقبول، ومن أهمها حصول الطالب على شهادة الثانوية العامّة أو ما يعادلها،...

2- إعادة كتابة المواد العلمية المقررة في مرحلتي المقدمات والسطوح بأسلوب علمي يقوم على الوضوح في التعبير، والشمول لأطراف وأبعاد الفكرة موضوع الدرس، وبشكل يربط بينها ربطًا عضويًّا، ووفق منهج تربوي،...

3- إضافة المواد التالية:

- أصول علم الحديث.

- أصول علم الرجال.

- المعاملات المالية الحديثة كالبنوك والشركات توضع ضمن موضوعات قسم المعاملات من علم الفقه.

- أصول البحث العلمي.

- الأديان والمذاهب المعاصرة.

- الفقه المقارن.

- القانون والنظم المعاصرة.

- تاريخ التشريع الإسلامي.

ومن المسلّم به أن انفتاح المسلمين على العالم، وانفتاح العالم عليهم يضخّم من مسؤولية المراكز العلمية الإسلامية، وذلك بأن تكون بمستوى رسالتها، وبمقدار ما يتطلّبه الواجب الشرعي في هذا المجال».

الدكتور الفضلي في رؤيته لنشأة التشريع الإسلامي

أشار الدكتور الفضلي -في مقدّمة الكتاب- إلى أنه خصّص كتابه هذا لتأريخ نشأة وتطوّر الدرس الفقهي الإمامي، معلِّلاً ذلك بأن «تاريخ الفقه الإمامي -فيما وقف عليه- يشكّل الحلقة المفقودة في تاريخ التشريع الإسلامي، فقد أُلِّفت عشرات الكتب في تاريخ فقه المذاهب الأربعة، ولم يقدّر للفقه الإمامي أن يفرد بكتاب مستقل، فتأتي الكتابة عنه مكملة لحلقات السلسلة»، مرجعًا ذلك إلى «العامل السياسي، وهو أن المذهب الرسمي للدولة العربية هو المذهب السني، ولم يضف إليه في الدراسات الجامعية المذاهب الإسلامية الأخرى كالمذهب الإمامي والمذهب الزيدي والمذهب الإباضي».

والشيخ الفضلي في وضعه لمقرّر دراسي في مادة (تاريخ التشريع الإسلامي) إنما ينطلق في ذلك من منطلقين، أحدهما: المشاركة في تحديث نظام الدراسة الدينية في شقّها الإمامي -كما أشرنا لمقترحه أعلاه-، والمنطلق الآخر هي الرؤية التي يقدّمها حول التأريخ لنشأة هذا العلم إسلاميًّا، ذلك أن المؤرّخين للفقه الإسلامي يفترضون أصالة مذهب وفرقة محدّدة تعدّ امتدادًا للسيرة النبوية، ومع نشوء الدولة الأموية ظهرت بقية الفرق الإسلامية، وذلك بخلاف ما يعرضه الدكتور الفضلي في هذا الكتاب، وكان قد سبق أن أشار إليه في كتابه «دروس في فقه الإمامية»، حيث يذهب هناك إلى «أن التأريخ لنشأة مذهب الإمامية يعني التأريخ لنشأة مذهب الشيعة بعامّة، وهو -في الوقت نفسه- يعني التأريخ لنشوء مذهب السنّة، إذا أراد الباحث أن ينصف نفسه فيكون موضوعيًّا وأن يخلص لمبدئه فيكون عادلاً، والسبب في ذلك أن ما كُتِبَ في نشأة الفرق والمذاهب الإسلامية كان كاتبوه يصدرون من اتجاهاتهم السياسية وميولهم المذهبية، ويدل على هذا إغماض الجميع عن البحث في نشأة التسنُّن، وعن البحث في تاريخ السنّة،... وتركيزهم على نشأة الفرق الأخرى كالشيعة والخوارج».

وتتميمًا لهذه الفكرة، نقرأ له مؤرِّخًا لتطور الدرس الفقهي الإسلامي، إذ يقول: «كانت هاتان الطائفتان [الشيعة وأهل السنة والجماعة] في بدء انبثاقهما في القرن الأول الهجري بمثابة مدرستين، ثم -وبفعل عوامل مختلفة- تحولتا إلى طائفتين، وكان لكل طائفة منهما مدارسها.

والفارق بين مدارس الطائفة منهما والأخرى أنها عند أهل السنة بدأت بمدرسة الرأي، وكان رائدها ورئيسها الخليفة عمر بن الخطّاب، وبعد وفاته وتبريز ابنه عبد الله فقيهًا من فقهاء المسلمين المشار إليهم، تركّزت على يديه مدرسة الحديث، وسارت المدرستان جنبًا إلى جنب، واتخذت مدرسة الرأي الكوفة مركزًا لها عن طريق عبد الله بن مسعود الذي كان يعدّ أبرز تلامذة عمر بن الخطّاب، وأبرز من تبنّى منهج وفكر مدرسة الرأي، وأخذت طابعها الواضح على يد إمام المذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي.

أما مدرسة الحديث فاتخذت من المدينة المنوّرة مركزًا لها، واشتهر من أعلامها الفقهاء السبعة: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي، وعبيدالله بن عبد الله، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسليمان بن يسار، وانتهت رئاسة هذه المدرسة إلى إمام المذهب مالك بن أنس، وعن طريقه انتشرت في البلدان الإسلامية،...

بينما كان التطوّر عند الشيعة، أو قل: في مذهب أهل البيت تطوّرًا طوليًّا أو امتداديًّا»، وأخذ العلاّمة الفضلي ببيان دور الإمام علي بن أبي طالب الذي تزعّم مدرسة النصّ في مقابل مدرسة الرأي التي تبنّاها الخليفة عمر، حيث سار أبناؤه من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على المنهج ذاته في محاربتهم للقياس في الأحكام الشرعية، وهو ما سنطالعه مع مزيد من التفصيل في فصول وأبواب الكتاب.

وهذه الرؤية التي يقدّمها الدكتور الفضلي بخلاف ما يذكره مؤرخو التشريع الإسلامي في شقّه السنّي، إذ يشيرون هناك إلى أن مدرستي الرأي والحديث لم تظهرا إلا في عهد صغار الصحابة والتابعين، أي مع بدء نشوء الدولة الأموية، بل إنهم لا يشيرون إلى وجود أي خلاف بين الصحابة أو انقسامهم إلى مدارس متعدّدة، وأن بدء ظهور الفرق والمذاهب نشأ فيما يسمّى العهد الثاني من عهود التشريع، وهو عهد صغار الصحابة.

بل إننا نقرأ للدكتور عبد العظيم شرف الدين واصفًا حال الصحابة ما بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «على الرغم من وجود أسباب الخلاف بين الصحابة، فقد كان الخلاف بينهم يسيرًا لم يتشعّب، وذلك نظرًا لوجود أسباب اجتماع كلمتهم، ونوجزها فيما يلي:

1- كان مبدأ الشورى ساريًا فيما بينهم.

2- كان الصحابة لا يزالون في المدينة لم يتفرّقوا في الأمصار.

3- كان الاستنباط في هذا الدور قاصرًا على فتاوى يفتيها من سئل عن حادثة».

إضاءة على الكتاب

صنّفت العلوم وبوّبت في القرن الثاني الهجري، وهي إذ ذاك كانت متأثِّرة بالأجواء العلمية السائدة، وبخاصّة ما وردها من الفكر اليوناني من ترجمات ظهرت مع نشوء الدولة العباسية وتمكّنها من مفاصل المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت.

وقد استطاعت تلكم العلوم أن تلبي ما وضعت من أجله من حاجة علمية واجتماعية وشرعية في العصر الذي ظهرت فيه، وسوف يمرّ بنا تلكم المراحل والعهود التي مرّ بها الفقه الإسلامي في شقّه الإمامي مثالاً على العلوم الإسلامية فيما سلكته من خطوات وتشعّبت فيه من اتجاهات ومدارس ورؤى مختلفة.

ولذلك عندما يشير الدكتور الفضلي إلى بعض المقترحات لتطوير الوضع القائم في مراكز التعليم الديني، لا ينبغي إغفال ما قدّمته هذه العلوم التي تدرس اليوم في هذه المراكز في مجال الدرس الشرعي، وهي نقطة لا تغيب عن الشيخ، بل إنّ من بين أهداف وضع مثل هذه المقرّرات هو الإشارة إلى تلكم الجهود التي نما وتطوّر علم الفقه في ظلالها.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا هذا الكتاب من المصادر الأولى في دراسة نشأة علم الفقه الإمامي والتأريخ لمراحل تطوّره وبيان ما قدمته مراكزه العلمية وما بذله أعلامها من جهود، وهو بجانب هذه المهمّة تميّز بنقاط، نشير إلى بعضٍ منها، وهي كالتالي:

أ- بيان الاتجاهات الفكرية في الفقه الإمامي

وقف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) موقفًا حازمًا ضدّ ظاهرة القياس التي قد تتّخذ وسيلة لحرف مسار الأحكام الفقهية عن مسارها الصحيح، حيث توسّع البعض إلى درجة مخالفة النصّ الشرعي بمبرّرات المصالح العامّة والقياس، وقد بذل الأئمة (عليهم السلام) جهدهم في نشر وتدوين السنّة بما يمنع من الحاجة إلى اللجوء إلى غير القرآن والسنة في مجال التشريع، وقد أجمل المؤلّف دور الأئمة «في عهودهم (عليهم السلام)، حيث تمثّل ذلك في توفير المادّة الفقهية للتشريع الإسلامي، وذلك:

- بتفسير القرآن الكريم، وبخاصة ما يرتبط منه بالتشريع، وهو ما يعرف بآيات الأحكام.

- إملاء السنة الشريفة وتدوينها، والتربية على كيفية استفادة الحكم منها.

- تكوين الفقهاء بتعويدهم على الاستنباط واستخلاص قواعد المنهج.

وقد كانت هذه الأدوار تمهيدًا للدور المهم الذي قام به الفقهاء في عهد ابتداء الغيبة الكبرى حيث انتقلت مهمة الدور الأساسي فيه من الأئمة إليهم».

وفي بدء المسيرة الفقهية في القرن الرابع الهجري انشعب المسار العلمي إلى اتجاهين، أحدهما مال إلى مدرسة الحديث عند السنة (مدرسة الصدوقَين = الفقهاء المحدثين)، بينما مالت المدرسة الأخرى إلى مدرسة الرأي (مدرسة القديمَين)، ولم تلبث هاتان المدرستان أن توحدتا بفضل جهود الشيخ المفيد الذي أسس للمدرسة الأصولية الإمامية في الفقه.

ولكنّ هذين الاتجاهين لا بدّ أن يظهر أثرهما بين الفينة والأخرى، وهو الأمر الذي كان قد تنبّه له العلاّمة الفضلي في إشاراته المتناثرة في طوايا الكتاب، من ذلك ما ذكره حول الفترة التي تلت الشيخ الطوسي التي كان الفقهاء قد جمدوا فيها على تراثه إلى أن ظهر ابن إدريس الحلّي، إذ يقول هناك: «إن السبب الذي ذكر لتعطيل ممارسة عملية الاجتهاد من قبل تلامذة الشيخ الطوسي، وهو تقديسهم له التقديس الذي سد عليهم منافذ التفكير فتوقفوا عن إبداء الرأي وإعطاء الفتوى، لا يصلح -فيما يبدو لي- أن يكون عاملاً مبررًا لذلك الركود، وذلك أن التقديس -كما هو معروف- يكون عامل دفع، فالمفروض أن يكون هو الدافع لهم على السير وفق منهج الشيخ الطوسي في الاستنباط، وهو الاتجاه الوسط الذي رسمه أستاذه الشيخ المفيد، وأنضجه نظريةً وتطبيقًا تلامذته، وكان الشيخ الطوسي من أبرزهم وأكثرهم حماسة له وبذلاً للجهد فيه، ذلك أنهم إذا كانوا مؤمنين حقًّا بسلامة هذا المنهج ومعطياته، يكون إيمانهم الحافز القوي لهم إلى العمل به، وتطوير الفكر الفقهي على أساس منه.. ولكن الذي يبدو أنهم كانوا يتهيبون السير عليه، ولعله لأنه كان يعتمد أصول الفقه، وهو مرتبط في الذهنية الشيعية بالقياس واجتهاد الرأي لأنه المألوف والمعروف عند أهل السنة، وبخاصة أن أصول الفقه الشيعي تأثر به في طريقة العرض وأسلوب التعبير وتبويب الموضوعات.

وقد يكون لبعض تلامذة الشيخ الطوسي في النجف ممن له علاقة باتجاه جماعة الفقهاء المحدثين دور في التثبيط والتوقيف، فقد ذكر في قائمة من قرأ على الشيخ الطوسي في النجف: الشيخ الحسن بن الحسين بن بابويه القمي نزيل الري المدعو بحسكا، ونحن نعلم أن الحركة العلمية في قم والري تميل إلى اتجاه جماعة الفقهاء المحدثين.

وقد يؤيد هذا أيضًا نزوع الشيخ ابن إدريس في منهجه في الاستدلال والبحث إلى الإكثار من استعمال القواعد الأصولية، وذلك ليدخل المعركة الفكرية بكل ثقله، كي يعيد الوضع العلمي الطوسي إلى مركزه، ويعيد له تأثيره في الوسط العلمي».

وفي موضع آخر أثناء حديثه عن إدخال (الإجماع) مصدرًا من مصادر التشريع، يشير هناك إلى أنّ «الإجماع -في حقيقته- ليس دليلاً لذاته، وإنما لأنه كاشف عن السنة، فتبقى -على هذا- مصادر التشريع من حيث الواقع محصورة في الكتاب والسنة.

ولعل التنصيص على الإجماع دليلاً فقهيًّا كان في مقابلة موقف الفقهاء المحدثين السلبي منه، وليس لاعتباره دليلاً مستقلاً قسيمًا للكتاب والسنة».

ولعلّ من أهمّ الإشارات ذات العلاقة بهذه المسألة هو تحليله الدقيق لأسباب ظهور الحركة الأخبارية، إذ يقول حول دوافع ظهور هذه الحركة في الدرس الفقهي الإمامي: «وترجع الأسباب عند أولئكم النفر من العلماء الذين كانوا يميلون إلى اتجاه الصدوقين، أو طريقة الفقهاء المحدِّثين، ويتهيَّبون من المنهج الأصولي، ويتوجسون منه الخيفة، إلى التالي:

1- أن المنهج الأصولي كان منهج اجتهاد وطريقة استنباط، وكلمة (اجتهاد) -كمصطلح علمي شرعي- كانت تحمل معنيين خلال مرحلتين متعاقبتين: ففي المرحلة الأولى كانت تحمل أيام الصحابة معنى استعمال الرأي الذي اصطلح عليه ﺑ(اجتهاد الرأي). وفي المرحلة الثانية، وبعد أن تطور واقع الفقه الإسلامي عند أهل السنة، إلى استعمال القدرة العلمية على الاستنباط واستعمال وسائل البحث العلمي لذلك، أصبحت تحمل معنى آخر -بالإضافة إلى معناها السابق- وهو ملكة الاستنباط، أو القدرة العلميَّة على الاستنباط. والذي استعارته المدرسة الأصولية الإمامية من الفقه السني وأصوله، واستعملته مصطلحًا علميًّا في الفقه الإمامي وأصوله هو المعنى الثاني أي القدرة العلمية على الاستنباط. وقد فهم بعضهم الاجتهاد المستعار أنه اجتهاد الرأي وما تفرع عنه من القياس والاستحسان والاستصلاح.

2- أن علماء المدرسة الأصولية الإمامية عندما ألفوا في علم الدراية أفادوا من الجانب الفني للتأليف السني في علم مصطلح الحديث، وكذلك في علمَي: الرجال وأصول الفقه، لسبق علماء أهل السنة في ذلك، إن هذه الأعمال من المدرسة الأصولية أثارت الطرف الآخر، فظنوا أن الاستفادة من هذه العلوم السنية كانت في الجوانب الفكريّة أيضًا، وهذا يعني تسرب الأفكار المخالفة لنا من العلوم السنية إلى علومنا».

ب- بيان أثر العامل السياسي في مسيرة التشريع الإسلامي

أشرنا بعاليه إلى أن تدوين الدكتور الفضلي لتاريخ التشريع الإسلامي في تشعباته الفكرية والمذهبية يختلف عن مدوّنات تاريخ التشريع في اتجاهها السنّي، ذلك أنه يرى أن بدء انشعاب المسلمين إلى مدرستين متمايزتين كان بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي عهد كبار الصحابة، ولمّا لم يكن لهذا الخلاف الأثر السياسي أو الحدّة في حالة الصراع كما حدث مع نشوء الدولة الأموية، حيث كان معاوية عنيفًا في محاربة أعدائه، واصفًا محازبيه ومؤيديه بأهل السنة والجماعة، فيما كان الشيعة والخوارج من المخالفين لنهج السنّة والجماعة -حسب الرواية والإعلام الأموي-، حيث ظهرت هذه التسميات في عهد الدولة الأموية، ولذلك قد يبدو للوهلة الأولى أن بدء انشعاب المسلمين إلى مذاهب وفرق واتجاهات كان في مرحلة صغار الصحابة والتابعين كما يذهب مؤرخو التشريع الإسلامي من أهل السنة.

وهي نقطة، وإن لم يصرّح بها الدكتور الفضلي أثناء حديثه عن عهد الإمام علي (عليه السلام)، ولكنها قد تفهم من حديثه عن عهد الأئمة الحسنين وزين العابدين (عليهم السلام)، إذ يقول هناك: «ومن أهم الحوادث التاريخية في مسيرة التشريع الإسلامي في هذا العهد هي أن بلغ الصراع بين المدرستين، مدرسة أهل البيت ومدرسة الصحابة، قمة العنف، وذلك في أيام الحسين (عليه السلام). وكان هذا حول شرعية خلافة يزيد بن معاوية، حيث صارت من أهم المسائل التي دار حولها النقاش في المدينة المنورة.

فمدرسة أهل البيت كانت ترى أن شروط الإمامة لم تتوفر في يزيد، ومن أهم وأجلى هذه الشروط شرط العدالة الذي اشترط توافره فيمن يتولى إمرة المؤمنين بنص القرآن الكريم، وهو قوله تعإلى في قصة إمامة النبي إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.

وصرح رأس مدرسة أهل البيت -يومذاك- الإمام الحسين (عليه السلام) بأكثر من تصريح يوضح فيه مدى الانحدار الذي انتهى إليه التشريع الإسلامي في مجال تطبيقه، حيث يصل الأمر لأن يكون يزيد بن معاوية أمير المؤمنين وإمام المسلمين.

وﻟﻤّﺎ لم تُفِدْ هذه التصريحات في إرجاع مدرسة الصحابة في المدينة -وكان من رؤوسها آنذاك عبد الله بن عمر- عن قبول خلافة يزيد، قرر الإمام الحسين التضحية، ليفجر بدمه الشريف الموقف فيضع المسلمين أمام مسؤوليتهم -وجهًا لوجه- في مقاومة هذا الانحراف في النظرية والانحدار في التطبيق، بعد أن أعلن هدفه من مغادرته مكان الصراع النظري».

وكان سلوك الإمام الحسين (عليه السلام) ذلكم المسلك الفدائي الثوري نتيجة للسياسة الأموية القمعية التي «شدّدت الخناق على مدرسة أهل البيت من قبل معاوية ويزيد وآلهما لئلاّ تنشر شيئًا من فكرها».

وقد أشار مؤرخو التاريخ الإسلامي إلى أن للعامل السياسي الذي بلغ أشدّه في عهد معاوية أثره في انقسام الناس إلى ثلاث فرق: شيعة وخوارج وجماعة، وقد سبق أن أشرنا إلى أن انشعاب المسلمين إلى مدرستين: مدرسة الرأي (الصحابة) ومدرسة النصّ (أهل البيت) قد سبق ذلكم التاريخ بكثير، ولم يبدُ أثره واضحًا إلَّا حينما بلغ الصراع بين هاتين المدرستين في عهد بني أمية الذين «استباحوا أشياء من الأمور المشتبهات في الإسلام، وغلّبوا جانب الرأي فيما يجدُّ من مسائل النزاع وأمور المعاملات، كما استباحوا مكّة التي حرّمها الله، والمدينة التي حرمها رسوله، حيث استباح يزيد بن معاوية المدينة وانتهبها ثلاثًا، وثنّى عبد الملك بن مروان، فأذن للحجّاج في أن يستبيح مكّة، واستباحها الحجّاج، ففعل فيها الأفاعيل، كل ذلك لتخضع البلاد المقدّسة لبني أبي سفيان ولبني مروان من بعدهم».

وفي إشارةٍ أخرى تتعلّق بالجانب السياسي ودوره في حركة التشريع الإسلامي، نقرأ له تحليله لحادثة استشهاد الشهيد الأول محمد بن مكّي العاملي (ت 786ﻫ)، إذ يقول هناك: «أما الإدانة -حقيقةً- فكانت لأنه كان يقول [أي: الشهيد الأول] بولاية الفقيه، وكوّن له تحت مظلتها مرجعية كبيرة في ربوع الشام، حفزته لأن ينتقل من جزّين إلى دمشق، ويصبح من الأعلام البارزة فيها، وذا مكانة مرموقة وشخصية محترمة حتى عند أهل السنة. وبدفع قوي من هذه المرجعية تحرك في ربوع الشام لتجميع فلول الشيعة وجمع أمرهم، وإقامة سلطة سياسية شرعية لهم، فجبى الأموال وأعدَّ الرجال، واتصل بحكومات الشيعة في وقته سرًّا وعلانيةً، ومنها ما ذكر من المكاتبة بينه وبين الملك علي بن المؤيد، عاهل خراسان وما والاها.

ولعل النظام الحاكم في دمشق آنذاك أراد أن يغطي على هذا، فنسب إلى الشهيد (قدس سره) تهمة الاعتقاد بما يخالف السنة».

- إبراز الجانب التربوي والعلمي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)

بلغت مسيرة الدعوة الإسلامية 23 سنة، قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) 13 سنة في مكّة المكرّمة التي سيطرت عليها أجواء الصراع العقائدي ومرحلة تثبيت قواعد الدعوة، ولم يكن هناك تركيز ونشر واسع للأحكام الشرعية التفصيلية، وبخاصّة أن بعض الأحكام لمّا تفرض بعدُ. وعندما انتقل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنوّرة انشغل بمعاركه مع المشركين واليهود، وكذلك في تأسيس النواة الحقيقية للدولة الإسلامية، وذلك في سنواتٍ عشر تخللتها أكثر من 80 معركة.

ولم يختلف الوضع كثيرًا بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ انشغل المسلمون بما عُرف بالفتوحات الإسلاميّة وتثبيت أركان الدولة، كما أن منع تدوين السنّة ونشرها شكّل عاملاً مهمًّا في غياب النصّ النبوي الذي كان يمثّل الدعامة الثانية -بل لعلّه الأولى- في معرفة الأحكام الشرعية، لما تتضمّنه الأحاديث الشريفة من تفاصيل تشريعية لا تحتويها الآيات القرآنية، ففي ظلّ هذا الغياب نشأت مدرسة الرأي التي عمل الأئمة من أهل البيت على محاربة التوسّع فيها، وتثبيت مدرسة النصّ.

لقد قام أهل البيت (عليهم السلام) بدور مهمّ وواسع في نشر السنّة النبوية التي كانوا يروونها متصلةً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، دون عوادي الزمان وأفاعيل المكذّبين والمضلّلين الذين كانت السلطات السياسية آنذاك تستفيد مما كان هؤلاء يدسّونه من أحاديث وأخبار كاذبة يروّجون بها لسياساتهم الظالمة وما كان يصحبها من تشريعات فقهية غير صحيحة.

وقد أكّد المؤلّف الدور المركزي لأهل البيت (عليهم السلام) في هذا الجانب، بدءًا من الإمام علي (عليه السلام) الذي مارس دورًا مهمًّا في تركيز مدرسة النصّ، في: تدوينه لأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك فيما عُرِف بصحيفة علي، وفي تأصيله العلمي في مسألة تصنيف رواة الحديث من الصحابة، وليس انتهاءً بما قام به الأئمة من بعده من دور في التربية والتأهيل العلمي، حيث عمد الأئمة (عليهم السلام) «إلى تكوين شخصيات مثقفة تتمتع بالذهنية العلمية في مجال التفكير، والنظرة العلمية في مجال التحليل، بغية إنماء وإثراء مدرسة أهل البيت بالمتخصصين في حقول المعرفة المختلفة التي هي موضع حاجة الإنسان المسلم في ذلكم العصر، وكانت طرقهم إلى ذلكم الهدف تتلخّص بالتالي: التمرين والتأليف، والتوثيق»، ولبيان هذه المهام الثلاث بذل الدكتور الفضلي جهدًا بحثيًّا متميِّزًا، ففي مجال التوثيق يشير إلى الدور المحفّز الذي كان يمارسه الأئمة (عليهم السلام) تجاه تلاميذهم، يقول في ذلك: «وأعني بالتوثيق:

أ- توثيق الراوي الذي يعني الشهادة له بأنه في المستوى الموثوق به تديُّنًا وعلمًا، فينبغي الرجوع إليه، وهذا -كما هو معلوم- حافز تربوي قوي يدفع -وباعتزاز- إلى الاهتمام في مجال الرواية للأخذ من الإمام والإعطاء لأتباعه وشيعته.

ب- توثيق الفقيه الذي يعني الشهادة له بالفقاهة وجواز الإفتاء، وهذا -بدوره- عامل قوي أيضًا في الحفز على الاهتمام بالفقه والاجتهاد به، وإفادة الناس منه».

وبالإضافة إلى هذه الخصائص، تميّز الكتاب بسلوكه المنهج العلمي الحديث في التبويب وتنظيم المادّة العلمية وأسلوب العرض، ما يجعله من أهم المصادر العلمية في هذا الباب. كما حوى الكتاب تعريفًا تفصيليًّا بأهم المراكز العلمية الإمامية ومسردًا بأهم أعلامها ومدوّناتهم العلمية ودورها في تنمية وتطوير الدرس الشرعي الإمامي.