نقد الفساد السياسي
في التراث العربي الإسلامي
(الغزالي أنموذجاً)
الدكتور ميلود حميدات
الملخص
لم يكن العالِم المخلص لدينه وأمته يرضى أن يسير في ركاب الحاكم الظالم، إيماناً منه بأنه صاحب رسالة مقدّسة لا يجوز له أن يفرّط فيها، ويكفي أن نذكر أن الغزالي في بداية شبابه قبِل العمل مع الوزير(نظام الملك) لما أحسّ منه الصلاح، ولمس فيه حب العلم والعلماء، لأن هذا الأخير هو الذي أسّس المدارس التي هي في مقام الجامعات، والتي أصبحت تُعرف باسمه، أي المدارس النظامية. ونظراً إلى كل ذلك وقف الغزالي معه، وساهم في قيام هذه المدارس بمهمتها على أحسن حال، وذلك باختيار أكفأ المعلمين، وأفضل المناهج والبرامج الدراسية، كما درّس فيها بنفسه، وكوّن الكثير من العلماء.
ولما قُتل (نظام الملك) وتبدّل الحال وكثرت الفتن، تجنب (الغزالي) الحياة السياسية، فرفض المناصب واعتزل التعليم عندما شعر بظلم الحكام، ونأى بنفسه عن تبرير ظلمهم وتسلّطهم على الرعية، فآثر أن يسافر من بلده سائحاً في طلب العلم والحقيقة، ومعتكفاً متعبداً في المسجد الأموي ثم بالمسجد الأقصى بالقدس، ثم حاجًّا إلى مكة، مفضلاً طلب العلم على طلب الجاه، ومختاراً عبادة الله لا عبودية السلطان، هذه السيرة الذاتية للغزالي جسّدها من خلال العلم والعمل، وفي مواقفه السياسية والفكرية من السلطة السياسية.
وفي هذا المقال نتطرق إلى مواقف الغزالي من السياسة ومن علاقة العالم بالحاكم، ورؤيته النقدية الإصلاحية للحكم، ونصائحه للعلماء في علاقتهم بالسياسة، ومحذراً إياهم من تبرير جور واستبداد الحكام، مبرزاً في كل ذلك حاجة الحاكم إلى العالم، وملحًّا على أهمية السلطة العلمية في توجيه السلطة السياسية. وسيكون كل ذلك مدعوماً بالنصوص الأصلية للغزالي.
السياسة عند الغزالي
1-
مفهوم السياسة ومكانتها عند الغزاليالسياسة عند الغزالي (450 - 505ﻫ)، شكْل من أشكال التربية في أسمى صورها، إذ يرى أن إنسانية الإنسان لا تظهر إلَّا من خلال التعامل مع الآخر، لأن الإنسان اجتماعي بالفطرة، لذا يحتاج البشر إلى وازع ديني، ووازع مدني، وهو الحاكم الذي ينظم مصالح العباد، ويسوسهم، وهنا تظهر التربية السياسية التي هي أسمى الصناعات عند الغزالي، لأنها ليست سوى إرشاد الناس إلى طريق ربهم، «إن الدنيا مزرعة الآخرة، والآلة الموصلة إلى الله، فلا دين إلا بالدنيا».
لقد ربط الغزالي بين التربية والسياسة، فالسياسة ليست أكثر من تربية للمجتمع، وإصلاح لأحواله المختلفة، الدينية والدنيوية، والسّير به نحو الخير والسعادة، حيث كان تعريفه للسياسة مؤكداً لذلك، فهي «استصلاح الخلق، وذلك عن طريق إرشادهم إلى الطريق المنجي، في الدنيا والآخرة».
وإذا كانت أشرف الصناعات عند الغزالي هي الأصول، فإنها أيضاً تتفاوت فيما بينها، فأشرفها صناعة السياسة، لأنها تتعلق بتأليف البشر وإصلاحهم.
ولما كانت السياسة هي الأشرف على سائر الصناعات، فهي تتطلب الكمال فيمن يتكفل بها دون غيرها من الصناعات، لأن من يستخدمها يستخدم كل الصناعات.
والسياسة باعتبارها استصلاح للخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم هي على أربع مراتب:
الأولى: وهي العليا - سياسة الأنبياء وحكمهم على الجميع ظاهراً وباطناً.
الثانية: سياسة الخلفاء والملوك والسلاطين، وحكمهم على الجميع ولكن على الظاهر لا على الباطن.
الثالثة: سياسة العلماء بالله، وهم ورثة الأنبياء وحكمهم على باطن الخاصة، ولا يتوصل فهم العامة إلى الاستفادة منهم، وليس لديهم القوة لإلزام العامة بالشرع.
الرابعة: الوعاظ، وحكمهم على باطن العوام فقط.
والنتيجة هي أن أشرف الصناعات الأربع بعد النبوة إفادة العلم، وتهذيب النفوس عن الأخلاق المذمومة المهلكة، وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعدة، وهو المراد بالتعليم.
فإذا استثنينا النبوة التي هي حالة متجلّية متعالية، يستخدم فيها الخالق بعض من يصطفيهم من عباده لهداية الخلق، وهي لطف ورحمة منه، إذ رغم تمييز البشر بالعقل الذي يعرّفهم الحق من الباطل، يزيد الله في رحمتهم بأن يبعث فيهم رسلاً منهم، يعلّمونهم ويرشدونهم إلى طريق الحق. ولما كان العلماء ورثة الأنبياء فمرتبتهم عالية في المجتمع، وهم الأقرب إلى تسيير البلاد والعباد لأنهم أقرب إلى الكمال من غيرهم، أو على الأقل هم أولى بتوجيه الحكام ومساعدتهم في ترشيد الحكم.
ومنه نستنتج أن الغزالي يجعل من السلطة العلمية مصدراً للسلطة السياسية، وفي أضعف الأحوال موجِّهة وراعية لها، لضمان مشروعيتها وصلاحها.
2-
السياسة ضرورة اجتماعية وأخلاقية للبشركما اعتبر أن السياسة ضرورة لتنظيم الاجتماع الإنساني، فالبشر مفطورون على التعاون مع بعضهم لتحقيق عيشهم وسلامتهم، وفي تعاونهم تتجاذب الشهوات والنزعات فيكون صراعهم، وتقاتلهم بسبب التنافس، فكانت السياسة والعدل لضمان استقرارهم، فيشبّه الغزالي السياسة لحفظ المجتمع من الأخطار، كالطب لحفظ الجسم من الأضرار.
إن صراع البشر على حاجات المعاش، وانعدام العدل بينهم هو الذي أظهر ضرورة وجود الحاكم، فتصبح الدولة عنده ضرورة اجتماعية وأخلاقية للجماعة البشرية، إذ يقول الغزالي: «فلو تناولوها بالعدل (أي الدنيا) لانقطعت الخصومات وتعطّل الفقهاء، ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات، فمسّت الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به».
ولما كان الحكم ضروريًّا للفصل بين الناس، وفض تنازعهم، والعدل بينهم، فإنه بذلك يحتاج إلى القانون، ومن يطبقه، فظهرت الحاجة إلى الفقه، لأن «الفقيه هو العالم بقانون السياسة، وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا على الشهوات. فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق، وضبطهم لينتظم باستقامة أمورهم في الدنيا».
ولما كانت السياسة في الإسلام جزءاً من الدين، إذ الهدف إقامة مجتمع فاضل عادل، تقام فيه أركان الدين، إذ يؤكد الغزالي على ذلك: «إن الدنيا مزرعة الآخرة. ولا يتم الدين إلَّا بالدنيا، والمُلك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس. وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع. ولا يتم المُلك والضبط إلَّا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه، وكمال سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى، بل هو مُعين على ما لا يتم الدين إلَّا به».
وعليه يصبح الاجتماع الإنساني ضروريًّا، لأن فيه مصالح العباد وأسباب تعاونهم، إذ لا يمكن أن يفي الناس بمتطلباتهم دون تعاون، إذ «إن الآدمي خلق بحيث لا يمكن أن يعيش وحده كالبهيمة الوحشية، بل يفتقر إلى أن يكون بين جمع متعاونين على أشغال كثيرة، في تهيئة المطاعم والملابس وآلاتهما، ولابد إذ كان لهم اجتماع من أن يكون بينهم عدل وقانون في المعاملة، عليه يترددون، ولولاه لتنازعوا وتقاتلوا وهلكوا».
بل يجعل الغزالي من وظائف السياسة أيضاً، التربية التي هي وظيفة اجتماعية ضرورية، بحيث إن الاجتماع البشري كان من أسبابه توفير تربية الأبناء، إذ «إن الإنسان خُلق بحيث لا يعيش وحده، بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من جنسه، وذلك لسببين: أحدهما حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان.. والثاني التعاون على تهيئة أسباب الطعام والملبس ولتربية الولد، فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة، والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت، ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل، بل لا يمكنه أن يعيش كذلك، ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفّل كل واحد بصناعة».
ويستمد الغزالي ذلك من الدين، إذ كان للسياسة في الإسلام وظيفة تربوية تتبنّاها الدولة وتحرص عليها، فقد ارتبطت التربية بالسياسة في حياة المسلمين منذ أول يوم نزل فيه الوحي، فكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائد المصلح، والمعلم المربي في وقت واحد معاً، وقد أكدت الآيات الكريمة على ذلك: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
وقوله أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾.
بالإضافة إلى أن أول ما نزل من القرآن الكريم، وهو أساس الدولة الإسلامية، كان مؤكداً للوظيفة التربوية، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
ولذلك آمن الغزالي بالتربية كوسيلة لتكوين الإنسان المسلم الصالح، والمواطن الذي ينفع أهله وبلده، وينطبق ذلك على الحاكم والمحكوم، ولذلك دعا إلى ضرورة تعميم التعليم والتعلم، واعتبر التعليم الصحيح الوسيلة إلى رضا الله، وإلى السعادة الدينية والدنيوية، فحث على العلم والتعلم، واستشهد من القرآن والسنة على أهمية العلم والتعلم.
ومنه نستنتج أن الغزالي يجعل من السياسة شكلاً من أشكال التربية التي يجب أن يقوم بها الحاكم نحو رعيته، لتستقيم الحياة الاجتماعية، وتصبح السياسة في حد ذاتها تربية وأخلاقاً.
نقد الفساد السياسي واستبداد الحكام
1-
علاقة العالم بالسياسي عند الغزاليرغم علاقة الغزالي الطيّبة في البداية مع الحكام السلاجقة، خاصة نظام الملك (408 - 485هـ)، إلا أنّه لم يتراجع عن نقد الفساد السياسي، والحكام الظالمين، ونهي العلماء عن التكالب على الحكام، أو أخذ الأموال منهم، وخاصة إن كانت الأموال مأخوذة عن طريق الظلم والرشوة، أو الجزية المجلوبة قهراً ودون وجه حق.
كما يتّخذ -كما ذكرنا سابقاً- موقفاً من السلطة التي يراها ظالمه، بأن يعتزل السياسة والتقرب من الحكام ويعتكف على العبادة، وهو وجه من أوجه رفضه وامتعاضه من الصراع السياسي والاستبداد السياسي.
ومع ذلك لم يعتزل الغزالي السياسة فكريًّا، أو يفرّط في حقه في نقدها، إذ يبلغ حرص الغزالي على تقويم السلطة السياسية سياسيًّا، واقتصاديًّا، إلى حد أن يخصّص أبواباً، وفصولاً في الإحياء، يبيّن فيها المصادر المشروعة وغير المشروعة لأموال الحكام والسلاطين، ويحدّد ما يجوز أخذه منهم وما لا يجوز، وبناءً على ما سبق يضبط شروط مخالطة، أو تجنب الحكام الظلمة، وفي الوقت نفسه ضرورة أمر الحكام بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، رغم صعوبة وخطورة ذلك على العلماء، حيث يقول: «الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى، إمّا بفعله أو بسكوته، وإمّا بقوله وإمّا باعتقاده».
وهي دعوة صريحة بالمفهوم المعاصر إلى المعارضة، والمقاطعة لكل ما يرتبط بالحكام المستبدّين، سواء في التعامل السياسي معهم، وضرورة تجنب أخذ الأموال منهم، أي العمل معهم أو عندهم، وبخاصة بالنسبة للعلماء، أي نخبة المجتمع.
كما يؤكد الغزالي ضرورة أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ويحدّد أن فعل ذلك له درجات، وهي «أن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق».
وأن ما هو مناسب للأفراد مع السلطان هو التعريف والوعظ، وليس القوة تجنباً للفتنة، وخوفاً من أن ما يتولد من المضار أكثر من المنافع. وأما التخشين في الكلام كوصف الظالم بظلمه، فجائز للعلماء في حدود إن لم يلحق ذلك الأذى بالناس، وإن عرّض قائله للخطر، فذاك من أوجه الشهادة والجهاد، لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
وقد قدّم كل ذلك في تحليل دقيق، يبرز فيه نقداً سياسيًّا جريئاً، ودعوة صادقة إلى عدم مجاراة العلماء لظلم الحكام، وضرورة محاربة الجور والفساد السياسي والمالي في هرم السلطة. ولذلك يحث على تجنب الأمراء والحكام الظالمين، واعتزالهم لكيلا يتم تبرير ظلمهم، فإن لم يكن بالاستطاعة ذلك، فيجب إنكار ظلمهم.
بل يبيّن الغزالي في تحليل شيّق علاقة العالم مع الحكام الظالمين للناس، ويحددها منطقيًّا في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتصل العالم بالحكام بإرادته، وقد يُستغل لخدمتهم، وهو أمر مذموم جدًّا عند الغزالي، وقد استشهد بنصوص تحرّم مجاراة العلماء لظلم الحكام، فإن فعل العلماء ذلك فهم شركاء في ظلم الناس، وهم علماء الدنيا وليس الدين، ويفقدون بذلك صفة العلم، ويلبسون صفة العملاء، لأنهم يعملون لإرضاء الحاكم وليس لإرضاء الله.
الحالة الثانية: أن يتّصل الحكام بالعلماء، فعلى العلماء أن يبادروا إلى نصيحة الحكام، وإنكار ظلمهم، وتخويفهم من عواقبه، كل ذلك في إطار من الإكرام والاحترام، والأدب واللباقة، ليحققوا هدفهم. أي أن يستغلوا مجيء الحكام في تبصيرهم بعيوبهم، ونهيهم عن جورهم ودعوتهم إلى الخير.
الحالة الثالثة: أن يعتزل العلماء الحكام الظالمين، والاستغناء عن عطاياهم، صوناً لعلمهم ودينهم من أن يُستغل في خدمة السلطة على حساب الناس، وهذا يصبح ضروريًّا إذا ثبت ظلم الحكام للرعية، وفي هذا قدّم الغزالي أدلة من تجارب السابقين، وأفعال وأقوال الصالحين، تبيّن كلّها أهمية استقلال العالم بعلمه عن الحاكم، وقدرته على المجاهرة بالحق، والنصح للحكام، وإنكار المظالم، لأنه حر لا يتبع في علمه أحد، إلَّا ما يمليه الواجب عليه، وهم العلماء الذين تحتاجهم الأمة، لتقويم الحكام، وتحقيق العدل.
ولعلّ هذا يحيلنا إلى مفهوم المعارضة بالمفهوم الحديث، وخاصة المعارضة العلمية والتي تتشكل من العلماء والمثقفين، وهي نخبة الأمة، والتي يجب أن تتميز بالحرية وأن تمارس حقّها في النقد والمراقبة وتقويم السلطة السياسية بكل أمانة خدمة لمصالح المجتمع، ودفعاً للتسلط والاستبداد.
ويحذر الغزالي في الوقت نفسه، العلماء من التنافس على أبواب الحكام والسلاطين، طلباً لودّهم، وعطاياهم، وبالتالي التجرؤ على مجاراتهم، ولو على حساب الحق، فينشأ علماء السلطان الذين يرضون الحاكم، ويفتون له بما يأمر، وقد أورد الغزالي من قصص الصحابة والصالحين، ما ينهى عن مجاراة الحكام، ومداهنتهم وإطرائهم على حساب الحق. كما حذر العلماء من التسرع في الفتيا، وإنما يجب التحرز والتحقق، والتأكد من الجواب، لأن التسرع والخطأ فيه هلاك الدين والدنيا.
لا يكتفي الغزالي بما سبق وإنما يفضح الحكام الظالمين، والعلماء المتواطئين معهم، مبيناً أن الحكام لا يقدّمون أموالاً للعلماء إلَّا إذا ضمنوا ولاءهم وخدمتهم، وبالتالي قبول عطاياهم هو قبول العلماء لخدمتهم، ثم الوقوع أسرى لرغباتهم، وليس خدمة للعلم والحق، إذ يقول الغزالي في ذلك: «فأما الآن، فلا تسمح نفوس السلاطين بعطيّة إلَّا لمن طمعوا في استخدامهم والتكثّر بهم، والاستعانة بهم على أغراضهم، والتجمل بغشيان مجالسهم، وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء، والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم، فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً، والتردد في الخدمة ثانياً، والثناء والدعاء ثالثاً، والمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً، وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً، وبالستر على ظلمه ومقابحه، ومساوئ أعماله سابعاً، لم ينعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلاً، فإذن لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان، ما يعلم أنه حرام أو يشك فيه».
ويبدو من هذه الفقرة واضحاً أن الغزالي يدرك جيداً سيطرة السياسي على العالم، واستغلاله وبالتالي ينشأ علماء السلطة، الذين لا يتوانون عن الدفاع عن الحاكم ولو على حساب الحق. بل كما نلاحظ يحدّد حتى ما هو مطلوب من العالم حتى ينال رضا السياسي وعطاياه، وهنا تبرز قوة الغزالي في دعوته إلى استقلال العالم عن الحاكم، وأن يكون العالم موجِّهاً للسياسي وليس العكس.
وبناءً على ما سبق ندرك كيف يركّز الغزالي على استقلالية العالم عن السياسي، ليكون بذلك قادراً على قول كلمة الحق دون مجاراة أو محاباة لأهل الحكم، وهي بالمنظور الحديث ملاحظات صالحة لزماننا، إذ كثيراً ما تُحجب الحقائق من علماء السلطان، أو تبرّر أفعال الحكام ولو كانت في غير صالح العباد والبلاد، بل أصبحت البطانة السيئة التي تحيط بالحكام تحجب عنهم حقيقة الأشياء، كما تساهم في عدم إصلاح السلطة السياسية، لأنها تعمل على الحفاظ على امتيازاتها ومصالحها ولو على حساب المجتمع.
2-
الغزالي ونقد الحكاملقد التزم (الغزالي) في سلوكه السياسي نقد السلطة، وقول الحق بجرأة، وإن كلفه ذلك كثيراً، فقد دعم مثلاً الخليفة العباسي (المقتدي بأمر الله ت487ﻫ) لما طُلب منه التخلي عن تعيين الولاة للسلطان السلجوقي (محمود بن ملكشاه ت487ﻫ) الذي خلف أباه بعد وفاته، وقد كان صبيًّا صغيراً، فامتنع الخليفة ووافقه الغزالي على ذلك، في حين أفتى بعض العلماء بجواز ذلك، فلم يُعمل إلَّا بقول الغزالي.
كما ألّف (الغزالي) التبر المسبوك في نصيحة الملوك باللغة الفارسية، بهدف نصيحة السلطان السلجوقي (محمد بن ملك شاه الذي تولى الحكم سنة 498ﻫ) (ت511ﻫ)، وهو «الذي كان يرى فيه صورة الحاكم القوي المتدين، الذي يستطيع أن يثبّت دعائم الإسلام الصحيح..».
كما يُعدّ ذلك انسجاماً مع إيمانه العميق بأن الدين النصيحة، وأن وظيفة العالم وظيفة تربوية توجيهية للجميع حاكم ومحكومين، وأنه لا تصلح الأمة ما لم يصلح مسؤولوها، وحكامها.
كما أن له رسائل بالفارسية إلى بعض حكام الأقاليم والملوك فيها شكاوي الناس من الظلم، ودعوة إلى العدل، وإنصاف الناس، من أمثلة هذه الرسائل رسالة الغزالي إلى (سنجر ابن ملك شاه السلجوقي حاكم خراسان) التي جاء فيها: «أسَفًا أنّ رقاب المسلمين كادت تنقضّ بالمصائب والضرائب، ورقاب خيلك كادت تنقضّ بالأطواق الذهبية».
أما رسالته إلى (فخر الملك بن نظام الملك ت501ﻫ) فيقول فيها: «اعلم أن هذه المدينة (مدينة طوس) أصبحت خراباً بسبب المجاعات والظلم، ولما بلغ الناس توجهك..خافوا.. واعتذر الظالمون إلى المظلومين واستسمحوهم، لما كانوا يتوقعون من إنصافٍ منك، واستطلاعٍ للأحوال، ونشاطٍ في الإصلاح. أما وقد وصلت إلى (طوس) ولم ير الناس شيئاً، فقد زال الخوف، وعاد الفلاحون والخبازون إلى ما كانوا عليه من الغلاء الفاحش والاحتكار، وتشجّع الظالمون، وكل من يخبرك من أخبار هذا البلد بخلاف ذلك، فاعلم أنه عدو دينك.. اعلم أن هذه الكلمات لاذعة مرة قاسية لا يجرؤ عليها إلَّا من قطع أمله عن جميع الملوك والأمراء فاقدرها قدرها، فإنك لا تسمعها من غيري، وكل من يقول غير ذلك فاعلم أن طمعه حجاب بينه وبين كلمة الحق».
ما نستنتجه من هذه النماذج هو أن الغزالي يدعو إلى:
- ضرورة النصيحة للحاكم وقول الحقيقة مهما كانت، لتبصير الحاكم بحال الناس، ودعوته إلى تحمل مسؤولياته.
- تحذير الحاكم من بطانة السوء، التي تزيّن الأمر للحاكم، ولا تنقل له حقيقة ما يحدث.
- دعوة العلماء إلى قول الحقيقة ونقل مطالب الناس بصدق إلى الحكام.
- دعوة الحكام إلى إقامة العدل ومعاقبة الظالمين، وعدم إرهاق الناس بالضرائب والمكوس، ومحاربة الاحتكار والغلاء، والمبادرة إلى الإصلاح.
الخلاصة
وما نستخلصه بعد هذا التحليل هو أن التربية السياسية عند الغزالي لها وجهان: وجه عملي واقعي كان من خلال احتكاك الغزالي المباشر مع الحكام والأمراء السلاجقة والعباسيين، ودعوتهم وتعليمهم، وتوجيههم إلى الحكم الراشد، من خلال التدريس في المدرسة النظامية، وحضور مجالس المناظرات، وأيضاً الرسائل التي وجهها إلى الحكام، وقد مثلنا لبعضها، والتي كانت توجّه وتنتقد سياسة الحكام بشكل مباشر.
أما الوجه النظري في فلسفته السياسية فقد ظهر في مؤلفاته، (كالمستظهري)، وبالخصوص (التبر المسبوك في نصيحة الملوك)، والذي خصّصه -كما هو واضح من عنوانه- لنصيحة الملوك والحكام وتبصيرهم بواجباتهم تجاه الرعية، وقد ضمنه فصولاً مستفيضة ركّز فيها على التربية السياسية للحاكم.
وأهم ما قدمه الغزالي هو رؤيته النقدية للسلطة الحاكمة، ودعوته إلى ضرورة مراقبتها ومعارضتها إذا تعلق الأمر بظلم الناس، وبالتالي بيّن واجب العلماء نحو السلطة السياسية، وحذّر وبشدّة منذ ذلك الوقت من أن يتحوّل العلماء إلى موظفين لخدمة الحاكم وتبرير أفعاله، رغبة في تحقيق المكاسب والمناصب.
كما برز الغزالي السياسي الذي يقدم الاستشارة السياسية، ومعالم ومبادئ الحكم الراشد، سواء من خلال مؤلفاته السياسية، أو رسائله التي أشرنا إليها.
ومنه نستنتج أن الغزالي يؤمن بأهمية المجتمع المدني، والنخبة العلمية بالمفهوم الحديث في تقويم السلطة السياسية، ومنعها من الظلم، وبالتالي إصلاح المجتمع، وهي جزء من منظومة التربية السياسية التي ينادي بها، إذ يؤكد علاقة التكامل بين السياسة والعلم، وضرورة توجيه هذا الأخير للسياسة نحو الخير. وهو استلهام لمبادئ الإسلام التي تهدف إلى إقامة المجتمع العادل، والحكم الراشد، في إطار من التكافل والتعاون بين طرفي المعادلة.
ولذلك ما أحوجنا اليوم إلى تلك التربية التي تدعو إلى التكامل والتوحد، بين الحاكم والمحكوم خدمة لمصالح الأمة الواحدة، وأن تتوحد الأمة حكاماً ومحكومين لخدمة مصالح أمتهم، لأن التاريخ يعيد نفسه، والأمة تتعرض للهجوم الداخلي والخارجي، وهي بحاجة إلى علمائها ومفكريها لتبصير الحاكم والمحكومين، بواجباتهم حتى يتم العمل على حماية المجتمع الإسلامي في كل أقطاره من الفتن الداخلية، والعدوان الخارجي المتربص بمقدراته.
ولا يتأتى ذلك إلَّا بالعلم والعمل، واستلهام العبر من العلماء المخلصين، الذين ينصحون للحاكم والمحكوم، ويدعون إلى تحقيق قيم الإسلام في حياة المسلم في تعامله مع نفسه ومع غيره. تحقيقاً للمجتمع العادل القوي الذي يقوم فيه كل طرف بواجبه، فتتحقق فيه حقوق الجميع، وتضمن فيه مناعة المجتمع ضد كل الأخطار الداخلية والخارجية.