شعار الموقع

مفهوم «التحيز» عند عبد الوهاب المسيري

علي صديقي 2012-10-04
عدد القراءات « 2770 »

يعد مفهوم «التحيز» أحد المفاهيم المركزية في الثقافة العربية عامة، وفي مشروع الدكتور عبد الوهاب المسيري الفكري خاصة؛ إذ إنه رغم عدم استخدام الثقافة العربية هذا المصطلح للدلالة على معناه، فإنها بالمقابل- استخدمت جملة من المصطلحات التي ترتبط به وتدور في فلكه، مثل «الهوية»، و«الخصوصية»، و«المحلية»، وغيرها. بل إن حديث هذه الثقافة عن «التقريب»، و«التأصيل»، و«التبيئة»، و«التكييف»، وغيرها من المفاهيم المماثلة التي شاع استخدامها في الفكر العربي، هو إقرار بالتحيز والخصوصية؛ إذ لا معنى للحديث عن التأصيل دون أن يسبقه إقرار بتحيز المعرفة التي يسعى الباحث إلى تأصيلها. أما مركزية هذا المصطلح في مشروع المسيري فأمر لا يحتاج إلى تعريف، ويكفي القول بأنه هو من أعطاه دلالته الحديثة، وأسسه باعتباره علماً له مرجعيته ومفاهيمه وآلياته.

ويهدف هذا البحث إلى التعريف بهذا المفهوم في الثقافة العربية بشكل عام، وفي مشروع المسيري بشكل خاص، وتحديد خصائصه وأنواعه، والإشارة إلى جهود المسيري في تطويره.

أولاً: مفهوم التحيز في الثقافة العربية

1- التحيز لغة

التَّحَيُّزُ مصدر الفعل تَحَيَّزَ، وتدل استعمالات مادته (ح.و.ز)، في المعاجم اللغوية العربية، القديمة والحديثة، على جملة معانٍ، لعل أهمها: الدلالة على الانضمام، والامتلاك، والمكان. يقول ابن فارِس (توفي 395ﻫ): «الْحَاءُ والْوَاوُ والزَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ والتَّجَمُّعُ، يُقَالُ لِكُلِّ مَجْمَعٍ وَناحِيةٍ: حَوْزٌ وَحَوْزَةٌ، وَحَمَى فُلانٌ الْحَوْزَةَ، أَيْ المَجْمَعَ والنَّاحِيةَ... وكلُّ مَن ضَمَّ شيئًا إلى نفسِه فقد حازَهُ حَوْزًا... والحُوزِيُّ من الناس: الذي يَنْحَازُ عنهم ويعتزُلهم».

ويقول ابن منظور (توفي 711ﻫ) في لسان العرب: «... انْحازَ الْقومُ: تَرَكُوا مَرْكزَهم ومَعْركةَ قِتالِهم ومَالُوا إلى مَوْضعٍ آخر. وتَحَوَّزَ عنه وتَحَيَّزَ إذا تَنَحَّى... والْحَوْزُ: الْجَمْعُ. وكلُّ من ضَمَّ شيئًا إلَى نفسِه مِن مالٍ أَو غيرِ ذلك، فقَدْ حازَهُ حوْزًا وحِيازَةً... وكلُّ ناحيةٍ على حِدَةٍ حَيِّز... والحَوْزَةُ: النَّاحيةُ».

أما «المعجم الوسيط»، فقد اكتفى باستعادة ما ورد في المعاجم القديمة، ولم يضف إلى الكلمة معنى جديداً، عدا تلك الدلالة السياسية الحديثة، وقد جاء فيه: «...(حَازَ) الشيءَ حِيازَةً: ضَمَّهُ ومَلَكَه... (وانْحَازَ) القَوْمُ: تَرَكُوا مركَزَهُم إلَى آخَر... (الانْحِيازُ): الانْضِمامُ. وسياسةُ عدمِ الانْحِيازِ (في الاصطلاح الحديث): عَدمُ الانضِمَامِ إلى فريقٍ دونَ فَريقٍ... (الحَوْزَةُ): النَّاحيةُ... (والحَيِّزُ): المَكَانُ».

ووردت كلمة «التحيز» في القرآن الكريم بصيغة اسم الفاعل، بمعنى المائل إلى غيره، المنضم إليه. يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ.﴾ (الأنفال: 16).

وقد فسر محمد بن جرير الطبري (توفي 201ﻫ)، قوله تعالى: ﴿مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾، بقوله: «صائراً إلى حيز المؤمنين». وأضاف: «والمتحيز: الفارّ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه».

وردد ابن كثير (توفي 774ﻫ) التفسير نفسه، حيث فسر الآية بقوله: «أي فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه». ونقل عن الضَّحاك قوله: «المتحيز الفار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه».

2- التحيز اصطلاحاً

يدل مصطلح التحيز، وما يشتق منه، مثل: «الحَيِّز» و«المُتَحَيِّز»، في كتب الحدود، وموسوعات المفاهيم الفنية والعلمية العربية القديمة، على المكان. يقول محمد علي التَّهَانَوي (توفي بعد 1158ﻫ) في تعريف التحيز: «التحيز: هو الحصول في المكان... هذا وإن كان في نفسه صحيحاً باعتبار ترادف الحيز والمكان، لكن أولى أن يفسر بالحصول في الحيز لكونه صحيحاً مطلقاً سواء اعتبر ترادفهما أو لا».

ويقول محمد بن أحمد الخُوارزمي (توفي 380ﻫ)، محدداً مصطلح الحيِّز، في سياق حديثه عن مواضع الكواكب: «الحيزان: يكون الكوكب الذكر في برج ذكر بالنهار فوق الأرض وبالليل تحت الأرض، أو يكون الكوكب الأنثى في برج أنثى بالنهار تحت الأرض وبالليل فوق الأرض، فيقال: هو في حيزه».

ويعرف الشريف الجرجاني (توفي 816ﻫ) الحيز عند المتكلمين والفلاسفة بقوله: «الحيز عند المتكلمين هو الفراغ المتوهّم الذي يشغله شيء ممتد كالجسم أو غير ممتد كالجوهر الفرد. وعند الحكماء هو السطح الباطن من الحاوي المماسِّ للسطح الظاهر من المَحْوِيِّ». و«الحيز الطبيعي: ما يقتضي الجسم بطبعه الحصول فيه».

ويؤكد التهانوي ترادف الحيز والمكان لغة واصطلاحاً؛ فالحيز في اللغة هو «الفراغ مطلقاً، سواء كان مساوياً لما يشغله أو زائداً عليه أو ناقصاً عنه... وفي أكثر كتب اللغة إنه المكان». أما في اصطلاح الحكماء والمتكلمين، فـ«لا يتصور زيادة الشيء ولا زيادة حيزه عليه. قال المولوي عصام الدين في حاشية شرح العقائد في بيان الصفات السلبية: الحيز والمكان واحد عند من جعل المكان السطح أو البعد المجرد المحقق، وكذا عند المتكلمين. إلا أنه بمعنى البعد المتوهم. فما قال الشارح التفتازاني من أن الحيز أعم من المكان لأن الحيز هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء ممتد أو غير ممتد. فالجوهر الفرد متحيز وليس بمتمكن لم نجده إلا في كلامه. وأما عباراتهم فتفصح عن اتحاد معنى الحيز والمكان...».

من هنا، يكون المتحيز هو كل موجود شغَل حيزاً وكان في مكان ما، وضده ما ليس بمتحيز. يقول أبو بكر محمد بن سَابِقٍ الصِّقِلِّيُّ (توفي 493ﻫ): «الموجودات ضربان: قائم بنفسه وغير قائم بنفسه. فكل قائم بنفسه موجود، وليس كل موجود قائماً بنفسه.

وحدُّ القائم بنفسه: كل ما استغنى في الوجود عن موجود يوجد به. وهو ضربان: متحيزٌ وغير متحيزٍ؛ فالمتحيز الجوهر الذي لابد أن يكون في مكان إذا كان مع غيره، أو في تقدير مكانٍ إذا خلا وحدَه...، وحدُّ ما ليس بمتحيزٍ، ما لا يحتاج في وجوده إلى غيره، وهو الله سبحانه وتعالى الخالق للمكان، والموجود قبل الزمان».

ويعرف التهانوي المتحيز بأنه «هو الحاصل في الحيز. وبعبارة أخرى القابل بالذات أو بالتبعية للإشارة الحسية. فعند المتكلمين لا جوهر إلا المتحيز بالذات أي القابل للإشارة بالذات، وأما العرَض فمتحيز بالتبع. وعند الحكماء قد يكون الجوهر متحيزاً بالذات وقد لا يكون متحيزاً أصلاً كالجواهر المجردة».

أما المعاجم العربية المتخصصة الحديثة، فإننا لا نعثر في كثير منها على مصطلح التحيز، باستثناء «معجم العلوم الاجتماعية» الذي حصره في علم النفس، وحدده تحديدات أغلبها سلبية، فجاء مرادفاً للذاتية وللخطأ في التقدير، وللتسرع في إصدار أحكام القيمة.

ويعرف ميجان الرويلي وسعد البازعي التحيز بقولهما: «والمقصود بالتحيز هنا ارتباط الثقافة ومنتجاتها بالخصائص المميِّزة لتلك الثقافة، وبالظروف الزمانية والمكانية التي حكمت تشكل تلك الثقافة ومنتجاتها في مرحلة معينة. كما أن من المقصود بلوغ التحيز حدًّا يجعل من الصعب فهم تلك الثقافة دون الوعي بجوانب تحيزها لنفسها ولظروفها المكانية والزمانية، بالإضافة إلى ما يخلقه من عوائق أمام نقل تلك الثقافة ومنتجاتها إلى حيز ثقافي آخر دونما غربلة لبعض السمات الأساسية تخلصها من ذلك التحيز أو الخصوصية أو تقلل من معدلهما». من هنا، يؤكدان أن تعرف ظاهرة التحيز أمر ضروري «لفهم الثقافات الإنسانية بشكل عام، وبتحديد أكثر، فهم كيفية تشكل منتجات ثقافة ما، من معرفة وفنون، ومناهج ومفاهيم، وغير ذلك. كما أنها ظاهرة مهمة لفهم كيفية التفاعل بين الثقافات».

إن التحيز عند البازعي يفيد معنى «الخصوصية»، لكن ليس بمفهومها السلبي الذي يعني لدى البعض «الاختلاف المتضمن معنى الانقطاع والعزلة، فتكون خصوصية ثقافة أو حضارة ما ضرباً من التباعد عن بقية الثقافات والحضارات، بالإضافة إلى معنى سلبي آخر هو دعوى التميز، أي الخصوصية لا من حيث مجرد الاختلاف وإنما من حيث التميز بما ينطوي على التفوق». إن الخصوصية عنده لا تعني سوى «الاختلاف النسبي القائم على جملة سمات ثقافية نتجت عن تراكمات تاريخية وتفاعلات بيئية ومجتمعية بالإضافة إلى اجتهادات فكرية وإبداعية على مستوى الأفراد...».

ويؤكد البازعي أن خصوصية المناهج والنظريات والمفاهيم النقدية الغربية مزدوجة: خصوصية الحضارة الغربية باعتبارها كلًّا ينتمي إليه مبدعو هذه النظريات والمناهج والمفاهيم، ويشكل منطلقهم ومرجعيتهم، وخصوصية الأفراد أنفسهم، منتجي هذه النظريات والمناهج. يقول: «الخصوصية التي نتحدث عنها في سياق هذه الملاحظات، خصوصية المناهج والنظريات والمفاهيم النقدية الأدبية التي أنتجتها الحضارة الغربية، ظاهرة تنبع من تلك الخصوصية الضيقة، خصوصية الأفراد منتجي النظريات والمؤثرين فيها، مثلما تنبع من الخصوصية الأكبر، أي خصوصية الحضارة ككل التي انطلق منها وعاد إليها كثير من النتاج الفكري الغربي امتداداً مما تعلنه عناوين الكتب وصولاً إلى الدراسات المتخصصة المعمقة سواء في الفلسفة أو التاريخ أو الاجتماع».

ويشير إبراهيم بيومي غانم، في سياق تحديده للتحيز في العلوم الاجتماعية، «إلى أن مناهج وأدوات هذه العلوم ليست مطلقة أو عامة، كما أن النتائج التي يتم التوصل إليها باستخدام تلك المناهج والأدوات ليست صالحة لكل زمان ومكان، ولكنها متحيزة -من حيث الصلاحية- في إطار اجتماعي، وسياق زماني محددين، أي أن الإنسان لا يملك إلا أن يكون متحيزاً، وذلك بحكم عوامل متعددة، مثل التاريخ، والدين، والتراث، والوضع الطبقي، والمناخ الثقافي، ومن ثم «فموضوع» التحيز يكاد أن [كذا] يشمل كل مجال للإنسانية فيه رؤية ورأي، أو نظر وموقف، وخاصة في مجال العلوم الإنسانية على اختلاف فروعها، إذ هو أي التحيز- لصيق بها، ويستيقنه كل باحث أو عالم في قرارة نفسه، ولا ينفي وجوده أن ينكره البعض باسم «موضوعية» العلم أو حياده».

إن التحيز بهذا المفهوم، يعني أن المناهج، مهما اختلفت مجالاتها المعرفية، وخصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، منظومة متكاملة، تشمل الأدوات الإجرائية، والرؤية المعرفية المؤطرة لها. من هنا، فهي متعددة تعدد أنماط المعرفة، كما أنها نسبية وعرضة للتطور الدائم والتغير المستمر، وبذلك فهي لا تقبل صفة الإطلاقية والكونية، لأنها ليست متعالية على الخصوصيات التاريخية والحضارية التي أوجدتها. الأمر الذي يعني أن كفاءتها الإجرائية محددة بالزمان والمكان.

ثانياً: التحيز عند عبد الوهاب المسيري

1- مفهوم التحيز عند المسيري

يعرف المسيري التحيز بقوله: «ثمة إحساس غامر لدى الكثير من العلماء العرب بأن المناهج التي يتم استخدامها في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تماماً، بل ويرون أنها تعبر عن مجموعة من القيم التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، وتقرر مسبقاً كثيراً من النتائج. وهذا ما نطلق عليه اصطلاح «التحيز»، أي وجود مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب معه التخلص منها».

بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يؤكد أن كل شيء في حياة الإنسان من حركات وأفعال وسلوكيات وكلمات وحوادث وإشارات وغيرها، له دلالة، وأن كل ما هو إنساني «له بعد ثقافي وحضاري وتعبير عن نموذج».

والنموذج المعرفي هو تلك الصورة العقلية المجردة، أو تلك الرؤية الكلية التي تحدد للإنسان مجال رؤيته لذاته وللكون المحيط به وتوجهها. ولذلك، فهي «تشكل ما يمكن تسميته «خريطة معرفية»، ينظر الإنسان من خلالها للواقع». وهذا النموذج ليس معطى جاهزاً في الواقع، بل هو «نتيجة عملية تجريد عقلية مركبة (تفكيك وتركيب)، إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع، فيستبعد بعضها ويبقي البعض الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها ويركبها، بل أحياناً يضخمها بطريقة تجعل العلاقات تشكل ما يتصوره العلاقات الجوهرية في الواقع».

ويرى المسيري أن وراء كل نموذج بعداً معرفيًّا لا يمكن استبعاده أو تجاوزه، ويتمثل هذا البعد في معايير النموذج الداخلية التي «تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية، تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي، وهي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، وحلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق ونسبي من منظوره، فهي باختصار، مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية (ما الهدف من الوجود في الكون؟ هل الإنسان مادة وحسب، أم مادة وروح؟ أين يوجد مركز الكون: كامناً فيه أم مفارقاً له؟)».

المرجعية، إذاً، هي الثابت والمبدأ الذي يرد إليه كل نتاج إنساني، لأنها هي التي تمنح الظواهر الإنسانية، التي لا يمكن عزلها عنها مهما بلغت درجتها من الحياد والموضوعية، المعنى والدلالة. من هنا، كانت المرجعية «الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين، والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج)، والمبدأ الواحد الذي ترد إليه كل الأشياء وتنسب إليه، ولا يرد هو أو ينسب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته والذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر».

ويميز المسيري بين مرجعيتين مختلفتين ومتعارضتين، هما: «المرجعية النهائية المتجاوِزة»، و«المرجعية النهائية الكامِنة»؛ تتميز الأولى بأنها نقطة خارج الطبيعة، فهي متجاوزة لها وللتاريخ والإنسان، وهذه النقطة المتجاوزة هي الإله الواحد المنزَّه في النظم التوحيدية. أما الثانية، فهي مرجعية كامنة وحالَّة في الطبيعة والإنسان؛ إذ يصبح العالَم مقياس ذاته، على اعتبار أنه يحوي داخله كل العناصر التي تكفي لتفسير ذاته بذاته، دون حاجة إلى نقطة ارتكاز تكون خارج النظام الطبيعي.

ورغم تعدد المرجعيات، وعدم إمكانية الحديث عن مرجعية واحدة كامنة خلف كل النماذج المعرفية، فإن الإنسان بحكم فطرته يؤمن بمرجعية واحدة. أما الذي يؤمن بمرجعيات مختلفة، وأحياناً متناقضة، فهو إنسان مصاب بالفصام؛ إذ كيف يصح الإيمان بمرجعية دينية وأخرى علمانية في الوقت ذاته؟.

2- خصائص التحيز

إن التحيز جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية ما دام أن كل ما هو إنساني تعبير عن نموذج. من هنا، فإن أهم سمة للتحيز هي «الحتمية»؛ أي أن التحيز في الخطاب الإنساني حتمي، لأنه «مرتبط ببنية العقل الإنساني ذاتها، لأنه ليس عقلاً سلبيًّا أو متلقياً يسجل تفاصيل الواقع كالآلة الصماء دون اختيار أو إبداع، وإنما هو عقل فعال لا يدرك الواقع مباشرة، وإنما يدركه من خلال نموذج معرفي محمل بالأشواق والأوهام والأهواء والأساطير والمصالح».

أضف إلى ذلك، أن التحيز «لصيق باللغة الإنسانية نفسها»، هذه اللغة التي لا تحتوي على «كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته، أي أنه لابد من الاختيار. كما ثبت أن كل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية، وأكثر كفاءة في التعبير عنها». ولذلك، كان التحيز «من صميم المعطى الإنساني ومرتبطاً بإنسانية الإنسان، أي بوجوده ككائن غير طبيعي لا يرد إلى قوانين الطبيعة العامة ولا ينصاع لها. فكل ما هو إنساني يحتوي على قدر من التفرد والذاتية ومن ثم [على قدر من] التحيز».

غير أنه رغم حتمية التحيز، وعدم إمكانية استبعاده بشكل تام، فإنه ليس نهائيًّا، ويمكن التقليل من آثاره، لأن ثمة مرجعية نهائية مشتركة، فهو «ليس نهاية المطاف، فالنهائي هو الإنسانية المشتركة (والقيم الأخلاقية) التي تسبق أي تنوع أو تحيز».

كما أن حتمية التحيز والاختلاف لا ينبغي أن تتسبب في «الاكتئاب والحزن»، ولا أن تتولد عنها ردود فعل سلبية وعدائية، لأن التحيز «ليس بعيب ولا نقيصة، بل على العكس يمكن أن يجرد من معانيه السلبية وأن تكتشف معانيه الإيجابية».

وأول هذه المعاني وأهمها، إدراك خصوصية الظواهر الإنسانية، ما دام أن الإنسان قادر على الاختيار، لأن كل ظاهرة إنسانية «تحوي تحيزات إنسانية، ومن ثم فلها خصوصيتها، بل و[لها] أحياناً ملامحها الفريدة».

أما ثاني هذه المعاني، فهي «التواضع العلمي»، فإدراكنا للتحيز «قد يقلل من خيلائنا قليلاً، فنحن لا نتصور البتة أن وجهة نظرنا «موضوعية» «عالمية» تتفق مع القانون العام، إذ إننا سندرك أن تحيزاتنا تقف بيننا وبين الواقع، وتلون إدراكنا بذاتيتنا، ولذا فإننا سنطرح رؤانا بقليل من التواضع والانفتاح».

أما ثالثها، فإن إدراك التحيز سيفتح أمامنا أبواب الإبداع والانفتاح الحقيقيين، إذ إن ذلك سيجعلنا نبحث عن «مناهج جديدة لتناول الواقع»، وعدم الاكتفاء بالمناهج الموجودة الجاهزة.

نخلص مما سبق، إلى أن القول بالخصوصية الحضارية، وبتحيز المناهج والمفاهيم، ليس نهائيًّا، ولا يفيد معنى الانغلاق والانكفاء على الذات؛ «أي ليس إلغاء لإمكانات الاستفادة أو لوجود أشياء مشتركة، فالقول بإلغاء كل ذلك قول ساذج ومناف لحقائق الفكر والتاريخ. تحيز المنهج هنا يعني، ببساطة، انسجام مجمل آليات التفكير والاستنباط المعرفي مع الأنساق الكبرى للثقافة أو الحضارة التي تصدر عنها تلك الآليات».

ومن شأن التسليم بحتمية هذا الارتباط، والانسجام بين مختلف المناهج والمرجعيات التي تصدر عنها، أن يلغي «النقل السهل، أو الاستعارة المجانية»، ويفسح المجال أمام «تأصيل طرائق التفكير ضمن ظروفها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، لكي يتم التلاقح الحضاري في حدود الشخصية الحضارية القائمة، أي ضمن الوعي بالاختلاف».

إن هذا «الوعي بالاختلاف»، في تقديري، هو ما يغيب عن حضارتنا الراهنة لتحقيق النهضة الحقيقية المنشودة في جميع مجالات الفكر العربي الإسلامي، لأنه بغياب هذا الشرط يغيب معه الاجتهاد الموصل إلى الإبداع، ويحل محله التقليد المفضي إلى الاتباع، الذي لا يتطلب غير النسخ أو المسخ أو السلخ.

3- أنواع التحيز

ينقسم التحيز إلى عدة أنواع، أهمها:

1.3. التحيز الكُلِّي

وهو «أن يتحيز الباحث لكل جوانب النموذج المعرفي الذي يتبناه بكل تشابكاته وتضميناته (بحلوه ومره وخيره وشره)».

والأمثلة على هذا النوع من التحيز كثيرة في خطابنا الفكري العربي القديم والحديث والمعاصر؛ فقد تحيز كثير من «الفلاسفة المسلمين» إلى فلسفة أرسطو ومنطقه، وتحيز كثير من رواد النهضة العربية والنقد الحديث إلى النموذج الحضاري الغربي، وما يزال كثير من نقادنا ومفكرينا المعاصرين، في مختلف مجالات المعرفة، متحيزين هذا النوع من التحيز إلى الحضارة الغربية، وعلومها، وفلسفتها، وأدبها، وفنها، ومناهجها، ومفاهيمها.

2.3. التحيز الجزئي

وهو التحيز إلى «عنصر واحد» من عناصر النموذج. وهذا النوع من التحيز يمكن أن يكون نتيجة جهل الباحث بالنموذج المعرفي الذي يتبناه، ولكنه يمكن أن يكون، أيضاً، «فعلاً واعياً يقوم به شخص واثق من نفسه له هوية واضحة يدور في إطارها، ويقف على أرضيتها، وله تحيزاته المحددة، ثم ينظر إلى العالَم ويأخذ منه ما يريده، فهو يمسك بالميزان ولا يخاف أن يستورد الأفكار والأشياء من الخارج ولكنه يزن ما يستورده بميزانه، ويعيد صياغته مع ما يتفق مع معاييره، أي أن هذا الشخص ليس ضد الوافد، وليس ضد الاستفادة من الآخر، وليس ضد الانفتاح عليه، ولكنه ضد أن يضع أحدهم ميزاناً مستورداً في يده ليزن به الأشياء، وضد أن يتحدث عن نفسه بضمير الغائب، وضد إغلاق باب الاجتهاد بالنسبة للآخر».

ومن الأمثلة على هذا النوع من التحيز، في نظر المسيري، حركة الترجمة التي قام بها المسلمون في العصر العباسي، حين ترجموا من الفارسية والهندية واليونانية، ولم يقتصروا على الترجمة من حضارة دون أخرى. أضف إلى ذلك، أنهم أتبعوا تلك الترجمة بالنقد والشرح والتعليق على المترجَم.

ويمكن أن ندرج في إطار هذا النوع من التحيز، دراسات عبد الوهاب المسيري نفسه؛ إذ يوظف، في كثير منها، عدداً من مفاهيم مدرسة فرانكفورت، رغم الخلفية اليهودية لبعض روادها، ومن هذه المفاهيم: «العقل الأداتي»، و«العقل النقدي»، و«التفسير الأحادي البعد»، و«التشيؤ»، و«الاستلاب»، و«الإنسان ذو البعد الواحد»، و«الاغتراب»...إلخ، وهي مفاهيم ضاربة بجذورها في السياق الحضاري الغربي، لكن المسيري يعيد صياغتها بما يتفق مع رؤيته المعرفية، ويسخّرها لفضح تحيزات النموذج الحضاري الغربي، وتأكيد نسبيته وخصوصيته.

3.3. التحيز التَّلْفِيقِيّ

التلفيق كما تعرفه المعاجم الفلسفية، هو «خلط غير منظم لوجهات نظر مختلفة، غالباً ما تكون متعارضة تعارضاً قطعيًّا... ومن الأمثلة عليها المحاولات العديدة للتزويج بين المادية والمثالية».

من هنا، يكون التحيز التلفيقي هو التحيز لعدد من الأفكار والرؤى والمناهج التي تنتمي إلى أنماط معرفية متاضدة أو متناقضة، وسياقات تاريخية واجتماعية متعارضة، لكن الباحث «يتبناها كلها دون تمييز أو تفريق، بسبب غياب الرؤية المعرفية العميقة».

ومن الأمثلة على هذا النوع من التحيز، ادعاء كثير من نقادنا العرب المعاصرين تبني مناهج الحداثة وما بعدها ومفاهيمهما، وكذا محاولة «التوفيق» بين مفاهيم النقد العربي القديم ومفاهيم النقد الغربي، مع السعي نحو «التركيب» بين جميع هذه العناصر لـ«بناء منهج ملائم» لدراسة النصوص العربية، مع أن مناهج الحداثة وما بعدها متعارضة معرفيًّا، ومتفاوتة تاريخيًّا، كما أن مفاهيم النقد العربي والنقد الغربي متعارضة، أيضاً، معرفيًّا، ومتباعدة حضاريًّا.

4.3. التحيز الواعي والتحيز الكامِن

التحيز الواعي هو أن يختار المرء «عقيدة بعينها (أيديولوجية) ثم ينظر للعالم من خلالها، ويقوم بعمليات دعاية وتعبئة في إطارها».

ويتميز هذا النوع من التحيز بوضوحه، فهو «عادة ما يفصح عن نفسه، كما هو الحال في (البروباجندة)، أي الدعاية الصريحة الرخيصة، فمتلقي الدعاية السياسية الفاضحة يدرك مضمونها». غير أن هذا التحيز رغم وضوحه، فإنه يمكن تمريره إلى المتلقي بطرق خفية لا يدركها، وهذا ما يظهر في بعض الإعلانات التجارية؛ حيث يتم الربط أحياناً بين السلعة والدوافع الجنسية لدى الإنسان، قصد زيادة مبيعاتها، رغم عدم وضوح العلاقة بين السلعة والدافع الجنسي.

أما التحيز الكامن غير الواعي، «فهو أن يستبطن الإنسان منظومة معرفية بكل أولوياتها وأطروحاتها، وينظر للعالم من خلالها دون أن يكون واعياً بذلك». ولذلك، فإن المتلقي لهذا النوع من التحيز «يتأثر به دون وعي من جانبه» أيضاً.

5.3. التحيز داخل التحيز

وهو أن يتحيز الباحث إلى نموذج معرفي معين، ولكنه داخل هذا النموذج، يركز على جوانب معينة منه ويتبناها، ويهمل الجوانب الأخرى، مع أنها جميعها تنتمي إلى النموذج المعرفي نفسه. ومن الأمثلة على ذلك، تحيز كثير من علماء الاجتماع في عالمنا العربي، إلى نظريات علم الاجتماع الفرنسي أو الإنجليزي، وإهمال نظريات علم الاجتماع الألماني، مع أن كل هذه النظريات تنتمي إلى تقاليد علم الاجتماع الغربي.

6.3. التحيز إلى الحقِّ والتحيز إلى الباطل

قد يتحيز الإنسان إلى ما يعتقد أنه الحق، «وهذا هو الالتزام». والإنسان في هذه الحالة، رغم تحيزه إلى ما يراه أنه الحق، وتحمسه له، ودفاعه عنه، يظل «على استعداد لأن يخضع ذاته وأحكامه للمنظومة القيمية وللحق الذي يقع خارجه. كما أنه على استعداد لأن يختبر ثمرة بحثه، فهو لا يعتقد أن أحكامه (المتحيزة) هي الحكم النهائي المطلق، إذ إن أحكامه أولاً وأخيراً اجتهاد، وهو يدرك ذلك تماماً».

ولعل من أبرز الأمثلة على هذا النوع من التحيز، استخدام طريق الجِدال والمناظرة في تراثنا العربي الإسلامي لمعرفة الحق والوصول إليه؛ فرغم تحيز الطرفين المتناظرين إلى ما يعتقدان أنه الحق، فإن كل واحد منهما يظل على استعداد تام لتفهم وجهة نظر الطرف الآخر، والتعاون معه للوصول إلى الحقيقة التي تظل الهدف الأسمى للمناظرة، بعيداً عن التعصب والأنانية. ولذلك، اعتُبِر إحقاق الحق وتمحيق الباطل من أهم آداب الجدل والمناظرة.

ولذلك، أيضاً، تم التمييز بين نوعين من الجدال: أحدهما مذموم محرَّم؛ لأن الهدف منه هو «دفع الحق، أو تحقيق العناد، أو ليلبس الحق بالباطل؛ أو لما لا يطلب به تعرف ولا تقرب؛ أو للمماراة وطلب الجاه والتقدم إلى غير ذلك من الوجوه المنهي عنها...». أما الثاني فهو محمود مدعو إليه؛ لأنه «يحقق الحق ويكشف عن الباطل ويهدف إلى الرشد، مع من يرجى رجوعه عن الباطل إلى الحق».

أما التحيز إلى الباطل، فهو أن يتحيز الإنسان إلى ذاته، ويجعل نفسه «المرجعية الوحيدة المقبولة، ولذا تسقط فكرة الحق المتجاوِز ولا يمكن محاكمة الإنسان من أي منظور».

والمتحيز إلى الباطل هو دوماً متحيز إلى القوة والسلطان، يفرض إرادته حين يكون قويًّا منتصراً، ويتحول إلى «واقعي» نفعي يخضع للآخرين، ويقبل بأحكامهم عليه من غير اقتناع بها، حين يكون ضعيفاً منهزماً، فالقوة هي مرجعيته الوحيدة، ولذلك فهو دائم الترقب، وانتظار تغير موازين القوى لصالحه.

4- جهود عبد الوهاب المسيري في تأسيس «فقه التحيز»

إن القول بالخصوصية الثقافية، وبتحيز المناهج والمفاهيم إلى سياقاتها التاريخية والحضارية، وإلى أفرادها المنتِجين لها، قديم في تراثنا العربي الإسلامي قدم اتصاله بالتراث اليوناني، وهذا ما يتضح من خلال مناهضة كثير من «الفلاسفة المسلمين» لمنطق أرسطو، وسعيهم إلى الكشف عن تحيزاته، وربط فساده بفساد فلسفته الإلهية. غير أن استخدام مصطلح التحيز، وتحوله إلى مفهوم، ودراسته دراسة منهجية شاملة، ومحاولة تأسيسه باعتباره «علماً جديداً»، له «آلياته ومناهجه ومرجعيته»، أمر حديث جدًّا، ويرتبط بالأساس بعبد الوهاب المسيري الذي طرح في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي، رفقة عدد من زملائه، فكرة عقد مؤتمر دولي حول إشكالية التحيز، نشرت أبحاثه فيما بعد بعنوان: «إشكالية التحيز، رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد».

ويؤكد هذا الارتباط بين مفهوم التحيز والمسيري عدد من الباحثين، وفي مقدمتهم المسيري نفسه، حيث يقول: «وقد طُرحت فكرة التحيز ونوقشت من جانب الكثيرين. ومع ظهور الفكر القومي العربي، بدأ الحديث يتزايد عن الهوية والخصوصية الحضارية وضرورة الحفاظ عليهما، ومع هذا لم يحاول أحد أن يدرس القضية بشكل منهجي وشامل. وقد لاحظت أن العرب المحدثين لم يضعوا أسس أي علوم على الإطلاق... ولذلك أحسست بضرورة أن نبدأ من نقطة ما، وتساءلت: لماذا لا نضع أسس علم جديد له آلياته ومناهجه ومرجعيته يتعامل مع قضية التحيز هذه، ويفتح باب الاجتهاد بخصوصها؟ فالجميع لديه الإحساس بأن هوية الأمة سواء كانت قومية أو دينية مهددة بسبب تبنيها لنماذج ورؤى الآخر، دون إدراك عميق أحياناً للتضمينات المعرفية لهذه النماذج».

ويطلق المسيري على هذا «العلم الجديد» اسم «فِقْه التحيز»، ويبرر استخدامه كلمة «فقه» التي تنتمي إلى المجال التداولي العربي الإسلامي، بدل كلمة «عِلْم» الغربية، باستحضار الأولى البعد الاجتهادي للمعرفة الذي يغيب عن الثانية. يقول: «وبعد تجميع الأبحاث (أي أبحاث مؤتمر التحيز المشار إليه سابقاً)، قمنا بتصنيفها، وقرأناها بإمعان شديد لاستخلاص الأطروحات الأساسية والأنماط المتكررة والنماذج، وقمنا بربطها لنؤسس تخصصاً جديداً يركز على هذه القضية سميناه «فقه التحيز». وقد استخدمنا كلمة «فقه» بدلاً من «علم»، لأن الكلمة الأولى تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة، على عكس كلمة «علم» التي تؤكد جوانب الدقة واليقينية والحيادية والنهائية».

كما يؤكد ميجان الرويلي وسعد البازعي قيام المسيري بدور «ريادي في دراسة ظاهرة التحيز»، ويربطان تحول التحيز، على المستوى العربي، إلى «مفهوم» و«أداة بحث منهجي»، بمؤتمر التحيز الذي عقد عام 1992. يقول الناقدان: «وليس الاعتقاد بوجود التحيز الثقافي والمعرفي جديداً بحد ذاته، فقد قال به مفكرون وفلاسفة ونقاد في فترات مختلفة من التاريخ وفي أماكن مختلفة أيضاً. لكن تحوله إلى مفهوم وأداة بحث منهجي كان تطوراً حديثاً نسبيًّا. فعلى المستوى العربي عقد عام 1992م مؤتمر لدراسة إشكالية التحيز، حضره باحثون عرب من مختلف التخصصات وأبرزوا فيه وجوهاً مختلفة من التحيز، كل في مجال تخصصه».

غير أنه لا بد في هذا المقام من التنويه كذلك بدور البازعي ودراساته، في المساهمة بشكل كبير، إلى جانب المسيري، في تطوير مفهوم التحيز، وتحويله إلى أداة بحث منهجي، ودراسته دراسة منهجية، سواء على مستوى النقد الأدبي أم على المستوى الثقافي العام؛ إذ إنه رغم حديث البازعي عن تأثير المسيري عليه، وتوجيهه نحو الاهتمام بقضية التحيز، فإنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن البازعي كان أحد أهم أعضاء الحلقة التي تشكلت في كلية الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض، لدراسة التحيز، وأن بداية اهتمامه بالموضوع، كما يؤكد البازعي نفسه، تعود إلى بداية العقد الثامن من القرن الماضي (وبالضبط عام 1983)، حين أنجز بحثه لنيل درجة الدكتوراه في جامعة بردو الأمريكية حول «الاستشراق الأدبي بوصفه ظاهرة تمخضت عن تحيزات ثقافية غربية تجاه العرب والمسلمين عموماً».

كما يؤكد البازعي أن الاهتمام بظاهرة التحيز هي التي كانت وراء انشغاله بحضور المكون اليهودي في الحضارة الغربية. يقول البازعي: «القناعة بوجود التحيز في الخطاب الثقافي لم تتوقف عن مشاغلتي ذهنيًّا، بل ظلت تحركني باتجاهات مختلفة لكنها تدور في سياق العلاقة بين الشرق والغرب، بين الحضارة الغربية وغيرها من التشكيلات الحضارية. وكانت تلك العلاقة العبر حضارية هي المسار الرئيس لما تأملت فيه وسعيت إلى إنجازه. ولولا أنني لست هنا بصدد كتابة سيرة ذاتية لتوسعت في تفصيل ما أشير إليه، لكنني أكتفي بالقول: إن الاهتمام بالتحيز كان بالتأكيد وراء انشغالي بالحضور اليهودي في الحضارة الغربية».

وانشغال البازعي بالحضور اليهودي في النقد الغربي ليس جديداً، بل يعود إلى أواخر العقد الثامن من القرن الماضي، حين نشر بحثاً بعنوان: «ما وراء المنهج: تحيزات النقد الأدبي الغربي» تحدث فيه عن الخلفية اليهودية للتفكيك.

ولم يتوقف اهتمام البازعي بإشكالية التحيز عند حدود الكشف عن «المكون اليهودي في الحضارة الغربية»، بل امتد ليشمل الحديث عن تحيز المصطلح النقدي الغربي إلى سياقه الثقافي، وما يؤدي إليه ذلك من صعوبة في ترجمته وإعادة توظيفه، فكان ذلك دافعه إلى تأليف «دليل الناقد الأدبي» رفقة زميله ميجان الرويلي.

كما أن البازعي خصص عدداً من الدراسات للكشف عن تحيزات النقد العربي الحديث والمعاصر إلى النقد الغربي، تصدى فيها بالنقد لدعوى كونية المناهج والنظريات النقدية الغربية التي تبناها عدد من النقاد العرب.

أضف إلى ذلك أن اهتمام البازعي بإشكالية التأصيل عند شكري عياد، لا يمكن فهمه خارج سياق اهتمامه بإشكالية التحيز بشكل عام.