شعار الموقع

الاستشراق وتحقيق مخطوطات تراثنا العقلي

الدكتور صايم عبد الحكيم 2012-10-04
عدد القراءات « 5451 »

«لقد نقلنا المستشرقون إلى أرسطو، على حين نقلوا أنفسهم وقومهم إلى مناهج المسلمين وعلومهم».

الدكتور محمود قاسم

من الحكمة أن نراجع تاريخ الاستشراق، خاصة بعد نهضة علم الاستغراب باعتباره العلم المضاد له، هذا التاريخ الذي نميّز فيه اتجاهات مختلفة، وهذا ما يبرر شرعية سؤالنا عن قيمة التنوير الثقافي للاستشراق، لأن مثل هذا السؤال هو أحد عوامل التقدم العقلي في تصنيف الموضوع إلى نوعين على الأقل هما:

أ - الاستشراق السياسي.

ب- الاستشراق العلمي.

بالرغم من الاختلاف القائم بين الدارسين، ونذكر على سبيل المثال، تصنيف إدوارد سعيد، ومكسيم ردنسون، وأنور عبد الملك... الخ

إن هذا الاختيار المنهجي هو من صميم الرؤية التي يمثلها الباحث اللبناني المعاصر نجيب العقيقي في عمله الموسوعي «المستشرقون»، باعتباره من علماء المدرسة المارونية التي ظهرت بأمر البابا غريغوريوس الثالث عشر عام 1584.. «ثم تأسست مطبعتها الشرقية (1653)، ولما استصفى نابليون أموال الكنيسة في إيطاليا وأقفل منشآتها واستولى على المدرسة (1798) اختار بعض طلابها محققين في المطبعة التي نقلها أو تراجمة في جيشه، فانضموا إلى المترجمين في حملته، وألَّف خريجو المدرسة المارونية -وقد أعيد فتحها عام 1920- وأترابهم حلقة اتصال بين المشرق والمغرب، فاستعان بهم الفاتيكان وبعض ملوك أوروبا وأمرائها في جامعاتهم ومكتباتهم ومطابعهم، فعلموا اللغات الشرقية وجمعوا مخطوطاتها وفهرسوها وترجموا النفيس منها، فعاونوا على تعريف الشرق في الغرب، لغات وديانات وشرائع ثقافات وحضارات الخ..».

ولهذا من الموضوعية بمكان أن يحدثنا المستشرق عن عمله قبل أن نعتمد على الدراسات النقدية للاستشراق في مجال تحقيق مخطوطات تراثنا العقلي؛ لأن ما قد يبدو تنويراً ثقافيًّا في عمل المستشرقين هو ظاهرة معكوسة كما أشار مالك بن نبي إلى دوره في تنمية شخصيته الفكرية: «.. والجيل الذي أنا منه يدين له بذلك النصيب على الأقل في المحافظة على شخصيته الإسلامية. اكتشفت، وأنا بين الخامسة عشر والعشرين من العمر، أمجاد الحضارة الإسلامية في ترجمة دوسلان لمقدمة ابن خلدون وفيما كتب دوزي عنها وأحمد رضا بعد الحرب العالمية الأولى. وإنني على إدراك تام لما أدين به لهذه المطالعات».

هذا الاعتراف بقيمة الاستشراق لم يمنعه من نقده بعد ذلك، وتوضيح قيمة الوعي التاريخي بمشكلاته، خاصة عندما تنفى الذات عن وجودها، لأن الافتخار بأمجاد الماضي في زمن الاحتلال له ما يبرره في مقاومة الاستلاب الثقافي وبناء الشخصية، ولكنه يصبح بمثابة الأفيون أو المخدر لأنه يبعدنا عن حقائق العلم، « فالأدب الذي ينشد عصر الأنوار للحضارة الإسلامية يؤدي هذين الدورين: أنه أتاح -في مرحلة معينة- الجواب اللائق للتحدي الثقافي الغربي وحفظ هكذا مع عوامل أخرى على الشخصية الإسلامية، ولكنه من ناحية أخرى، صب في هذه الشخصية الإعجاب بالشيء الغريب ولم يطبعها بما يطابق عصر الفعالية والميكانيك».

وفي ضوء هذا السياق النقدي انتصرت أطروحة أن الشرق والغرب لا يلتقيان على المسألة القائلة بوحدتهما؛ لأن تطور هذه المعرفة اعتمد على ما سُمِّي بالمركزية الغربية.

أ - الاستشراق السياسي

مهما اختلفت تعاريف الاستشراق اللغوية والاصطلاحية، فقد بدا كظاهرة سياسية؛ لأن طبيعة الموضوع تفرض علينا إثارة السؤال التالي: ما هي الفائدة التي يجنيها أولئك الأجانب من تخصيص جهودهم في دراسة القضايا الدينية والتراثية والتاريخية والاجتماعية للشرق؟

في اللغة العربية: الاستشراق كلمة مشتقة من الشروق، وشرّق أخذ من ناحية الشرق، والسين في كلمة الاستشراق يفيد الطلب أي طلب دراسة ما في الشرق. فما الغاية من هذا الطلب؟ قد نجد الجواب بصورة واضحة في مقدمة كتاب (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج، اللذين قصدا بعملهما هذا «تصويب الأخطاء التي وقع فيها بعض المستشرقين الذين عالجوا موضوعات الفكر الإسلامي، ومقومات الحضارة العربية الإسلامية وتراثها الأدبي والعلمي والأخلاقي والسياسي في لغاتهم، فأساؤوا تقديمها لقرائهم، وحرّفوا مقولاتها، وشوهوا صورتها، عن قصد مبيّت حيناً، وعن جهل وسوء فهم أحايين أخرى».

إن الأمر يتعلق بفئة من المستشرقين التي عملت في الدوائر السياسية، والتي لم تنظر إلى الاستشراق كنظام أكاديمي، بل كنظام «سياسي ومصطلح تاريخي يعنى بالشرق والإسلام والمعلومات المتوفرة عن الإسلام في الغرب، للتمكن من سياسة المسلمين والتحكم فيهم».

هذه المجموعة هي استمرار لتخريب هولاكو الذي جعل من المجلدات جسراً لعبور خيوله بين شاطئي دجلة -عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002) يشكك في هذه الرواية؛ لأن «بغداد لم تكن تحتوي على كل الكتب العربية، وثانياً لأن سائر الأمصار الإسلامية (مصر، إيران، المغرب، بلاد الشام.. إلخ) كانت تزخر بملايين الكتب العربية التي بقيت بمنأى عن غزوات التتار وبالأحرى عن تخريب بغداد»- ولما أتلفه الصلبيون في «طرابلس وحدها بثلاثة ملايين مجلد» إلى إحراق منظمة الجيش السري في 7 جوان 1962 لمكتبة الجزائر وإتلاف 600 ألف عنوان، ولعل مثل هذه الممارسات كانت سبب تعميم الأحكام الخاطئة على الاستشراق إلى درجة انعدام «دراسة دقيقة، تقوم على حصر أعمال المستشرقين، في مجال تحقيق التراث ونشره.. وإلى أن تتم سيظل الحديث في هذا المجال (عمل المستشرقين) يقوم على الحدس والتخمين. ويعتمد على ملاحظات سريعة، ويتأثر بأهواء مزاجية، وصلات شخصية، ومواقف نفسية، تجذبه من يمين ويسار»، وعلى هذا الأساس كان موقف محمود قاسم (1913 - 1973) عندما فسر العلاقة الاستعمارية بالفكر الاستشراقي في كتابه (الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية)، الذي ألفه بعد نكسة 1967، فذكر: «... إن الاستعمار الفرنسي استطاع بجبروته وعسفه أن يفرض لغته على الكثير من المثقفين في الجزائر وشمال إفريقية، غير أنه لم يستطع أن ينال كثيراً من العقيدة الإسلامية، رغم ما بذله المختصون في شؤون الثقافة من محاولات لفصم العقلية الجزائرية، عن طريق تمجيد التصوف الكاذب، وإشاعة الأكاذيب والأباطيل على نحو ما نراه في مؤلفات لويس (ماسينيون)، الذي خصص حياته للكتابة في الحلاج، فجعله صورة من المسيح في الإسلام، وأعتقد أن ماسينيون ما كان يُعنى بالحلاج قدر عنايته بتنفيذ مخطط استعماري أحكم صنعه، فقد ملأ كتابه الضخم عن الحلاج بحشد هائل من الخرافات والترهات والأباطيل، حتى يعمق الهوة بين طائفتين توجد بالجزائر: طائفة تتمسك بالقديم، فتنساق، حسب ظنه، إلى اعتقاد أن هذه الخرافات والهذيانات هي صميم الإسلام، وطائفة مثقفة بالثقافة الحديثة تتجه من جانبها إلى السخرية والزراية بهذا الإسلام الخرافي، بل من الإسلام كله»...

وكأن هذا التقسيم للمجتمع الجزائري يبرِّئ سياسة التجهيل الاستعمارية، وينصف الاستيطان بجرائمه وقوانينه الجائرة، وهذا ما يتناقض مع قوله بأن لويس ماسينيون «كان مستشار وزراة المستعمرات الفرنسية في شؤون الشمال الإفريقي، والراعي الروحي للجمعيات التبشرية الفرنسية في مصر وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى».

فكيف مثل هذه الوظائف تساهم في تكوين جزائريين بثقافة حديثة؟ هذا السؤال يدعونا إلى مراجعة النقد الموجه للاستشراق، خاصة عند أولئك الذين اعتمدوا آراء بعض المستشرقين من القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وقد بدا هذا الموقف مسألة ضرورية في فهم بداية تاريخ الاستشراق التي وجدت حسب البعض مع «المجادلة التعليمية بالهند التي حسمها تقرير (ماكولي) الشهير سنة 1743 كان المستشرقون هم الذين نادوا بالتعليم والأدب الهنديين، بينما سُمِّي معارضوهم الذين رغبوا في أن تكون الإنجليزية هي أساس التعليم بالهند (المستجلزين)..».

قد لا نتفق مع هذا التفسير، ولكن على الأقل يبيّن لنا أن الاستشراق أنواع مختلفة باختلاف اللغات الأوروبية، فمنه الإنجليزي، والفرنسي، والألماني، والإسباني، والروسي، وغيرها، وبعضها هذه الثقافات لم تكن في الدائرة الاستعمارية وانتصرت للرؤية العلمية.

ب- الاستشراق العلمي

مجال هذا الاستشراق واسع، لأنه يشمل جميع ميادين المعرفة، وسنركز على الجهد العلمي في تحقيق مخطوطات تراثنا في الفرق الإسلامية وعلم الكلام والتصوف والفلسفة وتاريخ العلوم، بالاعتماد على موسوعة عبد الرحمن بدوي التي قامت على الترتيب الألفبائي لأسماء المستشرقين، وفي مقدمتهم كان الاستشراق الإنجليزي من خلال آرثر جون أربري (1905 - 1969) الذي « نشر تحقيقاً لكتاب (التعرف لأهل التصوف) للكلاباذي، وهو من أقدم كتب التصوف (القاهرة 1934)». وفي سنة 1936 نشر « فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الديوان الهندي. وتلاه في 1937 بفهرس الكتب الفارسية في نفس المكتبة». ثم تابع العمل بإصدار:

1- ثبت تكميلي ثانٍ للمخطوطات الإسلامية في كمبرج (1952).

2- فهرس المخطوطات العربية في مجموعة شستر بيتي في دبلن (1955 - 1964).

3- فهرس المخطوطات الفارسية في مجموعة شستر بيتي في دبلن (1959 - 1962).

في حين أمدروز (1845 - 1917) فقد اعتنى بكتاب تجارب الأمم لأبي علي مسكويه. وكان الأمير كابتني قد حصل على مصورة من مخطوط أياصوفيا لهذا الكتاب. فقام أمدروز بإصدار طبعة بالتصوير لهذا الكتاب على أساس هذه المصورة.

بينما إدوارد هنري بالمار (1840 - 1882) قام بفهرسة المخطوطات العربية والفارسية الموجودة بمكتبة الملك ثم أصدر كتابه في سنة 1867 التصوف الشرقي، وهو ترجمة لرسالة باللغة الفارسية عثر عليها وهو يقوم بفهرسة المخطوطات الفارسية.

والأمر نفسه يصدق على إدوارد غرون فيل براون (1862 - 1926) الذي اهتم بالأدب الفارسي، الذي وضع فهرس كامل للمخطوطات الفارسية في مكتبة كمبرج ووضع ثبتاً بالمخطوطات الإسلامية واقتنى مجموعة من المخطوطات الفارسية والعربية التي كان يشتريها عاماً بعد عام، فقد اهتم بالفرق الدينية.

في حين ابن إدوارد بوكوك (1604 - 1691) حقق وترجم إلى اللاتينية رسالة حي بن يقظان لابن طفيل وبعده توالت الترجمات الأوروبية.

بينما نيكلسون (1868 - 1945) فقد اهتم بالتصوف الإسلامي، فحقق تذكرة الأولياء للشيخ فريد الدين العطار في جزأين صدرا في لندن في 1905 و 1907، وأيضاً كتاب ترجمان الأشواق لأبن عربي صدر عام 1911، وكذلك كتاب اللمع لأبي نصر السراج صدر عام 1914.

في الاستشراق الألماني نجد رودولف اشتروطمن (1877 - 1960) الذي اهتم بالفرق الإسلامية، فاصدر مخطوطات ومطبوعات سنة 1933، ونصوص غنوصية للإسماعيلية: المخطوط العربي في الأمبروزيانا برقم أعمال أكاديمية العلوم في جيتنجن، القسم الفيلولوجي التاريخي، 3، 27، 1943(h 75).

والنصيرية بحسب مخطوطة برلين العربي رقم 4292.. برلين 1952، وكذلك فرق شرقية سرية في أبحاث الغربيين ومخطوط كيل رقم 19 عربي.

بينما أوغست شميلدرز (1809 - 1889) فقد اهتم بالفلسفة الإسلامية وعمل على إعداد نشرة محققة مع ترجمة فرنسية لكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولكنه لم ينتهِ منها.

في حين قام ديتريصي (1821 - 1903) بتحقيق الكثير من الكتب العربية وترجمتها إلى الألمانية، ومنها: رسائل إخوان الصفا (1884 - 1886)، والثمرة المرضية من الرسائل الفارابية (1890 - 1892)، وآراء أهل المدينة الفاضلة 1895.

بينما هلموت رتّر (1892 - 1972) كان مديراً لفرع الجمعية الشرقية الألمانية في إستنبول، فأشرف على تحقيق مجموعة من المخطوطات العربية والتركية والفارسية، فأصدر مقالات الإسلاميين (1929 - 1933)، وفرق الشيعة عام 1931، واشترك مع فلستر في نشر رسالة الكندي « في دفع الأحزان» عام 1938.

أما شاخت (1902 - 1969) فقد تخصص في الفقه الإسلامي وفي علم الكلام وتاريخ العلوم والفلسفة؛ فقام بتحقيق بعض المخطوطات الموجودة في إستنبول والقاهرة وفاس وتونس، ومن الأعمال العلمية والفلسفية، نذكر: مخطوط «مناظرة طبية فلسفية بين ابن بطلان البغدادي وابن رضوان المصري» و«موسى بن ميمون في مواجهة جالينوس» عام 1937.

في حين غوستاف لبرخ فلوجل (1802 - 1870) نشر فهرس المخطوطات العربية والفارسية والتركية والسريانية والحبشية الموجودة في مكتبة القصر والدولة في منشن «ميونخ». وحقق أكثر الكتب فائدة في فروع العلوم الإسلامية «كشف الظنون عن أسامي الفنون»، فقد قضى أحد عشر عاماً من أجل تحقيق عنوانات الكتب بالاعتماد على مخطوطات فيينا وباريس وبرلين.

بينما إيلهارد فيدمن (1852 - 1928) اهتم بتاريخ العلوم، فدرس المخطوطات العربية في تاريخ العلوم وترجم الفصول المهمة فيها وعلّق عليها، مستعيناً بمستشرقين معاصرين.

في حين قام ماكس ماير هوف (1874 - 1945) بالبحث في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب، فحقق عشر مقالات في العين لحنين بن إسحاق عام 1928، وخمس رسائل لابن بطلان البغدادي ولابن رضوان المصري عام 1937، وشرح أسماء العقار لأبي عمران موسى بن عبيد الله الإسرائيلي القرطبي عام 1940، ومختصر كتاب الأدوية المفردة لأحمد بن محمد الغافقي باشتراك مع جورج صبحي 1932، واشترك مع شاخت في تحقيق الرسالة الكاملية في السيرة النبوية للطبيب ابن النفيس.

أما أوغست مولر (1847 - 1892) حقق كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي إصبيعة عام 1884 بالقاهرة وكينغسبرغ بألمانيا.

بينما تيودور نيلدكه (1836 - 1931) اهتم بالمخطوطات العربية فكان أول من وضع فهرساً لمؤلفات الغزالي.

في الاستشراق الإسباني وجدنا أنخل غونزاس بالنثيا (1889 - 1949) الذي اهتم بالفلسفة الإسلامية كما يبدو من تحقيقه لكتاب الفارابي: إحصاء العلوم.

بينما أسين بالثيوس (1871 - 1944) فقد اهتم بمفكرين هما: ابن حزم وابن عربي، فدرس طوق الحمامة من المخطوطة الوحيدة في مكتبة جامعة ليدن (هولنده).

في حين خوسي ماريا ميلياس فايكروسا (1897 - 1970) تخصص في تاريخ العلوم،فأصدر عام 1942 كتاب «الترجمات الشرقية الموجودة بين مخطوطات مكتبة الكاتدرائية في طليطيلة» فكشف عن وجود ترجمات إسبانية أو لاتينية لكثير من الكتب العربية التي فقد أصلها العربي، ولكن تبيّن فيما بعد أنه توجد مخطوطات عربية لهذه الكتب في المكتبات العامة والخاصة بالمغرب.

في الاستشراق الفرنسي اهتم ليون غوتييه (1862 - 1949) بالفلسفة الإسلامية، فحقق نص قصة حي بن يقظان لابن طفيل وترجمها إلى الفرنسية، وصدرت الطبعة الأولى بالجزائر عام 1900.

في حين إتيان كاترمير (1782 - 1857) نشر العديد من المخطوطات العربية، ولا تزال نشرته المحققة لمقدمة ابن خلدون من أفضل النشرات العلمية.

بينما البارون برنار كارادي فو (1857 - 1953) فاهتم بالفلسفة وتاريخ العلوم عند العرب، فحقق وترجم إلى الفرنسية كتاب الحيل لأهرن السكندري 1894، وكتاب الأكر السماوية لنصير الدين الطوسي 1892. وترجم وحقق القصيدة العينية في النفس لابن سينا 1899.

أما هنري كوربان (1903 - 1978) فقد اهتم بالفلسفة الإشراقية عند السهروردي، وفي إستننبول عام 1939 بمبنى البعثة الأثرية الفرنسية قام بتحقيق مخطوطاته، وصدر المجلد الأول منها عام 1945، وعندما صار مديراً للمعهد الفرنسي للدراسات الإيرانية بطهران، أنشأ المكتبة الإيرانية، وهي منشورات محققة تحقيقاً نقديًّا لمؤلفات أساسية بالفارسية، جلّها في ميدان التصوف والفلسفة الإشراقية، وقد بلغ ما نشر فيها حتى 1975 اثنين وعشرين مجلداً، وكان كوربان يقدم باللغة الفرنسية لكل نص فارسي أو عربي.

في حين ليفي برونفصال (1894 - 1956) نشر المخطوطات العربية في الأسكوريال عام 1928 التي تشمل علم الكلام والجغرافيا والتاريخ.

بينما لويس ماسينيون (1883 - 1962) فقد اشتغل بالتصوف وبالتحديد بتحقيق مخطوطات الحلاج ومن بينها كتاب الطواسين سنة 1913.

أما سليمان مونك (1803 - 1867) فقد اهتم بالفلسفة اليهودية والإسلامية فاكتشف مخطوط البيروني عن الهند «ما للهند من مقولة مقبولة أو مرذولة عن الهند»، وقام بتحقيق وترجمة «دلالة الحائرين» لموسى بن ميمون الذي كتبه بحروف عربية ومعاني عبرية.

في الاستشراق المجري قام جولدتسيهر (1850 - 1921) بالاشتغال بالفرق الإسلامية والتصوف، فنشر فصولاً من من كتاب المستظهري في الرد على الباطنية للغزالي 1916 بمدينة ليدن.

بينما في الاستشراق اللبناني نشر إبراهيم الحقلاني (1605 - 1664) مقتطفات من كتاب مقاصد حكمة فلاسفة العرب في نصها العربي بعنوان: مختصر مقاصد حكمة العرب.

أما في الاستشراق الإيطالي اشتغل دلافيدا (1886 - 1967) بمكتبة الفاتيكان بين 1932 و 1939 حيث قام بفهرسة المخطوطات العربية الإسلامية بها.

في حين قام كارلو ألفونسو نلينو (1872 - 1938) فقد اهتم بالجغرافيا وعلم الفلك وبفلسفة المعتزلة وابن سينا، فحقق كتاب الزيج للفلكي العربي البتاني بالاعتماد على المخطوطة الوحيدة بمكتبة الأسكوريال.

بينما في الاستشراق الهولندي اهتم دوزي (1820 - 1883) بموضوعات تاريخية ومعجمية وأنجز دراسات نقدية، ونشر فهرس المخطوطات الشرقية في مكتبة جامعة ليدن عام 1851.

في حين جيرولف فان فلوتن (1866 - 1903) حقق ونشر مفاتيح العلوم للخوارزمي عام 1895 ورسائل صغيرة للجاحظ عام 1903.

أما في الاستشراق النمساوي درس كراوس (1904 - 1944) تاريخ الكيمياء عند العرب، فحقق رسائل جابر بن حيان، ونشرها في القاهرة عام 1935. ومن ثماره عمله في مخطوطات الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية عدة مقالات تناولت بعضها الفارابي.

بينما في الاستشراق الروسي اهتم كرتشكوفسكي (1883 - 1951) بجمع مخطوطات أبي العلاء المعري الذي ينعت بفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة بواسطة التصوير الفتوغرافي، ورتب المخطوطات الشرقية في المتحف الآسيوي، ومن بين مؤلفاته: بين المخطوطات العربية.

أما في الاستشراق الأمريكي اشتغل ولفسون (1887 - 1974) بالفلسفة الإسلامية واليهودية فقام بتحقيق نقدي للأصول العربية لشروح ابن رشد، صدرت في مجلدات بلغ عددها تسعة عام 1971.

بهذه الطريقة ميّزنا بين المستشرقين على أساس إقليمي، فبدا الانتماء الوطني لدى البعض لا علاقة له بالسياسة الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كالاستشراق الألماني والروسي والأمريكي، وهذا ما يدعونا إلى مراجعة ما كتب عن الاستشراق وإثارة أسئلة التفكير في أدواته المنهجية وأزماته في فهم ثقافة الآخر المختلف عنه سواء كان غريباً عن جغرافيته أو من صميم جنسيته التي يحملها، كما يحدث في أيامنا المعاصرة.

ج- سؤال: ماذا بعد الاستشراق؟

كان وسيبقى الاستشراق ظاهرة تاريخية ارتبط وجودها بتطور العلوم الإنسانية والاجتماعية التي انتصرت لمبدأ التعاطف لفهم عادات وأخلاق وأفكار الشعوب التي تكون موضوع الدراسة، ولعل من شروط هذه المعرفة هو امتلاك أدوات التواصل اللغوي وأحياناً الممارسة العقائدية وأحياناً أخرى ارتداء اللباس المحلي، إلَّا أن تطور الترجمة ووسائل الاتصال ونقل المعلومات، وما آلت إليه الظاهرة الاستشراقية من تراكم كمي في ترجمة تراثنا جعلها تتطور نحو الإسلاميات، لأن المهتمين بالفكر الشرقي، وبالتحديد بالحضارة العربية الإسلامية اليوم نادراً ما يعرفون اللغة العربية، وعلى هذا الأساس يمكن فهم دعوة تجاوز ثقافة الأموات نحو الحوار مع الاستشراق المعاصر، لأن الرهان الحقيقي هو امتلاك المعرفة وليس تصنيف هولاء على أساس ديني باعتبار أن هذا المستشرق متعاطف مع الإسلام وذاك معادٍ له، ونحن نعلم مسبقاً أن تكوينه العلمي يهدف أول ما يهدف إلى خدمة مشروعه الثقافي، على نقيض ما تعمل به بعض مراكزنا ومعاهدنا في تنمية ثقافة الآخر ولغاته كحلقات تابعة وليس كوجود منفعل وفاعل لتطوير ذاتها العلمية.