شعار الموقع

الطرق الصوفية وإشكالية السلطة والحداثة في التجربة الجزائرية

الدكتور محمد بن علي 2012-10-04
عدد القراءات « 847 »

الطرق الصوفية وإشكالية السلطة والحداثة في التجربة الجزائرية

الدكتور محمد بن علي

يكاد يجمع العلماء على حقيقة تاريخية، وهي أن النظم السياسية الإنسانية تأسست على مبدأ دين معين. فلقد كتب «مشال ملارب Michel Malherbe» في بحثه تحت عنوان «ديانات الإنسانية» مبيناً أهمية البعد الديني في حياة الأمم والجماعات قائلاً: «إن الحقبة الوحيدة التي تقدمت فيها الإنسانية هي تلك التي هيمن فيها نوع من التنظيم مع الحد الأدنى من النظام والقبول من طرف الشعب. وعلى هذا الأساس، فإن الديانات، لكونها تقوم على تبني الأخلاق فهي تشكل عامل استقرار للمجتمعات بدون منازع».

لقد أكدت فعلاً التجارب التاريخية للشعوب الإسلامية قاطبة حضور الدين في مجالات واسعة، سواء في حياة الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات. لكن ما هو ثابت أيضاً، هو أن هذا الدين ظل عبر التاريخ محل اختلاف ونزاع في ممارسات المنتسبين إليه نتيجة الاجتهادات والاستعمالات الشخصية والمذهبية الضيقة.

يقول الأستاذ عبد الرحمن لمشيشي: «إن التاريخ الحقيقي للعالم الإسلامي يظهر مدى المقاومة لكل أشكال التجانس في ممارسة الدين. فلقد عرف العالم الإسلامي باستمرار التعددية السياسية والدينية والثقافية»، الأمر الذي يفسر لنا أهمية التعددية في المدارس الدينية الصوفية بعدما انصهرت كل فرقة في محيطها المحلي الاجتماعي والثقافي، وأصبحت بذلك تعكس نمط حياة وسلوك ومعتقد بامتياز. وهي ليست مرهونة بمذهب بعينه، مما جعلها تنتشر في أوساط سنية وشيعية وعند الطائفة الإسماعلية... إلخ.

كلنا متفقون -بدون أدنى ريب- على أن الطرق الصوفية احتلت أهمية قصوى في تاريخ الشعوب المسلمة قاطبة، سواء في المشرق أو في بلاد المغرب العربي. ولقد لعبت دوراً أساسيًّا في تحديد الملامح العامة للتطور الاجتماعي والسياسي والتاريخي لهذه الدول.

ومن الأصول الثابتة عندا لطرق الصوفية هي الاعتراف بالسلطة الروحية للشيخ الصوفي المبجل ودوره الثابت في الوساطة بين الله والعباد. وعلى هذا الأساس يقوم منهجهم في مسالة التدين والتقرب الى الله.

وفي هذا الشأن يقول عبد القادر الجيلاني أحد كبار المشايخ في بغداد (مات في 1166): «لقد كان الله هو المعلم المباشر لأدم، وبعد هبوطه إلى الأرض تولى جبريل تعليمه تم تولى أيضاً جبريل تعليم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخص تبليغ الوحي، وبعد دلك تولى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تعليم أصحابه ليقوم هؤلاء الآخرون بتعليم التابعين، وهكذا أصبح من واجب الشيوخ تعليم الموردين وإرشادهم إلى الطريق المؤدى إلى الله».

ولقد بدأت تداعيات الحركات الصوفية ابتداء من القرن السابع الميلادي مع ظاهرة الإفراط في الاهتمام بالمجال الدنيوي، مما دعت الضرورة الفورية للجوء إلى تنقية الذات وتطهير النفوس من الشوائب الدنيوية.

وفي القرن التاسع للميلاد تحولت الصوفية إلى عقيدة تقوم على مبدأ الوحدة الروحية مع الله، مما جعل الصوفية بهذا المعنى تدخل في إشكالات مع بعض الفرق الإسلامية.

وكان الحلاج (922) في بغداد أول ضحية هذا الاعتقاد، مما تعين على الصوفيين لاحقاً في التفكير في صيغة توافقية بين الصوفية والإسلام الرسمي، وكان للغزالي (1050 - 1111) فضل في إدخال الصوفية بنجاح في المذهب السني.

ومع القرن الثاني عشر لم تعد الصوفية نخبوية بل تحولت إلى حركة شعبية ممتدة من الشرق الأوسط إلى إفريقيا وشرق أسيا، في ظل نظرة دينية مهيمنة في الأوطان الإسلامية قاطبة تحت عناوين مختلفة، سنية أو شيعية وغيرها، وما تقتضيه هذه النظرة من سعي إلى تحقيق ما يسمى «خلافة الله في الأرض»، حتى وإن كان هذا لا يعني بحال الالتزام بمقاصد الشريعة الصرفة.

على العموم يبقى الدين في كل الأحوال -عند كل الملل والنحل- الخطاب النهائي الذي يرد ولا يُرد عليه، والحجة البالغة للبشر التي تدحض كل الحجج.

لقد كان العلماء منصفين حينما أقروا بمبدأ إجماع المسلمين حول الأصول، لكنهم تباينوا واختلفوا عندما وضعوا الدين على المحك الاجتماعي، حيث لبس الدين العباءة البشرية وما تحمله هذه الأخيرة من متناقضات. فلم تعرف يوماً حركة التاريخ إشكالاً حقيقيًّا في الدين عند المسلمين، لكن المشكلة الأساسية، كانت دوماً في استعمال هذا الدين في تجارب بشرية محددة.

لقد أفرزت التجربة الجزائرية منذ الاستعمار إلى يومنا هذا نماذج وطرق دينية بمرجعيات اجتماعية وثقافية مختلفة، تأصلت في أعماق المجتمع لتصل في أغلب الأحيان إلى الاحتقان والتناحر.

ولتحديد طبيعة هذا الصراع يتعين علينا بداية تحديد الخلفيات السوسيولوجية وإشكال البنيات التنظيمية والعقائدية لأهم التفاعلات الإسلامية الأساسية الفاعلة في العالم الإسلامي عامة، والجزائر خاصة.

ونعني بالذات التنظيمات الصوفية والإسلام الرسمي. ولعل إدراجنا مسألتي السياسة والحداثة، وعلاقتهما بهذين النمطين من الممارسات الدينية، لكونهما متغيرات حاسمة، عكستا إشكالات تاريخية فرقت الأمة أيام محنها العصيبة.

-1-
التنظيمات الدينية الصوفية وإشكالية السلطة والسياسة

لقد أثبتت التجارب التاريخية في بلاد المغرب العربي أن التنظيمات الإسلامية الصوفية، لم تكن على وفاق دائم بعضها مع بعض، بل العكس، كانت دوماً في صراع مستميت، خاصة كلما كان الأمر متعلقاً بالسلطة والسياسة والنفوذ.

ويجمع المؤرخون، كالشيخ مبارك بن محمد الهلالي الميلى وشارل أندري جوليان وغيرهما، على أن القرن السابع الميلادي كان بداية الانحطاط العام وسيادة الفوضى في بلاد المغرب العربي؛ حيث اشتد الصراع على السلطة، وبدا عهد الانقسامات السياسية بين الحفصيين والزيانيين والمارنيين، ولعبت مدن فاس وتلمسان وبجاية وقسنطينة وتونس أدواراً هامة في هذا الصراع، مما كان له أثر على الحياة الاجتماعية والثقافية. وهكذا تأثرت الأندلس بهذا الانقسام، فسقطت مدنها الواحدة تلو الأخرى بيد الصليبيين.

لقد تركت هذه الأحداث آثاراً عميقة في الإنسان المغربي، تجلّت في رد فعل سلبي متمثل في الهروب إلى التصوف وأهله، وظهر التصديق بالكرامات والمعجزات وتقديس الأولياء، خاصة منهم من يدعي شرف النسب، كالشيخ أبي مدين التلمساني (توفي 1197م) والشيخ أحمد بن يوسف الهواري (توفي 1520) صاحب الطريقة اليوسفية.

وليس غريباً أن يذكر لنا القاضي أبو عبد الله المقري (مات 1392) أن الناس في ذلك العهد قد ابتعدوا عن السلف الصالح واقتربوا من الأمراء حتى صار جمهورهم يتكالب عليهم. وقال أيضاً: «لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر ممَّا نزل في اليهود والنصارى، لأننا أتينا أكثر مما أتوا».

ومن جهة أخرى، عرف المغرب العربي ما بين القرن الثالث عشر والسادس عشر ظهور المدارس التعليمية الدينية، وكانت تحت وصاية الحكام وكانت فرصة لتثبيت المذهب المالكي ذي التوجه السني كمذهب رسمي. وبالرغم من أن العلماء والفقهاء كانوا يضمرون العداء للمتصوفين، لكن سمح لهم بالانتشار خارج دائرتهم.

لقد كان النظام الرسمي على الدوام محتكراً للحقيقة الدينية وناكراً لكل أشكال التنظيمات الدينية الأخرى، لكن الواقع التاريخي أفرز على المستوى التنظيمي مرجعيات دينية مختلفة وتبدو في أغلب الأحيان مناوئة للسلطة. كما عرفت البلاد الإسلامية شخصيات صوفية مؤثرة، سرعان ما أسست لنفسها طرقاً صوفية، واكتسحت حشداً من الناس، وبالتالي أضافت رصيداً ثقافيًّا هامًّا للتراث الديني للأمة.

إن هذا النوع من الإسلام يسميه البعض بالإسلام الشعبي؛ وذلك لارتباطه في أغلب الأحيان بالأطر المحلية الضيقة، ورفضه لأي ارتباط بتأملات وتنظيرات المفكرين الكلاسيكيين.

كل عاقل لا يمكنه أن ينكر أهمية ودور التنظيمات الصوفية في تجارب محددة كأسلمة بعض الدول كالسودان، مما يفسر لنا اليوم هيمنة الإسلام الشعبي في جل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية لهذا البلد. هذا الشكل من الإسلام الشعبي جعل من السودانيين في أغلب الأحيان يتجاوزون انتماءاتهم القبلية لصالح الانتماء العقائدي والثقافي لفض نزاعاتهم، إلى إن ظهر محمد أحمد المهدي وحركته المهدوية، الذي حاول من خلالها لملمة كل الفصائل الصوفية في إسلام واحد ونبد كل طريقة خارجة عن الدين الصحيح، لكن الناس أظهروا مقاومةً ورفضاً للانضمام إلى هذه الحركة، مما جعلهم يغيرون انتماءاتهم لصالح القبيلة بدلاً من انتمائهم العقائدي الصوفي.

وإذا رجعنا إلى بلاد المغرب العربي، وعلى وجه التحديد المغرب، فيتعين علينا الوقوف على «زاوية أووا زان» التي بزغ نجمها في القرن 17 للميلاد ، لقد لعب هذا التنظيم الطرقي الصوفي دوراً حاسماً في تاريخه الحديث والمعاصر، وذلك لأسباب مختلفة، منها:

وعلى صعيد المغرب، ارتبط تأسيس وتطور هذه الزاوية بالتوازي مع الأسرة العلوية المالكة. وهي تنحدر من أصول شريفة، وكانت على الدوام مرتبطة بالسلطة الحاكمة وتعمل للدعاية لها، إضافة إلى ذلك عملت هذه الزاوية على تعزيز نفوذ السلطنة في صراعها ضد النفوذ التركي من جهة، وضد تنامي المد الجهادي للأمير عبد القادر الجزائري ضد الاستعمار من جهة أخرى.

أما عن التجربة الجزائرية، فلقد انتشر فيها المد الصوفي ابتداء من القرن السادس عشر، ولقد تواجدت هذه الطرق الصوفية لأجل التأطير الاجتماعي والثقافي والديني لكل الفئات الاجتماعية دون استثناء، سواء في المدن، أو في الأرياف. ولقد حملت هذه التنظيمات الطرقية على عاتقها مهمة تلبية كل الحاجات الدينية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي أصبحت بحكم الواقع مخولة للدفاع بقوة عن المصالح الفردية والجماعية ضد كل أشكال الاعتداء الداخلي والخارجي.

ولقد عملت الحركات الصوفية في الجزائر على تجسيد الإحساس بالحرية والاستقلالية والحماية والنفوذ للمنتسبين إليها، سواء في حدودها المحلية القبلية أو الإقليمية. الأمر الذي جعلها دوماً تبحث عن استراتيجيات فردية ضيقة لمعالجة شؤونها المحلية والخارجية، والتطلع إلى تثبيت أركانها دون أدنى طموح إلى تأسيس وحدة عقائدية من شأنها لملمة مصالح المسلمين، بالرغم من أن كل هذه التنظيمات الطرقية تستمد شرعيتها التاريخية من فكرة الانتساب إلى بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو آل البيت أو الصحابة الكرام، وأنها تطبق في منهجها التعاليم الصحيحة والحرفية للدين دون غيرها.

وإنه لمن الصعوبة بمكان تحديد توجه سياسي واضح المعالم للتنظيمات الصوفية الجزائرية، سواء في الزمان أو المكان، وذلك لعمق الاختلافات الاجتهادية المذهبية التي تميزت بها والمتمثلة في توجهات متذبذبة. فهي تتأرجح بين مقارعة المحتل الأجنبي تارة ومهادنته والتفاوض معه تارة أخرى، إلى غاية التعامل معه على أساس أنه ابتلاء من الله ولا مجال للهروب من قضاء الله وقدره.

ففي هذا الصدد، يصرح الشيخ التيجاني (رحمه الله) بكل أسى ما يلي: «أفضل المكوث في هدوء الحياة الدينية وأهتم بشؤون السماء، خاصة في هذا الظرف الذي لا أملك فيه القوة والتأثير المفترضين. وإذا كان الأمر بيد الله أن يخرج الفرنسيين من بلاد المسلمين إلى ما وراء البحر، فإنه ليس بحاجة إلى يدي لإتمام هذه المهمة المقدسة (...)، إن انشغالي بالحياة الدينية أجبرني على قيادة أتباعي على حب الله، وذلك بتجنيبهم الصراعات الدنيوية التي لا يمكن معرفة نهايتها».

لعل ما يفسر هذا الموقف السياسي السلبي هو الحسابات السياسية الضيقة لبعض المشايخ الناتجة عن قصور في الرؤية الاستراتيجية الشمولية، وقد نلتمس لهم الأعذار في تلك المرحلة بالذات أنها لم تتبلور -عند أغلبهم- فكرة الدفاع عن الوطن بقدر ما كانت الفكرة الشائعة هي الدفاع عن حرمة القبيلة وقيمها الروحية. لكن الأمور اختلفت في مرحلة بناء الدولة الأمة بعد الاستقلال، حيث استدرجت كل التنظيمات الدينية، إصلاحية كانت أم طرقية لتأسيس المرجعية الدينية والسياسية للسلطة الحاكمة.

إن ما يميز التنظيمات الصوفية عن بقية التنظيمات الدينية الأخرى، هي قدرتها على التكيف مع الحقائق السوسيولوجية المحلية المبنية عادة على الجهوية والقبلية وغيرها. هذا ما جعلها تكون محل انتقاد من طرف العروبيين والإسلاميين من كل الاتجاهات.

رغم ادعاء التنظيمات الدينية تجاهلهم العمل السياسي على أساس أنه مفسدة، لكن التجربة الجزائرية أثبتت غير ذلك سواء إبان الاحتلال أو أثناء نضال الحركة الوطنية أو أثناء بناء الدولة الأمة بعد الاستقلال. ومن هذا المنطلق لا نستثنى جمعية العلماء المسلمين التي تأسست على معاداة الحركات الطرقية، وحرصها على مبدأ الانفصال عن الحقل السياسي والتركيز على البعد الدعوي والتعليمي فقط. لكن ما ورد في «الشهاب» يناقض هذا الادعاء جملة وتفصيلاً: «تهدف الجمعية للاستجابة للتقدم والأخوة على أساس الإسلام والفردانية الوطنية في إطار السيادة والقوانين الفرنسية».

إن تأكيد الجمعية على مبدأ فصل الدين عن الدولة في ظل الاحتلال، والمطالبة بالحقوق المدنية بالطريقة السلمية واجتناب العنف، هو عمل سياسي بامتياز. وفي ظل الحكومة الوطنية، سارعت الجمعية إلى دعم الخيار الوطني شريطة أن يكون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة الجزائرية.

-2-
التنظيمات الصوفية وإشكالية الحداثة

لقد بنيت النهضة الأوروبية على إعادة صياغة الوعي الأوروبي على أساس التراث الفلسفي والدنيوي الإغريقي. إنها بداية إعادة تنظيم النظم الاجتماعية برمتها وفق خيارات جديدة مناهضة في الشكل والمضمون لخيارات العهد القديم حيث كانت تهيمن الكنيسة. وبموجب هذه التحولات، دخلت أوروبا في عهد تعتبر فيه العقلانية والحداثة قيمه الأساسية.

فأصحاب النظرية التطورية يعتقدون بأن كل مجتمع ينشد الحداثة كمعيار وحيد للتنمية والتطور الحضاري، يتعين عليه تجاوز القيم التقليدية والثقافة الدينية التي من شأنها عرقلة مسار التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية الجديدة. فالسؤال الأساسي الذي يفرض نفسه هو كالتالي: إلى أي مدى يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تتجاوز قيمها الدينية والتقليدية التي ما زالت لحد الآن تشكل المصادر الأساسية لهويتها القومية والإسلامية؟

وتعتبر التجربة التركية نموذجية في هذا الصدد، حيت أصدرت مرسوماً جريئاً في 1925 يقضى بإلغاء كل التنظيمات الطرقية الفاعلة في الساحة التركية لتنال بركة وتزكية الدول الغربية صانعة الحضارة المعاصرة. لكن الدولة التركية وإن تعلمنت من خلال دستورها وأحوالها المدنية ومشاريعها التنموية، لكنها ظلت إلى يومنا هذا روحانية في ثقافتها ومعتقداتها، وما فوز حزب «أردوغان» ذي التوجه الإسلامي، لخير دليل على هشاشة هذه العلمانية المزعومة.

لقد ظل الإسلام كمجموعة من المعتقدات والأفكار والممارسات يضبط الإنسان بخالقه وبمجتمعه. وفي هذا المقام يتدخل المستشرق «ماكسيم رودنسون» لرفع إشكال تاريخي بين الإسلام والديانات الأخرى فيقول: «يجب التأكيد على أن الديانة الإسلامية تقدم للمنتسبين إليها مشروعاً اجتماعيًّا، عكس ما يعتقد الغربيون حينما يظنون أن كل الديانات هي على شاكلة المسيحية. فالإسلام يختلف عن المسيحية والبوذية. ويكمن هذا الاختلاف في كون الإسلام لا يتمظهر كجمعية تضم المؤمنين ويقرون بحقيقة واحدة، وإنما كمجتمع كامل».

لكن ما هو ملاحظ عبر التجارب التاريخية المختلفة للمسلمين، أن الإسلام كدين لا يزال محتفظاً بقدسيته وهيبته عند كل المسلمين قاطبة، حتى اللائكيين منهم، لكن المشكلة الأساسية عند الجميع تكمن في طريقة التعاطي مع هذا الدين، خاصة حينما يقع تحت رحمة المصالح والصراعات من أجل النفوذ، وتمرير الأيديولوجيات، ويصبح الدين محل جدل ومساومات في تثبيت خيار على حساب خيار آخر.

إن موضوع الدين والحداثة في التجربة الجزائرية تنقلنا إلى الحقبة الاستعمارية حيث برز الدين في شكله التقليدي إلى أبعد حدود، كردة فعل للثقافة الكولونيالية ذات البعد الصليبي والعلماني. لقد وجد الأهالي في التضامن القبلي والدين العاملين الرئيسين القادرين على التعبئة العامة ضد المشروع الاستعماري وحضارته المادية. فجاء دور الزوايا لتتحمل أعباء المرحلة الجديدة بمتغيراتها وتناقضاتها.

كانت ردة فعل المستعمر تجاه المرحلة الجديدة هي احتكار الشأن الديني برمته، وذلك بتشجيع بعض التكوينات الدينية الطرقية على إنتاج التخلف والانغماس في غياهب الجهل ومعاداة كل ما له علاقة بالعقل وإنتاج المعارف العلمية. إن هذا الأمر ليس بغريب عن الفلسفة الاستعمارية المدمرة للشعوب. فعن طريق مصادرة المؤسسات الدينية التعليمية، نجح المستعمر إلى حد كبير في مصادرة الحريات والعقول والإرادات وتمرير الهيمنة والخنوع، وذلك باستعمال بعض الزعماء الروحانيين لتأدية هذه المهمات التدجينية.

لقد كان كامبو J.Gambon يصرح آنذاك، «أنه من الخطأ بمكان تهميش الإمام الرسمي، وذلك بحرمانه الحق كغيره من الأئمة الشباب الذين ربيناهم، فتراهم ملهمين بأفكارنا ومدعمين لجهودنا».

وفي مقام آخر يصرح الحاكم العام قائلاً: «تكمن المصلحة العليا لهيمنتنا في الحفاظ على التدخل المباشر في الشأن الديني. هذا التدخل يعني خاصة ممارسة الحق في تعيين العاملين في القطاع».

فإذا كانت الحداثة بالمعنى الغربي للكلمة تعني تأرجحاً مجتمعيًّا حاسماً يقوم على مبدأ المعارضة بين التقاليد والحداثة، وتكون عندئذ العلمانية الدعامة الأولى لهذه الحداثة، فهذا لا يعني بحال اعتبار أن كل «معتقد دوغمائي» كالدين سيختفي من المجتمع (...)، إن ما يقصد به بالعلمنة هو ليس حضور معتقد أو غيابه، وإنما يقصد بالفصل المؤسس بين الكنيسة والدولة من جهة، وبين مؤسسات البحث والتعليم من جهة أخرى».

إن مصادرة المستعمر للدين ومؤسساته، ينم عن نية مدمرة للثقافة الجهادية للمنتسبين لهذا الدين، مع السعي إلى تعزيز التفرقة المذهبية بين مختلف القبائل والزوايا. ويتضح جليًّا مما يطرحه حكام الاستعمار، بأن الغاية من اللجوء إلى الدين بشكله التقليدي واستثماره سياسيًّا هو لأجل تكريس الهيمنة الاستعمارية، الأمر الذي يتنافى شكلاً ومضموناً مع مقتضيات الحداثة.

لقد كان الاستعمار على دراية بأن الإسلام الصوفي الطرقي يفتقر إلى النظرة السياسية الشمولية، بحكم طبيعته المحلية والقبلية والمذهبية، ناهيك عن قيامه على مبدأ الاعتماد المفرط على النقل وتأصيل مذهب الاتِّباع والتقليد، وتقديس الرموز الدينية والشخصيات، فإنه يؤدي لا محالة إلى تهميش فعالية العقل وتعطيله والسعي على هامش التاريخ.

لم يكن بوسع الزعامات الروحية الطرقية البحث عن قيم أخرى قصد الانفتاح على العالم والاستفادة من بعض إنجازاته العقلية، على أساس أن كل تطلع إلى جديد هو من المستحدثات، وكل مستحدثة بدعة وكل بدعة في النار. فلقد تشكلت الأيديولوجية الدينية آنذاك على التحفظ والامتناع عن التعاطي الإيجابي مع قيم المستعمر بحكم أنها مخالفة للدين وتقوم على خلفيات صليبية صرفة.

هكذا ظل الإسلام الصوفي منعزلاً عن التحولات الكبيرة التي شهدها العالم مع بداية القرن العشرين في ميادين شتى (اقتصادية وتكنولوجية وثقافية وغيرها..)، وأصبح بالتالي عقيماً فاقد المبادرة في التجديد، سواء على مستوي الفكر أو العقيدة، وظل مرتبطاً بالحياة الريفية حيث تهيمن الحياة التقليدية البسيطة.

لقد وجد المستعمر ضالته في مثل هذا النمط من الاعتقاد الستاتيكي وجعل منه النموذج الأمثل في الدين والتدين، وأصبح من المناصرين له أيام محنة الصراع بين الإسلام التقليدي الممثل في شيوخ الزوايا وعلماء الإصلاح الذين يتزعمهم الشيخ «عبد الحميد بن بأديس» (رحمه الله).

ومن أجل تبيان محدودية الخيار التقليدي للإسلام في تجارب معينة، يتعين علينا طرح إشكالية الخيار الإصلاحي، سواء في مواجهاته للمد التغريبي المتمثل في علمانية الثقافة الاستعمارية، أو في مواجهة الثقافة التقليدية الطرقية.

إن معركة الإصلاحيين ضد المد التغريبي الذى يمثله الاستعمار أو المد التقليدي «التجهيلي» الذى تمثله بعض الزوايا هي معركة واحدة.

لم تكن السياسة من أولويات جمعية الإصلاحيين، بل انصب جل اهتمامها في مقارعة بعض شيوخ الزوايا في شؤون العقيدة من أجل تطهيرها من الشوائب الدخيلة وتحرير أفكارها من الجمود والبدع المناقضة للتقدم والتطور. وفي نظر الإصلاحيين، تعتبر زيارة الأضرحة وتقديم القرابين وتشييد القبب من المسائل المضللة للشعوب، وتعكس أعتا صور الجاهلية. هذا النوع من الإسلام لا يمكن أن يعول عليه في نهضة الأمة ومواجهة ثقافة الاحتلال، بل العكس، إن مثل هذا التصور يستفيد منه المحتل لأجل تكريس احتلاله.

إن التاريخ السوسيولوجي للإسلام في الجزائر يقودنا إلى تقسيم الإسلام إلى نمطين متباينين في المبادئ والأهداف.

1- الإسلام التقليدي الذي يحتضنه الريف والمتمثل في الزوايا.

2- الإسلام الحضري المرتبط بجمعية علماء المسلمين التي يترأسها الشيخ عبدالحميد بن بأديس.

لقد أصبح الإسلام الحضري الإصلاحي يناهض بقوة وفعالية الإسلام الريفي التقليدي، ويطرح نفسه بديلاً حقيقيًّا ووحيداً معتمداً على قدرته في استيعاب علوم العصر، والانفتاح على العالم الخارجي. كما حمل الإصلاحيون مشايخ الزوايا تخلف المسلمين وتأخرهم.

لقد تضايق شيوخ الزوايا كثيراً من الانتقادات الموجهة إليهم من طرف العلماء مما دفعهم إلى تقديم شكوى إلى السلطات الاستعمارية. لم يتأخر السكرتير العام لمحافظة الجزائر المكلف بشؤون الأهالي في إصدار مذكرة تنبيهية ضد جمعية الإصلاح ويهددها بالمتابعة القضائية، وذلك بتاريخ 16 فبراير 1933م.

إن جوهر الصراع بين إسلام الزوايا وإسلام الإصلاحيين يكمن بدرجة أساسية في علاقة كل تيار بالسلطة السياسية الاستعمارية من جهة، وعلاقة كل واحد منهما بمشروع الحداثة وما تحمله هذه الأخيرة من إنجازات في جميع ميادين الحياة من جهة أخرى.

علماً بأن الاستعمار لم يكن يهدف في مشروعه الاستيطاني تحديث المجتمع الجزائري، وإنما كان يهدف إلى تلبية حاجات المستعمرين، كتمدرس بعض الأهالي، وإنشاء بعض المناطق الصناعية، وربط المدن بعضها ببعض بشق الطرقات، وإنشاء السكك الحديدية وغيرها. ففي هذه المرحلة من الصراع بين الرموز الدينية، طرحت إشكالية الدين في علاقتها بواقع الاحتلال.

فبحكم هيمنة الثقافة التقليدية في أوساط ريفية، يحكمها نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي الذي يقوم على الفلاحة وتربية المواشي، فلقد لعبت النزعات القبلية بتدعيم من القوى الروحية المهيمنة آنذاك، دوراً حاسماً في ضبط العلاقات الاجتماعية وفق المعايير التربوية والعرفية المتعارف عليها اجتماعيًّا ودينيًّا. ولم يكن موضوع الحداثة في يوم من الأيام عرضاً يقابله طلب شعبي، لأنه ببساطة يفتقر إلى مقومات الحياة عند عامة الناس، ويفتقر إلى المشروعية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لهذا ظلت الحداثة غير ملزمة في شيء من المنظور الصوفي.

فالحداثة في جوهرها حركة إنسانية شمولية غربية، تهدف الى إعادة ترتيب الحياة على أسس مادية وفلسفية. وينظر إلى الدين من هذا المنطلق، كحاجة من الحاجات الإنسانية، وهو بالتالي غير ملزم لأحد، ويمكن تجاوزه عندما يعوض بحاجة أخرى.

وعلى ضوء هذه المعطيات التاريخية، يمكننا القول: إن الإسلام الصوفي بريء من مستلزمات الحداثة المعاصرة، لأنه لم يكن يوماً طرفاً فاعلاً في معادلاتها، فلقد حرص الإسلام الصوفي خلال كل الهزات السياسية والثقافية والعقائدية التي واجهته على الدفاع عن وجوده بكل الوسائل من كل أشكال التمييع والتطبيع والانسلاخ عن هويته. فإذا كان الإسلام الصوفي غير قادر على مراجعة منهجه حينما تصادم مع هيئة علماء الإصلاح، فكيف يمكنه تحمل أعباء الحداثة وإملاءاتها الثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها؟

-3-
الدور السياسي للتنظيمات الدينية في ظل تمرير مشروع الحداثة في الجزائر بعد الاستقلال

لم يعد مشروع الحداثة أمراً مستحدثاً عندما وُلِّي الأمر للسلطة الوطنية بعد الاستقلال. فقد تحلى أهل الطرق الصوفية دوماً بالهدوء والحكمة في مسايرة مرحلة بناء الدولة الأمة، وذلك بالتدعيم الدائم لكل القادة الوافدين على السلطة. ناهيك عن دعمهم الفعال لمشروع السلم الاجتماعي، خلال المحن التي مرت بها بلادنا.

لقد وجدت السلطة الحاكمة في كل من الإسلام الصوفي الطرقي إضافة إلى الإسلام الإصلاحي، القوتين الروحيتين المعتدلتين والمتأصلتين في أكبر شرائح المجتمع، والتي لا يمكن تجاوزهما بحال من الأحوال. لقد كانت السلطة السياسية مدركة على الدوام أن عملية احتواء البعد العقائدي بفصائله المختلفة، يعد خياراً استراتيجيًّا من ضمن خيارات أخرى كالحداثة والتنمية.

لقد كانت السلطة السياسية مدركة أيضاً، أن كل حركة تحديثية لن تبلغ مقاصدها إلا بتغطية روحية، حيث تشكل فيها المرجعيات الدينية، في شكلها التقليدي أو الإصلاحي الدعامة الأساسية. ومن خلالها يتأسس التواصل الروحي بين السلطة والشعب، وتتمكن الدولة من اكتساب شرعيتين: شرعية روحية وشرعية تنموية وعلى أساس مبدأ سد الذرائع أمام أعداء الدولة المفترضين، فلقد مكنت الشرعية الأولى من استئصال بقوة كل تشكيلة دينية أخرى تحاول طرح البدائل السياسية اعتماداً على مرجعيات دينية دخيلة، لأجل الوصول إلى السلطة.

فإذا كانت الجزائر مسيّرة غير مخيرة في التعاطي الإيجابي مع مقتضيات الحداثة لضرورة سياسية واقتصادية، وما يترتب عن هذا الأمر من مخاطر ثقافية، فإننا نجد أهل الإسلام الصوفي الطرقي، وكذلك أهل الإسلام الإصلاحي أو الرسمي مخيرين في التماس كل الوسائل لردع كل أشكال الانزلاقات الثقافية المضرة بالدين والهوية.

وفي ظل الظروف الراهنة سيظل الإسلام الصوفي الشعبي والإصلاحي المرافقين الدائمين لمسيرة التنمية، حيث تمرر فيها قيم الحداثة في الميادين الاقتصادية والسياسية، دون المساس بالثوابت الأساسية للأمة في إطار تقسيم اجتماعي للعمل بطريقة توافقية، وملزمة للجميع على الصورة النمطية التالية:

1- الإسلام هو دين الدولة، وهي التي تتولى صيانته والذود عنه، وترعى من يرعاه وتعادي من يعاديه.

2- الإسلام يهيمن في المؤسسات العامة المختلفة، ويمارس بشقيه الصوفي الطرقي أو في شكله الرسمي الإصلاحي وحتى في شكله السلفي بكل حرية، كطقوس وشعائر وعبادات، لكن شؤون الحكم والتنمية هما بيد أهل الخبرة والاختصاص من السياسيين والاقتصاديين والفنيين، وهم وحدهم القادرون والمخولون على تمرير قيم الحداثة في المجتمع.

3- التجربة الجزائرية في تعاملها مع الدين وشؤون الحكم والسياسة، لا تتعارض مع مصالح الكيانات الدينية، سواء الطرقية منها أو الإصلاحية أو السلفية؛ لأنها مدركة أن الدولة الجزائرية لا يمكنها أن تكون دينية بحكم ارتباط مصالحها التنموية بالغرب، كما لا يمكنها أن تتنصل عن الدين لصالح نموذج علماني؛ لأن الدولة بدون رعاية الدين تفقد أهم عنصر يلهمها الشرعية، ويدعم لها مقومات الاستمرارية.