من شروط النهضة إلى الميلاد الجديد
تلمسان (الجزائر) 12 - 14 ديسمبر 2011م
من زار مدينة تلمسان أيام 12-14 كانون الأول - ديسمبر 2011م، يشهد بكل وضوح أن المفكر الإسلامي مالك بن نبي (رحمه الله)، جمع شريحة كبيرة من الذين شغلهم موضوع النهضة على مستوى العالم الإسلامي، من أصدقاء الدرب والعلماء والمفكرين والباحثين، وتلامذة مالك بن نبي المخلصين لفكره ورؤاه ومشاريعه، الفكر الذي لعب دوراً كبيراً طيلة نصف قرن، ولا يزال يبعث وعيًّا إسلاميًّا كبيراً بالنهضة الحضارية الجديدة.
جاء هذا الملتقى ضمن فعاليات تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية لسنة 2011م، وهو من تنظيم وإشراف مديرية الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وعقد بالتعاون مع ولاية تلمسان، وحضره جمع كبير من الباحثين والأكاديميين الجزائريين من مختلف الجامعات الجزائرية، كما حضره جمع من الباحثين والأكاديميين من خارج الجزائر، من تونس والمغرب ومصر والسعودية ولبنان، ومن إندونيسيا وتركيا وفرنسا وأمريكا، وهؤلاء جميعاً أو معظمهم كانت لهم كتابات منشورة حول مالك بن نبي، أو أنهم من المهتمين والمتابعين لأفكاره ونظرياته. وعقد اللقاء تحت شعار: «مالك بن نبي واستشراف المستقبل: من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد».
ويعتبر هذا الملتقى الدولي الأول من نوعه عدا تلك الندوات التي عرفها مسقط رأس المفكر مالك بن نبي (قسنطينة)، أو الملتقيات الدولية والوطنية التي نظمتها الجامعات الجزائرية، والمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، والملفت للانتباه أن مالك بن نبي استطاع أن يجمع كل الأطياف الفكرية والسياسية بالجزائر وعبر العالم الإسلامي ككل، وتميز الملتقى بالحضور المميز والمشرف لرموز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تجمعها ومالك بن نبي وشائج المحبة والعلم والمعرفة والنضال المقدس من أجل الأصالة العربية والإسلامية للجزائر.
في اليوم الأول أتحف الحاضرين الوزير اللبناني الأسبق الأستاذ عمر كامل مسقاوي، الصديق الحميم للمفكر ابن نبي، بشهادته الرائعة حول هذا العالم المسلم الفذ الذي أعطى الوعي الحضاري للمسلمين دفعة قوية للانطلاق نحو المستقبل وفق محددات ثقافة إسلامية أصيلة.
كما عرفت الجلسات العلمية قراءات ومقاربات في فكر مالك بن نبي تناولت المحاور التالية:
* مداخل إلى فكر مالك بن نبي.
* مالك بن نبي: حياته وأفكاره وشهادات عنه.
* مفاهيم ومحطات رئيسة في حياة مالك بن نبي.
* قضايا المجتمع في فكر مالك بن نبي.
* الاقتصاد عند مالك بن نبي.
* مشكلات الثقافة والحضارة.
* التجديد والتغيير عند مالك بن نبي.
* مجتمع المعرفة والخصوصية الحضارية.
* رؤية ابن نبي الاستشرافية.
* الإسلام وقضاياه في فكر مالك بن نبي.
هذه هي محاور الجلسات والأبعاد التي ركز عليها المشاركون خلال الأيام الثلاثة للملتقى، كما يمكن الإشارة إلى أن موضوعات الجلسات جاءت شديدة التنوع، وشهدت نقاشات مميزة دارت حول الآمال والتوقعات من خلال إحياء فكر مالك بن نبي على المستوى الجزائري، والجغرافية الإسلامية، كما أثار بعض الحضور القضايا المركزية الكامنة في تراث مالك بن نبي من قبيل: فكرة مشروع الكومنولث الإسلامي، وبالمقابل كان الحاضرين متفقين في الرأي بشأن مركزية فكر مالك بن نبي في مشروع النهضة الإسلامية.
أما اليوم الثاني فقد ميزه حضور جماهيري فريد، وشهد أيضاً نقاشات معمقة حول قضايا المستقبل والاقتصاد والثقافة والرؤى الفكرية الخاصة بمالك بن نبي.
الجلسة الصباحية الأولى أدارها الدكتور عمار طالبي، واستُهلت بمحاضرة الدكتور العربي ولد خليفة رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، الذي استفاض في تحليل نظرية الحضارة عند ابن نبي، التي عبر عنها بقانون المرور للحضارة، ثم عرج على فكرة القابلية للاستعمار. وفي الجلسة نفسها تحدث الدكتور محمد رفعت الفنيش من ليبيا المقيم بأمريكا الخبير الاقتصادي الدولي، الذي رافق مالك بن نبي طيلة عقد ونصف من الزمن، فقد عرف ابن نبي بقوله: «عرفته بروحانية الصوفي، وأصالة عالم الاجتماع، ودقة المهندس، وحماسة الداعية، وصرامة المنطق الموضوعي، وكرامة الزاهد، وشراسة المحارب بالعلم». ثم أعطيت الكلمة للدكتورة أسماء بقادة التي استفاضت في سرد تاريخ العلوم وفلسفتها لتصل في الأخير إلى فكرة مفادها أن مالك بن نبي هو أول من استخدم مفهوم الشبكة (
le réseau)، وكذلك مفهوم السيرورة بدلاً من مفهوم البنية، وانتهت إلى التنويه -حسب قراءتها لتاريخ المستقبل عند مالك بن نبي- بأن الثورة لا ترتجل بل هي فكر سابق لفعل.أما الجلسة الثانية لليوم الثاني فقد اتسمت بالحديث عن الرؤى الاقتصادية عند مالك بن نبي، وترأسها الدكتور عبد الحميد يويو من المغرب، واستهلت بمحاضرة الدكتور بشير مصطفى من جامعة الجزائر بعنوان: «الفكرة الاقتصادية عند مالك بن نبي»، ركز فيها على نظام التفكير الاقتصادي، ولفت النظر إلى أن مالك بن نبي في كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد) لم يتطرق إلى موضوع الاقتصاد الإسلامي، وخلص في ورقته إلى الحقيقة الآتية، وهي أن الاصطدام أصبح في داخل الرأسمالية، فقد انتقلت الأزمة لدى الرأسمالية من المحيط إلى المركز.
أما الجلسة الثالثة في أعمال اليوم الثاني من الملتقى، فقد عرفت تنوعاً مفاهيميًّا رائعاً، إذ ترأسها الدكتور عبد الجليل سالم رئيس جامعة الزيتونة من تونس، واستهلها بروحه الشيقة وجرأته النقدية كعادته في إلقاء المحاضرات ورئاسة الجلسات، كما نبّه الحضور للدور المحوري لفكر مالك بن نبي في تجديد التأسيس الثقافي والحضاري لدور الأمة الإسلامية.
ثم عرف بالأستاذ زكي الميلاد (رئيس تحرير مجلة الكلمة) من السعودية، كباحث ومفكر لديه معرفة وقراءات ومقاربات مهمة بخصوص فكر مالك بن نبي، وأثر بارز في عالم الفكر الإسلامي المعاصر، وكان عنوان محاضرته: «مشكلة الثقافة عند مالك بن نبي: النظرية والمنهج والتطور»، استهل الأستاذ زكي الميلاد محاضرته بالقول: إنه سوف ينطلق من هاجس ثقافي يتحدد في أمرين:
الأمر الأول: كيف نقرأ مالك بن نبي اليوم ثقافيًّا؟
الأمر الثاني: كيف نتمم ما بدأه ثقافيًّا؟
وفي هذا النطاق انتخب ثلاث مسائل أساسية يمكن أن تثير بعض الجدل والنقاش، وهذه المسائل هي:
المسألة الأولى: حين تساءل مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة) الصادر سنة 1959م: من أين جاءت كلمة الثقافة؟ ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟ أجاب بقوله: «فإذا ما رجعنا قليلاً في مجال البحث لم نجد أثراً لتلك الكلمة في لغة ابن خلدون، الذي يعد على أية حال المرجع الأول لعلم الاجتماع العربي في العصر الوسيط».
وهناك من أخذ بهذا الرأي ورتب عليه بعض النتائج كالدكتور عمر الخطيب في كتابه (لمحات في الثقافة الإسلامية).
وعندما صدر كتاب مجالس دمشق في طبعته الأولى سنة 2005م، متأخراً كل هذه المدة الطويلة، احتوى هذا الكتاب على محاضرة بعنوان (الثقافة والأزمة الثقافية) ألقاها ابن نبي في جامعة دمشق سنة 1972م، في هذه المحاضرة أشار إلى وجود كلمة الثقافة في المقدمة، بقوله: «إن كلمة الثقافة نفسها وردت في مقدمة ابن خلدون مرتين أو ثلاثاً في فصول موزعة من المقدمة، دون أن يكون لمدلول الكلمة ضبطاً يحمل إلينا معنى الثقافة كما نفهمه أو نحاول أن ندركه اليوم».
وعقب الأستاذ زكي الميلاد على ذلك بقوله: إنه طالع مقدمة ابن خلدون كاملة، متتبعاً وفاحصاً عما إذا كانت كلمة الثقافة قد وردت فيها كتسمية تنسب إلى مفردات اللغة العربية أو كمفهوم ينتسب إلى نسق من المعارف الاجتماعية، فوجد أن ابن خلدون قد استخدم كلمة الثقافة ومشتقاتها في ستة استعمالات، قام بتحديدها وضبطها والكشف عن معانيها ومداليلها، وقد شرح هذا مفصلاً في كتابه (المسألة الثقافية من أجل بناء نظرية ثقافية).
أما المسألة الثانية فتلخصت في تحديد جوهر النظرية الثقافية عند مالك بن نبي، الذي يمكن إيجازه في المركب الرباعي للثقافة عند مالك بن نبي (المبدأ الأخلاقي، التوجيه الجمالي، المنطق العملي، الصناعة)، إذ اعتبر الأستاذ الميلاد أن هذا المركب استوقفه متسائلاً: كيف توصل مالك بن نبي إلى نظرية الثقافة بهذه العناصر الأربعة، خصوصاً وأن مالك بن نبي لم يشرح في كل مؤلفاته كيف توصل إلى هذه النظرية؟ وما منابعها ومصادرها؟ وكيف تطورت؟ وكيف استوت على سوقها؟ وبعد تأمل وتدقيق مستفيض لمدة من الزمن توصل الأستاذ الميلاد إلى نموذج قياس لهذه النظرية بعناصرها الأربعة، وتحدد هذا في مبحث العلة في المنطق والفلسفة؛ إذ إن المناطقة قسموا العلة إلى أربعة أقسام، وهي بنفس هذا الترتيب (العلة الغائية، العلة الصورية، العلة الفاعلية، والعلة المادية)، هذه العلل الأربعة متماثلة وشديدة التشابه مع تلك العناصر الأربعة، ثم استدرك الأستاذ الميلاد التأكيد أنه لا يقصد بهذه المقاربة سلب الإبداع عن المفكر الإسلامي الفذ مالك بن نبي (رحمه الله)، وإنما أراد معرفة أساس هذه النظرية التي استوقفته كثيراً، كما أن الأستاذ مالك بن نبي كان جازماً بقوله: «إن هذه العناصر هي العناصر النهائية والتمامية لنظرية الثقافة، وليس هناك عنصر خامس»، وهذا يقرّب العلاقة بتلك العلل الأربع؛ لأنه أيضاً ليس هناك علة خامسة.
والمسألة الثالثة في محاضرة الأستاذ زكي الميلاد، تمثلت في التساؤل الآتي: إلى أين وصلت نظرية الثقافة عند مالك بن نبي اليوم؟ علماً أن هذه النظرية، تقريباً هي من أهم النظريات التي ظهرت في المجال العربي، وأكثر النظريات خبرة ونضجاً وتقدماً، لكن إلى أين وصلت هذه النظرية؟ أجاب الأستاذ الميلاد: إن هذه النظرية بقت كما هي منذ أن أسس لها الأستاذ مالك بن نبي وإلى اليوم، فليس هناك كتاب متمم لكتاب مشكلة الثقافة، والسبب في ذلك هو طريقة التعاطي مع هذه النظرية التي تحددت في ثلاث اتجاهات: الاتجاه الأول هو الذي انبهر بهذه النظرية، والثاني هو الاتجاه الذي تجاهل هذه النظرية كالدكتور سمير أمين في كتابه: (نحو نظرية للثقافة)، ولم يأت على ذكرها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (المسألة الثقافية في الوطن العربي)، وهكذا الدكتور محمد أركون في كل دراساته حول الإسلاميات المعاصرة، علما أن العالم العربي لا تتوفر فيه نظرية للثقافة إلا هذه النظرية، والاتجاه الثالث هو الذي اتخذ موقفاً معارضاً لنظرية الثقافة عند الأستاذ مالك بن نبي، واستند إلى أفكار قدمها بصورة ملتبسة.
ثم عرج الأستاذ الميلاد بكل موضوعية وبراعة فكرية حول نظرية القابلية للاستعمار قائلاً: كان من المفروض اليوم أن نتحدث عن ما بعد القابلية للاستعمار، وبكل بساطة نظرية القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي (رحمه الله)، أراد من خلالها أن يقول: إن الاستعمار هو نتيجة وليس سبباً، وعبّر (رحمه الله) عن ذلك بقوله: «أخرجوا المستعمر من نفوسكم يخرج من أرضكم».
ثم ختم الأستاذ الميلاد بفكرة رائعة اجتذبت كل الحضور قائلاُ: «الذي يعنيني ويفترض أن يمثل حكمة لهذا الملتقى، هو السؤال الآتي: أين مالك بن نبي بعد مالك بن نبي؟ وكيف نولّد مالك بن نبي من رحم الخطاب الثقافي لمالك بن نبي؟».
بعد محاضرة الأستاذ زكي الميلاد، جاءت كلمة مقتضبة لأستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر يوسف حنطابلي، الذي حاول طرح مقاربة ثقافية حول الأزمة الثقافية عند مالك بن نبي معتمداً على العلوم الاجتماعية، ومشيراً في سياق حديثه عن مفهوم الثقافة عند مالك بن نبي، إلى أن ماكس فيبر في بنائه لمفهوم الثقافة يشبه كثيراً مالك بن نبي في بنائه لمفهوم الثقافة، فالأستاذ ابن نبي بنى المفهوم على أساس قراءته للواقع، وأخذ بعض الخصائص لقياس ذلك المفهوم على الواقع وتشخيص طبيعة الأزمة التي يعانيها العالم العربي والإسلامي، وأضاف الباحث أن مفهوم الثقافة عند الغرب مشمول بكل النظريات الفلسفية والسوسيولوجية التي سادت طيلة قرنين من الزمن، ولذلك تعريفهم للثقافة يدخل ضمن هذا الفضاء المعرفي الكثيف والمتراكم، في حين أن مالك بن نبي -وعلى العكس تماماً- وجد نفسه في فراغ (بالمفهوم السوسيولوجي والإنثروبولوجي)؛ لأن العلوم الاجتماعية لم تكن سائدة في العالم العربي.
وفي جانب آخر رأى الباحث يوسف حنطابلي أن مالك بن نبي يعتبر من مفكري النهضة في العالم العربي والإسلامي، وفي هذا النطاق طرح تساؤلاً: لماذا لا يرد اسم مالك بن نبي مع كل المفكرين النقاد الذين يعرفهم العالم العربي، بوصفهم يمثلون المدرسة النقدية العربية الحديثة (كالدكتور محمد عابد الجابري والدكتور محمد أركون...)، وفي الإجابة عن هذا السؤال يرى الأستاذ الباحث أن المدرسة النقدية العربية الحديثة لم تنطلق من سؤال ابن خلدون نفسه، ولكن انطلقت من سؤال: كيف نحقق النهضة؟ بينما مالك بن نبي ينتمي للمدرسة التي انطلقت من سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
وفي الختام نبّه الأستاذ حنطابلي إلى مسألة تقنية مهمة تتعلق بتحليل مالك بن نبي للظاهرة الثقافية، ويجب التدقيق في المفاهيم الواردة في تراث مالك بن نبي، وندرج الجانب العلمي ونترك ما كان مطروحاً كعاطفة ووجدان.
المحاضرة الثالثة كانت للدكتور عبد الحفيظ بورديب من جامعة تلمسان، وكانت بعنوان: (التذوق البياني في الظاهرة القرآنية)، استهل محاضرته بتساؤل: هل هذا العقل الجبار لمالك بن نبي ولد في محضر تراكم معرفي فلسفي إنساني أم أنه نتاج قرآني خالص؟
أمام هذا السؤال انطلق الدكتور بورديب من معادلة الحضارة التي أضاف لها مالك بن نبي المركب وهو الفكرة الدينية، وكي يشرح الأستاذ ابن نبي الفكرة الدينية وضع كتاب (الظاهرة القرآنية)، فمالك بن نبي في هذا الكتاب يناقش ويحلل: مشكلة تذوق القرآن الكريم. وبعدها عرج المحاضر على التذوق الفطري في مرحلة الروح في مخطط الحضارة عند مالك بن نبي، ويعتقد عبر تحليله لنظرة مالك بن نبي للإعجاز القرآني التي تتصل بالتذوق البياني أنه استجمع أمرين: الأسلوب المنطقي والحجة العقلية. ثم انتهي الباحث لأسئلة مركزية في محاضرته: هل مالك بن نبي كمهندس كان يملك أدوات التذوق البياني؟ وما علاقة التذوق البياني للقرآن الكريم بمشروع هندسة الحضارة؟ وعليه هل مالك بن نبي طرح مقولات جديدة في مسألة التذوق البياني؟ وكمحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة خلص الدكتور بورديب إلى أدوات التذوق البياني كما طرحها مالك بن نبي وهي:
* العلم بخواص تراكيب الكلمات.
* العلم بخواص التركيب.
وما يثير إعجاب الدكتور بورديب حديث مالك بن نبي عن ظاهرة الالتفات البلاغي:
* العلم بطرق تأدية المعنى.
* العلم بأصول الدلالة: يفترض مالك بن نبي هنا ثلاثة أمور:
1- اتخاذ القرآن كوحدة منظمة.
2- التعامل مع القرآن الكريم بأنه وحدة كمية يبرز في آيات القرآن الكريم دلائل الترتيب والإضافة المنهجية.
3- أقرب الموافقات التي حدثت بين العلم الحديث في حقائقه المطلقة وبين القرآن الكريم.
وفق هذه المعطيات فإن القرآن الكريم هو كتاب إلهي.
ثم ينتهي الدكتور عبد الحفيظ بورديب إلى محاور أساسية في نظرية التذوق البياني في كتاب الظاهرة القرآنية بخصوص: ضرورة الربط بين الدين والنظام الكوني، والتأكيد على أن اللغة العربية هي حامل للحضارة.
واختتمت هذه الجلسة بمحاضرة للأستاذ عبد القادر بخوش من جامعة الأمير عبدالقادر بمدينة قسنطينة حول (معالم التجديد الحضاري الإسلامي عند مالك بن نبي)، إذ انطلق من كون مالك بن نبي قطب الرحى في هذا التجديد الحضاري الإسلامي المعاصر، واعتبره المحامي الذكي للإسلام في الزمن المعاصر، مقتبساً المقولة الشهيرة للأديب العقاد: «الإسلام قضية عادلة تبناها محامٍ فاشل»، واستند إلى أنه في عهد مالك بن نبي كان هناك نقص في طرح الإسلام بأسلوب علمي، إذ اتضح له من قراءاته لمؤلفات مالك بن نبي أن مسألة التجديد ترتكز على عنصرين كما هو الحال عند المفكر محمد إقبال:
1- المحافظة على أصول الإسلام وجوهره.
2- معالجة الواقع الحضاري الذي يعيشه المجدد.
كما وضح أن الأستاذ مالك بن نبي تحدث عن مسألة التجديد على أنها مشكلة حضارية تشمل كل أبعاد الواقع الإسلامي: الفقه، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، وأن أهم مسألة في الفكر الإسلامي تحدث عنها (رحمه الله)، هي علم العقيدة (إحياء علم العقيدة)، أي كيف نوظّف علم العقيدة في تجديد واقع المسلمين؟ يعني فاعلية العقيدة الحضارية في الإسلام.
النقطة الثانية التي ذكرها الأستاذ عبد القادر بخوش في محاضرته كانت بخصوص القراءات العلمية للقرآن لدى مفكرين عرب ومسلمين، مثل ما كتبه محمد شحرور والدكتور أركون وغيرهم، إذ يقول: إن مالك بن نبي فضح الاستشراق الألماني بالذات حول أحقية القرآن. والتحقيق العلمي الذي قام به (رحمه الله) شيء هائل في كتابه الظاهرة القرآنية، وهنا نوه الأستاذ بخوش بضرورة اطلاع الطلبة على هذا الكتاب المهم، ثم أردف قائلاً: مالك بن نبي مثله كمثل عالم الفلك ينظر للكون الفسيح، لذلك نظرة مالك بن نبي كانت شاملة للعالم الإسلامي ككل، كما اعتبر الأستاذ بخوش أن مالك بن نبي مجدد؛ لأن كتابيه: الظاهرة القرآنية وميلاد مجتمع، يمثلان دراسة في علم مقارنة الأديان، هذا العلم الذي اعتبره الدكتور شلبي صاحب موسوعة الأديان العلم الضائع لدى المسلمين، ومالك بن نبي مارس هذا العلم عند مقارنته بين القرآن الكريم والكتاب المقدس عبر منهج التحقيق العلمي والتاريخي للكتب المقدسة، ووضع ابن نبي ميزاناً بين القرآن والعهد القديم (الحقائق العلمية) وعليه استطاع مالك بن نبي أن يفضح كل الدراسات المعاصرة للقرآن الكريم التي مصدرها رسالة الدكتوراه حول تاريخ القرآن الكريم للدكتور لوردكا، فردّ مالك بن نبي بكل موضوعية وإيمان قويين على عدة شبهات حول القرآن الكريم، ثم ختم بكلمة لبنت المرحوم مالك بن نبي (رحمه الله)، كانت قد ذكرتها عندما حضرت لملتقى وطني حول فكر والدها بقسنطينة، قالت: إن والدها كان يعيش هاجس التفكير في مستقبل العالم الإسلامي حتى أثناء الغذاء، كثيراً ما يقوم من على السفرة ليلتحق بالمكتب ليسجل الأفكار قبل أن تتبخر.
وبعد ذلك فُتح المجال للنقاش لفترة وجيزة لترفع الجلسة، وينتقل الضيوف للقيام بجولة للمناطق الأثرية والسياحية في مدينة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية لسنة 2011م.
وفي اليوم الثالث والأخير شهد الملتقى عدة جلسات منها جلسة حول الإسلام وقضاياه عند مالك بن نبي، ترأسها الأستاذ زكي الميلاد، وحاضر فيها كل من الأستاذ عمر كامل مسقاوي، والدكتور سيف دعنا من فلسطين، والدكتور عبد الحميد يويو من المغرب، والدكتور محمد رفعت الفنيش من ليبيا. واختتم الملتقى بعدة توصيات تتعلق بتسمية عدة مؤسسات علمية رسمية باسم مالك بن نبي، وترجمة كتبه لعدة لغات، والتوصية الأبرز هي إنشاء معجم للمفاهيم الرئيسية لمالك بن نبي، كما أوصى المشاركون بطبع أعمال وكتب مالك بن نبي وتوزيعها على الجامعات والمراكز الثقافية الوطنية. وتمت الدعوة أيضاً إلى تحويل بيت مالك بن نبي إلى متحف ثقافي وأن يُنشأ فيه «مركز الأبحاث لمالك بن نبي».
هكذا عاد مالك بن نبي من تلمسان -عبر صوت الثقافة الإسلامية ليثير دفائن العقول والشعوب العربية والإسلامية- للهمّ والهاجس الذي جعله يدمن الاهتمام بأمور الأمة الحضارية والثقافية، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى وترك خلفه ميراثاً ثقيلاً بحاجة لبحث واجتهاد لإكمال المسيرة الحضارية التي حاول مالك بن نبي في كل المناسبات أن يجدد الحث عليها، من أجل بناء النهضة الإسلامية، وفق شروط ثقافية إسلامية سليمة...
لقد كانت أيام الملتقى جدُّ مثيرة للعقل المسلم بدوره في هذا العالم المتغير، وقبل إعلان انتهاء أعمال الملتقى تم تسليم شهادات تقدير وعرفان لكل المشاركين، هكذا أسدل الستار على فعل ثقافي مميز بمدينة تلمسان بالغرب الجزائري
–عاصمة الثقافة الإسلامية-، مخلفاً وراءه نباهة مهمة في بعث الوعي بتراث هذا المفكر الإسلامي الفذ، حيث اتفق الحضور على أنها محاولة تجريبية جديرة بالتقدير، تستدعي الاستمرار في الدفع بفكر ابن نبي من عالم القوة الفكرية إلى الفعل الحضاري، وأمل المشاركين أن تنعقد مثل هذه النشاطات في المرة القادمة في دول عربية وإسلامية أخرى، لأنه ببساطة: مالك بن نبي مفكر مسلم إنساني عالمي.