شعار الموقع

الاقتصاد في الخلاف لأجل الوحدة والتقريب

محمد دكير 2012-10-04
عدد القراءات « 867 »

الاقتصاد في الخلاف: سؤال الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب.

الكاتب: إدريس هاني.

الناشر: دار المحجة البيضاءبيروت.

سنة النشر: ط1 - 2011م.

عندما يقال: إن الكتاب يُقرأ من عنوانه، فالمقصود أن العنوان قد يكشف عن مضمون الكتاب، أو يشير إلى الموضوع أو الإشكالية التي يعالجها أو يناقشها المؤلف، لكن قليلاً ما يوفق كاتب في اختيار عنوان يعبر عن الرسالة التي يود توجيهها عبر مضمون الكتاب، أو ملخص لما يود إيصاله للقارئ في نهاية المطاف.

أما الكتاب الذي بين أيدينا فهو لا يقرأ من عنوانه فقط، وإنما نستطيع أن ندعي بأن عنوانه هو الرسالة التي يود الكاتب إيصالها إلى أطراف الصراع المذهبي في العالمين العربي والإسلامي اليوم، ومفادها: « عليكم بالاقتصاد في الخلاف، إذا أردتم فعلاً تحقيق الوحدة».

أما ما هي الخطوات العملية لتحقيق هذا الاقتصاد في الخلاف، لتصبح الطريق سالكة نحو تحقيق الوحدة الإسلامية؛ فإن دراسات وحوارات الكتاب تولت الإجابة عن ذلك بالتفصيل.

طبعاً العنوان نفسه يطرح تساؤلات عدة، خصوصاً حول دلالات استخدام الكاتب لمصطلح اقتصادي في مجال الفكر والعقائد، لكن هذا الاستخدام ليس بدعة في مجاله، فقد سبق أن استخدمه الإمام أبو حامد الغزالي، أحد كبار رجال التصوف الإسلامي، عندما أطلق على أحد أهم كتبه العقائدية عنوان: (الاقتصاد في الاعتقاد)، وكان قد ألفه قبيل مغادرته للمدرسة النظامية ليخوض تجربته الروحية المشهورة.

وفيه هاجم الغزالي كلًّا من حشوية أهل الحديث وغلاة المعتزلة والفلاسفة. فأمام جمود الحشوية على ظواهر النصوص، غالى بعض المعتزلة والفلاسفة في التأويل وتصرف العقل (حتى صادموا قواطع الشرع) كما يقول الغزالي، لقد مال هؤلاء إلى التفريط وجنح أولئك إلى الإفراط، وكلاهما حسب الغزالي الشافعي بعيد عن الحزم والاحتياط، بل الواجب في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم...

فالاقتصاد في الاعتقاد -في نظر الغزالي- يقتضي إذن الوسطية بين الإفراط والتفريط، ومن هذه الوسطية عدم إقحام العوام في مناقشة دقائق علم الكلام ونكت التوحيد؛ لأن الخوض في علوم الاعتقاد، إن كان مهمًّا للبعض، فهو في حق غالبية الخلق ليس مهمًّا بل على حد قول أبي حامد: «المهم لهم تركه».. هذا هو مفهوم الاقتصاد في الاعتقاد لدى أبي حامد الغزالي، وفي الرواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «لو اقتصد الناس في الطعام لاعتدلت أبدانهم».

إذن الاقتصاد في الاعتقاد أو في الطعام أو في الكراهية والصراع، بل حتى في المحبة والإحسان، يعني سلوك المنهج الوسطي في كل شيء، والثمرة هي الاعتدال في الفكر والروح والمزاج والجسد، وهذا ما أشار إليه القرآن عندما تحدث عن الإنفاق قائلاً: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.

هذا المفهوم للاقتصاد ليس بعيداً عما يقصده المؤلف في كتابه (الاقتصاد في الخلاف)، فهو يرى أن المسلمين اليوم يختلفون أكثر مما هو واقع بالفعل.. نختلف كثيراً لأننا لا ندرك طريقاً أمثل لنتعارف أكثر.. نعم، هناك تضخيم مبالغ فيه لعناصر وقضايا الاختلاف، بل وتركيز على مساحة الاختلاف والتمايز، بينما واقع الأمر كما يرى أهل الاختصاص المساحة المشتركة بين أطراف الصراع (السني الشيعي) أوسع بكثير من مساحة الاختلاف والخلاف، بعض الدراسات أكدت أن الاتفاق بين المذاهب السنية الأربع والمذهب الجعفري (الشيعي الإمامي) يصل إلى 97%، وهذا يعني أن مساحة الاختلاف لا تتعدى 3% أو أكثر بقليل، بينما مساحة الاختلاف بين المذاهب السنية الأربعة نفسها قد تتجاوز هذه النسبة بكثير، وهذا إن دل فإنما يدل على أن تضخيم الخلاف السني الشيعي له مآرب أخرى، وتقف وراءه جهات من خارج مجال الفقه والاجتهاد؟؟

كذلك الأمر في المجال العقائدي، هناك تمايز وتباين واضح بين مدرسة الأشعري السنية ومدرسة ابن تيمية الحنبلية، والصراع كان ولا يزال على من يمثل فعلاً أهل السنة والجماعة، وكذلك الأمر بالنسبة لتيارات التصوف والعرفان، أغلب الصوفية ينتمون فقهيًّا للمذاهب الأربعة، وبعضهم أشعري عقيدة، لكن أهل السنة يتبرؤون من عقائد الوحدة والاتحاد والحلول والفناء التي تملأ كتب الصوفية وأهل العرفان.

نقول ذلك لنؤكد على حقيقة أن الخلاف والاختلاف ليس محصوراً بين السنة والشيعة، كما تحاول بعض الفضائيات المذهبية إظهاره، لذلك فالتركيز على الخلاف السني الشيعي وتضخيمه كما قلنا سابقاً، ليس بريئاً، وهذا ما أشار إليه الكاتب في أكثر من مكان في كتابه.. نعم، لا يمكن إغفال العامل السياسي، المحلي والعالمي، الذي يقبع خلف ووراء تصعيد الخلاف وتأجيج الفتن المذهبية، فقبل ثلاثين سنة، أي قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لم تكن الغالبية الشعبية في العالم الإسلامي (السني على وجه الخصوص) تعرف عن الشيعة والتشيع شيئاً يذكر، أما الآن فعوام الناس، لديهم معرفة شبه مفصلة عن بعض العقائد الشيعية المخالفة لأهل السنة والجماعة!! وهذا يدخل كما أكدت بعض الدراسات وأشار إليه الكاتب كذلك في إطار مشروع الحصار المذهبي للثورة، لمنعها من التمدد والانتشار.

إن الخلاف الآن بين أهل السنة والشيعة، يراد منه، أولاً: أن يكون عائقاً أمام وحدة المسلمين، وثانياً: أن يكون ممهداً لحروب مذهبية وطائفية لا تنتهي إلا بتمزيق الوحدة الدينية للأمة، لإنجاز مشروع الشرق الأوسط الجديد -سايس بيكو جديد يقسم المنطقة مذهبيًّا وطائفيًّا- يحلم به المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية.

الخلاف السني الشيعي، هو كما يراه الكاتب هاني -ونوافقه عليه تماماً يعني تهيئة الأرضية الواقعية لما أطلق عليه المفكر الجزائري (القابلية للاستعمار)، وهذا ما يفسر كثرة الفضائيات المذهبية والبرامج الدينية الحوارية والموجهة، التي تعمل ليل نهار لنشر الغسيل الخلافي للمذاهب الإسلامية، ونشر ثقافة التكفير والتضليل والقتل والكراهية.

غلاة المذاهب وحراسها المتطرفون يحاولون اليوم تقديم مذاهبهم باعتبارها أدياناً مختلفة، وليس مدارس اجتهادية تحت خيمة الإسلام، وهذا ما يفسر لنا سبب تضخيم مساحة الخلاف، والترويج للأساطير والخرافات، وهذا الحجم الكثيف لفتاوى التكفير والقتل..!!

أما دعاة الوحدة ورواد التقريب فيرفضون كل هذه المبررات والدوافع ويكشفون خلفياتها الحقيقية، وهذا ما قام به الباحث في دراسات هذا الكتاب وحواراته، فالوحدة بين المسلمين (قائمة بالجملة)؛ لأن الوحدة كانت ولا تزال قائمة على الإيمان بالمرسل (الله) والمرسل (الرسول) والرسالة (القرآن)، وهذه الأعمدة الرئيسة التي تقوم عليها خيمة الوحدة الإسلامية، تنضوي تحتها جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، وليس فقط أهل السنة والشيعة.

الوحدة الإسلامية، لا تقوم على الموقف من الصفات الإلهية: هل هي عين الذات أم خارجة عن الذات؟ أو هل القرآن محدث أو قديم؟ كما لا تقوم على تعدد الآراء في مسائل الفقه؟؟ التاريخ يثبت أن هذه القضايا لم تكن سبباً في تمزق وحدة الأمة أبداً.

نعم كانت مجالاً للنقاش والجدال، وسبباً في ظهور المذاهب والفرق، ومع التراشق بتهم التكفير والتضليل وقعت بعض حوادث الاحتراب المذهبي، لكن جسم الأمة ظل متماسكاً والوحدة الدينية للأمة بقيت مصانة.

أرباب المذاهب الفقهية وكبار العلماء والأئمة، كانوا يعلمون أن مشروعية الاجتهاد وممارسته تبرر الاختلاف والتعدد في الفهم والاستنباط والتأويل، أما ظاهرة التكفير فهي حالة طارئة ومتأخرة عن ظهور المذاهب، وهي حالة مرضية أصيبت بها المذاهب بعد إغلاق باب الاجتهاد وانتشار آفة التعصب المذهبي.. وبالتالي فالتكفير والتعصب هو رفض للاجتهاد المشروع، وهذا مرفوض من جميع عقلاء المذاهب وأرباب الاجتهاد فيها.

بعد هذه القراءة السريعة في دلالات عنوان الكتاب وما احتواه من مفاهيم، سنحاول استعراض بعض العناوين الأساسية في الكتاب -طبعاً باختصار شديد لنتعرف على رأي المؤلف فيها والتعليق عليها، لأنه لا يمكن استعراض كل القضايا والإشكالات التي تعرض لها، فموضوع الوحدة والتقريب متشعب وذو أبعاد كثيرة: تاريخية ودينية ومذهبية وسياسية بل واجتماعية وثقافية أيضاً.. لذلك سنكتفي بتسليط الضوء على بعض العناوين، ونحيل القارئ الكريم على الكتاب للتوسع والاستزادة.

الخوف من الوحدة والتوجس من مشروع القريب

تحدث الكاتب عن: رهاب قاتل لا يزال يتحكم بسيكولوجيا رافضة للوحدة والتقريب، لاعتقادهم أي الرافضون للوحدة والتقريب بأن التقريب يوشك أن يجرف ما رسخ في اعتقادهم، وأن الدنو من فكرة الوحدة من شأنه تعطيل كل هذا التراث من الحجاج.. وهذا الرأي صحيح إلى حد بعيد، ويذكرنا بما قاله من قبل رائد من رواد الوحدة والتقريب، أعني به شيخ الأزهر المرحوم محمود شلتوت، الذي تحدث عن التحديات التي واجهت إنشاء دار التقريب بالقاهرة، وكيف قامت قيامة البعض من المتوجسين خيفة من مشروع التقريب، وكيف تحرك المرجفون لمواجهته مدعين أن الهدف من ورائه هو دمج المذاهب أو تغليب بعضها على بعض، ومن قبل كيف أن بعضهم سارع إلى تأليف كتاب جمع فيه نصوصاً من التراث الشيعي تتحدث بسلبية عن بعض الصحابة وقام بنشره وتوزيعه في رحاب الأزهر...

نعم، هناك رهاب وخوف غير مبرر، وغير بريء كذلك، من مشاريع التقريب والوحدة، قد يكون بسبب الجهل بأهداف المشروع وأهمية الوحدة، وقد يكون بسبب الجهل والتناكر الموجود بين أتباع المذاهب، وحتى بين علمائها ودعاتها، وقد يكون بسبب الخوف من فقدان الامتيازات المذهبية، أو الخوف على المذاهب من المعرفة والتعارف، كل هذه الأسباب ممكنة، لكن لا يمكن إغفال الخلفيات والدوافع السياسية لهذا الخوف، فالاستبداد السياسي كان ولا يزال يخاف من كل تقارب أو وحدة بين المسلمين، ومن ورائه الاستعمار الذي يعلم علم اليقين أن أي شكل من أشكال الوحدة سيهدد مصالحه.

لكن الخوف المبالغ فيه اليوم بعد الظهور الجديد للمذهب الشيعي على الساحة لدى بعض التيارات والمذاهب الإسلامية السنية، هو بسبب خوفها من تغير القناعات والمواقف، داخل أوساط أتباعها ومقلديها، إن أي تعارف أو تقارب فعلي سيؤدي الى معرفة وكشف حقائق لا يرغب حراس المذاهب في كشفها، أي تعارف حقيقي سيتيح الفرصة للمسلم المعاصر لدخول الطوابق السفلية لجميع المذاهب وفتح أبواب كهوفها المظلمة، وعندها لا يمكن التحكم في القناعات والمواقف الجديدة!!، كما لا يمكن الوقوف في وجه تغيير الخرائط المذهبية وامتداداتها السياسية، وهنا -كما يقال مربط الفرس، والسبب الأهم للخوف والتوجس من مشاريع الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية!!

لكن هناك عوامل ومعطيات جديدة على ساحة الصراع المذهبي اليوم، وهي لا تقل خطورة، وتعزز القلق والتوجس من التقريب والوحدة، ففي الآونة الأخيرة بدأت مفاهيم ومصطلحات غريبة تُتداول في وسائل الإعلام وتروج لها بعض الفضائيات المذهبية، وتناقش في بعض البرامج السياسية والدينية، لقد بدأ الحديث عن الحدود المذهبية والأمن المذهبي، والهويات المذهبية لبعض المناطق والجغرافيات السياسية، كما بدأ الحديث صراحة عن السيادة المذهبية والدفاع عن الحقل المذهبي المحلي، وكل هذه المصطلحات وما تحويه من مفاهيم، تهدف إلى شيء واحد، هو تحويل المذاهب (الاجتهادية) إلى جزء من الهويات الوطنية المصطنعة حديثاً بعد التقسيم الاستعماري للعالم الإسلامي والعربي، وبالتالي فالمساس بالمذاهب سيصبح مساساً بالهوية الوطنية، وأي مناقشة أو نقد لمسألة فقهية في مذهب، سيصبح نقاشاً في هوية شعب أو دولة، وهذه (جريمة قد يعاقب عليها القانون)، وهذا ما أشار إليه المؤلف أيضاً عندما قال: إن «هناك معنى جديداً للسيادة المذاهبية التي تدخل في نسيج حفظ النظام العام..»، وبالتالي فنحن أمام نسخة جديدة من دعوى سد باب الاجتهاد، لكن السد والغلق سيتجاوز هذه المرة النشاط العقلي والفكري، نحن أمام غلق للجغرافيات السياسية والأوطان وحمايتها من أي اختراق مذهبي أو اجتهاد يأتي من خارج المذهب المعتمد كجزء من الهوية الوطنية!!

إن الخطورة في هذا التوجه الجديد للاستبداد السياسي، وهو يحاول السيطرة والتحكم في عقائد المسلمين، أنه اتجاه ضد العقل وضد التاريخ وضد منطق التغيير والنهضة والتطور، إنه اتجاه يريد أن يوقف حركة الاجتهاد وحركة الأمة في لحظة أو مرحلة تاريخية معينة، وكما سُدَّ باب الاجتهاد فالاستبداد السياسي يريد الآن إيقاف حركة العقل الإسلامي، فممنوع الاجتهاد أو إعادة قراءة التاريخ، ممنوع إعادة النظر في اجتهادات القدامى، ولو كانت من قبيل الخرافات والأساطير، وقد عفا عليها الزمن، وتجاوزها ركب التطور الفكري الإنساني.

نعم، عندما يتدخل السياسي (السلطان) متمترساً وراء شرعية مذهبية موهومة، ومتسلحاً بفتاوى التكفير والقتل، فسنكون لا محالة أمام هذا الواقع المزري الذي يعيشه العقل الإسلامي وتعيشه المذاهب الإسلامية على حد سواء.

لقد ولى زمن الغلبة والاستئصال

في سياق مواجهة مشاريع الوحدة والتقريب، هناك من يريد أن يعيد الزمن إلى الوراء، وأن يحيي زمن الغلبة المذهبية، زمن السلطان المتفرعن الذي يرفع شعار (ما أريكم إلا ما أرى)، زمن فتاوى الإبادة الجماعية والصلب على جذوع النخل وهدم البيوت، وإلغاء الاسم من ديوان العطاء أو بيت مال المسلمين، لأي مخالف مذهبي أو سياسي!

في زمن العولمة وما تمنحه وسائل الإعلام والاتصال من إمكانات للتواصل المباشر والوصول إلى مصادر المعرفة، من الغباء الحديث عن الحدود المذهبية، أو النقاء المذهبي، أو الهويات المذهبية المغلقة، وكذلك الأمر، لا مجال لأي هيمنة أو سيطرة مذهبية مطلقة مستمرة ودائمة، لذلك نضم صوتنا لصوت المؤلف عندما يقول: «زمان الغلبة والتجديف والاستئصال ولى بلا رجعة..»، نعم، لقد ولى ذاك الزمان، والحلم بإعادته مجرد أضغاث أحلام لا تأويل لها على أرض الواقع.

التراث الإسلامي بكامله (الفقهي والكلامي) أصبح في متناول الجميع، كبسة زر على جهاز كمبيوتر تضع بين يديك تراث أي مذهب بكامله، والفضائيات الدينية على علَّاتها، إلا أنها جعلت المعارف الدينية متيسرة وفي متناول عوام الناس، ورغم أنف أصحابها، فإنها ترسخ مفهوم التعددية والتنوع في العقول، وهكذا بدأنا نسمع من عتاة المتطرفين وسدنة المذاهب الاعتراف بالرأي الآخر، وأن رأي المذهب هنا كان ضعيفاً، وأن الصواب إلى جانب الخصم والمخالف المذهبي.

التحدي الأكبر الآن في زمن العولمة، أمام الأديان ومذاهبها، هو تحدي الاختيار بعد الاطلاع والمعرفة الصحيحة، لقد دخلت المعرفة الدينة هي كذلك سوق العرض والطلب والاختيار للأجود والأكثر إتقاناً، الجميع الآن أمام مسؤولية اختيار الأفضل والأحسن، وهذا منهج قرآني، فالقرآن يطلب من المؤمنين به أن يتبعوا القول الأحسن بعد الاستماع إلى الأقوال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، فقبل الاختيار لابد من سماع الأقوال، جميع الأقوال، أو قراءتها والاطلاع عليها، ثم تأتي مرحلة المقارنة والتعرف على الأدلة وقوة البراهين، ومن ثم تأتي مرحلة الاختيار للأحسن، هذا الاختيار الذي سيتحمل الإنسان مسؤوليته يوم القيام.

وباختصار شديد، العولمة وثورة الاتصال، تضع الأديان والمذاهب أمام تحديات كبيرة، لكنها تقدم كذلك فرص كبيرة للمتلقي وللمقلد ولأي طالب للحق والمعرفة.

ونعود للتأكيد على حقيقة أشار إليها الكاتب إدريس هاني، أكثر من مرة، وهي أن فتاوى التكفير ودعاوى القتل، وبرامج الكراهية المذهبية، ونشر الخرافات والأساطير للنيل من مصداقية المخالف المذهبي، كل ذلك لن يؤدي إلى استئصال المخالف المذهبي من الواقع أو من التاريخ، ليطمئن حراس المذاهب ونواطير الفرق، فلن يستطيع التشيع القضاء على التسنن، ولن يستطيع التسنن كذلك أن يقضي على التشيع.. ولدينا تجربة ألف وخمسمائة سنة، هل استطاع أحدهما أن يقضي على الآخر وأن يخرجه من الواقع والتاريخ.

الأديان والمذاهب عندما توجد فهي تعيش وتحيا، إما في الواقع أو في التاريخ، وتتحين الفرص للحياة والانتشار.. المسيحية بعد ظهور الإسلام بآلاف السنين، تتاح لها الفرصة مع الاستعمار الغربي للعالم فتنتشر في إفريقيا وآسيا. ومن كان يظن أن المذهب الحنبلي، وقد عاش على هامش حركة الاجتهاد والواقع المذهبي والاجتماعي، أن الفرصة ستتاح له للانبعاث من جديد والا نتشار، بل اكتساح المذاهب السنية والهيمنة على الواقع المذهبي اليوم في العالم السني ولو تحت عنوان جديد: السلفية.

لذلك لا مجال أمام الجميع إلا (التدبير العقلاني للخلاف) كما يرى الكاتب، ونحن نؤيده في ذلك، التدبير العقلاني للخلاف هو المخرج لإنهاء حالة التشنج والصراع والتوتر المبالغ فيه اليوم، وإلا فالبديل هو حرب مذهبية طويلة الأمد، تنفجر في أكثر من حدود تماس مذهبية واجتماعية، ولن تنتهي بغالب أو مغلوب، لأن الصراع الطائفي كما يقول الباحث هاني لا ينتج غالباً أو مغلوباً، بل يجعلنا جميعاً مغلوبين!!

نعم، الكل سيخسر ماديًّا ومعنويًّا، ووحدها وحدة الأمة هي الضحية الكبرى لهذه الحرب القذرة إذا ما قُدِّر لها أن تندلع في مكان ما على جغرافية الإسلام. أما الرابح الأكبر فهو الاستعمار الغربي والصهيوني، لا غير.

الاحتراب المذهبي يشوه صورة الإسلام في العالم

هذه قضية مهمة أشار إليها المؤلف، ويجب على أطراف الصراع المذهبي أن ينتبهوا إليها ويتحملوا مسؤوليتها. هل الإسلام في حاجة إلى وقائع وأحداث وصور جديدة لتشويهه في أنظار العالم؟!

تخلف المسلمين وعجزهم، واستيرادهم لكل شيء يحتاجونه من العالم المنتج حولهم، كل ذلك ألم ينعكس سلباً على الإسلام كدين، ألم يدعي الغرب ظلماً أن الإسلام هو المسؤول عن تخلفنا الحضاري؟ وها هي صور السيارات والدراجات المفخخة وأشلاء الأبرياء من المسلمين (نساء وأطفالاً وشيوخاً) تتناثر على صحف الغرب، وأمام عدسات كاميراتهم، بل مساجد وأماكن عبادة تفجّر ويقتل من بداخلها، أما الجريمة، فالاختلاف المذهبي.. وبعدها تأتي التعليقات المسمومة: انظروا هذا هو الإسلام الإرهابي الذي يفجر ويقتل حتى أتباعه والمنتمين إليه!

هل هذا فعلاً هو الإسلام المحمدي؟ وهل كان الصحابة يدعون إلى الإسلام بتفجير أنفسهم في المصلين داخل المساجد؟

ألا ترسخ هذه الصور وغيرها ظاهرة الإسلاموفوبيا في العالم؟

عندما يفجر متطرف نفسه في جمع من المسلمين يصلون في مسجد أو يحتفلون بالمولد النبوي الشريف، وذنبهم أنهم يخالفون هذا المتطرف في المذهب والاجتهاد المذهبي، ألا تخلق هذه الأفعال إسلاموفوبيا إسلامية هذه المرة، عامة المسلمين اليوم بدؤوا يخافون من الحركات الإسلامية (الجهادية!)، وينظرون إلى بعض الشباب الملتزم بنوع من التوجس والريبة والخوف، حتى إن البعض بدأ يتجنب الملتحين ومقصري الثوب في الطرقات، مخافة أن يكون أحدهم يحمل اًحزام ناسفاً قد ينفجر في أي لحظة.

لذلك لا تفاجئنا الدعوات داخل الوسط العربي والإسلامي، لاختيار العلمانية نهجاً في السياسة، وإقصاء كل ما يتعلق بالدين من الحياة العامة، وأن تجد هذه الدعوات استجابة لها وسط الجماهير الإسلامية.

لذلك نحن نتفق مع الكاتب عندما يحمل الصراع المذهبي مسؤولية تشويه صورة الإسلام في العالم، بل حتى داخل العالم الاسلامي، والمسؤولون عن هذا الصراع كما يقول المؤلف: «لا يقدمون صورة مشرفة عن إسلامهم، وإذا فعلوا تحدثوا عن تعاليم مجردة وفصلوا بينها وبين ممارساتهم..»، نعم يتحدثون عن رحمة الإسلام وتسامحه، وحقوق أهل الكتاب، وفي الوقت نفسه يصدرون الفتاوى لقتل المسلمين في الشوارع والطرقات والمطاعم، لأقل الاختلافات المذهبية!

لذلك تتأكد أهمية إعادة النظر في الخلاف المذهبي، والتدبير العقلاني للخلاف في إطار الاعتدال والوسطية ومراعاة مصلحة الأمة وعواقب الصراع المذهبي ومخاطره..

مسارات عملية لتدبير الخلاف والاقتصاد فيه

قدم الباحث مجموعة من المقترحات والأفكار والتحليلات، يمكن أن تشكل مسارات نظرية وعملية للتدبير العقلاني للحوار، سنستعرضها مجملة دون تعليق، ونحيل القارئ للطلاع عليها مفصلة في دراسات الكتاب وحواراته.

- يرى الكاتب أن السياسة بإمكانها أن تلعب دوراً أساسيًّا في إيقاف الصراع، أو التحكم فيه على الأقل، فهي في نظره تستطيع «أن تربي الجمهور على احترام الآخر، وأن تعلم من لا يعلم..». نعم هذا صحيح، ولبنان نموذج واقعي على قدرة السياسة على التحكم في الصراع المذهبي؛ لأنها تقف فعلاً وراءه، فعندما يتصالح السياسيون أو يتفقوا على شيء ما، تنتهي مظاهر الصراع، سواء في وسائل الإعلام أو على الأرض، لكن عندما يختلفون فإن الطوائف تتذكر ثأراً في الجاهلية، وقبل الإسلام، وتدعو إلى الانتقام واسترجاع الكرامة المنتهكة.

لذلك؛ فالرهان على السياسي هو رهان غير مضمون النتائج، ولا يمكن التعويل عليه لاجتثاث جذور الصراع؛ لأن العامل السياسي هو نفسه يقف وراء صناعة عوامل الصراع المذهبي.

- يجب أن تعالج قضايا الخلاف المذهبي بقدر كبير من العقلانية، وأن نرتقي إلى النظرة الحضارية في تدبير هذا الخلاف، وهذا مطلب نادت به الكثير من توصيات مؤتمرات التقريب، ويحتاج فقط إلى من يجسده على أرض الواقع.

- التواصل المباشر بين علماء وعامة المذاهب الإسلامية، لأن دنو بعضنا من بعض كما يقول يجعلنا نفهم الآخر أكثر ونتفهمه أكثر.. وهذا مطلب لو تحقق فإنه سيجعل مشروع التقريب والوحدة يخطو خطوات كبيرة إلى الأمام، فأساس الصراع التباعد والتناكر والجهل المتبادل.. والفهم الصحيح للآخر هو السبيل الأمثل للتقريب والتقارب.

- يقترح الكاتب، البحث والتنقيب عن خروم وهشاشات في جدر المذاهب المنيعة، لتأمين فعل التسلل الاجتهادي والحواري، والتقليل من مناعة المذاهب وفتحها على عالم الاقتباس والمقابسة.. وهذا إن تحقق فعلاً فسيخفف من غلواء التعصب المذهبي فعلاً.

- يقترح كذلك أن تدرج مادة فقه التسامح وأخلاقيات الحوار ضمن المناهج التربوية.

- وفتح أوراش لمناقشة مناشئ الخلاف، على أن يتولى علماء متخصصون المعالجة والدراسة والبحث.

- أن يتحرك رواد التقريب لمناقشة شبهات المناهضين لمشروع التقريب.

- نشر ثقافة التقريب بين جمهور المسلمين، وعدم اقتصارها على نخب علمية داخل المؤتمرات المغلقة.

- أن نعيد قراءة التاريخ بمنهج علمي موضوعي، بعيداً عن المماحكات المذهبية والمشادات الطائفية، والمواقف المسبقة.

- أن نتوقف عن تكرار وترويج الاتهامات البعيدة عن الحقيقة والأساطير التي لا أساس لها من الصحة لتشويه المذهب المخالف.

وغيرها من المقترحات التي حفل بها هذا الكتاب.

وفي الأخير، يحذّر المؤلف من أن الاضطهاد المذهبي الذي يقع في أكثر من منطقة، قد يدفع الأقليات المذهبية المضطهدة إلى التماس الحل في التغيير السياسي، حيث يكون الدين غير فاعل في السياسة، أو تكون السياسة خارج المرجعية السياسية، وهذا قد يكون السبيل لإيجاد نوع من التسامح المذهبي.. ونضيف إلى تحذيره، الخوف من استغلال الغرب الإمبريالي لهذا الاضطهاد، فتحت عنوان الدفاع عن حقوق الأقليات وحقوق الإنسان، يخطط الغرب لاستعمار مناطق أو تقسيمها، وهذا ليس ببعيد عن فكره وأحلامه... لذلك على أطراف الصراع الاقتصاد في الخلاف...