شعار الموقع

الوسطية والإصلاح

محمد همام 2012-10-05
عدد القراءات « 1029 »

وجدة، المغرب، 30 - 31 مارس 2012م

متابعة محمد همام*

* كاتب وباحث من المغرب.

نظَّم «المنتدى المغربي للوسطية» و«فريق البحث في الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد والاجتهاد في الثقافات الإنسانية بجامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة»، مؤتمراً دوليًّا في موضوع «الوسطية والإصلاح» يومي الجمعة والسبت 7 - 8 جمادى الأولى 1433هـ الموافق 30 - 31 مارس 2012م.

وقد جاء المؤتمر، بحسب الورقة المؤطرة لأشغاله والتي سبق وأن أعدَّ المشاركون فيه لإعداد بحوثهم وفق محاورها، لتجديد الخطاب في مفهوم الوسطية في علاقتها بعملية الإصلاح وذلك لاعتبارات عدة؛ منها:

أن مبدأ الوسطية والاعتدال كان ولا يزال الضامن لحياة التصورات واستمرارها، وأن زوال وانهيار كثير من هذه التصورات إنما كان بسبب انحرافها وتفريطها في هذا المبدأ؛ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): « هلك المُتَنَطِّعُون». ثم إن الوسطية خاصية هذه الأمة، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ فعلم بذلك أن الوسطية بالنسبة لهذه الأمة، هي الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يُلجأ إليه، وعليه فإن كل محاولة للنهوض من جديد في غياب هذه الخاصية يكون ضرباً من العبث، كما أن التجربة التي عرفتها مجموعة من المجتمعات العربية والإسلامية من أجل التغيير، قد أكَّدت مدى تفوُّق المنهج السلمي المعتدل وتأثيره الكبير، إذ الملاحظ أن المكتسبات التي تحقَّقت بفضل هذا المنهج قد عجز عن تحقيقها منطق الانفجارات وفلسفة الانقلابات.

وبهذا يتأكَّد أن المنهج الوسطي هو أحد العناصر الأساسية في عملية الإصلاح، فبواسطة هذا المنهج يمكن صياغة إجابات جديدة للمشكلات الحضارية المعاصرة على أساس من هذا الاعتدال والاتِّزان. وعليه جاء المؤتمر، بحسب الورقة المؤطرة، لتحديد مفهوم الوسطية كآلية لازمة للمشاريع الإصلاحية الناجحة، من حيث التأصيل لهذه الآلية كمُكوِّن مركزي في ثقافتنا الإسلامية تتمحور عليه كليات الدين الحنيف.

كما يسعى المؤتمر إلى إظهار أهمية المنهج الوسطي في المنظومة الإصلاحية في مجالاتها المختلفة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وقدرتها على مواكبة التحديات التي تواجهها البشرية من خلال محاور محددة هي: الوسطية والإصلاح.. مفهومه وأصوله، الوسطية والإصلاح الفكري الراهن، الوسطية والإصلاح السياسي، الوسطية والإصلاح الاقتصادي.

جلسة الافتتاح

دارت أشغال المؤتمر خلال ست جلسات علمية وجلسة افتتاحية وأخرى اختتامية؛ في الجلسة الافتتاحية التي ترأسها الدكتور عبد القادر بطار من المغرب، تدخل فيها السيد نور الدين الموادن عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة، رحَّب في كلمته بالمشاركين في المؤتمر، مؤكِّداً أن الجامعة لها دور كبير في نشر الفكر الوسطي المعتدل والمتوازن.

أما الأستاذ محمد الطلابي، رئيس المنتدى المغربي للوسطية، فقد أكَّد في مداخلته دور المنتدى في نشر الفكر الوسطي وتجميع كتلة المثقفين الرساليين المبدعين المجتهدين لتجديد رسالة المثقف الاستراتيجي وتفعيل دوره في النهضة، وهي إحداث المصالحة المعرفية في كيان الأمة بين علوم الشريعة والعلوم الإنسانية والعلوم المادية، وإصلاح قواعد التفكير وتجديد جهازها المفاهيمي الذي ينتج المعرفة.

كما ألقت الدكتورة نزيهة معاريج رئيسة فريق البحث في الحوار الديني والحضاري بجامعة محمد الأول كلمة باسم الفريق، أكَّدت فيها أهمية الحوار في تكريس المنهج الوسطي.

واختتمت الجلسة بكلمة الدكتور عبد الرحيم العكور، وزير سابق من الأردن، نيابة عن رئيس المنتدى العالمي للوسطية، أشار فيها إلى سياق تأسيس المنتدى ورسالته في بث الفكر الوسطي والابتعاد عن الفكر السلبي والمتطرف.

الجلسة العلمية الأولى

ترأس الجلسة العلمية الأولى الداعية المصري الدكتور صلاح سلطان، مستشار وزير الأوقاف بدولة البحرين، وتكلَّم فيها الدكتور مصطفى بنحمزة، عضو المجلس العلمي الأعلى بالمغرب ورئيس المجلس العلمي المحلي بوجدة، مؤكداً أن الوسطية من منظور القرآن تعني العدل وليس مجرد التموقع بين شيئين، كما عند اليونان (الفضيلة بين الإفراط والتفريط)، والدليل في الآية الكريمة: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} أي أعدلهم وأقومهم وأكثرهم اتِّزاناً وليس الذي يتوسطهم سنًّا، مضيفاً أن القرآن اشترط العدل في الشهود على الناس، مصححاً التعريف الرائج عند بعض المثقفين الذين يتحدَّثون عن الوسطية بين الثنائيات المتناقضة وهي مستحيلة؛ إذ لا وجود لوسط بين الكفر والإيمان أو بين الوجود والعدم... أما بين المتضادات مثل الفقر والغنى أو المرض والصحة فيمكن أن يكون هناك وسط.

وأضاف الدكتور بن حمزة أن قيمة المساواة التي كانت رائجة في المجتمع الليبرالي، لا ترقى إلى المفهوم القرآني للوسطية الذي يجمع بين العدل والاعتدال، مشيراً إلى أن المرحلة التي تعيشها الأمة هي أنسب مرحلة للوقوف من جديد على مفهوم الوسطية، تحليلاً ودراسةً وتنزيلاً...، في وقت يتحدَّث فيه البعض عن عودة الإمبراطورية الإسلامية ويحاولون تعويم المفاهيم وإثارة إشكالات من قبيل الحرية الفردية التي يُراد لها أن تكون فوق الديمقراطية. ثم دعا إلى تجميع العلماء والباحثين والمثقفين لصياغة ميثاق حول الأسس التي ينبغي الاحتكام إليها، وهذه مسؤولية مشتركة ومصيرية حتى لا تسير الأمة نحو المجهول. كما ذكر الاختلالات التي وقعت في المجتمع بعدما تعرَّضت مؤسسات التنوير للتحريف، مثل جامعة القرويين، داعياً إلى أن يكون «المنتدى المغربي للوسطية» فضاءً علميًّا لتعميق النظر والبحث في هكذا مفاهيم.

ثم تدخَّل الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية سابقاً في المغرب، والأمين العام لبيت القدس، وعرَّف الوسطية بأنها اختيار واعٍ وعقلاني يتميَّز بالتوازن الذي يسمح بالقيام بالتصرُّف الأفضل والبحث دائماً عن الأفضلية «... وهي حالة نزاهة فكرية تستبعد الهوى والتشهي... وليست مجرد الوقوف بين ثنائيات الحق والباطل أو بين الكفر والإيمان والاستبداد والديمقراطية...» مضيفاً أن الوسطية هي خيار الأفضل والأحسن، أما التطرُّف فهو الانتهاء إلى الجهة التي يفسد معها الشيء. واغتنم أمين عام بيت مال القدس هذه الفرصة للتأكيد أن الوسطية في القضية الفلسطينية هي تبنِّي خيار المقاومة بكل الوسائل المشروعة لأن الأمر يتعلَّق بالمطالبة بحق. كما تناول مفهوم الإصلاح العميق من منظور القرآن الكريم وهو خلاف الإصلاح الذي يُراد به الارتكاز على مبادئ الحداثة وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية... فالوسطية عقيدة الأغلبية الصامتة، وسطية الخيرية القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله... ولا ينبغي الاقتصار على تمجيدها وتأكيد الانتماء إليها فقط، بل يجب ترجمتها إلى مشاريع في الواقع، وهذه ليست مهمة علماء الشرع فقط، بل مهمة كل المثقفين والمفكرين من أجل الرقي بفكرنا حتى نوفر شروط النهضة.

الجلسة العلمية الثانية

أما الجلسة العلمية الثانية فقد ترأستها الدكتورة ربيعة كاوزي، من المغرب، وتحدَّثت فيها الدكتورة فتيحة عبد اللاوي من المغرب، حول (الوسطية في الإسلام بين التأصيل والامتداد) عارضةً مناهج وأسماء من المفكرين والباحثين الذين يُمثِّلون المنهج الوسطي، بنظرها، على المستوى العربي والإسلامي.

أما مداخلة الدكتور محمد شاكر المودني، من المغرب، فركَّزت على (الوسطية في القرآن الكريم، المفهوم والدور) حاول أن يُقدِّم فيها مفهوماً متكاملاً للوسطية من خلال تجميع الآيات القرآنية الخمسة التي ذكر فيها مصطلح الوسطية وإعادة قراءتها في ضوء المعاجم اللغوية والتفاسير القرآنية.

أما الدكتور مولاي عمر بنحماد، من المغرب، فتكلَّم في موضوع (الوسطية والإصلاح من خلال أعمال المفسرين) معتمداً على المجهودات التوثيقية والتخزينية التي أنجزها مركز «معبر» للدراسات القرآنية بفاس، لتجميع الحضور المتنوع والمكثف لدلالات الوسطية في أعمال المفسرين سواء في الآيات التي تُشير إلى الوسطية بالذكر أو تلك التي يفهم منها التوجُّه الوسطي الذي يدعو إليه القرآن الكريم.

الجلسة العلمية الثالثة

ترأس الجلسة الثالثة الدكتور محمد همام، من المغرب، وتدخَّل فيها الدكتور سمير بودينار، رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، في موضوع (الإصلاح بين كونية القيم ووسطية الخطاب الديني)، مُركِّزاً في مداخلته على ضرورة تناول مفهوم الإصلاح ضمن نظام المفاهيم للقرآن الكريم وضمن نموذجه المعرفي وأطره القيمية وعدم تجزئة المفهوم، وبذلك يمكن التأسيس لخطاب ديني وسطي ومعتدل.

وأما الدكتورة نزيهة معاريج، الأستاذة بجامعة وجدة، فتحدَّثت في موضوع (الوسطية والإصلاح الاجتماعي: الإصلاح الأسري نموذجاً)، مُركِّزةً على دور المنهج الوسطي في تحقيق العدل والاعتدال في القضايا الخاصة بالأسرة خصوصاً عند الاختلاف وحصول المشاكل الأسرية، سواء بين الأزواج أو مع الأبناء.

وتكلَّم الدكتور الطالب أخيار ماء العينين، من موريتانيا، عن (الوسطية والإصلاح السياسي) مُؤكِّداً أن الوسطية هي منهج الإسلام الوحيد في التغيير، والقائم على الاعتدال والبعد عن التطرُّف وفق مقتضيات أصول الشريعة الإسلامية.

الجلسة العلمية الرابعة

ترأس الجلسة الرابعة الدكتور مروان أبو راس، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن حركة حماس وعضو اتحاد علماء المسلمين، وهو من غزة. وتدخَّلت في هذه الجلسة الدكتورة مليكة خثيري، من المغرب، في موضوع (الوسطية في فكر القرضاوي)، متتبعة لمنهج الشيخ القرضاوي في التعريف بالفكر الوسطي ووضع معالم منهج وسطي منذ كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف» في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وفي جل مصنفاته وأبحاثه ورسائله وتوجيهاته.

أما الدكتور بدر المقري، من المغرب، فقد تكلَّم في موضوع (الوسطية في فكر الحسن الحجوي الثعالبي)، متعرضاً لمشروعه من حيث التوصيف والمنهج والتقويم، مُركِّزاً على دعوة الحجوي، وهو من علماء المغرب البارزين في مرحلة استعمار المغرب، دعوته إلى اعتبار المرحلة الاستعمارية فرصة للتحضُّر والتمدُّن واللحاق بالغرب دون التنكُّر للخصوصية الثقافية والحضارية. وذكر المُتدخِّل أن الحجوي ألَّف أكثر من ستين كتاباً لم يُحقَّق منها إلَّا عشرة، نظراً للحصار الذي كان مضروباً على فكره، بحكم أنه كان يعد، عند البعض موالياً للمستعمر، كما كان من ضمن الموقعين على وثيقة نفي الملك محمد الخامس. واعتبره المتدخل بوقاً للاستعمار، من دون التنكُّر لمشروعه الفكري والإصلاحي الرائد والمجدّد والجريء في كثير من قضايا النهضة والتجديد.

وأما مداخلة الدكتور محمد همام، من المغرب، فكانت بعنوان (التباسات مفهوم الوسطية في الفكر الإسلامي المعاصر، مدخل إلى تصوُّر مركب)، ذكر فيها المتدخِّل أن مفهوم الوسطية عرف اختلالات مفهومية كبيرة، بل تحوَّل إلى خاصية مذهبية تلصقها بعض الفرق بنفسها، فانزلق المفهوم إلى مجالات السجال العقدي والمذهبي والحركي والسياسي وفقد الكثير من طاقاته التشغيلية والتوجيهية. كما أصيب مفهوم الوسطية، نتيجة الاستعمال الأيديولوجي المبتذل له، بالرخاوة والسيولة الدلالية والالتباس في التصوُّر؛ بل أصبح يُوحي بالتبسيط والاختزال حتى كاد أن يصبح عبئاً على الفكر الإسلامي المنهجي والرصين. كل هذا رسَّخ عند البعض، خصوصاً من نقدة الفكر الإسلامي بتحيُّز، أن الوسطية نوع من أنواع البرغماتية السلبية وأداة من أدوات الصراع على المصالح وعلى السلطة، تحت عناوين دينية كالوسطية. واقترح المُتدخِّل معالجة مفهوم الوسطية، من منطلق معرفي، في إطار تصوُّر مركَّب اعتماد على اجتهادات الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابيه «الفكر المركب» و«العلم الواعي»، واجتهادات الدكتور عبد الوهاب المسيري (رحمه الله)، حول النموذج المعرفي، وكذا اجتهادات الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، في دراسته للعقل. فالتركيب يواجه التناقض والتعقيد ويفهم الظاهرة في تحولها ولا يسعى للتكيُّف معها، كما ليس حريصاً على البحث عن مكان آمن في نقطة هندسية قد نسميها وسطاً.

الجلسة العلمية الخامسة

ترأس الجلسة الخامسة الدكتور أحمد كافي، من المغرب، وتكلَّم فيها الأستاذ محمد الطلابي، مدير مجلة الفرقان المغربية ورئيس «المنتدى المغربي للوسطية»، في موضوع (الوسطية والإصلاح الفكري) معتبراً الوسطية طريقة في التفكير ومنهجاً في الفهم. ودورها محوري للمساهمة الفكرية العاقلة في التصدِّي للتحديات الكبرى التي تواجهها الأمة وهي تهديد الغزاة وتهديد الطغاة وتهديد الغلاة وتهديد الشتات. والغلاة هم غلاة المدرسة الدينية المُتطرِّفة وغلاة المدرسة العلمانية المُتطرِّفة. وأمام هذه التهديدات ستلعب الوسطية دوراً دافعاً لحركات الهجرات التي يعرفها العالم اليوم؛ بداية هجرة البشرية إلى الله، وبداية هجرة البشرية، وخصوصاً الأمة الإسلامية، نحو الحرية السياسية، وبداية هجرة الحضارة المادية من الغرب نحو الشرق، وبداية هجرة الدولة القومية أو القطرية نحو الدولة الأمة أو العابرة للقوميات والأقطار.

وأما الدكتور عبد القادر بطار، من المغرب، فتكلَّم في موضوع (وسطية الاعتقاد ووسطية الإصلاح) مركزاً على المدرسة الأشعرية باعتباره من دعاتها وروادها بالمغرب؛ إذ تجوَّل بالحاضرين داخل المنجز الكلامي والفقهي للمدرسة الأشعرية، مُركِّزاً على فكر الحجوي الثعالبي، لرصد معالم المنهج الوسطي في فكره ومواقفه واجتهاداته.

وأما الدكتور مروان أبو راس، من فلسطين، فتحدَّث عن (مفهوم البدعة وأثره على تصحيح التدين)، وكان بحثاً مقارناً بين مجموعة من الفتاوى الفقهية تمس قضايا التجديد في الممارسات التدينية وما صاحب ذلك من تحفظات فقهية مختلفة بدعوى الإحداث في الدين وبدعوى الابتداع. وأكد المُتدخِّل من خلال المقارنة والتقييم أن المنهج الوسطي يشكل مدخلاً مناسباً وفعَّالاً لتجاوز هكذا إشكالات وتضارب في الفتوى واستعمال النصوص دون ضوابط منهجية.

الجلسة العلمية السادسة

ترأس الجلسة السادسة الدكتور الحسان حالي، من المغرب. وقدَّم فيها الدكتور عبدالباقي الشريف، من مصر، عرضاً بعنوان (الوسطية والإصلاح السياسي)، فعرَّف الوسطية بناء على الضوابط التي وضعها كل من الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة، ومن ذلك التجديد في الكليات والتساهل في الجزئيات، واتخاذ منهج التدرج في التنزيل، والتركيز على المبادئ الإنسانية مثل الحرية وحقوق الإنسان، قبل أن يتحدَّث عن الربيع العربي وتساقط الأنظمة المستبدة بالمنطقة، ثم ظاهرة صعود الإسلام السياسي الوسطي مما طرح العديد من الأسئلة ذات البعد الفكري والمنهجي مثل علاقة الوسطية بالدولة الإسلامية وحقوق وواجبات الفرد في المجتمع.

وأما الدكتور يوسف الكودة، رئيس حزب الوسط بالسودان، فتكلَّم في موضوع (الوسطية والإصلاح الفكري)، أكد فيها أن المدخل المناسب للحديث عن الوسطية هو التراث، معتبراً ما أنتجه الأئمة الأربعة كسباً بشريًّا، لا يجب تقديسه بل يجب مراجعته. واستدل على ذلك بمواضيع مهمة تحتاج إلى مراجعة مثل التعامل مع المخالفين وقضية المرأة وحكم الردة... وغيرها. وعرف الوسطية بكونها «الموقف الشرعي المطلوب تجاه كل قضية وكل حدث» وليست فقط ضد التطرُّف، وأسماها الفقه الغائب أو البوصلة المفقودة، كأن يفرض أحد ترجيحاته الفقهية على الآخرين متناسياً قواعد فقه الخلاف المعروفة. واستدل بابن تيمية الذي حدَّد مواصفات الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، ومنها أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسُّس وأن يكون معلوماً وألَّا يُؤدِّي إلى منكر أكبر، مشيراً إلى أن المجتهد بين أجر وأجرين، وأن التعصُّب المذهبي والفقهي هو أحد مداخل الشيطان. داعياً إلى عدم تغليب التحريم لأن المحرمات استثناء والشريعة ليست محصورة في الحدود فقط. كما أنكر على من يشككون في إسلامية الدول الحالية ويُثيرون الفتن بدعوى أن الحكام عطلوا الحدود.

وأما الدكتور أحمد كافي، من المغرب، فتحدَّث في مداخلته عن مشكل (صناعة العنف) عند بعض المسلمين، مشيراً إلى أن الابتعاد عن الوسطية هو الذي أدَّى إلى الفساد بالمفهوم القرآني إلى أن وصل الأمر إلى سفك الدماء. فبالوسطية، بنظره، يمكن تجنُّب هذه الأعطاب التي تُؤدِّي إلى العنف، مذكراً بقصة موسى (عليه السلام) الذي أخطأ باستعمال العنف، فاعترف وطلب المغفرة مما قام به، فترتَّب عن ذلك خروجه من المدينة خائفاً يترقب. فلا راحة ولا طمأنينة لمن يستعمل العنف. ورغم الغيبة الطويلة، لاحقته هذه المعنفة التي ارتكبها: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}؛ وهذا شأن نبي من الأنبياء فكيف يكون من هو دونه من الناس؟! ثم ذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القائل بأن: «القاتل والمقتول في النار»؛ لأن كليهما كانت له الإرادة في القتل. وللتدليل على صناعة العنف في الواقع الإسلامي المعاصر، ذكر المُتدخِّل جملةً من المؤلفات التي تحمل عناوين الوعيد والتهديد بالسيف (البتار، الصارم...) في مواضيع الغناء والتبرُّج و المعازف... وهي كلمات عنيفة منفرة بعيدة عن الحكمة المطلوبة في الدعوة. وقال: إن الإسلام منع التنطُّع والرهبنة «فمن رغب عن سنتي فليس مني». ومن مظاهر العنف الاعتداء على الدليل أي ضد أصول الدين مثل الاستصحاب والإجماع... وليس الكتاب والسنة فقط، فنحن لما نعارض اجتهاداً ما، لا نعارض الآية بل نرفض فهم صاحب الدليل لها. ودعا المتدخل إلى إشاعة كتب المراجعات الأخيرة لبعض «السلفيين» ودراسة كتب الفقه المقارن للتنوير والتعوُّد على الاختلاف.

وألقى المداخلة الأخيرة الدكتور صلاح سلطان، أستاذ الشريعة بمصر ومستشار وزير الأوقاف في البحرين، بعنوان (الوسطية في الإصلاح والتغيير)، دعا فيها إلى إحياء منهجية {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} في الإصلاح والتغيير، و مُؤكِّداً أن الأمة ابتُليت بأفراد وجماعات تعتبر نفسها دولة داخل الدولة وتُبيح لنفسها استعمال القوة في التغيير، وهي أخطاء يجب تجاوزها. داعياً إلى منهج {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} وهو أصلح لدعوة الله. ومن الوسطية بعث الأمل في النفوس والحديث عن الخطط والبرامج العملية وتغليب نفس الإيجابية. ودعا الحركة الإصلاحية إلى الانتقال من زيارة المساجد إلى عمارتها، ومن العصبية إلى التسامح، ومن الفتوى الفردية إلى الفتوى الجماعية، ومن فكر الاعتزال إلى فقه الاعتدال.

واختتمت أشغال مؤتمر (الوسطية والإصلاح) بجلسة ختامية تُليت فيها التوصيات التي ركَّزت على ضرورة إحداث مسالك لدراسات الوسطية في الجامعات، وتوثيق الفكر الوسطي، واستثمار الإمكانات التقنية الحديثة في تأسيس منتديات الوسطية للتواصل بين الباحثين والمهتمين بالموضوع ولإشاعة الفكر الوسطي بين عامة المسلمين من الأغلبية الصامتة.