*
- 1 -
الفن الإسلامي هو فن حضارة كاملة، ظهر نتيجة تلاحم بين مجموعة من التقاليد لبلدان مختلفة من عربية وتركية وفارسية، والظروف التاريخية كالفتوحات الإسلامية هي التي ساهمت في نشره من شرقه وغربه.
فالفن الإسلامي يدمج في طياته العديد من مختلف التقاليد لبلدان العالم الإسلامي، حتى أصبحت تعرف بفن واحد انتشر مع مرور الزمن في كل أنحاء العالم الإسلامي، والذي يميزه هو خاصيته الواحدة التي لا تخضع لا لزمن أو لعرق معين.
الفن الإسلامي هو شكل من أشكال الفكر والثقافة الإسلامية التي تستند إلى أصول عقائدية ودينية ثابتة، والتي ترجع إلى مبدأ واحد هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وكل شكل ثقافي يخالف أو يعارض هذا المبدأ يخرج عن دائرة الإسلام، فالمضمون الإسلامي متوفر في الفن الإسلامي، فلا يمكن أن يطرح عمل فني إلّا بمضامين إسلامية سواء كان في العمارة أو الخط، أو المنمنمات أو الرواية، أو الشعر، وغايته نشر الفضائل والأخلاق والسلوكيات الإسلامية، وبالتالي يبقى المعيار الأساسي لقياس وإدراك مدى إسلامية الشكل الفني هو توافقه مع قيم الإسلام.
إن أهم سمات الفن الإسلامي هي الفلسفة التي يقوم عليها المتمثلة في المبدأ الأول والأساسي وهو الاعتقاد، فتكوين الفنان المسلم قائم على إيمانه بالله وبقوته وعظمته ورحمته، فالله عنده هو مركز الكون، وكل شيء يبدأ منه ليعود إليه؛ فالإنسان المسلم يؤمن بأن الحياة بسيطة وليست فارغة من الجمال.
فالفن ظاهرة ثقافية مبدعة وحيوية خلّاقة، بحيث أصبح مطلباً إنسانيًّا، وعليه اهتم المسلمون أيضاً به باعتباره تأملاً شعوريًّا وجدانيًّا روحيًّا، حاول الإنسان المسلم تجسيمه في الواقع، فأنتج آثاراً يشهد بها تاريخ الإنسانية إلى اليوم.
والفن الإسلامي، هو فن متجانس، يحيط ببلاد واسعة رغم اختلافها في مزاياها، وهذا التجانس ناتج عن توافق لعدة عوامل واتحادها في هذه البلاد وهي: وحدة الدين بمعنى الدين واحد –الدين الإسلامي-، وأيضاً أسلوب الحكم فيها واحد، إضافة -وهذا الأهم- وهو رجل واحد يقف على سدة الحكم، إضافة إلى الحياة متشابه إلى حدٍّ ما.
يتميز الفن الإسلامي بالتوحيد والتنوّع، فهو لا يخرج عن القواعد الإسلامية، فالحرية الفكرية كانت موجودة تحت ظلال الإسلام، ويرى في هذا «ديماند» أن من أهم مصادر الفن الإسلامي، بعد انتقال الخلافة من المدينة إلى خارج شبه الجزيرة العربية في دمشق ثم بغداد؛ كان الفن البيزنطي والفن الساساني، وكانت الفنون القبطية المصرية والمسيحية السورية مصدراً للعديد من الموضوعات الزخرفية التي وجدت في آثار العصر الإسلامية الأول».
لم تعرف الجزيرة العربية التصوير أو النحت أو غيرها من الفنون التي كانت منتشرة في اليونان أو مصر، «ولم يهتم العرب بالفنون التشكيلية إلّا بعد انتقال مركز الخلافة الإسلامية إلى خارج شبه الجزيرة العربية، وكان ذلك في عهد خلفاء بني أمية الذين تقلَّدوا الحكم عند انتقال الخلافة إلى دمشق».
«وكذلك عندما فتحوا سوريا والعراق ومصر وإيران تبنّوا الفنون الرفيعة في هذه البلاد، وتشير المراجع التاريخية إلى خلفاء الدولة الأموية الذين تولّوا الحكم من سنة 661م إلى749 جلبوا مواد البناء واستقدموا مهرة الصناع من شتى البلاد لإقامة المدن الجديدة وإنشاء القصور والمساجد».
لم يكن للفن عند الحكام العرب والمسلمين سواء عند الأمويين أو العباسيين أو الحكام في فارس وملوكها الدور نفسه الذي تميّز به في أوروبا «ففنانو العصور الوسطى المسيحية في أوروبا، قد لقوا أحياناً تشجيعاً من الكنيسة نظراً لاستخدام الكنيسة الفن كوسيلة لجذب البسطاء والعامة، فقد كان الأساقفة يرون أن الصورة هي وسيلة التخاطب مع من يجهلون القراءة والكتابة من الجمهور». فزخرفة المساجد ترجع إلى عوامل سياسية لغاية استهواء الرغبة السياسية لحكام العرب والمسلمين.
- 2 -
هل يمكن القول بوجود إبداع وذوق فني كتجربة جمالية في الفن الإسلامي؟ ثم ما منطلقات الفن الإسلامي؟ وما المميز الخاصة بفلسفته الجمالية؟
قدّم الإسلام حلولاً جمالية، مختلفة عن الأفكار الجمالية والفنية التي سادت الحضارات الأخرى القديمة أو المعاصرة لظهور الدولة الإسلامية، وهذا ما يمكن أن نعترف به كتغيير جوهري ومن الأساس لفلسفة الجمال الإسلامي، فحاول الفنان المسلم خلق مفردات جمالية متميزة بالتجريد المطلق.
لأن في الإسلام وضع النقطة هو الذي كان البداية، أما الأشكال اللانهائية التي يبتكرها الفنان المسلم عنها تعابير عقلية ناتجة عن تأمل جمالي كتعبير عن الوجود وحقيقة الخلق أو الأصل وجوده باعتباره المركز، فنلاحظ ملاحظة هامة وهي تطابق الفكر مع الإيمان مع الوجدان في ذات الفنان المسلم.
قام الفنان المسلم بوضع تعبيرات مجردة غايتها التنزيه وعدم التشبيه، فجاءت أعماله مُتَّسمة بالوحدة والتجريد «فالتوحيد حقيقة، وشهادة أن لا إله إلا الله كما تعكس الجملة هي أول ركن من أركان الإسلام، والله حقيقة كبرى في هذا الكون وفي نفس كل مؤمن وقلبه وعقله، بل هو أكبر الحقائق وأشملها وأعمّها على الإطلاق، ولكنها حقيقة فكرية عقلية مجردة منزَّهة عن كل تصور، ولا يمكن التعبير عنها بشكل مادي ملموس أو حتى بشكل فني إبداعي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} حقيقة جازمة ومنتهية.
فالتجريد هو مبدأ فلسفي جمالي، كرسم النقطة والخط والدائرة والمربع والمثلث والمثمن... الاعتماد على النظام الهندسي الرياضي واستخدامها كوسائل مباشرة للتعبير عن غير المرئي، وهو المطلق، واستخدام مفردات جمالية مجردة ما هو إلَّا تعبير عن الكل المطلق أو الجوهر.
فالفنان المسلم عبّر بأشكاله عن نسق كوني متكامل كتعبير عن المطلق من جهة، والمحدود من جهة أخرى، والعلاقة التي يحدّدها التوحيد بينهما.
فإبداعه للنسق الجمالي المتكامل كان بالأشكال التي «انطلقت تعطي كل السطوح لتعبر عن «الصور الذهنية المطلقة» تعبيراً جماليًّا ورمزيًّا من خلال صورة ذهنية مرئية ملموسة، وأصبحت تُعبِّر من خلال صيغة منطقية هندسية ابتكرها الفنان المسلم من خلال تنوعات الأشكال الهندسية اللانهائية، والتي تمثّل ملايين الدوائر والمثلثات والمنحنيات في نسق متناغم ومتوازن في الوقت نفسه ومتكرر يسير في كل الاتجاهات بتنظيم رياضي محكم ومستمر استمراراً تسير معه العين في خطوط مستمرة طولاً وعرضاً، شرقا وغرباً، {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.
بأسلوب فني ذكي تمكّن الفنان المسلم من تجاوز العقبة وحلّ المعادلة الجمالية عن الإله الواحد الذي ليس كمثله شيء بصيغ تعبيرية.
«لقد عبَّر الفن عن التوحيد كحقيقة فكرية من خلال صيغ جمالية بليغة توضح قدرته الإيمانية البالغة للسمو بالله الواحد سبب وجوده... لينجح في تضمينها معطياته الثقافية والفكرية والجمالية، لينتج لنا إبداعات جمالية لم تصل إليها أية حضارة من الحضارات السابقة عليه».
إن الجمالية الإسلامية لم تكتفِ بملازمة الفقه الإسلامي والاعتراض عن النقل الواقعي للعالم، بل إنها تجاوزت ذلك إلى التعبير (إيجابيًّا) عن الروح الإسلامية عندما ارتبطت وثيق الارتباط بكل الإبداعات الذهنية العربية الإسلامية في العصور الوسطى، إلى درجة أصبح فيها الرسم الإسلامي (صلاة حقيقية ترفع الروح إلى الله).
ويذكر سمير الصايغ «تبقى كلمة تجريدية صفة من الممكن اعتبارها خصوصية من خصوصيات الفن الإسلامي، وذلك أن المعنى الذي يتضمنه هذا الاصطلاح ويرمز إليه يلقى ويتطابق مع المعاني المميزة التي حققها الفن الإسلامي قبل مئات السنين، وإن كان ولا بد للانطلاق من اصطلاحات أكثر دقة فإن المرادف لاصطلاح «التجريد» و«التوحيد» فإننا نصف الفن الإسلامي «بالفن التوحيدي»، تكون أكثر صواباً كمصطلح أغنى وأشمل».
فالتعبير الجمالي لمضمون فكرة المطلق كصفة جوهرية للخالق، والتي هي غير قابلة للتشبيه أو التمثل، براعة الفنان المسلم عندما حوّل المضمون إلى تعابير جمالية رمزية وفكرية، بمستوى راقٍ جدًّا في التجريد الفكري غير مباشر.
إن الفن الإسلامي هو تعبير موضوعي، ولم يكن يتميَّز بالذاتية، فهو تجسيد جمالي لمفهوم المطلق الروحي، فهو تعبير فني للإله ومنه هو إبداع لمنهج جمالي إسلامي لم يسبق له وجود، فالمنهج الجمالي الإسلامي هو منهج وثيق الصلة بالإسلام كدين والتوحيد كركن من أركان الإسلام، «ومن خلال التعبير الجمالي تعلمنا معنى المطلق واللانهائي والأبدي والسرمدي الذي ليس كمثله شيء كمضمون فكري على أعلى مستوى من التجريد والتعبير الجمالي المركب له»، ويمكن القول: إن «المنهج الجمالي الإسلامي هو منهج رمزي مستوحى من الرقي الرمزي الإبداعي للمفهوم المطلق، وكأن الإبداعات الفنية الناتجة عنه هي بمثابة رموز مرئية أو رموز بصرية غير مباشرة تستبطن بداخلها مضامين مطلقة غير مباشرة وغير محسوسة».
«وما الفن إذن إلَّا درجة من درجات الصعود نحو المطلق غير أنه قد يكون المرحلة الأوفر ثبوتاً والوسيلة الأشد صلابة التي وقع عليها الإنسان لتجسيد المثالي من خلال الواقعي والإلهي من خلال الإنساني».
التوحيد هو الأساس النظري والفكري لحضارة الإسلام، والفن الإسلامي هو أحد مظاهر الحضارة الإسلامية الذي يتميَّز بالوحدة والتنوع «وكانت هذه السمات بالنسبة للفن الإسلامي تمثل الوحدة الروحية المستمدة من العقيدة واللغة، كأحد المكونات الأساسية للحضارة والوحدة الجمالية المستمدة من تحويل هذه العقيدة وهذه اللغة إلى تعبيرات جمالية مترجمة في صور وتشكيلات معمارية وخطية وتصميمات نباتية وهندسية، بلغت في وحدتها حدًّا أبهر المفكرين والفلاسفة، كما بلغت في تنوعها وعالميتها الحدود الجغرافية التي وصلت إليها الحضارة الإسلامية».
-3 -
إن الفن الإسلامي فنٌّ أصيل ومنتوج عن فكرة وعقيدة راسخة في وجدان الفنان المسلم، الذي يركّب في حياته اليومية بين الدين والدنيا، بالإضافة إلى قدرة المسلمين على التعايش والتكيُّف والتوافق مع الحضارات الأخرى خاصة بعد فتح بلدانها.
«إن من تقاليد الحضارة الإسلامية تبادل الفنانين والصناع، وتنقُّلهم بين شتى البقاع في العالم الإسلامي لبناء القصور والمساجد والقلاع وغيرها، حيث حقّقت هذه التقاليد فكرة التآلف والوحدة والإخاء وتطعيم الخبرات بعضها بالبعض الآخر، وحيث ظهرت الوحدة الفنية في الجوهر آخر الأمر متماسكة تستمد روحها من إلهام واحد مهما تباينت عناصرها، وتنوعت أشكالها واختلفت تقنياتها كما أن هذا الفن العظيم الذي شرب في طفولته شتى الألبان، وهام بين مختلف أنواع الفنون والجمال قد استأثر بإعجاب العالم الأوروبي، وغدا بدوره إلهاماً ومصدراً لاقتباساته الفنية، ذلك الأمر الذي جعل ملوك الغرب يكنزون نفائس الفن الإسلامي ضمن مقتنياتهم».
يقول مراد فريد ويلفرد هوفمان: «الفن الإسلامي لم يبدأ من فراغ ولكنه صهر وصاغ فنون الأجناس المختلفة التي دخلت الإسلام، فهو ليس نتاج جنس أو منطقة، ولكنه نتاج دين احتوى الأجناس والمناطق، وهو يعبر عن شعور ديني، وأسلوب حياة بقدر ما يعبر عن عقيدة دينية».
يتميّز الفن الإسلامي بالتنوُّع في الشكل والتوحد في المضمون، ومثال على ذلك المئذنة أو المحراب؛ «فهناك المئذنة المربعة في المغرب والأندلس والشام، والمئذنة ذات القواعد والشرفات المتدرجة لأعلى كما في مصر، والمئذنة الملوية الحلزونية في العراق في سامراء وأبي دلف والمتوكل ومسجد محمد علي، والمئذنة على شكل نبات الصبار في الهند والمآذن السيراميكية في إيران».
الفن الإسلامي يُعرف منذ مظهره الأول بوحدته الكلية وفي الوقت نفسه بتنوّعه الإيقاعي المتفرد، وبالتالي فالفن الإسلامي قائم على معايير الفرادة والذاتية والخصوصية، التي هي أهم المميزات للوحدة داخل التنوّع فيه.
«يعتبر الفن الإسلامي آخر ما بقي لنا من الفنون القديمة وأكثرها تميُّزاً بشخصيته المتكاملة الشاملة التي بقيت محتفظة بوحدتها رغم تسطحه على مساحة من الأرض تمتد من مشرقها إلى مغربها، ورغم عبوره أربع فترات تحويلية خلال ثلاثة عشر قرناً من التاريخ الإسلامي، وعبر تكيُّفه لألوان شتى من التواريخ السياسية في العالم الإسلامي، والتي نشأ ملتصقاً بها التصاقاً حميماً».
- 4 -
التجريد خاصية هامة يتميَّز بها الفن الإسلامي أيضاً، فالتجريد يدل على التأمل والتفكير المنطقي والرياضي فهو «انتقال ذهني جمالي من المفاهيم والحقائق الكبرى التي جاءت بها الحضارة الإسلامية من خلال الفكر الإسلامي إلى معادلات جمالية تعبر عن تلك الحقائق، فجاءت تجريداته بمثابة تجليات تشكيلية وإشراقات جمالية غاية في العمق، وذلك لأنها تستبطن بداخلها فكراً غايةً في العمق والأصالة».
تُمثّل التجريدات الإبداعية اللانهائية للوحدات والأشكال ترابطاً وتداخلاً لتكوينات جمالية مجردة، فالفن التجريدي أكثر قدرة من الفن التشبيهي على التعبير عن الروحي، والمتعالي، «فمع تأملنا للفن الإسلامي نجد أن التجريد ليس اختصاراً للواقع أو تجريده من صفاته الظاهرة، بل هو تجسيد لغير المرئي، فالموضوع في الفن الإسلامي هو دائماً موضوع تجريدي في جوهره، لأنه ينتمي إلى الموضوعات الفلسفية أو الذهنية، حتى إذا كان الموضوع هو الطبيعة التي تستلهمها الزخرفة الإسلامية فهي لا تجرد مظاهر الطبيعة من أشجار وتختزلها، بل هي تستلهم حركة الطبيعة المجردة، وليس استلهاماً لصورها المرئية، إنما تقف أمام الطبيعة لتقتدي بنظامها الخفي وبقوانينها المطلقة في التشكيل والتلوين والنمو والانتظام، وبالتالي فإن قانون الطبيعة هو موضوع الطبيعة نفسها في تجلياته المختلفة والمتنوعة».
التجريد هو البحث عن الجمال الخالص، فكل صورة في الفن الإسلامي تتَّجه نحو المطلق، فالجمال الخالص هو المحض الذي يخلو من أية منفعة أو صيغة مادية «فإن أصول التجريد في الفن الإسلامي أشمل وأعم منه في التجريد في الفن الحديث، حيث يتم من خلال التأمل في نظام الخلق وليس في العناصر المخلوقة فقط».
التجريد هو الرمز الذي استخدم فيه الفنان منهج القياس المنطقي، «إن معاني التجريد في الفن الإسلامي هي انعكاس للفلسفة الإسلامية، وذلك لأنها تعبير عن بواعث روحية أصلية تتمثل في الارتباط الوثيق بجوهر الحضارة الإسلامية».
فمنهج التجريد الإسلامي هو منهج للنفاذ من خلاله إلى جوهر الحقيقة المطلقة وللوصول بتجريد التجريد إلى وحدة الوجود و «التعبير عن وحدة الوجود يخترق الفنان كل ما هو حسي وعرضي للوصول إلى أعماق هذا الحس أو الهيكل المكون لنسيجه الأساسي الكلي الموحد الذي تشترك فيه كل الموجودات، والوسيلة المثلى للنفاذ من خلال الواقع المحسوس إلى ما وراءه هي البصيرة... كما أكّد ذلك الغزالي فقال: «إن البصيرة هو نور يظهر في القلب عند تطهّره وتزكيته من صفاته المذمومة».
فن التجريد في الفن الإسلامي هو فن التوحيد، لأن مصدره روحاني كوني يتجاوز أو يتعالى عن الزائل إلى الأبدي، وبالتالي يستخدم الفنان المسلم البعد الروحي للنفاذ إلى ما وراء الواقع، أي «مرحلة اجتيازها بالتعبير الفني من الواقع إلى واقع جمالي جديد ومبتكر يخضع لقواعد المنطق العقلي الرياضي الهندسي، في إيجاد تكوينات جمالية تعكس نظماً فنيةً مستمدة من النظم الكونية التي تنظم حركة الكون وتشملها وتحتويها،«كالحركة الكامنة» في كل مظاهر الكون، والتي تأكدت في الفن والعمارة والتصميمات الهندسية والنباتية والخطية و «النظام المحكم» في الكون وانعكاسه في نظم فنية، و «التكرار الإيقاعي» وتمثله في شكل تكرارات فنية إيقاعية تشمل كل المجالات الفنون الإسلامية، و «العلاقات المحكمة» بين الجزء والجزء وبين الجزء والكل، وهي ظاهرة جلية في كل عناصر الفنون الإسلامية، و «قانون النمو المطرد المتصاعد» والذي ينعكس بوضوح في أساليب التصميمات الهندسية والنباتية والخطية النامية والمتكررة والمنتشرة على جميع الأسطح المادي، و «الوحدة والتنوع» في كل مظاهر الكون وعناصره، والتي تتحقق وتنعكس في الفن الإسلامي على نطاق واسع جدًّا مكاني وزماني وشكلي».
- 5 -
الفن الإسلامي كل متكامل ومحكم، أي أن التكوين الجمالي في الفن الإسلامي يقوم على عدد لا نهائي من الوحدات المتضافرة في نظام وسياق كلي للحصول على نسق موحد، «فمن المعروف أن عناصر التصميمات الإسلامية ووحداتها موجودة منذ القدم حتى غالبية الفنون في الحضارات القديمة قد استخدمتها في أغلب الأعمال الفنية، وفي الإسلام حدث تفاعل إبداعي أنتج تعبيراً جماليًّا من خلال البعد الديني في الإسلام، والبعد الدنيوي له، فأنتج نوعاً من التصميمات توحي به وما هو نفسه، ومن هذا المنطلق فإن المتذوق للتصميمات الإسلامية يشعر بروح جديدة تسري بداخلها حتى وإن كانت عناصر مشتركة مع حضارات سابقة، فهي في ظل الإسلام تحمل مضامين وأفكاراً تختلف تماماً عن كل ما سبق، كما تحمل -وهو الأهم- سمة ذاتية متفردة».
يتأكد لنا أن المنهج الفني والجمالي الإسلامي منهج خاص ومتميّز جدًّا وشديد الصلة بالعقيدة الإسلامية، وأصوله الفلسفية تنبع من الجوهر الفكري الأساسي للإسلام. أهمية ذلك تكمن في وجوب استقرائنا للفن الإسلامي كإطار ثقافي جمالي، والتنقيب عن قيم الجمال الإسلامي، «ومحاولة تتبع للأصول الفلسفية لمفاهيم الجمال الإسلامي في ضوء السياق الفلسفي لروح العصر الذي نشأت فيه، وفي ضوء الفكر التاريخي الفلسفي الجمالي للحضارة الإسلامية».
فمحاولة دراسة الظاهرة الجمالية ومفاهيم الجمال والأساليب الفنية خصائصها عند العلماء والمفكرين المسلمين هي استلهام لأصول الفن الإسلامي وإبداعاته، لغاية بناء فلسفة جمالية إسلامية معاصرة بعيدة عن نظريات الجمال الغربية التي مرجعيتها اليونان، ونقول في هذا: «لا يوجد كتاب صادر عن مفكر مسلم أو عربي، يفرد للجمال موضوعاً مستقلاً أو يتحدث عن علم الجمال وفلسفة الفن، فيما عدا كتابات متفرقة عن الخط من حيث هو فن له أسسه وجمالياته وأساليبه، وعدا دراسات مستفيضة عن الشعر والموسيقى، ومن خلال ذلك قدّم الكندي والفارابي وابن سينا رؤى جمالية فلسفية موزعة لا بد من جهد لتجميعها واستقرائها».
من هنا فلا بد من التأكيد على أهمية الاهتمام بتدريس ودراسة المنهج الفني والجمال الإسلامي، واستلهام التراث الفني الإسلامي والاستفادة منه، خاصة في العمران، مع الرد على كل من يهاجم التراث الفني الإسلامي وينفي وجوده ووجود فكر فلسفي جمالي، وهذا سبب هام أدّى إلى تأخير الاهتمام والبحث الأكاديمي والعلمي بالفنون الإسلامية وأصولها الجمالية، وعليه يتميّز تراثنا بالعمق والكثرة، والهدف هو تأسيس علم جمال إسلامي معاصر.