*
* أستاذ محاضر بكلية الآداب واللغات والفنون بجامعة وهران - الجزائر.
- 1 -
تحفل الجهود النحوية والبلاغية على الخصوص بأهمية الحذف في اللّسان العربي، وهو خصيصة من خاصياته في ضوء الحديث عن الجماليات الأسلوبية، والعبقرية التّعبيرية التي حظي بها النّص القرآني والكلام العربي شعره ونثره، وهو ما أدّى بعبد القاهر إلى الإشادة بظاهرة الحذف بوصفها شكلاً من أشكال التّعبير يتكثف من خلاله المضمون الدّلالي فصاحة وإفادةً وبياناً.
ومن يتأمّل في الدراسات اللّغوية يدرك -لا محالة- أنّها وفّرت لنا فيضاً من الخصائص المتعلّقة باللسان العربي في مجالات متعددة، النحوية منها والصرفية والبلاغية والدلالية، ولقد اعتنى الدّارسون العرب القدامى بالعلاقة القائمة أساسا ًبين اللغة والفكر، وحاولوا تفسير الظاهرة اللّغوية تفسيراً عميقاً، معتمدين بالدّرجة الأولى على البيئة التّي نشأت فيها اللّغة، وعلى العبقرية التّي أنتجتها وطبيعتها الاجتماعية، من خلال دراسة الروابط بين أجزاء التّراكيب التّي تتجسّد فيها العادات اللّغوية والسّلوكات الكلامية المتّصلة بمناحي النّطق والدّلالة.
ولقد اشتغل النّحاة على الجملة العربية، بوصفها تركيباً لفظيًّا يجري به النّطق في سلسلة كلامية، تتتابع ألفاظها لتفضي إلى معنى يحسن السكوت عليه، انطلاقاً من تصوّرهم للعملية الإسنادية القائمة أساساً على المسند والمسند إليه، وكان سيبويه (ت 180هـ) قد أشار إليها بقوله: «وهما ما لا يَغْنَى واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلّم منه بدًّا. فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه. وهو قولك عبدالله أخوك، وهذا أخوك. ومثل ذلك يذهب عبدالله، فلا بدّ للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأوّل بُدٌّ من الآخرِ في الابتداء».
ويوضح سيبويه في هذا القول أنّ المسند لا يغنى عن المسند إليه، ولا يجد المتكلّم غنى بأحدهما عن الآخر لفظاً أو تقديراً، وهي في الوقت نفسه إشارة ضمنية إلى العلاقة التّي تربط كلمتين على الأقل في التراكيب اللّغوية، وهذا ما ذهب إليه أيضاً الشريف الجرجاني في تعريفه الإسناد بأنّه نسبة أحد الجزأين إلى الآخر، وفي اصطلاح النّحاة عبارة عن ضم إحدى الكلمتين إلى الأخرى على وجه الإفادة التامة، أي على وجه يحسن السكوت عليه.
فالجملة تتشكل وفق مفهوم الإسناد المفيد، فإذا تمّ بالمسند والمسند إليه تمّت الجملة، كما عرّفها إبراهيم أنيس: «أقلّ قدر من الكلام يفيد السامع معنى مستقلاً بنفسه، سواء تركَّب هذا القدر من كلمة واحدة أو أكثر»؛ غير أنّه قد يستدعي أحدهما أو كلاهما كلاماً آخر لإتمام المعنى، يطلق عليه الفضلة، باعتبارها متمّمات الجملة على غاية من الأهمية في بناء المعنى، وربما قد يحتاج كلّ ذلك إلى أدوات تسمى أدوات الربط، ومن هذا المنطلق فالكلام هو القول المفيد بالقصد، أي ما دلّ على معنى يحسن السكوت عليه، فإذا لم يفد معنى تامًّا فلا يسمّى كلاماً.
ويعدّ المعنى من الروافد الرئيسة التي عوّل عليها النّحاة العرب في تصورهم للجملة وتحليلها، بوصفها أكبر وحدة نحوية تقبل التحليل اللّغوي، وهذا ما شكّل لديهم دافعاً قويًّا لتجاوز الشكل التّركيبي للجملة وتوجيه عنايتهم إلى الإفادةوجعلوها أصلاً.
تبيّن أنّ طبيعة الكلام العربي قائمة في ذهن صاحبها وماثلة في لفظه سواء كان ذلك تحقيقاً أو تقديراً، انطلاقاً ممّا اتفق عليه النّحاة جميعاً في كون العملية الإسنادية تشكّل مرتكز الجملة العربية وأساسها، إذ يستحيل تصوّر جملة -سواء كانت اسمية أو فعلية- مفيدة بقصدية المنشئ إلّا إذا تعيّن فيها كلّ من المسند والمسند إليه، التّي هي الأصل في تكوين جمل اللّغة، لأنّ الفهم لا يتمّ بدونها، وهناك حالات أخرى يقصدها المنشئ قصداً، كأن يحذف أحد العناصر الأساسية المكونة للجملة العربية، ويخالف الكلام المعهود إلَّا أنّ الكلام في هذه الحالة لا يخلو من قرينة لفظية أو معنوية تدلّ على العنصر المحذوف.
إذا كان الكلام يتصف بتمام المعنى والإيفاء بالقصد في ذهن المنشئ والمتلقي على السّواء، فإنّه لا بدّ من معرفة العلاقات التّي تربط بين العناصر المكوّنة للجملة للوصول إلى معرفة المعنى المقصود، وفي الحقيقة البحث عن العلاقات هو البحث عن هذه العناصر (مسند ومسند إليه) وما يتصل بهما من متممات الإسناد، لتشكل مجتمعة ملفوظاً لسانيًّا يحمل زخماً دلاليًّا، يتحقق في سلسلة كلامية.
والحقيقة أن هناك صلة وثيقة تربط بين علوم اللّسان العربي، حتى يمكن القول: إن الإعراب هو محور الحذف، إذ الجملة الفعلية تتشكل من المسند (الفعل) والمسند إليه (الفاعل) والمتممات، وغياب أي عنصر من عناصر الجملة يعلن عنه الإعراب، وهذا الفهم يؤكده عبد القاهر الجرجاني بقوله: «إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذّي يفتحها، وأنّ الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنّه المعيار الذّي لا يتبيّن نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذّي لا يُعرف صحيح من سقيم حتّى يُرجع إليه».
وإذا كانت الجملة ملفوظاً لسانيًّا يتحقق في سلسلة كلامية، فإنه لا بد من معرفة العلاقات التي تربط بين عناصرها بغية الوصول إلى ترجمة المعنى الذّي يؤمّه المتكلم، والبحث عن هذه العلاقات هو بحث عن العناصر الأساسية المكونة لها الماثلة في المسند والمسند إليه وما يتصل بهما من متممات الإسناد، بوصفها عناصر لسانية متممة للمعنى أو جوهرية فيه، ومن هذا المنظور فإن الجملة العربية لا تتقيد بهذا النظام، كأن يحذف أحد عناصرها وبالتالي تتشابك فيها العلاقات الإسنادية وتتعدد فتحيد عن بساطتها إلى حالات أخرى يعتريها التعقيد.
وأعطى عبد القاهر الجرجاني أهمية كبيرة لثنائية الذّكر والحذف، وراح يقارن بين طرفيها في كثرة التأثير والإفادة والفصاحة وقلته، وفي قرب المعنى وبعده في قوله: «هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسّحر، فإنّك ترى به ترك الذّكر أفصح من الذّكر، والصّمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبِنْ».
يصرّح عبد القاهر (ت471هـ) أنّ العملية التواصلية لا تقوم على الجملة المظهرة كل الوحدات الدلالية الأساسية دائماً، وإنما تحدث -أيضاً-بنقص هذه الوحدات، أي قد يحدث أن يكون الصمت وسيلة من وسائل التواصل، ومن ذلك تتجلّى لنا تلك الجدلية القائمة بين الكلام والصمت في العملية التواصلية، ليصبح بالإمكان تحقيق الوجه الإبلاغي بين المتكلم والمتلقي، ويمكن توضيح التّفاضل بين كلام مظهر كل الوحدات الدلالية (كلام تام)، وكلام مغيب لواحدة أو أكثر منها (كلام ناقص) بهذه الخطاطة:
تكمن جمالية الحذف في نظر عبد القاهر الجرجاني في الحذف المتخير الذّي تتجلّى قيمته الفنية في تخيره عن طريق مقارنته بالذّكر الذّي لا ينهض بما يقوم به في سياقه الخاص من وظائف جمالية وفنية خاصة. وبهذا المقابل تتضح مزية التخير، ولن يتأتى هذا إلاّ بحضور متلقٍّ متمايز ومثالي يتوسل استشفاف قيمته الجمالية والفنية بالتّأمل والتّدبر، ومقارنة الحذف بالذّكر، إيماناً بما للقارئ من دور فاعل ومهم في صياغة المعنى وتحديد القيمة الجمالية.
ومهما يكن فالحذف خلاف الأصل، ويقع في المسند والمسند إليه والفضلة لمعانٍ بلاغية لطيفة تدل عليها القرائن، على ألَّا يؤدي الحذف إلى الإلباس والتعمية، ومن جمالية الحذف أنّه متى ظهر العنصر المحذوف زال البهاء والرونق من الكلام، ولهذا يُعدّ من القضايا الهامة التي عالجتها البحوث النحوية والبلاغية والأسلوبية بوصفها انحرافاً عن المألوف، والمألوف ليس له من الإثارة ما لغير المألوف، وهذا الأمر كان يعيه جيداً البلاغيون، ولا يختلفون على أنّ الحذف أكثر بلاغة من الذّكر.
- 2 -
من خصائص اللغة العربية أنها تقبل أشكالاً متعددة من الحذوف، فالناطق بها يصرف اهتمامه إلى الإكثار منها والتنويع منها، حتى قيل: «إنّ العربية هي لغة الحذف»، وهذا أصفى شاهد على عبقرية اللغة العربية وشجاعتها، أضف إلى ذلك أن اللغة العربية ليس لها ضوابط محدودة تنتهي إليها فيتقيد الناطق بها ولا يخرج عنها، وإنما تمتاز بالمرونة؛ لأن طبيعة الكلام العربي قائمة في ذهن صاحبها، وماثلة في لفظه، وغالباً ما توجد هذه الظواهر في الكلام البليغ الذي يلمس الجانب الفني الجمالي للغة.
وقد اختلف المنظور النّحوي عن المنظور البلاغي لظاهرة الحذف، فالنّحاة يعالجون الظاهرة من مبدأ يجوز ولا يجوز، فما يجوز حذفه ما عُدَّ من المتممات مثل المفاعيل، ويدخل ضمنها تمييز «كم» الاستفهامية كونه مما يمكن حذفه دون أن يُحدث لبساً عند المتلقي؛ لأن مثل هذه الحذوف تكون في ظاهر اللفظ ولا تكون في ذهن المتلقي، وما لا يجوز حذفه ما كان عمدة أو ما يقوم مقامه، ولذا لم يجيزوا حذف الفاعل ونائبه مثلاً.
أما البلاغيون فيشترطون في إيجاز الحذف ألَّا يؤدّي إلى التعمية وغموض المعنى؛ لأن أهميته تكمن في أنه يثير الانتباه، ويبعث على إعمال الفكر وكد الذهن لمعرفة المحذوف أو تعيينه، وبالتالي تحدث عملية إشراك المتلقي في الرسالة الموجهة إليه استناداً إلى تجاوباته وردود فعله بوصفه عنصراً فعّالاً وحيًّا، يقوم بينه وبين الرسالة تواصل وتفاعل فني ينتج عنهما تأثير ودهشة انفعالية.
وممّا لا شك فيه أنّ ما حقه الذّكر يستقبح حذفه؛ لأنّ كليهما يُطلَب في مواضع لا يُطلَب فيها الآخر، والصّورة الجمالية لا تنهض في النّص إلَّا بعد انتظام أجزاء الكلام وجودة سبكه، وهذا ما أدركه البلاغيون حين وجّهوا عنايتهم إلى مفهوم التّغيير التّركيبي المعياري، واتجهوا فيه اتجاهاً جماليًّا حين اهتموا بالعلاقات الإسنادية المتبادلة؛ والحذف من الأساليب التي قدّمت معطيات إيحائية كثيرة في حذف المسند والمسند إليه.
ومهما يكن فالحذف يعدّ شكلاً من أشكال العبقرية التّعبيرية القائمة على الانحراف اللّغوي، وخاصية من خاصيات اللّسان العربي في ظل جماليات التعبير، تتكثّف من خلاله المضامين الدّلالية، ولهذا أصبح أسلوب الحذف ذا جمالية في تعانقه مع اللغة والمتكلم والمتلقي؛ لأنّه يشكل منطلقاً وغاية في أنواعه وأغراضه، ولذا حظي به الكلام العربي شعره ونثره.
- 3 -
في رحاب هذا الطرح كيف تعامل المشتغلون في حقل الأسلوبية مع الحذف بوصفه حدثاً لسانيًّا مشكلاً؟ وهل يعتبر الحذف وسيلة من وسائل اتساع النص؟
أخذ الحديث عن الأسلوبية حيزاً واسعاً في الدّراسات الأدبية واللّغوية بشكل عام؛ لأنّها أكثر المناهج المعاصرة قدرة على تحليل النّصوص بطريقة علمية. وتعد من أهم ما تمخضت عنه علوم اللغة الحديثة؛ فهي تشكل أحد مجالات نقد الأدب انطلاقاً من البنية اللّغوية التي تنهض على دراسة النّص ووصف طريقة الصّياغة والتّعبير فيه، دون الاعتماد كليةً على مؤثرات أخرى اجتماعية وسياسية وفكرية أو غيرها...
ولم تعد الأسلوبية غريبة بين المشتغلين في الأنظمة الثقافية، بدليل ما هو مشاهد من كثرة الدّراسات المتتابعة والمتلاحقة، التي يُكمِّل بعضُها بعضاً في كثير من الأحيان، ولعلّ السر وراء ذلك هو ما تمتاز به الأسلوبية من قدرة على ملامسة ما يصطلح عليه بـ(أدبية الأدب)كونها تبحث عمّا يتميز به الكلام الفني من مستويات الخطاب.
فالأسلوبية تهتم بدراسة الخصائص التعبيرية في اللّغة، بمعنى أنّها تتناول الوسائل التي يملكها النظام اللغوي نفسه لأداء معانٍ تتجاوز الأغراض الأولية للكلام، وأشار هنريش بليث إلى أن خصائص الأسلوب هي التي تؤثر في المتلقي. وكانت البلاغة القديمة تنظر إلى الأسلوب كأثر غايته التعليم أو الإثارة، ومفاد ذلك أنّ الأسلوب يرمي إلى التأثير، في حين أن البلاغة تنشد الإقناع بالاعتماد على الاحتجاج.
وإذا كان علم اللغة الحديث يدرس ما يقال، فإنّ الأسلوبية تصف وتحلل كيفيات ما يقال؛ لأنها إحدى ما تفرع عن اللّسانيات من علوم اللغة الحديثة.
والحقيقة أن الدّراسات اللّغوية الحديثة وسّعت مجال البحوث الأسلوبية لتشمل جوانب متباعدة في قضايا التّعبير اللّغوي، فكانت جهود سوسير في نظريته القائمة على ثنائية اللسان والكلام والعلاقة بينهما، وتحليل الرموز اللغوية، ودراسة التركيب العام للنظام اللغوي، وما ينطوي عليه من صور صوتية ودلالات، تشكل مرتكزاً هامًّا دارت حوله جل الدراسات اللغوية والأدبية.
وتأتي الأسلوبية في هذا المقام لتتحدد بدراسة الخصائص اللغوية التي بها يتحوّل الخطاب عن سياقه الإخباري إلى وظيفته التأثيرية والجمالية، ولذلك فهي تجد في اللغة الأدبية بطاقاتها التعبيرية وفنياتها المناخ المناسب والأرضية الملائمة لها لتتخذها مضماراً لنشاطها أكثر من اللغة العادية.
واختصت الأسلوبية بدراسة الموهبة والتفرد والإبداع في الخطاب الأدبي، ولهذا نجدها انصبت على البحث في فكر وشعور المتكلّم باللّغة، أي أنّ الأسلوبية لا تبحث في باطن تفكير الفرد بقدر ما تبحث في الاستعمال اللّغوي الفردي، كما عكفت على دراسة التّأثيرات الناجمة عن الآثار الأدبية لدى المتلقي، وهو ما يعرف عند الأسلوبيين بالاهتمام بالإمكانات الأسلوبية للغة الوظيفية الانفعالية.
ويُشكّل النص بمكوناته اللغوية وخصائصه النوعية مضمار نشاط الأسلوبية، ولا تتعداه إلى ما هو خارجي من العوامل المؤثرة، وفي الوقت نفسه لا تكتفي بملاحظة العلاقات القائمة بين الرموز اللسانية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى العلاقة بين التفكير والتعبير، التّي لا يمكن الكشف عنها إلَّا بالتأمل والتدبر في الفكرة والتعبير معاً، بدءاً بتحديد الوسائل التعبيرية المختلفة له، كالوحدات الدّلالية والأنماط النّحوية والإيقاعية، وصولاً إلى بواعثها النفسية وآثارها الجمالية.
ويتضح لنا في ضوء ما سبق أنّ الأسلوبية لا تعدو أن تكون تناولاً فنيًّا للظاهرة اللّغوية، وتقصياً للكثافة التّأثيرية التّي يشحن بها الباثُّ كلامه، يقول المسدي: «إنّ مهمة الأسلوبية هي تتبع الشحن في الخطاب عامة، أو ما يسميه اللغويون بالتشويه الذي يصيب الكلام، والذي يحاول المتكلم أن يصيب به سامعه في ضرب من العدوى».
وهذا ما جعل المشتغلين في هذا الميدان يحددون مجالات معينة تتحرك الأسلوبية في خضمها لمقاربة النص بغية الكشف عن مكوناته اللغوية وخصائصه النوعية، وهي: الاختيار والتّركيب والانزياح.
ويخضع النّص اللّغوي الرفيع لدى المحللين والنقاد إلى شتى التفسيرات، ولعلّ السبب في ذلك هو أنّ محتوى النّص بإمكان القارئ أن يفهمه، وتتطلب هذه العملية تنظيم رموز مشتركة كليًّا أو جزئيًّا بين المرسل والمتلقي.
ويكاد يكون الإجماع بين المشتغلين في حقل الأسلوبية على أنّ للمتلقي دوراً فاعلاً في بناء معنى النّص وفهمه من خلال العلاقات الحاصلة بين الدّوال والمدلولات في ذهنه، ولا تتطلب هذه العملية منه النّظر إلى النّص بجميع عناصره ودراستها، إذ إنّ تحليل جميع العناصر المكوّنة للعمل الأدبي تستحيل؛ «لأنها مركب لمجموعة من المركبات المعقدة»؛ وإنما العناصر التي تقتضي منه الوقوف عندها تشكل منبهات يهتدي إليها القارئ بحسه المرهف وقدرته اللّغوية الفنية، لتتحول نفس المتلقي إلى مجال لعرض ما قام بنفس المبدع.
وهذا ما يُشكّل مضمار نشاط الدّراسات الأسلوبية الحديثة، ويؤكد صلاح فضل ذلك بقوله: «والعناصر التي ينبغي تحليلها أسلوبيًّا كي تؤدي إلى نتائج مثمرة تختلف من حالة إلى أخرى، وكثيراً ما لا تسمح المصفاة الاختيارية إلَّا بعنصر واحد من عناصر الدّوال لتحليله؛ إذ نتوقع قيمته التعبيرية ذات الأهمية الحاسمة للعمل كلّه».
ونلفي م. ريفاتير في تناوله لمفهوم المقصدية، فهو لا يعني بها بالضرورة تلك الحمولة الدّلالية، وإنما كل مقصدية تجد في النّص ما يبرزها على مستوى الوحدات الجمالية، وهذا ما تطلب منه إحضار مفهوم القارئ، وقال: «هو ذلك الإبراز (
Mise en relief) الذّي يفرض على انتباه القارئ بعض عناصر السلسلة التّعبيرية»، ويتضح من هذا القول: إن ريفاتير أولى اهتماماً خاصًّا للمتلقي؛ لأنّ إهمال القارئ لهذه المنبّهات الموجّهة إلى المقصدية، يؤدّي بالضّرورة إلى تشويه حمولة النّص الدّلالية والجمالية، كما أولى الأهمية نفسها إلى طبيعة العلاقة بين المبدع والمتلقي؛ لأن فيها يكمن سر اكتشاف الإجراءات الأسلوبية في العمل الأدبي.الملاحظ في الدّراسات الأسلوبية أنّ الجوانب التّنظيرية أوسع بكثير من الجوانب التّطبيقية، وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى أنّ العرب وجّهوا عنايتهم إلى التطبيق أكثر من التّنظير؛ لأنّ التّطبيق عندهم يأخذ معنى ممارسة النّص للإفادة منه في التّوجيه العلمي والتّعليمي، وذلك لأنّ الذّهنية العربية عملت بما تقتضيه تقاليد البحث فيها، وهي في حدّ ذاتها ميزة إيجابية، في حين أنّنا نجد الغرب توجهت عنايته إلى التّنظير أكثر من التّطبيق.
ويمكن القول دون مبالغة: إنّ التّطبيق عند العرب بمستوياته المختلفة، النّحوية والبلاغية والدّلالية والأدبية، تقدّم للأسلوبية الحديثة مادة من تحليل الجزئيات غزيرة؛ لأنّ العرب أظهروا اهتماماً بالغاً بجزئيات الكلام، ومهارة كبيرة في ممارسة النّص إيماناً منهم أنّ النّص مصدر حركة في التّحليل والتأويل لا تنقطع وعين لا تنضب، ينضاف إلى ذلك منهجهم التّحليلي القائم على وعيهم الكبير بأن الجزء هو بداية السبيل إلى الكل؟
- 4 -
تعد ظاهرة الحذف تقنية أسلوبية ينجزها المبدع أثناء إنتاجه للعمل الأدبي الحامل لرموز متنوعة، الأمر الذي جعل هذه التقنية تتنوع صورها الأسلوبية وأقسامها اللّغوية بتنوع اتجاهات المبدعين ومظاهر إنجازاتهم اللّغوية التي كانت من قبل من مواضيع الدّرس النّحوي والبلاغي.
وإذا كان اهتمام البلاغيين بالحذف كأسلوب بلاغي وشكل من أشكال العدول في البنية التّركيبية، يرقى بالكلام ويسمو به إلى مستوى بلاغي، فإن اهتمام الأسلوبيين به ازداد بوصفه ظاهرة أسلوبية ترقى بالكلام من مستواه العادي إلى مستوى عالٍ يزخر بشحنات دلالية، ويتميز بحسن السبك وقوة التماسك، كما يسهم في توسيع مجالات النّص من خلال تفاعل البنية السطحية التي ينطق بها ظاهر اللفظ، والبنية العميقة بوصفها عملية ذهنية ينهض بها المتلقي اعتماداً على فطنته وذكائه.
إنّ الفنيات التّعبيرية التي يزخر بها كلام العرب كالذّكر والحذف والتّقديم والتّأخير والوصل والفصل وغيرها، هي نفسها التي وردت في أسلوب القرآن الكريم، وهي نفسها التي كانت محط إعجاب لدى العرب الفصحاء، والتي كان بها الإعجاز؛ ولمّا كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة فجاءهم التّحدّي من هذا الباب الذّي هم به أعرف وعليه أقدر، وهذه التّقنيات التّعبيرية هي نفسها التي تجد فيها الأسلوبية أرضيةً صالحةً تتغذى منها أعرافها وجوًّا ملائماً تتنفس فيه.
ومما لا شك فيه أنّ الجهود الأسلوبية تسعى مخلصة لفهم الأعمال الأدبية من خلال البناء اللّغوي، القائم أساساً على الاختيار المعجمي للمفردات والأشكال النّحوية، بحيث لا يمكن لواحدة منهما في غياب الأخرى أن تبرز السمات الأسلوبية الدقيقة للعمل الأدبي، وإنما يتم ذلك بالاختيار الدقيق بينهما المرتبط بالسّياق بغية تحقيق الترابط بين السابق واللاّحق من التّراكيب، وتجنباً للتّفسيرات التّعسفية المفروضة على العمل الأدبي المترتبة عن الاعتماد الكلّي على إحصاء المفردات لوحدها بمنأى عن الأشكال النحوية والسياق، أو الاعتماد كلية على الأشكال النّحوية لوحدها بعيداً عن إحصاء المفردات والسياق.
ويمارس النّص الأدبي الفنّي سحره وتأثيره بما ينقصه من وحدات دلالية وبما يوحي به، وليس فقط بما ينجزه وينجح فيه، وقد لا نبالغ إذا قلنا: إن النّص يدين بقيمته الجمالية وسحره إلى ألوان الحذوف التي اعتورت تراكيبه وعباراته أكثر مما تعود إلى عباراته الكاملة التّامة المذكورة الوحدات الدّلالية، ولن يتأتى هذا إلَّا بحضور قارئ مثالي (
Lecteur model) الذي عليه أن يحسن التذوق ليستخلص سحر النّص وجماليته، وبمعنى آخر عليه أن يتموضع ضمن فراغات النّص لينصت إلى صمت المبدع، إيماناً بأن العمل الأدبي ينهض على ثنائية الفراغات أو الفجوات في مقابل العلامات المكتوبة فيه.وإذا كانت القصيدة العمودية تمارس على المتلقي سلطة خاصة؛ لأنّها تمثل بنية تخضع لمعايير مثالية وتحكمها تفعيلات محددة معروفة وقافية صارمة، فإن القصيدة النثرية الحديثة التي تحتل فضاء يميزها ولا تخضع لمعايير ثابتة، تمارس على القارئ تحديا من نوع خاص لما وضعه المشتغلون في حقل الأسلوبية من اعتبارات ومحكات لقياس مستويات الخصائص الأسلوبية ودرجاتها.
ولعل المحك الأوّل هو محك الانحراف أو صناعة الفجوة -علاقة التوتر بين ما تسكت عنه اللغة وما تثبته أو مسافة التوتر بين المألوف وغير المألوف- ويكون هذا النوع عندما يلجأ الشاعر إلى التعبير بأسلوب الحذف ويكتفي ببعض القرائن السابقة واللّاحقة حتى لا يصير الكلام غامضاً، وسأحاول أن أقف عند قضية واحدة، ولكنها قضية مهيمنة في القصيدة النثرية الحديثة، وتعد هامة لما تزخر به من حمولة دلالية، وهي علامة الترقيم الدالة على الكلام المحذوف (... )، ومنه قول بدر شاكر السياب في أنشودة المطر:
كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:
بأنّ أمه - التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لجّ في السؤال
قالوا له: «بعد غد تعود...»
لابدّ أن تعود.
وبالتأمل في هذه الأبيات الشعرية النثرية ندرك أن المعنى يتشكل عبر الانكسارات اللغوية التي تحدث على مستوى التركيب، وذلك بفحص طبيعة العلاقة بين عناصر الجملة والدلالة المتمخضة عنها، إلَّا أنه يصعب لأول وهلة تحديد مراكز الثقل؛ لأن الشاعر تمرد عمداً على صرامة القواعد التركيبية، واختار لنفسه طريقة معينة في ضم كلمات متحررة حسب تعبير جاكبسون، فالمقطوعة الشعرية تفتقد الربط التركيبي بقدر معين إلاّ أن علامات الترقيم تحاول أن تساعدنا عل تصور البنية الكلية للمقطوعة في خضم الغموض الكبير الذي يبقى واضحاً انسحب عن الخلل التركيبي، ولما نتفحص السطر الشعري الثاني نجده يتشكل من بناء ناقص ماثل في حذف أو غياب خبر «أن» وهو على النحو التالي:
الجملة= أن + اسمها (أم) + ضمير ( - ) «بداية الجملة الاعتراضية» + اسم موصول + فعل ماض + ظرف زمان + ظرف زمان محدود.
ونلاحظ أن حذف خبر «أن» جعل العبارة ناقصة من جهتين، الأولى تركيبية والثانية دلالية، فالأولى الحذف (حذف المسند) الذي اعتورها، ومخالفة الأصل واتخاذ الجملة الاعتراضية محل الخبر المحذوف استثنائيًّا؛ لأنها في عرف النحاة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب، أضف إلى ذلك أنها صلة الموصول -أيضاً- لا محل لها من الإعراب، وهذا خرق صارخ لصرامة النحو العربي، الأمر الذّي جعل التحليل الأسلوبي يوليه عناية كبيرة وراح يشدد على بؤرة التحليل القائم على التركيب الأصلي للجملة العربية.
تعيّن لنا بعد تفحُّص ووصف السطر الشعري الثاني من المقطوعة السابقة أنه كان مصدر التشويش؛ لأن الخلخلة لم تكن من غياب خبر «أن» فحسب بل من الفعل الماضي الذي لحق الاسم الموصول «التي»، إذ نجد ثمة تحوُّلاً في طبيعة الضمير المستتر الذي يحيل عليه الفعل «أفاق»، وتجرد الفعل من تاء التأنيث يسترعي الانتباه ويطلب وقوفاً متأنياً محاولةً لإعادة تركيب العبارة وسد الفراغات، وهو على النحو التالي:
بأنّ أمّه - التّي أفاق منذ عام
فلم يجدها،...
ولتحقيق الانسجام النّحوي كان من المفروض أن يكون السطر الشعري على النحو التالي:
«بأن أمه التي أفاقت منذ عام»
ووجود هذه المفارقة البارزة الماثلة في الفعل الماضي الذّي لحق الاسم الموصول «التي» تنبئ بأن الشاعر خرق اللغة وتحدّى قواعدها الصارمة، وذلك بتجريد الفعل «فاق» من تاء التأنيث، الأمر الذي يثير مخيلة المتلقي ويلفت انتباهه إلى أن هناك كلاماً محذوفاً، ويمكن تصوره على الشكل التالي:
بأنّ أمّه (كلام محذوف) – التّي ( كلام محذوف) أفاق منذ عام
بأنّ أمّه (.......... ) – التّي (.................) أفاق منذ عام
غائبة ربته ورعته إلى أن
السطر الشعري |
بأنّ أمّه- التّي أفاق منذ عام |
المذكور |
الفعل الماضي(فاق) الذّي لحق الاسم الموصول الخالي من تاء التأنيث |
المحذوف |
بأنّ أمّه........- التّي.............. أفاق منذ عام
خبر «أن» صلة الموصول |
التأويل |
بأنّ أمه غائبة - التّي ربته ورعته إلى أن فاق منذ عام |
بإمعان النظر في السطر الشعري الذّي استهل به الشاعر مقطوعته وهو:
كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
يتحوّل هذا الهذيان بفضل تحدي الشاعر لقداسة اللغة وتمرده على منظومتها التركيبية من الصمت إلى الكلام والبوح، ومن غياب بعض العناصر إلى حضورها؛ لأن «بعض العناصر اللغوية يبرز دورها الأسلوبي بغيابها أكثر من حضورها»، فالفعل «يهذي» يدلّ على أنّ الطفل كان يقول كلاماً غير مفهوم؛ لأنه غير منتظم، ولهذا جاءت الأسطر اللاحقة بمثابة هذيان يزخر بفيض من الانكسارات اللغوية، نتج عنه التشويش في مقابل الانسجام.
ومنه -أيضاً- قوله:
أحسست أنّ السوط، أنّ الدّماء
أنّ الدّجى، أنّ الضّحايا.. هباء
نلاحظ أنّ الشاعر عمد إلى خلخلة قداسة قواعد اللغة ومناقضة منظومتها النّحوية، وذلك بحذف الخبر في كلّ من «أنّ السوط» و «أن الدماء» و «أنّ الدّجى»، وجعل النقطتين (..) بديلاً عن الكلام المحذوف أو المسكوت عنه، وهي بمثابة دعوة صريحة لتتمة البنى اللسانية الناقصة، ثم نفاجأ بورود لفظة «هباء» وكأن الشاعر أراد أن يعبر عن حالة شعورية خاصة، وذلك بعدم ذكر الخبر في كامل الجمل، واكتفى بإيراد خبر واحد ناب عن البقية المحذوفة قصداً، وذلك دفعاً للتكرار وطلباً للتخفيف من عبء الكلام المر وغير المرغوب فيه.
ونلفي السّياب في اختزاله للبنية اللسانية يلجأ إلى وسائل متنوعة، نذكر منها على سبيل المثال علامات الترقيم وبخاصة منها النقاط الثلاث المطبعية (...) كونها الدال البديل الذي يشير إلى الكلام المحذوف من النّص الشعري بإرادة المنشئ، وفي الوقت نفسه تعبر عن انفتاح الكون الدّلالي على كثير من الدّلالات المسكوت عنها، إلَّا أن هذا النوع من الحذف في النّص الشّعري النثري يُشوّه كثيراً البنية اللسانية، والمعنى لا يكتمل فيها إلَّا في ضوء السياق؛ لأنّ الشاعر لا يُحوّل كل مادته إلى تعابير وكلمات، وإنّما يلجأ إلى الصمت، وصمت اللغة هو حذف بعض العناصر أثناء عملية التشكيل والصياغة، الأمر الذّي يجعل الحذف بوصفه تقنية أسلوبية في منزلة الذكر، له وظيفة دلالية تتشكل وتتلوّن بحسب السياق، الأمر الذي يتطلب متلقياً متطوراً وخبيراً؛ لأنّ هذا الأخير له القدرة على خلق نوع من التضايف بين ما يذكر وما يحذف اعتماداً على البنى اللسانية غير المستوفية شروط الصياغة والتشكل.
في ضوء هذا التّصور ينبغي على القارئ أن يحسن التذوق ليستخلص من النّص نكهته، ويحصل ذلك بتأمله في فراغات النّص لينصت إلى صمت المنشئ، فيقف على بلاغته العجيبة وكيفيات تعامله مع اللّغة وقواعدها، وبهذا العمل يرتفع القارئ فوق النّص، ويسلط أضواء كثيفة عليه بغية ملامسة جماليته الكامنة وراء سد الفجوات وملئها، ومن ثم توسيع دائرة المعنى.
- 5 -
وفق هذا الطرح يكون الحذف وسيلة من وسائل اتساع النّص؛ لأنه يلعب دوراً رئيساً في عملية التنبيه والإيحاء، ويثير ذهن المتلقي ويحمله على الحفر في عمق العبارات والتراكيب، الأمر الذّي يجعلها تتسع من الداخل وتفرز شحنات دلالية كثيفة، وثمة تكمن الجمالية ومتعة القراءة التي تحدث عنها رولان بارت.
ومن هذا التوجه فإن قراءة الشعر الحديث تستلزم قُرَّاءً من نوع خاص، تخلّوا عن سننهم المعهودة في تلقي الشعر حيث الطريق معبدة نحو معنى واحد -في الأغلب- يكمن وراء قشرة النص اللّغوية.
إنّ النص الفني يمارس تأثيره بما ينقصه ويوحي به، وليس فقط بما ينجزه ويثبته في البنية السطحية، ويمكننا القول بأن النّص الشعري الحديث يدين بقيمته إلى الحذف أكثر من الذّكر؛ لأنّه أصبح من السمات الفنية الغالبة على القصيدة الحديثة، وما يعضد هذا الطرح هو أنّ الشكل الكتابي أخذ يلفت الأنظار بوصفه عنصراً دالاً يدخل في بناء المعنى الكلّي للنّص -كما رأينا ذلك في نموذج من قصيدة السياب- ووفق هذا الفهم أصبح الحذف طرفاً فاعلاً في إشكالية إنشاء القصيدة الحديثة على مستوى العملية الإبداعية، ويبعث على تأكيد أبعاد دلالية وجمالية في النّص.
إنّ التحدي الجدلي بين المبدع واللّغة مرده إلى اعتبارات قد تتعلق بالمبدع نفسه، إذ تعجز اللغة أحياناً عن نقل كلّ ما تجود به الرؤية الشعرية، فيأتي الحذف الماثل في علامات الترقيم دليلاً على ما صمتت عنه اللغة، وغُيِّبَ عن قصد، الأمر الذّي يحمل المتلقي على إعمال الفكر وكدّ الذهن بغية تكسير هذا الصمت المزين للقصيدة، بوصفه طرفاً هامًّا في إنتاج اللغة الغائبة من خلال تأويل هذا الصمت.
وقد تتحوّل لغة الشاعر بفعل تحديه لها من خلال خرقه منظومتها الصارمة وتمرده عليها إلى شفرة سرية، وذلك بلجوئه إلى تعويض الكلام بنقاط دالة على حذفه، وقد يكون المحذوف هو جوهر الحقيقة المخفية التّي لا يستطيع الشّاعر أن يكشف عنها، وإنّما يفسح المجال واسعاً للمتلقين باختلاف تجاربهم للدّخول طرفاً فاعلاً للكشف عن هذا الكُنه المُغيَّب الذّي يقع خارج اللّغة، والبحث عن معنى لغة لما وراء اللّغة.
إن الكتابة عامةً والكتابة الشّعرية خاصةً هي نوع من الاختيار يقوم به المبدع، وهي ثمرة ترتيبه للمادة الكلامية ليعبر عن أحاسيسه ومشاعره وميولاته، وأمامها تلين المنظومة اللّغوية وتذوب في التجربة الشعرية؛ لأنه حين تمتد يد المبدع إليها تُطوّعها وتُخرجها من فضاء الصّرامة إلى فضاء اللّين والطواعية، ويدخل في ذلك توظيفه لأنواع كثيرة من الحذوف غير المحايدة (المشحونة بالدّلالات) بوصفها انعكاساً مباشراً وغير مباشر عن الصراع الداخلي الذّي يعانيه المبدع، ينضاف إلى ذلك أن الحذف يعبر عن دلالات كامنة في الذات المبدعة، لم يتمكن التشكيل اللغوي وحده من إيصالها، وبهذا يسهم الحذف في بناء الدلالات وإيصالها، ونعني بهذا أن أثر الحذف الدلالي والجمالي عميق في المتلقي ليسهم بدوره في إبداع النص وتتمة بعض مكوناته الأساسية.
فالمتلقي يسهم في بناء المعنى الكلي للنّص اعتماداً على السابق واللاّحق، إذ المتلقي يدخل هنا طرفاً في عملية الإبداع؛ لأنه يمتلك حرية أكثر في التّأمل والتّأويل، كما يشارك في التجربة الشّعورية من خلال ملئه للفراغات المنقطة المتروكة بوعي من المبدع؛ لأنّ المبدع يريد أن يزوّد المتلقي بدلالات يتم الإيحاء بها إلى ما سكت عنه وما صمتت عنه اللغة.
وفي ضوء هذا الفهم نخلص إلى أنّ الحذف في البنية اللّسانية ليس فعلاً بريئاً أو عملاً محايداً أو شكلاً مفروضاً على القصيدة من الخارج، وإنّما هو عمل واعٍ وسمة من سمات القصيدة الحديثة ومظهر من مظاهر الإبداعية التي تعمل على استثمار الطّاقات التّعبيرية الهائلة التّي تزخر بها اللّغة العربية.
أماّ في مجال الدّراسات اللسانية الحديثة، فنجد علماءنا المعاصرين حاولوا تسليط الأضواء على الظواهر الأسلوبية، ومنها التّكرار والتّضمين والتّقديم والتّأخير والوصل والفصل والحذف والذّكر... باعتبار أن الحذف تقنية أسلوبية تزخر بشحنة دلالية هائلة، بخاصة وأنّ «المعنى في اللسانيات الحديثة يُدرس من خلال التّحليل الدّقيق للطّريقة التّي يمكن من خلالها للكلمات والجمل أن تستعمل في سياقات محددة»، و لهذا لا ينبغي أن تبقى دراسة ظاهرة الحذف وغيرها في بنى لسانية معزولة عن سياقها الخاص والعام، ذلك أنّ النص بوصفه ملفوظات يشكل طاقة تعبيرية كامنة في اللّغة، ومن الضروري تحقيقها في قدرات تعبيرية ومن ثمة الوقوف على أسرارها اللطيفة ومعانيها الدقيقة حسب مفهوم أهل اللغة في ثراثنا العربي.
بهذا القدر نكون قد وقفنا على الكثير من السّمات الأسلوبية التّي تنماز بها الممارسة الإبداعية، باعتبارها صراعاً جدليًّا بين المبدع وصرامة المنظومة اللّغوية، التّي يسعى المتلقي جاهداً إلى فهمها وتبيان دلالاتها، ومن ثمة تحقيق المتعة والانسجام بين المبدع والمتلقي.