شعار الموقع

الأخبار التاريخية ومبتدآتها الاجتماعية في نظرية العمران الخلدونية

محمد حمداوي 2013-06-12
عدد القراءات « 1048 »

الدكتور محمد حمداوي*
* جامعة مستغانم - الجزائر.
*مـقـدمـــة
حينما أنجز ابن خلدون كتابه الكبير في التاريخ الإسلامي، حرص على أن يضع له عنواناً معبّراً عن مضمونه تعبيراً مفصلاً دقيقاً، على عادة ما كان يفعله كتاب العرب الكبار، فأسماه «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» .
فإذا كان ابن خلدون يريد لكتابه أن يكون مصدراً لاستخلاص الدروس والعبر، فإن من البداهة أن يكون كذلك؛ لأن التاريخ، منذ أن وجد رواة الأخبار ومؤلفو الحكايا والأساطير والمؤرخون، وهو يتوخى تعليم الرجال، وتهذيب أخلاقهم، وتربيتهم على الاقتداء بنماذج العظماء في كل زمان ومكان، والسير على النهج الذي رسمته مآثرهم، بالصبر على الأذى، والطموح إلى بلوغ الفضائل، والتضحية في سبيل المثل العليا، ولأن التاريخ منذ وجد، وهو يوفر للملوك والوزراء رصيداً من المبادئ الأخلاقية والسياسية، يستثمرونه في إرساء قواعد حكمهم، ويتفننون انطلاقاً منه في صياغة الطرق والوسائل الناجعة لبسط سلطانهم.
ولكن الذي ليس بديهيًّا هو أن يردف ابن خلدون بلفظة «العبر» عبارة «المبتدأ والخبر» تأكيداً لها، وتوسيعاً لدلالتها، وتجاوزاً لحمولتها العلمية والأخلاقية.
وكأنه يوحي بأن التاريخ لا يمكن أن يكون مصدراً مفيداً لأي درس ولا عبرة، بل ولا أن يستحق حتى اسمه، إلَّا إذا كانت أخباره مقرونة بمبتدآتها، ليس بالمعنى الذي يفيد اقتران الأخبار بالأخبار، من بداية عصر إلى نهايته، وسردها وفقاً لتعاقب الأحداث والوقائع المخبر عنها متسلسلة في الزمن، بل بالمعنى الذي يدل على ارتباط الأخبار بأشياء غيرها، موجودة وجوداً مستقلاً عنها، ولا تكون هذه الأخبار مفيدة إلَّا بمطابقتها لها. فهل هذه الأشياء ذات الوجود المستقل متضمنة في «أيام العرب والعجم والبربر من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، كما يبرز ذلك العنوان، أم أنها تحيل على مسائل أخرى، تكشف عنها نصوص المقدمة ذات الصلة بمفهوم التاريخ، كما يحدّد مضمونه ابن خلدون ويبيّن حقيقته.
لا شك في أن ربط ابن خلدون عبارة المبتدأ والخبر بأيام العرب والعجم والبربر له دلالة، وأن لهذه الأيام دلالة أيضاً، سوف تتضح مما يعرضه ابن خلدون على قارئه من نصوص. غير أن الذي تكشف عنه العبارة هو أن هذه الأيام ليست عنده مصدراً للخبر فقط، بل هي كذلك إطار زمني لما يُسميه ابن خلدون عن قصد «مبتدأ الخبر».
*أولاً: حقيقة التاريخ والوقائع الجوهرية للعمران
إن ابن خلدون لا يُعرّف التاريخ إلَّا مقترناً بصفة الحقيقة، تأكيداً منه على أنه علم، لا يتحقق إلَّا بقيامه على أسس موضوعية، فيتوافر على شرط الإخبار الصادق عن موضوعه، وتكون أخباره قابلة للتحقق من صحتها بكافة البراهين العقلية والتجريبية. لذلك فإن حقيقة التاريخ عنده هي أنه خبر عن الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحّش والتأنّس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال .
وعلى هذا الأساس فإن التاريخ لا يكون علماً، أي تاريخاً على الحقيقة، إلَّا إذا كان مخبراً عن الأحوال والوقائع، التي تحدث في المجتمع بذاته وبمقتضى طبعه فقط، لا تلك التي تحدث بشيء غير ذلك. معنى ذلك أن الأحوال التي تلحق الاجتماع الإنساني ليست كلها جوهرية، ولا حاصلة بمقتضى الطبيعة الاجتماعية، ولا ذاتية في العمران. فتوجب على من يقوم بالممارسة التاريخية التمييز بين الوقائع، لما يترتب على ذلك من تمييز بين الأخبار الصالحة لأن تكون مادة تاريخية وبين غيرها من الأخبار.
والحقيقة أن الوقائع التي يتضمنها الخبر التاريخي لا تخرج عن ثلاثة أنواع، وهو ما يؤكده ابن خلدون نفسه:
1- الوقائع التي تحدث في الاجتماع الإنساني من ذاته وبمقتضى طبعه: وهذا النوع من الوقائع جوهري، لأنه ملازم لخصائص العمران، ذاتي فيه، ومعبر عن حقيقته. وقد ذكر ابن خلدون أمثلة منه، عند تحديده لمفهوم التاريخ، مثل التوحش والعصبيات وأنظمة الحكم والعلوم والصنائع، وهو النوع الذي يتطلَّب الاعتداد به أثناء الممارسة التاريخية، بصفته مادة ضرورية للخبر وموضوع له.
2- الوقائع التي تلحق الاجتماع الإنساني بصورة عارضة: وهذا النوع من الوقائع لا يحمل صفة الثبات النسبي ولا صفة التكرار، ومن ثم فهو لا يقبل المقارنة مع غيره من الوقائع الجوهرية، ولا يمكن التأكد من صحته، كحالة فاعلة في تاريخ المجتمع. لذلك، فإن الوقائع العارضة لا تستحق الاعتداد بها في الإخبار عن الاجتماع.
3- ما لا يلحق الاجتماع الإنساني: وهو ما يدخل في حكم المستحيل، فلا يحدث لا بهذه الصورة ولا بتلك، لانعدام شروطه داخل المجتمع، فيتوجب استبعاده تماماً من كل خبر تاريخي. فإذا تضمن هذا الخبر بعضاً من أنواع هذه الوقائع اللااجتماعية كان خبراً كاذباً، وأضر بعلمية التاريخ.
وإذا كانت حقيقة التاريخ هي أن يخبر عن الاجتماع الإنساني وعوارضه الذاتية، فإن مبتدأ الخبر، إذن، لا يخرج عن هذا المجتمع ومؤسساته وظواهره، ولا يمكن لمن يتوخى الصدق والصواب، فيما ينقله من أخبار تاريخية، ألَّا يكون عليماً بذلك، وإلَّا كانت أخباره واهية، لا مصداقية لها، وقاصرة عن أن تكون مصدراً لاستخلاص الدروس واستلهام العبر.
ولم يكن لابن خلدون أن يعرّف التاريخ على هذا الوجه، ولا أن يؤكد ارتباطه بالمجتمع بهذا الأسلوب، لولا أنه وقف في تآليف سلفه من المؤرخين على خلل يعتور الصلة بين ما يرويه هؤلاء، وبين ما يقع فعلاً في حياة الأفراد داخل المجتمع، إذ حصروا دورهم في رواية الأخبار، لاحقاً عن سابق، دون ردّها إلى أصولها الاجتماعية، ودون التحقق بذلك من صحتها.
ولو أنهم فعلوا ذلك لتبيّنوا أن حقيقة التاريخ ليست كامنة في مجرد هذه الأخبار التي يروونها، على ما يحتمله مضمونها من الكذب، الذي لا يمكن أن يعكسه ظاهرها، بل هي في الأخبار القادرة على التعبير الصادق عما يحدث في الاجتماع الإنساني، من عوارض لذاته وبمقتضى طبعه، والكاشفة عن العلل والأسباب التي تكون بها هذه العوارض الاجتماعية، وعن الكيفيات التي تكون بها.
ولتدارك ما فات السلف من معرفة بهذه الرابطة القوية التي تجعل الخبر التاريخي تابعاً لعوارض الاجتماع، فإن ابن خلدون حرص على تأكيد مفهومه للتاريخ بالتمييز بين ظاهر التاريخ وباطنه، «إذ هو في ظاهره لا يزيد عن إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلَّبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحال منهم الزوال» .
أما في باطنه، فإن التاريخ «نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو بذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق» .
هكذا، فإن توخي حقيقة التاريخ يستوجب من المؤرخ تمحيص الأخبار، لتمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب فيها، والتأكد من مطابقتها للوقائع . كما يستوجب منه تعليل الوقائع، لمعرفة كيفية حدوثها وأسباب تزاحمها وتعاقبها ، عبر الأزمنة والعصور. ولا شك في أن البحث في مدى مطابقة الأخبار للوقائع التي تصورها، وفهم كيفية حدوث هذه الوقائع، والكشف عن الأسباب والعلل المحددة لها، مسألة غاية في الأهمية، رغم أن المؤرخين السابقين لابن خلدون لم ينتبهوا إليها.
*ثانياً: قانون المطابقة وتوخي الحقيقة في نقل الأخبار
لقد غفل هؤلاء عن كون الخبر التاريخي ليس إلَّا تابعاً للوقائع التي يخبر عنها، وأنه على خلاف ذلك، تتمتع الوقائع الاجتماعية بوجودها المستقل، فلا يغيّر فيها شيئاً كونُ التاريخ تجاهلها أو أخبر عنها، وهو لا بد أن يخبر عنها حتى يكون، وهو لا يكون صحيحاً إلَّا إذا استمد صدقه من مطابقته لها.
من هنا، فإن التاريخ لا يمكنه أن ينتظم كعلم وضعي، إلَّا بموجب قانون المطابقة. وليس عبثاً أن يعتبر ابن خلدون المطابقة قانوناً أساسيًّا في المنهجية المطبقة في التاريخ، والقابلة للتطبيق في سائر العلوم الاجتماعية . وليست القواعد المنهجية الأخرى مثل تحكيم أصول العادة وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، وقياس الغائب والشاهد، وغيرها من الإجراءات المنهجية التي تتطلبها الموضوعية العلمية، إلَّا قواعد ثانوية لتحقيق قانون المطابقة.
وغني عن القول أنه لا جدوى من أن يبحث المؤرخ في مدى مطابقة الأخبار التي ينقلها للوقائع الاجتماعية، إذا لم يكن عالماً بطبائع العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، وبأصول العادة وقواعد السياسة. فلقد أرجع ابن خلدون معظم الأخطاء التي وقع فيها المؤرخون إلى جهلهم بطبائع العمران وأصول العادة، رغم أن هناك أسباباً كثيرة أخرى، مقصودة أو غير مقصودة، تجعل الأخبار التاريخية مغلوطة أو كاذبة أو مزيفة.
لم يلتزم المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل، حتى المشاهير منهم، بهذا المنهج الدقيق، فيعرضوا الأخبار على أصولها الاجتماعية، ويقيسوها بأشباهها، ويسبروها بمعيار الحكمة، ويطلعوا على طبائع العمران في أحواله المتغيرة، ويحكموا العقل فيما ينقلون، ويخضعوا كل ذلك للتحليل والانتقاد. ولو فعلوا ذلك لنجوا من التيهان في الوهم والغلط، ولما كانت أخبارهم مظنة للكذب ومطية للهذر، ولما أثقلت أعمالهم بالأخطاء والمزلات والمغالط في الروايات والوقائع .
ولا تجهل أخبار التاريخ الحوادث التي صدرت عنها أو تتجاهلها، إلَّا كانت شبيهة بالجملة التي لا دلالة تستفاد من بنيتها، لأنها أثبتت خبراً عن مبتدأ لا سبيل منها إلى معرفته، وأثراً عن فاعل مستتر لا يهتدي إليه المعرب بتقدير. وعلى هذا الأساس، لم ينج من المزلات والمغالط والحيد عن جادة الصواب، أحد من المؤرخين السابقين لابن خلدون، والذين أولى بعضهم إعجاباً خاصًّا، ووصفهم بالإمامة في النقل، والشهرة في العلم، والأمانة في التبليغ، مثل الطبري والواقدي وابن إسحاق وابن الكلبي وابن حيان، والذين يأتي المسعودي صاحب المروج  في مقدمتهم، لاعتمادهم على النقل غثًّا وسميناً، جرياً على منهج رواية الحديث، دون وضع مقياس خاص بفنهم .
ولا يختلف عن هؤلاء البلاذري، صاحب «فتوح البلدان» و«أنساب ألأشراف»، ولا اليعقوبي، صاحب «البلدان» و«التاريخ»، ولا ابن قتيبة، صاحب «عيون الأخبار» و«الإمامة والسياسة»، ولا الدينوري، صاحب «الأخبار الطوال»، رغم أنهم المؤسسون الفعليون الأوائل للتاريخ العربي - الإسلامي.
*ثالثاً: التاريخ الدارج: نماذج من المزلات والمغالط في الأخبار
وإذا كان ابن خلدون يورد أسماء بعض المؤرخين الكبار، الذين جانبوا الصواب فيما نقلوه من أخبار، وما سجلوه من وقائع، ويهمل أسماء البعض الآخر، فذلك لأن اهتمامه لم يكن منصبًّا على رسم قائمة وافية بأسماء كبار المؤرخين الذين غلطوا، بقدر ما كان منصبًّا على الأخطاء الفادحة التي وقع فيها هؤلاء، والعمل على إبرازها، والبحث عن الأسباب المؤدية إليها، وتقديم الحلول اللازمة لتخليص التاريخ منها، حتى يقوم على أسس علمية، وتكون أخباره حقيقة، تجد لها ما يصدقها في نطاق العقل، وما يدل على صحتها في واقع المجتمع.
إن الأخطاء الأكثر لفتاً للانتباه هي تلك التي تخص إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر، كما نقل ذلك المسعودي وغيره من المؤرخين، في جيوش بني إسرائيل حيث ادعوا أن موسى (عليه السلام)، أحصى القادرين منهم على حمل السلاح، من سن العشرين فما فوق، فكان عددهم ستمائة ألف أو يزيدون. وهو عدد ما كانوا ليذكروه لو أنهم حكموا النظر والبصيرة، وكانوا على معرفة بطبائع العمران، وقواعد السياسة، وقوانين سير المجتمع.
لذلك، فإن هذا العدد مدعاة لتساؤلات كثيرة، حينما يتم ربطه بمتغيرات اجتماعية أخرى، ومقارنته بعدد آخر لجيوش دولة في مستوى بني إسرائيل أو أقوى منها: فكيف تتسع مصر أو الشام لهذا العدد من العساكر؟ وكيف تزحف هذه الجنود أو تقتتل، وهي لا يشعر أحد جوانبها بالجانب الآخر؟ وكيف يكون بنو إسرائيل بهذا العدد وتغلبهم جنود بختنصر الفارسي وتخرب عاصمة مملكتهم، وهي لا تبلغ الربع من عددهم، فأقصى ما بلغته جيوش الفرس بالقادسية مئة وعشرين ألف جندي؟ وكيف يكون بنو إسرائيل بهذا العدد ولا يتسع نطاق دولتهم، إذ على نسبة الحامية والقبيل من الكثرة أو القلة تكون ممالكهم؟ ثم كيف يكونون في عهد يوسف سبعين ألفاً، ويتطورون بعد أربعة أجيال فقط إلى ستمائة ألف؟
إن هذا الخبر «لا يثبت أمام النقد الباطني، وذلك لأسباب جغرافية، واستراتيجية، وبالمقارنة أيضاً مع جيوش أمم أخرى كانت أشد قوةً وأوسع ملكاً» . ولكنه ولوع النفس بالغرائب، هو هذا الذي يقود المؤرخين إلى مثل هذه المبالغة.
ومن أمثلة ما ينقله المؤرخون من أخبار واهية، تلك الأخبار الخاصة بالتبابعة، ملوك اليمن وجزيرة العرب، التي تقول بأنهم كانوا يغزون انطلاقاً من قراهم باليمن بلدانا بعيدة تصل إلى غاية شمال إفريقيا، وأن آخر ملوكهم أخضع لملكه الموصل وأذربيجان وهزم الأتراك، وأن ثلاثة من بنيه غزوا بلاد فارس، وبلاد الصفد، وبلاد الروم، وأن الأول ملك البلاد إلى سمرقند، وقطع المفازة إلى الصين، حيث وجد أخاه بسمرقند، فغنما ورجعا، وأن الثالث منهم درس قسطنطينية ودوخ بلاد الروم ورجع .
وهو أمر لا يثبت أمام النقد الباطني، لأن الأدلة العقلية والجغرافية والسياسة كلها تفنده، بحكم أنها تكشف عن تعارضه مع قانون المطابقة ، مطابقة الخبر للوقائع الحاصلة في العمران بذاته وبمقتضى طبعه. فكيف يكون ذلك من التبابعة وجزيرة العرب التي هي موطنهم (شاملة اليمن، إذ عاصمتم صنعاء) تحيط بها البحار من كل جانب، فلا يجد السالك برًّا، من اليمن إلى الشمال إفريقيا، كما هو الشأن بالنسبة إليهم إلَّا طريق السويس؟ وكيف يمرون من هنا دون أن تصير مصر وبلاد الشام التي عبروها من أعمالهم؟ وهل تصير من أعمالهم دون أن يحاربوا أهلها العمالقة والكنعانيين وبني إسرائيل؟ وهبهم فعلوا ذلك في طريقهم إلى شمال إفريقيا، فكيف لم ينقل أحد من المؤرخين أخبارهم؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كيف يتسنى لهم الغزو المذكور، مع ما يحتاجونه من مؤونة للسفر تخص الجند وخيلهم، مما لا يمكن توفيره لا بالاكتفاء الذاتي ولا بالنهب ولا بالمسالمة، ولو توفر بكل هذه الأسباب لامتنع على الرواحل نقله؟
ومن الأخطاء التاريخية الخارجة عن قانون المطابقة، تلك الأخبار القادحة في نسب الفاطميين، أو في نسب إدريس الثاني، أو من لهم صلة قربة بالنسب الشريف. وما كان للمؤرخين أن يفعلوا ذلك لو أنهم، من جهة، علموا أن طبائع العمران تأبى أن يؤسس دعيّ النسب ملكاً، أو يحاول تأسيسه، أو حتى أنه يستطيعه. فالملك لا ينبغي إلَّا إلى ذي نسب صريح في قومه، يعززه الاعتراف الاجتماعي الصادر من أفراد القبيلة لصالح الساعي إلى تأسيس الملك، لأنهم أول أشياعه والمتعصبين لدعوته، وأي جماعة قبلية تقبل أن تكون مرؤوسة من قبل شخص لا ينتمي إلى أسرة فيها يكون نسبه في مثل أنسابها من الوضوح أو أرفع شأناً. فصراحة النسب ونقاوته شرط لكل رئاسة، وهو سابق على شرط الحسب وشرط العصبية. ومن كان لا يستطيع ادعاء النسب في غير بيت النبوة، عسر عليه ذلك في بيت النبوة.
ولهذا يخرج عن قانون المطابقة، في نظر ابن خلدون، القدح في نسب الفاطميين، ولو لم يكن من شأنهم سوى تأسيس ذلك الملك العظيم. ومن جهة أخرى، لم يكن للمؤرخين أن ينقلوا خطأ ما قيل في نسب إدريس الثاني، و«أنه لراشد مولاهم»، لو أنهم تفطنوا إلى الدسائس التي يحوكها المتصارعون على الحكم بعضهم لبعض، وأن السياسة تعبّد بالمنافسة طريقاً إلى العداوة، وأن الأغالبة اتخذوا الأدارسة أعداء، حسداً لهم على نعمة الملك، فافتروا عليهم الأكاذيب وغالوا في التهم الباطلة، لولا أن طبائع العمران تدفع عنهم كل ذلك.
والذي يخالف قانون المطابقة هنا هو أن إدريس الأكبر كان «عريقاً» في البداوة، وأن حال البادية في مثل ذلك غير خافية، إذ لا مكامن لهم يأتي فيها الريب ، زد على ذلك أن إدريس الثاني، المطعون في نسبه، «ولد على فراش أبيه، والولد للفراش» ، كما يقر ذلك فقه الأسرة في الإسلام، بصفته حقيقة عمرانية، لا يجوز أن يتجاهلها المؤرخون، وفوق ذلك ينبغي «تنزيه أهل البيت...فالله –سبحانه– قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ففراش إدريس طاهر من الدنس ومنزه من الرجس بحكم القرآن» .
ومن الذين لهم نسب في أهل البيت، وأخطأ المؤرخون في نقلهم أخباراً تطعن في نسبهم الشريف، المهدي بن تومرت، وهو أمر يخالف في نظر ابن خلدون النواميس الاجتماعية. فالمطابق للعمران هو ما قيل من قبل بخصوص الفاطميين والأدراسة، إضافة إلى مميزات فردية تحلى بها ابن تومرت، قلَّ أن تكون من أخلاق غير الأشراف، مثل التقشف والحصر، اللذين يؤيدان أن عمله كان مقصوداً به وجه الله، ناهيك عن مجريات العادة التي بموجبها يكون الناس مصدقين في أنسابهم. فإذا احتج ناسبوه إلى البربر بكون «الرئاسة لا تكون على قوم في غير جلدتهم، فإن ذلك صحيح» ، سوى أن النسب هنا لا يستوجب أن يكون بربريًّا لحماً ودماً، بصورة حتمية، لأن رسوخ شجرة ابن تومرت في قبيلة هرغة، والتحامه بها منذ زمن بعيد، أدى إلى طغيان الانتساب الاجتماعي على النسب الدموي، «وكأنه انسلخ منه ولبس جلدة هؤلاء، وظهر فيها، فلا يضره النسب الأول (الدموي) في عصبيته» . ويمكنه على هذا الأساس أن يترأس في قبيلته هرغة، كأي شخص آخر منها، نسبه فيها صريح.
ومن الأخطاء كذلك ما يتناقله المفسرون عند تفسيرهم الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} من أخبار، هي في اعتبارهم حقائق تاريخية، فيجعلون «إرم» اسماً لمدينة ذات أساطين، بناها الملك شداد بن عاد، لتكون صورة للجنة، في صحارى عدن، خلال ثلاثة قرون، وعمره تسعة قرون، قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وملء حدائقها كل أصناف النبات والشجر، وخلالها أنهار مطردة الجريان، فلما اكتمل بنيانها، سار إليها شداد بأهل مملكته ليستقر بها، فانتقم الله منه ومن قومه، وأرسل عليهم صيحة من السماء، فأهلكهم كلهم، وهم منها على مسيرة ليلة ونهار.
بل إن هؤلاء المفسرين يستشهدون على صحة أخبارهم بأن الصحابي عبدالله بن قلابة وقع عليها، أثناء بحثه عن إبله الضالة، وحمل منها من الذهب ما استطاع، فلما بلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان، استدعاه ليعرف منه مباشرة صحة الخبر. فلما تأكد له ذلك، سأل كعب الأحبار عن هذه المدينة الذهبية فقال له: «هي إرم ذات العماد»، وسوف يدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت كعب الأحبار، فأبصر أبا قلابة، فقال: هذا، والله، ذلك الرجل .
والواقع أن هذه المدينة الغريبة ليس لها، في نظر ابن خلدون، أي وجود. ولو أنها وجدت لعرفها الناس وأخبروا عنها، خصوصاً وأن صحراء عدن في وسط اليمن وبها عمران، يمر بها المسافرون الآتون من كل مكان.
وما حمل المفسرين على هذه الخرافة إلَّا كونهم اعتمدوا في وصفهم على الإعراب، إذ اعتبروا «إرم» مدينة لأنها موصوفة بذات العماد، ولأنهم حمّلوا هذه اللفظة دلالة الأساطين، فنجم عن ذلك ألا تكون «إرم» إلَّا نوعاً فاخراً من البناء، تصوراً منهم بالغوا فيه حتى جعلوها من ذهب. وقد رشّح لهم هذا الفهم قراءة ابن الزبير التي تجعل «إرم»، في الآية المذكورة، مضافة إلى عاد: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم)، أي عاد الذين ابتنوا أو عمروا «إرم»، في حين أن الإضافة هنا هي إضافة الفصيلة إلى القبيلة، مثل قولنا: قريش كنانة، وربيعة نزار. كذلك فإن العماد هنا هي عماد الخيام لا الأساطين، من غير أن يمنع هذا المعنى قوم عاد من أن يكونوا بناة أساطين، وأن وصفهم بذلك هو وصف على العموم.
والذي يزيد هذه المدينة بعداً عن الوجود هو أن بعضهم يقول بأنها دمشق؛ لأن قوم عاد ملكوها فيما ملكوا من الأمصار، ودمشق لم تكن يوماً مدينة من ذهب، ولا جنة تجري من تحتها الأنهار. بل إن بعضهم يذهب إلى أكثر من ذلك، فيزعم أن «إرم»، مدينة الذهب والزبرجد والياقوت، مدينة مستترة عن أنظار البشر العاديين، فلا يعثر عليها إلَّا أهل الرياضة الروحية والسحر المبين .
وهل من دليل أشد قطعاً من هذا الذي قدم على أن «إرم ذات العماد»، التي يتحدث عنها الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم، ليس لها، إلَّا في خيال رواة الخرافات والأساطير، أية علاقة بالوجود.
*رابعاً: التاريخ الدارج بين الذاتية والجهل بطبائع العمران
وإذ يقدّم ابن خلدون هذه النماذج من المزلات والأخطاء والمغالط، التي يقع فيها المؤرخون، فتجعل تاريخهم أخباراً لا مبتدآت لها، ولا فائدة كبيرة ترجى منها لتغيير الواقع، إن لم تكن إحدى العوامل التي تسهم في جموده، فإنه لا يكتفي بمجرد إبرازها، بل يتجاوز ذلك إلى تفنيدها بالنقد الباطني، ويقدم الأدلة العقلية والواقعية على ذلك، ويبيّن عدم ثباتها أمام البراهين المنطقية، ثم ينتقل من هذا المستوى إلى مستوى البحث عن الأسباب والعلل والدوافع، التي وراء الكذب في الأخبار، مبيناً أن لكل نوع منه أسبابه وعوامله الخاصة، التي قد يكون من بينها عامل هو أهمها، يحدّد أنواع الكذب جميعاً، فلا تلعب العوامل الأخرى بجانبه إلَّا دوراً ثانويًّا، على درجة محدودة من الفاعلية والتأثير. ذلك ما يبرزه ابن خلدون جليًّا حين يعرض أهم الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الأخطاء التاريخية، والتي هي:
1- «التشيعات للآراء والمذاهب: فإن النفس إذا كانت في حالة الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى يتبيّن صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحله قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في الكذب ونقله» .
إن مشايعة الآراء والمذاهب سبب ذاتي إرادي مقصود، لأن المؤرخ لا يتردد في الانحياز إلى رأي الفرقة التي يتحزب لها، رغم معرفته بأنه رأي خاطئ، إرضاء لها ودفاعاً عن مصلحتها المادية، وهو إذ يرتبط بهذه الفرقة عاطفيًّا ونفعيًّا، فإن نفسه تضعف عن تغليب رأي الخصم رغم معرفته بصحته، لما قد يؤدي ذلك من تصدع يمس تماسك الجماعة وتلبد يحجب غايتها المادية.
وهكذا يشكل التحزّب عائقاً نفسيًّا عن التزام الحياد والموضوعية في تدوين الأخبار التاريخية وانتقادها، ويجعل من صاحبه ناقلاً متطرفاً، لا يبذل أدنى جهد في قبول ما يوافق مذهبه من الآراء ورفض مالاً يوافقه، يترصد ذلك ويصر مسبقاً على التحزب والانحياز. فإذا الأخبار التي ينقلها مؤدلجة، صريحة التحميل بالأفكار والآراء والأوهام والتصورات، التي ترضي المؤرخ وجماعته المذهبية، وتحافظ على علاقته بها فكريًّا ونفعيًّا، مدركاً أنه من المستحيل عليه تحقيق مصالحه الحيوية بمعزل عنها، مغلباً بسبب ذلك الكذب على الصدق والخطأ على الصواب.
2- الثقة بالناقلين: وهي أحد الأسباب اللاقصدية الموقعة في الكذب، ذلك أن المؤرخ ليس هو الذي دسّ وزيّف، وتعمّد نقل الخبر، محملاً بالتشيع لرأي أو مذهب، أو متوخياً إرضاء صاحب مال أو سلطة، مقابل تقريب أو خدمة أو ثمن، بل إن المدلسين مؤرخون آخرون أو رواة، تم النقل عنهم دون تمحيص أو نظر، بسبب الثقة العمياء فيهم، وبسبب كونهم لم يشتهروا بين الناس بأخلاق النقصان، التي تجعل جامع الأخبار يشك في صحة أو صدق ما يصدر عنهم.
لذلك توجّب على المؤرخ أن يشك في كل ما يتلقاه من الرواة، مهما كانت نفسه مطمئنة لصدقهم، وحسن طويتهم، علماً بأنهم هم الآخرون قد يكونون ضحية لثقتهم. فتوخي الصدق والصواب فيما ينقله المؤرخ من أخبار، يقتضي إذن «ألَّا يقبل أية رواية كانت، قبل أن يتأكد من عدالة رواتها في القول وسلامتهم من الكذب» ، وذلك بالتحقيق في شخصية الرواة المباشرين وغير المباشرين، إذ قد يكون رواة تلقوا، كما أسلفنا، أخباراً كاذبة ملبسة نقلوها عن قصد أو لا قصد، لمن يثق بهم من المؤرخين، لما تأكد لهم من عدم شكهم في أمانتهم. لذلك ليست أمانة الرواة الظاهرة وحدها كافية لاعتبار الخبر صادقاً، بل ينبغي للمؤرخ أن يتهم الأمانة الظاهرة حتى يقف على باطن الأمانة، ثم يتجاوز ذلك إلى النظر في الخبر والتحقيق في طبيعته وصحته، ومن يدري؟ فقد يكشف ذلك عن وجود رواة قصدوا الكذب في الأخبار، ولم يتفطّن الناقل عنهم، لسجية فيه، إلى معايب أخلاقهم، مع ما لديهم من القدرة على إيهام الناس بصدقهم واعتدالهم وأمانتهم.
3- «الذهول عن المقاصد: فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب» .
وواضح هنا أن أي مؤرخ لا يمكن أن يقصد عدم معرفة أو فهم واقعة يعاينها، أو خبر عن واقعة يسمعه، ولكن الذي يجعله يجانب الفهم أسباب كثيرة، منها ذهوله عمَّا ترمي إليه الواقعة أو يدل عليه الخبر. وهو حالة نفسية تنتاب الناس جميعاً، فلا يفلت منها أحد أبداً، ولا يدرك المؤرخ بسبب حالته أن هناك فهماً أو قصداً استتر عليه، أو أنه لم يلاحظ تمام الملاحظة، أو أنه توهم أموراً وهو يشاهد أو يسمع، أو أنه ظن نفسه سمع ما شاهده، أو شاهد ما سمعه. «إذا نقل وروى، يكون قد نقل وروى ما يخالف الواقع، مع أنه لم يتقصد الخروج عن جادة الصدق والأمانة في النقل على ما أداه إليه فهمه» .
و لكن المؤرخ الذي يعي هذه الحالة النفسية وأمثالها، ويدرك تغيرها، ثم يستعيد أو يراجع ما نقله ساعة الذهول، وهو في حالة من الاعتدال النفسي والجودة في التركيز، والقدرة على إعادة بناء الوقائع والأخبار وفهمها، يمكنه التنبه إلى الغلط أو سوء الفهم، فيصححه بالمعارف والمناهج الممكنة، أو يسقطه إذا تعذر عليه ذلك. فإذا كان الذهول عن المقاصد ناجما عن قصور في الإدراك والفهم، نظرا لغياب العلمية والمنهجية اللازمة، فإن استدراك المؤرخ ما ينقصه من ذلك واكتماله لديه جدير بتصحيح الأخبار والوقائع المذهول عن قصدها، ومن ثم إدراكها على الحقيقة...
4ـ توهم الصدق الذي تؤدي إليه الثقة بالناقلين: وهو أيضا من الأسباب غير المقصودة التي تؤثر سلبا في الأخبار التاريخية، وتوهمها صادقة وهي كاذبة، كثيرا ما يقع للرواة والمؤرخين، فيقعدهم عن النظر في الخبر والتثبت بالبراهين الواقعية من صحته. وهذا السبب رغم اتصاله بالناقلين، فإنه مختلف عن الثقة، لأنه لا يتعلق بالرواة بقدر تعلقه بالأخبار المروية، والمؤرخ الذي تلتبس لديه أمانة الرواة، بصفتها سمة أخلاقية، بصدق الأخبار المروية، بصفتها معلومات عن الوقائع الماضية، قد ينقلها كما أديت إليه، أو يمحصها قبل نقلها، إنما يتوهم الصحة فيما يحتمل الخطأ، لأن هؤلاء الرواة قد لا يكونون محصوا الأخبار المؤاداة إليهم، إما لأنهم اعتبروها صادقة، أو لأنهم التزموا نقلها كما هي، بصدق وأمانة، حتى وإن عملوا بأن هذه الأخبار ليست صادقة.
وقد يكون ابن خلدون فرّق بين توهم الصدق وبين الثقة بالناقلين، بصفتهما سببين في قبول الأخبار الكاذبة ونقلها، للإشارة «إلى الرواية الاعتيادية من جهة، والرواية المتواترة من جهة أخرى، (... )، فلا يبعد أن يكون قد أراد بذلك التنبيه إلى عدم جواز الثقة بالناقلين من جراء كثرتهم فقط، وإلى عدم جواز قبول الخبر من جراء كونه متواتراً فحسب» .
5- «الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه» .
وهو سبب غير مقصود، إذ لا مؤرخ يتوخى الحقيقة، يقبل لنفسه أن ينقل خبراً لا تربطه أية صلة بالواقع الذي أدَّى إليه. إنما يصور الخبر التاريخي الحوادث التي وقعت في المجتمع تصويراً يمكن معه، لمن يريد التثبت من صحته، أن يربط مضمون الخبر بالوقائع المشخصة بذاتها والتي لا تكون في غيره، فيتوجب على من يبتغي معرفة هذا الاجتماع، التوجّه إلى حقائقه واحدة واحدة، فينظر فيما يعرض لها، ويعمل على الربط بين كل حقيقة وعوارضها، حتى تصير لديه واضحة معروفة.
فإذا أخبر عنها بأمانة، ودون ذهول عن المقاصد، أمكن الناقل إذا أراد التأكد من صحة الخبر أن يطابقه على الواقع، أما إذا لبس الخبر على الناس لهذا الغرض أو ذاك، فإن الناقل يجد من الصعب تطبيقه على الواقع، ويجهل كيفية ذلك، لأن الخبر ذو مضمون كاذب مخالف للواقع. وقد يخص الدس والاصطناع الوقائع قبل الأخبار، لأن الوقائع ليست دائماً حقيقية، أي إنها ليست دائماً عارضة للمجتمع بذاته وبمقتضى طبعه، بل قد تكون مفتعلة لا علة لها متصلة بالطبيعة الاجتماعية. لهذا فإنها ملبسة وهمية لا تدخل فقط في عداد الوقائع التي ينبغي على المؤرخ ألا يعتد بها، بل أكثر من ذلك، فإنها مستحيلة الوقوع.
وقد يشاهد الممارس للعملية التاريخية وقائع من هذا النوع، فينخدع بها ويغفل عمَّا فيها من التلبيس، فإذا نقلها، فإنه يكون قد نقل واقعة غير حقيقية، فيأتي كذباً من حيث أراد أن يتوخى الصدق، ولم يجده نفعاً في ذلك شيئاً قصده السليم. ومثال ذلك النقود المزيفة، والمباني الأثرية والمعالم التاريخية المقلدة، والأعمال الفنية والأدبية والآثار الفكرية المنسوبة إلى غير أصحابها، أو إلى غير بيئتها الحقيقية، وهذه كلها قابلة للمشاهدة والوصف، مع أنها كاذبة مدلسة.
6- «تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقته، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه وثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل، ولا متنافسين في أهلها» .
وهو من الأسباب القصدية المؤدية إلى الأخطاء التاريخية، ذلك أن الرواة والمؤرخين الذين يرغبهم حب المال والجاه في الأخلاق الفاضلة، يجدون في حب الأثرياء والوجهاء والحكام للثناء فرصة سانحة لتملقهم والنفاق معهم، وتلفيق الأخبار التي تعطي عنهم وعن أسلافهم صورة حسنة، وترويج ذلك بين الناس حتى تبدو هذه الأخبار صحيحة ليس فيها اختلاق، عسى أن يظفروا منهم بمكانة أو خدمة أو ثروة أو جاه. فإذا غفل المؤرخ عن هذه المسألة عند نقله الأخبار الخاصة بأصحاب الجاه والمسؤولية والنفوذ، دون تمحيص، فإنه سوف ينقل ملقاً ونفاقاً وتكون أخباره مخالفة للواقع.
7- «الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً أو فعلاً، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفاً بطبيعة الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك، في تمحيص الخبر، على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض» .
إن هذا السبب، الذي هو الجهل بطبائع العمران، والذي ليس سبباً قصديًّا، هو أهم العوامل المحددة للأخطاء التاريخية، ويجعل الأخبار الواردة في كتب المؤرخين في الغالب عديمة الفائدة، لأنها أخبار لا مبتدآت لها، تمنح التاريخ ظاهره دون باطنه، كما حدّد ذلك ابن خلدون. ولم يكن للمؤرخين أن يظلوا جاهلين بحقيقة المجتمع، وما يعرض له من الأحوال، لو أنهم تجاوزوا مناهج العلوم النقلية إلى مناهج أكثر عقلانية، وميّزوا بين الإخبار عن الأحاديث الدينية والإخبار عن الوقائع التاريخية، فتوسلوا بقاعدتي التمحيص والتعليل، حتى لا يثبتوا من الأخبار إلَّا ما ارتبط موضوعيًّا بالعمران، واجتهدوا في معرفة الكيفيات التي حدّثت بها الوقائع، ليتميزوا ما هو جوهري من عوارض المجتمع مما هو عارض، وليخرجوا من دائرة الوقائع الاجتماعية أموراً لا تربطها بها أية صلة.
إن استجلاء الأخطاء التاريخية، سواء أكانت أسبابها قصدية أو لا قصدية، مسألة نقدية غاية في الأهمية، أوصلت ابن خلدون إلى معرفة أن أسلافه من المؤرخين لم يدركوا أهمية التفرقة بين المتغيرات التابعة، متمثلة في الأخبار المتواترة، وبين التغيرات المستقلة، متمثلة في الأحوال التي تعرض فعلاً للمجتمع وبصورة جوهرية، حتى يتبيّن لهم أن أخبارهم، التي أولوها القدر الأكبر من الاهتمام، لم يكن لها أن توجد إلَّا بوجود المجتمع وعلاقاته المعقدة، التي تفرز ظواهر موضوعية إلزامية، عواملها من ذات المجتمع وبموجب طبيعته، وأن هذه الظواهر، التي أسقطها المؤرخون من دائرة اهتماماتهم، لا يمكن أن توجدها أخبارهم، ولا يمكن لإرادتهم أن تمنعها من الوجود، وهي قائمة كما هي، مهما تجاهلتها منهم الأخبار. فإذا كان هناك شيء يستحق الاهتمام الأكبر، قبل الخبر التاريخي، فإنه العمران البشري، الذي يوجد الخبر التاريخي به، ويتغير بتغيره.
*خــاتـمـة
إن اعتبار المطابقة في الإخبار عن الوقائع، أي مطابقة الخبر التاريخي للوقائع الاجتماعية التي يتناولها بالدراسة والوصف والتحليل، وتمييز الوقائع الممكن حدوثها في الاجتماع الإنساني من الوقائع المستحيلة، والتفرقة بين الأحوال التي تلحق المجتمع لذاته وبمقتضى طبعه، من تلك التي تحدث فيه بصورة عارضة أو مؤقتة، أو لا تحدث إطلاقاً، واتخاذ ذلك قانوناً برهانيًّا أو معياراً، لتحري الصدق والصواب عند تدوين الأخبار، كلها أمور جديدة على عصر ابن خلدون. وهي من الابتكار ما إنها فاجأت صاحبها ذاته، لأنه وجد نفسه يتجاوز بها تصحيح الأخبار إلى الوقوف على علم قائم بذاته، مختلف في موضوعه ومسائله ومنهجه وغايته، ليس فقط عن علم التاريخ كما أراده ابن خلدون، بل حتى عن علمي الخطابة والسياسة. إنه «علم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي ما يلحقه من العوارض لذاته واحدة بعد الأخرى» ، وذو مناهج وهي ملاحظة العوارض كما هي، وربطها بالإطار الاجتماعي الذي تحدث فيه، ووصفها وتحليلها، وإثبات الارتباط بين العوارض وموضوعها، بكافة البراهين العقلية والتجريبية، ومقارنتها بشبيهاتها لتأكيد هذا الارتباط، حتى ينتهي الأمر بدارسها إلى فهمها على الحقيقة.
ولم يكن ابن خلدون يتوقع أنه سوف يقف على هذا الابتكار، إذ إن مجمل اهتمامه كان متوجّهاً إلى صياغة معيار نقدي، يتفادى به هو ومن يأتي بعده من المؤرخين، الأخطاء التي وقع فيها أسلافهم. ولكنه البحث المتواصل، والغوص في المسائل العلمية العويصة، الذي غالباً ما ينتهي بأصحابه إلى إبداع الفنون والعلوم والصنائع، ويزود المعارف القديمة بمعارف مستحدثة، كما تزودت العلوم العقلية الإسلامية بهذا العلم المستحدث الصنعة المستنبط النشأة، الغريب النزعة، الغزير الفائدة، والذي هو «علم العمران والاجتماع الإنساني»، أو «علم الاجتماع» بكل ما يدل عليه، من سعة معرفية ودقة منهجية، هذا المفهوم الخلدوني باختصار.