د.جميل حمداوي*
* كاتب وباحث من الجزائر.
*توطئــــة
يُعدّ التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يزال النقاش حول التراث مستمراً إلى يومنا هذا، من خلال طرح مفاهيمه ومصطلحاته الإجرائية، ورصد قضاياه الفكرية والمنهجية، وإبراز إشكالياته العويصة رؤيةً وموضوعاً ومنهجاً. ويتمظهر ذلك بشكل واضح في مختلف حقول العلوم الإنسانية و مجالات المعرفة الأدبية والفنية والفكرية؛ نظراً لأهمية التراث العربي الإسلامي في بناء الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة معرفيًّا وفكريًّا وتصوريًّا، ومدى دوره الكبير في الحفاظ على الهوية والذات والكينونة الوجودية، وكذلك نظراً لبعده الاستراتيجي في تحديد الانطلاقة الصحيحة من أجل تحقيق المشروع المستقبلي، وذلك بتشييد حداثة عقلانية متنورة، عبر ترسيخ ثقافة عربية أصيلة ومعاصرة. وبالتالي، فلن يتحقق ذلك إلَّا بالعودة إلى التراث العربي الإسلامي لغربلته من جديد، ونقد مواقفه فهماً وتفسيراً، بغية استكشاف المواقف الأيديولوجية الإيجابية لمواجهة الاستعمار من جهة، ومحاربة التخلّف من جهة ثانية، وتقويض النزعة المركزية الأوروبية من جهة ثالثة.
هذا، ويمكن الحديث عن قراءات متعددة للتراث العربي الإسلامي، منها: القراءة التراثية التقليدية كما عند العلماء السلفيين، وهم خريجو الجوامع الإسلامية (الأزهر - جامع القرويين - الزيتونة)، والقراءة الاستشراقية التي نجدها عند المستشرقين الغربيين من ناحية، والمفكرين العرب التابعين لهم توجهاً ورؤيةً ومنهجاً من ناحية أخرى، والقراءة التاريخانية كما عند المفكر المغربي عبدالله العروي، والقراءة السيميائية كما عند محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو...، والقراءة التفكيكية كما عند عبدالله الغذامي وعبدالكبير الخطيبي...، والقراءة التأويلية كما عند نصر أبو زيد ومصطفى ناصف...، والقراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري وإدريس بلمليح –مثلاً-.
وعلى الرغم من تعدّد القراءات والمقاربات المنهجية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي، فإنها قراءات نسبية، تحمل في طياتها نقطاً إيجابية من ناحية، ونقطاً سلبية من ناحية أخرى، وتحوي أيضاً في منظومتها الفكرية والنظرية والتطبيقية أبعاداً أيديولوجية مختلفة، ومقاصد مرجعية متباينة. وبعد ذلك، تصل هذه القراءات أو المنهجيات بشكل من الأشكال إلى حقائق احتمالية ونتائج نسبية، تختلف من قارئ إلى آخر. إذن، ما التراث لغةً واصطلاحاً؟ وما بدايات التفكير في التراث؟ وما نظرياته تصوراً ورؤيةً ومنهجاً؟ وما منهجية محمد عابد الجابري في قراءة التراث العربي الإسلامي؟ وما خصوصيات هذه القراءة ومميزاتها المعرفية والمنهجية؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول رصدها في ورقتنا هاته.
*مفهـــوم التــراث لغـــة واصطلاحا
من يتأمل الدلالة المعجمية لكلمة التراث، فسيجدها بطبيعة الحال مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليًّا بالإرث والميراث والتركة والحسب، وما يتركه الرجل الميت، ويخلّفه لأولاده. وفي هذا الإطار، يقول ابن منظور في كتابه «لسان العرب»: «ورث: الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثاً ورثةً ووراثةً وإراثةً. ورث فلان أباه يرثه وراثةً ومِيراثاً ومَيراثاً. وأورث الرجل ولده مالاً إيراثاً حسناً. ويقال: ورثت فلاناً مالاً أرثه ورثاً وورثاً إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك. وقال الله تعالى إخباراً عن زكريا ودعائه إياه: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}. أي: يبقى بعدي فيصير له ميراثي. والورث والإرث والتراث والميراث: ما ورث؛ وقيل: الورث والميراث في المال؛ والإرث في الحسب. وورّث في ماله: أدخل فيه من ليس من أهل الوراثة. وتوارثناه: ورثه بعضنا بعضاً قدماً. ويقال: ورثت فلاناً من فلان أي جعلت ميراثه له. وأورث الميت وارثه ماله. أي: تركه له. التراث: ما يخلفه الرجل لورثته، والتاء بدل من الواو. والإرث أصله من الميراث، إنما هو ورث، فقلبت الواو ألفاً مكسورة لكسرة الواو. أورثه الشيء: أعقبه إياه. وبنو ورثة: ينسبون إلى أمهم. وورثان: موضع» .
وهكذا، نستنتج أن كلمة التراث من مشتقات ورث، وأنها لم ترد بالمفهوم الثقافي والحضاري الذي التصقت به دلاليًّا كلمة التراث كما في عصرنا الحديث والمعاصر، بل وردت الكلمة بمفهومين: أحدهما مادي يتعلّق بالتركة المالية، وماله علاقة بالأصول والمنقولات، والثاني معنوي يرتبط بالحسب والنسب. بيد أننا نفهم أن علماءنا المحدثين وظّفوا التراث بمفهوم آخر، وهو: أن التراث كل ما خلّفه الأجداد للأحفاد على صعيد الآداب والمعارف والفنون والعلوم، أو هو بمثابة الذاكرة الثقافية والحضارية والروحية والدينية التي تبقى للأبناء والأحفاد من أجدادهم وآبائهم. ويعني هذا أن الدلالة الحديثة للتراث بمثابة توظيف مجازي للدلالة المعجمية القديمة.
ويرى الدكتور محمد عابد الجابري أن العرب القدماء لم يوظّفوا كلمة التراث بحمولته المعجمية الحديثة، ولم تستعمل هذه الدلالة إلَّا مع الفكر العربي الحديث والمعاصر: «أما في الفقه الإسلامي حيث عُني الفقهاء عناية كبيرة بطريقة توزيع تركة الميت على ورثته حسب ما قرّره القرآن في باب الفرائض، فإن الكلمة الشائعة والمتداولة لدى جميع الفقهاء هي كلمة «ميراث»، (بالإضافة طبعاً إلى: ورث، يرث، ورّث، توريث، الورثة... إلخ). أما لفظ التراث فلا نكاد نعثر له على أثر في خطابهم... وأما في الحقول المعرفية العربية الإسلامية الأخرى، مثل الأدب وعلم الكلام والفلسفة، فلا تحظى فيها كلمة تراث بأي وضع خاص، بل إننا لا نكاد نعثر لها على ذكر.
هذا، ويمكن أن نلاحظ، بالإضافة إلى ما تقدّم، أنه لا كلمة «تراث»، ولا كلمة ميراث، ولا أي من المشتقات من مادة (و. ر. ث )، قد استعمل قديماً في معنى الموروث الثقافي والفكري -حسب ما نعلم-، وهو المعنى الذي يعطى لكلمة «تراث» في خطابنا المعاصر. إن الموضوع الذي تحيل إليه هذه المادة ومشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائماً: المال، وبدرجة أقل: الحسب.
أما شؤون الفكر والثقافة، فقد كانت غائبة تماماً عن المجال التداولي، أو الحقل الدلالي، لكلمة تراث ومرادفاتها. فعندما يتحدّث الكندي –مثلاً- في مقدمة رسالته المعروفة بـ«كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، عن فضل القدماء، وواجب الشكر لهم، وضرورة الأخذ عنهم -في مجال العالم والفلسفة- لا يستعمل العبارة الشائعة لدينا اليوم، عبارة عن «تراث الأقدمين»، بل يستعمل تعابير أخرى مثل: «ما أفادونا من ثمار فكرهم»، وبالمثل نجد ابن رشد في كتابه: «فصل المقال» يستعمل في المعنى نفسه عبارات تخلو تماماً من كلمة «تراث» أو ما يرادفها. يقول مثلا: «فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك» .
وحتى لو تصفحنا قواميس اللغات الأجنبية للبحث عن كلمة التراث (Le patrimoine/ l’héritage)، فلن نجد دلالة هذه الكلمة بمعنى الموروث الثقافي والفكري والديني والمعرفي، بل نجد الدلالات نفسها التي وجدناها في المعاجم العربية، كالتركة والإرث والحسب، معتمدة في القواميس الفرنسية والإنجليزية. ويقول محمد عابد الجابري عن هاتين الكلمتين الأجنبيتين بأن معناهما: «لا يكاد يتعدى حدود المعنى العربي القديم للكلمة، والذي يحيل أساساً على تركة الهالك إلى أبنائه. نعم، لقد استعملت كلمة l’héritage بالفرنسية في معنى مجازي للدلالة على المعتقدات والعادات الخاصة بحضارة ما، وبكيفية عامة «التراث الروحي». ولكن، حتى في هذه الحالة، يظل معنى الكلمة فقيراً جدًّا بالقياس إلى المعنى الذي تحمله كلمة تراث في الخطاب العربي المعاصر. إن الشحنة الوجدانية والمضمون الأيديولوجي المرافقين لمفهوم التراث كما نتداوله اليوم، تخلو منهما تماماً مقابلات هذه الكلمة في اللغات الأجنبية المعاصرة التي نتعامل معها» .
ولكن هناك كلمات أجنبية يمكن أن تتضمَّن دلالة التراث بالمفهوم المعاصر، ككلمة الثقافة Culture، وكلمة المعرفي أو الإبيستمي Epistimé.
وإذا كان التراث بمعنى الذاكرة الشعورية واللاشعورية التي يخزنها الإنسان العربي المعاصر، فيمكن أن يكون أيضاً بمعنى المعرفة الخلفية التي توجه مسار المثقف ذهنيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا ومعرفيًّا ودينيًّا وفنيًّا وجماليًّا لمعرفة الحاضر، والاستهداء به للتكيف مع الواقع والآخر. وقد نعرف التراث تعريفاً عامًّا وجامعاً، فنقول: بأنه كل ما تركه الأجداد والآباء من معارف، وآداب، وعلوم، وتقنيات، وفنون، وتجارب دينية وروحية، وممارسات سياسية وقانونية، ودستورية وتنظيمية.
وإذا كان عابد الجابري يعرف التراث بأنه هو: «الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني» ، فإن أحمد العلوي يعرف التراث بأنه: «القرآن وكلام محمد (صلى الله عليه وسلم) لا غير» .
هذا، ومن المعلوم أن مصطلح التراث في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة مصطلح عام وغامض وفضفاض ومطاط، ومن الصعب الإحاطة به، وتطويقه بشكل دقيق؛ نظراً لتعدّد دلالاته، وتشعّب معانيه ومفاهيمه، واختلافها من مفكر إلى آخر، ومن مبدع إلى آخر. والسبب في ذلك التباين اختلاف المرجعيات الفكرية والذهنية، وتنوّع المشارب الثقافية، وتعدّد المقاربات المرجعية، وتناقض المنظورات الأيديولوجية. ولكن ما يمكن قوله: إن مصطلح التراث لم يطرح في ساحة النقاش الفكري والإبداعي إلَّا مع صدمة الحداثة، وتغلغل الاستعمار في العالم العربي الإسلامي، وتزايد منطق الاستغلال، وبروز ظاهرة الاستلاب والتغريب، وتفاقم المسخ الثقافي، بله عن ارتباطه بمناقشات المفكرين لجدلية الأصالة والمعاصرة، وظهور إشكالية الأنا والآخر، وطرح مفهوم الهوية والخصوصية الحضارية والثقافية.
ويعني هذا أن مصطلح التراث لم يوظّف إلَّا في الخطاب الفكري المعاصر. وهنا، يرى الدكتور سعيد بنسعيد أن التراث: «يستعمل في خطابنا المعاصر استعمالاً نهضويًّا، ويربط النهضة بالغربة في وعي الذات، وخاصة باعتباره نوعاً من ميكانيزمات الدفاع عن الذات، فإن التراث بالنسبة للنهضة ولفكر النهضة، وحتى الآن، يلعب دوراً إيجابيًّا...» .
وعليه، فالتراث في مفهومه البسيط والعادي هو الذاكرة الإنسانية بكل تجلياتها المعرفية، والتقنية، والعلمية، والثقافية، والأدبية، والفنية، والجمالية، سواء أكانت عبارة عن ثقافة شعبية، أم ثقافة عالمة، أم ثقافة رسمية.
* بدايات التفكير في التراث، وأهم نظرياته
من المعلوم أن الإنسان، ولا سيما العربي منه، لا يمكن أن يعيش دون تراثه وذاكرته وثقافته وفنونه وحضارته، وإلَّا أحس بالاغتراب الذاتي والمكاني، واستشعر النقص والانفصام والعزلة، واسترخص نفسه ازدراءً واحتقاراً. ويعلم الكل أن الإنسان المسلم قد عرف تراثاً زاخراً بالمنجزات الهائلة في شتى الميادين والمجالات، وصار يضرب به المثل في التقوى والعطاء والعلم والإنجاز والاختراع والابتكار. والسبب في هذا الازدهار الثقافي هو التمسك بالشرع الرباني قرآناً وسنة، واهتداء بطريقة الأسلاف إلى غاية العصور الوسطى، وبالضبط إبان فترة الدولة العباسية. بيد أن المسلمين سرعان ما تقهقروا وانحطوا؛ بسبب انشغالهم بهموم الدنيا، وترك الآخرة، فانهزموا هزيمة نكراء أمام المغول، فتضعضعوا انكساراً وتخلّفاً، ولا سيما مع استبداد الدولة العثمانية غطرسة وقهراً وعسفاً. ولم يستيقظوا من سباتهم إلَّا مع دوي مدافع الغرب، ليجدوا أنفسهم منبهرين بتقنيات الحداثة الغربية. فبدأ المفكرون والعلماء والمصلحون والمبدعون يطرحون سؤالاً مهمًّا وجوهريًّا، قد أسال الكثير من الحبر إلى يومنا هذا: لماذا تقدّم الغرب، وتأخّر المسلمون؟ وللإجابة عن هذا السؤال، طرحت إجابات عديدة من خلال رؤى مختلفة ومتباينة، ومنظورات ومناهج متعددة ومتنوعة.هذا، وقد ترتّب عن هذا السؤال أن طرحت للنقاش إشكالية الهوية والتبعية، وإشكالية الأصالة والمعاصرة، وجدلية الأنا والآخر، وإشكالية التقدّم والتخلّف... بل طرحت في المجال السياسي والاقتصادي: إشكالية التفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب، وتبعية دول المحيط لدول المركز.
علاوة على ذلك، فقد خصّص الفكر العربي المعاصر منذ القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ولا سيما الفلسفي منه، جل نقاشه للإجابة عن هذه الإشكاليات العويصة، لتبيان الطرائق التي سيتعامل بها مع الغرب من جهة، ومع الموروث العربي الإسلامي والعالمي والإنساني من جهة أخرى. ولقد امتد هذا النقاش أيضاً إلى الإبداع الأدبي والفني.
وعلى أي حال، فهناك ثلاث نظريات عامة حول التراث: نظرية تقديسية للتراث، وتسمى أيضاً بالرؤية السلفية القائمة على إحياء الماضي، وبعثه من جديد تمجيداً وتنويهاً وإشادةً. ونظرة تغريبية ليبرالية مغالية ترفض الرجوع إلى التراث، كما يتضح ذلك جليًّا عند سلامة موسى الذي قال: «إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، و ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء» . وهناك نظرية توفيقية تجمع بين إيجابيات العودة إلى الماضي وإيجابيات الانفتاح على الغرب. ويمثل هذا الموقف أغلب المثقفين العرب الأكاديميين المعاصرين.
* مفهوم التراث في الفكر العربي المعاصر
ثمة عدة رؤى ومنظورات متفاوتة ومختلفة ومتباينة حول مفهوم التراث، وثمة أيضاً تصنيفات عديدة استعرضها المثقفون العرب أثناء تعاملهم مع التراث. وقد برز الكثير من الباحثين والدارسين الذين يهتمون بالتراث، مثل: حسين مروة، والطيب التزيني، وعبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي، وغالي شكري، وزكي نجيب محمود، وأدونيس، ويوسف الخال، وحسن حنفي، ومحمد عمارة...
وهكذا، يرى عبدالله العروي صاحب التوجه التاريخاني -مثلاً- أن ثمة نوعين من المثقفين: مثقف سلفي ينظر نظرة تقليدية إلى التراث، ومثقف انتقائي يختار من التراث ما يعجبه، ويخدم رؤيته. لكن هذين الاتجاهين يغفل الجانب التاريخاني للتطور الحضاري والفكري، سواء أكان ذلك في الغرب أم عند العرب. فلا بد –إذن- من تبني المقاربة التاريخانية لعقلنة موروثنا الثقافي والحضاري، وتحقيق التقدّم الهادف والبناء. وفي هذا السياق، يقول عبدالله العروي: «الغالبية العظمى منهم بحسب المنطق التقليدي السلفي، والباقي بحسب منطق انتقائي، إلَّا أن الاتجاهين، يعملان على إلغاء البعد التاريخي، ولكن إذا محا المثقف التاريخ من فكره، فهل يمحوه من الحقيقة الواقعة؟ بكل تأكيد لا. إن التاريخ من حيث هو بنية ماضية - حاضرة يشكّل الشرط الحالي للعرب، تماماً بمقدار ما يشكل شرط خصومهم، وذلك أن الفكر اللاتاريخي لا يؤول إلَّا إلى نتيجة واحدة: عدم رؤية الواقع. وإذا ترجمنا هذا بعبارات سياسية، قلنا: إنه يوطد -في جميع المستويات- التبعية» .
ومن زاوية أخرى، يرى الباحث المصري الدكتور حسن حنفي أنه من الضروري العودة إلى الماضي لفهمه جيداً، واستيعابه بشكل متأنٍ وواع، وقراءته قراءة سياقية وظيفية، وذلك لفهم حاضرنا المعاصر، وتنويره بطريقة إيجابية بناءة وهادفة، قصد تحقيق أصالتنا من أجل السير به نحو التقدّم والازدهار. وفي هذا النطاق، يقول الدكتور حسن حنفي: «الحديث عن القديم يمكن من رؤية العصر فيه، وكلما أوغل الباحث في القديم، وفك رموزه، وحل طلاسمه، أمكن رؤية العصر، والقضاء على المعوقات في القديم إلى الأبد، وإبراز مواطن القوة والأصالة لتأسيس نهضتنا المعاصرة، ولما كان التراث يشير إلى الماضي، والتجديد يشير إلى الحاضر، فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان، وربط الماضي بالحاضر، وإيجاد وحدة التاريخ» .
ويرى حسن حنفي أيضاً أنه من الصعب الفصل بين ثنائية الأصالة والمعاصرة أثناء حديثنا عن التراث، فبينهما اتصال بنيوي عضوي، وجدلية مترابطة حاسمة: «إنما تعني الأصالة والمعاصرة وحدة باطنية عضوية بينهما، بحيث تتحقق وحدة شخصية في حياة الفرد والمجتمعات» .
ويذهب الدكتور عباس الجراري، ضمن منظوره التاريخي الجدلي، إلى القول بجدلية الماضي والحاضر والمستقبل، وترابط هذه الأزمنة في بوتقة واحدة لفهم ذواتنا، وفهم حقيقة الآخر، وفهم الطريقة التي نتعامل بها مع التراث: «إن الارتباط وثيق بين الماضي والحاضر والمستقبل في علاقة جدلية حتمية، تجعل الماضي منعكساً على الحاضر، ومؤثراً في المستقبل، وتجعل بذلك حركة التاريخ حركة كلية لا تتجزأ...» .
أما الباحث علي زيعور، فينظر إلى توظيف التراث نظرة سيكولوجية، وذلك باعتباره مؤشراً حقيقيًّا للدفء الذاتي، ومنبعاً للاستقرار والتوازن النفسي، ووسيلةً لتحقيق الشعور بالانتماء الحضاري والثقافي، وتوفير الراحة النفسية أثناء التعامل مع الآخر، فيقول علي زيعور بأن: «التشكيك بقيمة الموروث الحضاري عملية تزعزع الثقة بالنفس وبالنص؛ لأنها تخل بالتوازن بين الأنا وحقلها الحضاري الذي يعطي الإنسان عمقاً، وقيمةً، وشعوراً بالانتماء. ومن ثمة، بالأمن والاطمئنان. أي: بالقدرة على الاستمرار والتكيف» .
زد على ذلك، يرى أدونيس في معظم كتاباته، ولا سيما في كتابه: «الثابت والمتحول»، أن التعامل الحقيقي مع التراث العربي الإسلامي ينبغي أن يقوم على خلخلة هذا التراث، وغربلته غربلة جيدة في ضوء مناهج حديثة ومعاصرة، عن طريق قراءة واعية ومتعمقة، قائمة على التفكيك والتركيب، والبحث عن نقط التحول والتغير والمغامرة الحداثية في هذا الموروث الإنساني، مع إبعاد كل ما يمت بصلة إلى الدين والمقدس والثابت القيمي والأخلاقي. ويعني هذا أن أدونيس يدعو إلى قراءة للتراث، قائمة على التثوير والتغيير والتطوير. وإن كانت هذه القراءة الحداثية غير موضوعية إلى حد ما، لكونها خاضعة لمشرح التغريب والاستلاب والهدم؛ وتنطلق من مرجعية تفكيكية أجنبية، لا تعترف بالدين والقيم والأخلاق والأعراف .
* طرائــق التعامــل مع التراث
توجد ثلاث طرائق رئيسة في التعامل مع التراث العربي الإسلامي. وبالتالي، تتخذ هذه الطرائق –حسب محمد عابد الجابري- ثلاث صور منهجية، وهي: الطريقة التقليدية، والطريقة الاستشراقوية، والطريقة الماركسية. فالصورة الأولى هي صورة الطريقة التقليدية التي ترتكز على التعامل التراثي التقليدي مع التراث، كما يظهر ذلك جليًّا عند العلماء المتخرجين من المعاهد الأصيلة، كجامع القرويين بالمغرب، والأزهر بمصر، والزيتونة بتونس. ويتسم هذا التعامل مع ذلك التراث بالرؤية السلفية الماضوية، وغياب الروح النقدية العلمية، وفقدان النظرة التاريخية. ويعني هذا –حسب الجابري- «أن الصورة العامة التي نجدها عند هؤلاء عن المعرفة بالتراث، بمختلف فروعه الدينية واللغوية والأدبية، تقوم على منهج يعتمد ما سبق أن أسميناه بالفهم التراثي للتراث. الفهم الذي يأخذ أقوال الأقدمين كما هي، سواء تلك التي يعبرون فيها عن آرائهم الخاصة أو التي يرون من خلالها أقوال من سبقوهم. والطابع العام الذي يميز هذا النوع من المنهج هو الاستنساخ والانخراط في آفتين اثنتين: غياب الروح النقدية، وفقدان النظرة التاريخية. وطبيعي، والحالة هذه، أن يكون إنتاج هؤلاء هو «التراث يكرر نفسه»، وفي الغالب بصورة مجزأة ورديئة. ولا نحتاج إلى الوقوف هنا طويلاً مع هذه الصورة التقليدية من المعرفة بالتراث فهي معروفة جدًّا» .
ويعني هذا أن الصورة التقليدية تتسم بالطابع الديني الماضوي، وغياب النزعة النقدية الموضوعية، والارتكان إلى التعامل اللاتاريخي مع التراث العربي الإسلامي.
أما الصورة الثانية من صور قراءة التراث العربي الإسلامي، فهي الصورة الاستشراقوية، كما يظهر ذلك جليًّا لدى المستشرقين أو المستعربين الغربيين من جهة، أو الدارسين العرب التابعين لهم من جهة أخرى، فتمتاز هذه الصورة بتكريس النزعة الاستعمارية، ومعاداة العقلية السامية، والغضّ من قيمتها على المستوى المعرفي والعلمي، وترجيح كفة العقلية الآرية، ويتمظهر هذا واضحاً في عدم اعتراف بعض المستشرقين بالفلسفة الإسلامية، والانتقاص من علم الكلام والتصوف الإسلامي؛ لأن العقلية السامية غير قادرة على التجريد، والتركيب، وبناء الأنساق الفلسفية الكبرى وجوداً ومعرفةً وأخلاقاً، كما يذهب إلى ذلك المستشرق الألماني رينان. ومن جهة أخرى، تمسّك المستشرقون الغربيون منذ القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بالدفاع عن المركزية الأوروبية، باعتبارها نموذجاً للمعرفة والعلم والحقيقة، وقد انطلق هؤلاء الدارسون من مناهج فيلولوجية أو تاريخية أو ذاتية. ويعني هذا أن المستشرق صاحب المنهج التاريخي: «يفكر شموليًّا في الفلسفة الإسلامية لا بوصفها جزءاً من كيان ثقافي عام، هو الثقافة العربية الإسلامية، بل بوصفها امتداداً منحرفاً أو مشوهاً للفلسفة اليونانية. وبالمثل، يفكر في النحو العربي ومدارسه، يوجهه هاجس ربطها بمدارس النحو اليونانية في الإسكندرية أو برغام وبيان تأثرها بالمنطق الأرسطي، كما لايتردد في ربط الفقه الإسلامي، نوعاً من الربط، بالقانون الروماني وما خلفه في المنطقة العربية من آثار وأعراف» .
كما تعكس دراسات الباحثين العرب ذات الطابع الاستشراقي والاستغرابي مدى التبعية الثقافية والفكرية للغرب. ومن ثم، تعتمد هذه الصورة على الفهم الخارجي لمفهوم التراث. وفي هذا الصدد، يقول محمد عابد الجابري: «فالصورة العصرية الاستشراقوية الرائجة في الساحة الفكرية العربية الراهنة عن التراث العربي الإسلامي، سواء منها ما كتب بأقلام المستشرقين أو ما صنف بأقلام من سار على نهجهم من الباحثين والكتاب العرب، صورة تابعة. إنها تعكس مظهراً من مظاهر التبعية الثقافية، على الأقل على صعيد المنهج والرؤية» .
أما المستشرق الفيلولوجي الغربي، فيبحث عن جذور جينيالوجية (البحث عن الأصول) للثقافة العربية الإسلامية، فيعيدها إلى مصادر يونانية أو هندوأوروبية. ويعني هذا أن: «المستشرق المُغرم بالتحليل الفيلولوجي، فهو عندما يتجه إلى الثقافة العربية الإسلامية، بنظرته التجزيئية، لا يعمل على رد فروعها وعناصرها إلى جذور وأصول تقع داخلها، أو على الأقل مقروءة بتوجيه من همومها الخاصة، بل هو يجتهد كل الاجتهاد في رد تلك الفروع والعناصر إلى أصول يونانية، أو عندما تعوزه الحجة إلى أصول هندوأوروبية، الشيء الذي يعني المساهمة، ولو بطريقة غير مباشرة، في العملية نفسها، عملية خدمة «النهر الخالد»، نهر الفكر الأوروبي الذي نبع أول مرة من بلاد اليونان» .
أما المستشرق الذي يستخدم المنهج الذاتوي في دراساته وأبحاثه، فيميل إلى شخصيات معينة، فيتعاطف معها دفاعاً ومناصرةً ومآزرة، من دون أن يُدلي في ذلك بحجج موضوعية، ترجح وجهة نظره الصائبة، وتقنعنا بأطروحته الفكرية أو تصوراته الحجاجية. وفي هذا السياق، يقول محمد عابد الجابري: «أما المستشرق صاحب المنهج الذاتوي فإنه، على الرغم من تعاطفه مع بعض الشخصيات الإسلامية، كتعاطف ماسينيون مع الحلّاج، أو هنري كوربان مع السهروردي، فإنه يبقى مع ذلك موجهاً من داخل إطاره المرجعي الأصلي، إطار المركزية الأوروبية، مشدوداً إليه، غير قادر ولا راغب في الخروج عنه، أو القطيعة معه. إنه يتمرّد على حاضره الأوروبي، يتمسّك بماضيه، فيعيشه رومانسيًّا عبر تجربة هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات الروحانية في الثقافة العربية الإسلامية. وقد يذهب إلى أبعد من هذا فيطالب، من خلال تلك التجربة، استعادة روحانية الغرب مما لدى الشرق» .
ويعني هذا أن المستشرق الغربي حينما يطبق المنهج الذاتوي في تعامله مع التراث العربي الإسلامي، فإنه ينطلق في ذلك من رؤية رومانسية قائمة على الانبهار بسحر الشرق، والاندهاش بعجائبه الخارقة، كما تتعشعش في مخيلته الإثنوغرافية أو الفانطاستيكية.
أما الصورة الثالثة من صور التعامل مع التراث العربي الإسلامي، فهي الصورة الماركسية التي تعتمد على المادية التاريخية في تعاملها مع التراث، وهي صورة أيديولوجية لمفهوم التراث، وتشتغل بدورها ضمن الرؤية المركزية الأوروبية، ويمثل هذه النظرة على سبيل التمثيل: حسين مروة، والطيب التزيني، ومحمود إسماعيل عبد الرزاق –مثلاً-.... وتمتاز هذه الصورة الماركسية عن الصورة الاستشراقوية: «بكونها تعي تبعيتها للماركسية، وتفاخر بها. ولكنها لا تعي تبعيتها الضمنية للإطار نفسه الذي تصدر عنه القراءة الاستشراقوية لتراثنا. إن المادية التاريخية التي تحاول هذه الصورة اعتمادها، كمنهج مطبق، وليس كمنهج للتطبيق، مؤطرة هي الأخرى داخل إطار المركزية الأوروبية: إطار عالمية تاريخ الفكر الأوروبي، بل التاريخ الأوروبي عامة، واحتوائه لكل ما عداه، إن لم يكن على صعيد المضمون والاتجاه، فعلى الأقل، وهذا أكيد، على صعيد المفاهيم والمقولات الجاهزة.وهذا يكفي ليجعل الصورة الماركسية لتراثنا العربي الإسلامي تقوم هي الأخرى على الفهم من خارج لهذا التراث، مثلها مثل الصورة الاستشراقوية سواء بسواء» .
وعليه، فثمة-إذن- ثلاث طرائق في دراسة التراث العربي الإسلامي: الطريقة التراثية التي تقرأ التراث بالتراث، كما يتبيَّن ذلك جليًّا عند علماء الدين التقليديين الذين ينطلقون من تصورات تراثية أو سلفية، والطريقة الأيديولوجية التي تقرأ التراث من وجهة مادية تاريخية أو في ضوء مقاربة ماركسية، والقراءة الخارجية للتراث، كما عند المستشرقين وأتباعهم من المفكرين العرب الذين يقرؤون التراث، إما قراءة ذاتية، وإما قراءة فيلولوجية، وإما قراءة تاريخية، والغرض منها تقوية النزعة الاستعمارية من جهة، وتثبيت المركزية الأوروبية من جهة ثانية، وتكريس التبعية المستلبة من جهة ثالثة.
* منهجية عابد الجابري في التعامل مع التراث
يرى محمد عابد الجابري في دراساته الفكرية والفلسفية المختلفة أن التراث العربي الإسلامي يتمظهر بشكل جلي في العقيدة، والشريعة، واللغة، والأدب، وعلم الكلام، والفلسفة، والتصوف... ويمتد من القرن الأول حتى قبل عصر الانحطاط، دون تحديد دقيق لبدايته، نظراً لاختلاف العلماء حول بداية تراجع المسلمين وانحطاطهم. ولكن ما يهمنا -يقول الجابري-: «هو اتفاق الجميع على أن التراث هو من إنتاج فترة زمنية تقع في الماضي، وتفصلها عن الحاضر مسافة زمنية ما، تشكّلت خلالها هوة حضارية فصلتنا، ومازالت تفصلنا عن الحضارة المعاصرة، الحضارة الغربية الحديثة.ومن هنا، ينظر إلى التراث على أنه شيء يقع هناك. فعلا، مايميز التراث العربي الإسلامي في نظرنا هو أنه مجموعة عقائد ومعارف وتشريعات ورؤى، بالإضافة إلى اللغة التي تحملها وتؤطرها، تجد إطارها المرجعي التاريخي والإبستمولوجي في عصر التدوين (القرن الثاني والثالث للهجرة) وامتداداته التي توقفت آخر تموجاتها مع قيام الإمبراطورية العثمانية في القرن العاشر للهجرة (السادس عشر للميلادي). أي: مع انطلاق النهضة الأوروبية الحديثة. وإذن، فالتراث العربي الإسلامي -منظوراً إليه من داخل منظومة مرجعية تتخذ الحضارة الراهنة، حضارة القرن العشرين، نقط إسناد لها-هو إنتاج فكري وقيم روحية دينية وأخلاقية وجمالية... إلخ، تقع هناك فعلاً. أي: خارج الحضارة الحديثة، ليس فقط بوصفها منجزات مادية وصناعية، بل أيضاً بوصفها نظماً معرفية ومنظومات فكرية وأخلاقية وجمالية...إلخ. وبما أننا نعيش هذه الحضارة –على الأقل منفعلين إن لم نكن مستلبين- ونحلم بالانخراط الواعي الفاعل فيها، فإنه لا بد من أن نشعر -وهذا ما هو حاصل فعلاً- أننا نزداد بعداً عن تراثنا بازدياد ارتباطنا مع هذه الحضارة، وإن المسافة بين هناك وهنا تزداد اتساعاً وعمقاً. وهذا الشعور يغذي في فريق منا الحنين الرومانسي إليه، وفي الوقت نفسه، ينمي في فريق آخر منا الرغبة في القطيعة معه، والانفصال التام عنه» .
زد على ذلك، يرى محمد عابد الجابري أنه من المستحيل تحقيق نهضة عربية إسلامية معاصرة، دون أن ننطلق من تراثنا العربي الإسلامي، أو ننتظم داخل تراث غيرنا، بل علينا أن نقرأ تراثنا بأدوات جديدة، وبعقلية معاصرة، تنطلق من تصورات بنيوية داخلية، واستقراء لحيثيات الموروث مرجعيًّا وتاريخيًّا، قصد استقراء أبعاده الأيديولوجية لمحاربة التخلّف، ومواجهة طغيان الاستعماري، وتقويض النزعة المركزية الأوروبية فضحاً وتعريةً وتفكيكاً. وكل هذا من أجل تشييد ثقافة عربية أصيلة مستقبلية، تكون أرضية ممهدة لانطلاقنا حيال المستقبل، فلا بد –إذن- من خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، بشرط أن تكون قراءتنا موضوعية قائمة على الاستمرارية والتأويل المعقلن، وذلك في ضوء تصورات معاصرة متجددة. علاوة على ذلك، لا يمكن أن تتحقق النهضة الفكرية إلَّا بالتعامل مع التراث داخل الثقافة نفسها، بممارسة نقد الماضي والحاضر معاً: «إنه بممارسة العقلانية النقدية في تراثنا وبالمعطيات المنهجية لعصرنا، وبهذه الممارسة وحدها، يمكن أن نزرع في ثقافتنا الراهنة روحاً نقديةً جديدةً وعقلانيةً مطابقة، وهما: الشرطان الضروريان لكل نهضة» .
وعلى وجه العموم، يرى محمد عابد الجابري بأن تعامل المفكر العربي مع التراث يطرح مشكلين متلازمين، وهما: مشكل الموضوعية.أي: كيف يمكن فصل الذات عن الموضوع في التعامل مع تراثنا العربي الإسلامي، وكيف يمكن تحقيق العلمية الحقيقية في التعامل مع الظاهرة التراثية، دون أن تكون الذات حاضرة في التعامل معها تعاطفاً وتآزراً ودفاعاً. وثانياً، هناك مشكل الاستمرارية، بمعنى أن التراث مازال مستمراً وممتداً في ثقافتنا المعاصرة، ومازال يحتاج إلى تجديد وقراءات مغايرة لفهمه وتفسيره، وتمثل إيجابياته ومواقفه الأيديولوجية الهادفة والبنّاءة. وفي هذا الإطار، يقول الجابري: «ولكن لماذا الاستمرارية؟
أولاً: لأن الأمر يتعلّق بتراث هو تراثنا نحن، فهو جزء منا أخرجناه عن ذواتنا لا لنلتقي به هناك بعيداً عنا، لا لنتفرج عليه تفرج الأنثروبولوجي في منشأته الحضارية والبنيوية، ولا لنتأمله تأمل الفيلسوف لصروحه الفكرية المجردة، بل فصلناه عنا من أجل أن نعيده إلينا في صورة جديدة، وبعلاقات جديدة، من أجل أن نجعله معاصراً لنا على صعيد الفهم والمعقولية، وأيضاً على صعيد التوظيف الفكري والأيديولوجي. ولم لا إذا كان هذا التوظيف سيتم بروح نقدية ومن منظور عقلاني؟» .
ومن ثم، فقراءة عابد الجابري للتراث قراءة ثلاثية الأبعاد منهجيًّا، ويعني هذا أن قراءة الجابري لها صورة بنيوية تكوينية، تستند إلى ثلاث خطوات منهجية أساسية، وهي: الطرح البنيوي الداخلي، والطرح التاريخي، والطرح الأيديولوجي. والآتي، أن المعالجة البنيوية الداخلية تنطلق من النص كألفاظ أولاً، ومعانٍ ثانياً، وقضايا وإشكاليات ثالثاً. بمعنى أن نتعامل مع النص كمعطى، ولا نهتم بالأحكام الخارجية المسبقة حول التراث، أو الانسياق شعوريًّا أو لا شعوريًّا وراء الرغبات الحاضرة، فلا بد من الانطلاق من النصوص فهماً وتفسيراً وتأويلاً. وفي هذا النطاق، يقول الجابري عن المعالجة البنيوية بأنها تعني: «ضرورة وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا التراث بين قوسين، والاقتصار على التعامل مع النصوص، كمدونة، ككل تتحكم فيه ثوابت، ويغتني بالتغيرات التي تجري عليه حول محور واحد. هذا يقتضي محورة فكر صاحب النص (مؤلف، فرقة، تيار...) حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك بها ومن خلالها فكر صاحب النص، بحيث تجد كل فكرة من أفكاره مكانها الطبيعي (أي المبرر أو القابل للتبرير) داخل الكل. إن القاعدة الذهبية في هذه الخطوة الأولى هي تجنّب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (الألفاظ كعناصر في شبكة من العلاقات، وليس كمفردات مستقلة بمعناها). يجب التحرّر من الفهم الذي تؤسّسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة. يجب وضع كل ذلك بين قوسين، والانصراف إلى مهمة واحدة هي استخلاص معنى النص من النص نفسه. أي: من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه» .
أما الخطوة الثانية من المنهجية في التعامل مع التراث، فتستند إلى قراءة فكر صاحب النص قراءة تاريخية، تتكئ على استقراء الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في فهم أطروحاته وتفسيرها. إن: «هذا الربط –يقول الجابري- ضروري من ناحيتين: ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس وجينيالوجياه، وضروري لاختبار صحة النموذج (البنيوي) الذي قدمته المعالجة السابقة. والمقصود بالصحة هنا ليس الصدق المنطقي، فذلك ما يجب الحرص عليه في المعالجة البنيوية، بل المقصود الإمكان التاريخي: الإمكان الذي يجعلنا نتعرف على ما يمكن أن يقوله النص، وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله، ولكن سكت عنه» .
أما القراءة الثالثة من خطوات منهجية الجابري، فهي خطوة الطرح الأيديولوجي، بمعنى البحث عن الوظيفة أو الوظائف الأيديولوجية التي يؤدّيها الفكر المعني داخل سياقه الدلالي والتاريخي والمرجعي، أو داخل المنظومة المعرفية التي يشتغل فيها صاحب النص. فالكشف: «عن المضمون الأيديولوجي للنص التراثي هو الوسيلة الوحيدة لجعله معاصراً لنفسه، لإعادة التاريخية إليه» .
ويلاحظ أن هذه الخطوات متتابعة ومتعاقبة: مرحلة التحليل البنيوي الداخلي، ومرحلة التحليل التاريخي الخارجي، ومرحلة التأويل الأيديولوجي. ويعني هذا أن محمد عابد الجابري متأثر بطريقة من الطرائق بتصورات لوسيان كولدمان (Lucien Goldmann) صاحب البنيوية التكوينية ، والذي يعتمد في قراءته للآداب والظواهر السيوسيولوجية على مبدأين: الفهم والتفسير. بمعنى أن لوسيان كولدمان يقرأ النص قراءة داخلية كلية لاستخلاص البنية الدالة، ثم يقوم بتفسيرها في ضوء المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك من أجل الوصول إلى الرؤية للعالم التي يتضمنها النص المعطى، وهي رؤية أيديولوجية ليس إلَّا. كما يتأثر محمد عابد الجابري ببول ريكور (Paul Ricoeur) الذي يدعو إلى الجمع بين الطرح البنيوي الداخلي، والقراءة السياقية المرجعية التي تهتم بالذات والمقصدية والإحالة. ويعني هذا أن الجابري يجمع بين الذات والموضوع، وبين الداخل والخارج.
وتأسيساً على ما سبق، يقول محمد عابد الجابري بأن هناك: «ثلاث خطوات متداخلة، ولكننا نعتقد أنها يجب أن تتعقب بهذا الترتيب حين ممارسة البحث. أما عند صياغة النتائج، فإن بيداغوجية الكتابة، تقتضي في المرحلة الراهنة على الأقل، الأخذ بيد القارئ من باب التحليل التكويني والطرح الأيديولوجي، والانتهاء إلى الصرح البنيوي. تلك هي عناصر اللحظة الأولى من المنهج الذي نقترحه ونحاول تطبيقه: لحظة الموضوعية أو تحقيق الانفصال عن الموضوع. أما اللحظة الثانية لحظة الاتصال به، والتواصل معه، فتعالج، كما أشرنا من قبل، مشكل الاستمرارية» .
ويعد كتاب «نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري نموذجاً لهذه المنهجية ذات البعد الثلاثي (قراءة بنيوية داخلية، وقراءة تاريخية، وقراءة أيديولوجية)، بغية تقديم قراءة معاصرة للفلسفة الإسلامية مشرقاً ومغرباً، من خلال التركيز على بعض الفلاسفة، مثل: الفارابي، وابن سينا، وابن باجة، وابن رشد، وابن خلدون. كما يدافع الكتاب عن مدرسة فلسفية مغربية معروفة بإشكالية التوفيق بين الشرع والفلسفة، في مقابل مدرسة مشرقية معروفة بالتلفيق بين الشرع من جهة، والفلسفة من جهة أخرى. ويعني هذا إذا كانت الفلسفة المشرقية -كما هي عند الفارابي وابن سينا- قائمة على فلسفة الاتصال بين النص والعقل، والخلط بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي، من خلال استحضار أفلوطين المثالي الهرمسي أثناء عملية التوفيق، والوقوع في التلفيق أثناء المؤالفة بين الحكمة والشريعة، فإن فلاسفة المغرب قد انطلقوا منذ البداية من أن الفلسفة ليست هي الشريعة، ولكن هدفهما واحد، مادام الشرع يدعو إلى استخدام العقل والنظر البرهاني، فكذلك الحكمة أو الفلسفة، فهي تنادي إلى استخدام العقل في معرفة المصنوعات، ومعرفة الصانع. ومن هنا، فالدين ليس هو الفلسفة، ولكن يتفقان من حيث الهدف، ألا وهو استخدام العقل. وبما أن هدفهما واحد، فلا بأس من الاستعانة بعلوم الأوائل، ودراسة الفلسفة والمنطق كما لدى اليونان، وهذا ما يذهب إليه ابن رشد كذلك.
ويعني هذا أن فلاسفة الغرب الإسلامي –حسب محمد عابد الجابري- بعمليتهم التوفيقية هاته، والقائمة على الفصل بين الشرع والفلسفة، قد أسسوا بشكل من الأشكال مدرسة فلسفية مغربية مستقلة، تتميز كثيراً عن المدرسة الفلسفية المشرقية التي سقطت في التلفيق والخلط المنهجي، وتوظيف المؤثرات الدينية الهرمسية والغنوصية والأفلوطينية... وقد اتَّضحت هذه المدرسة الفلسفية المغربية مع ابن رشد على سبيل الخصوص. وفي هذا النطاق، يقول الجابري: «ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد الدولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة -أو المدارس- الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك. لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، خاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعاراً لها: «ترك التقليد والعودة إلى الأصول». ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول... ولفلسفة أرسطو بالذات.
إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى ما اصطلح على تسميته بـ«الفلسفة الإسلامية» أو «الفلسفة في الإسلام»، لا ينبغي أن يخفي عنا «انفصالاً» أعمق بينهما. لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، الموضوعات نفسها، وتناولوا المشاكل نفسها، ولكن ما يميز فكراً فلسفيًّا معيناً -كما يقول برييه- ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، «إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الروح التي يصدر عنها، والنظام الفكري الذي ينتمي إليه». ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية» . إذن، هناك قطيعة إبستمولوجية بين المدرستين: المغربية والمشرقية في مجال الفلسفة، وذلك على مستوى الطرح النظري، وعلى مستوى المنهج والمعالجة، وعلى مستوى البعد المرجعي والأيديولوجي.
وهكذا، يتبيَّن لنا أن محمد عابد الجابري كان يقرأ المدرستين الفلسفيتين: المشرقية والمغربية، من خلال التركيز على الإشكاليات الفكرية، والاستقراء التاريخي، واستكشاف الأبعاد الأيديولوجية. ويتجلى هذا أكثر حين قراءته لفلسفة ابن طفيل أيديولوجيًّا: «ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية. لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك، وعاد إلى جزيرته. الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة. أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة» .
وتتضح قراءة الجابري المنهجية بخطواتها الثلاث واضحة بشكل جلي وبيِّن، حين قراءته لفلسفة ابن رشد، من خلال التشديد على عقلانيته، وفلسفة التوفيق لديه، مع ربط ذلك بالمعطى التاريخي للغرب الإسلامي، ورصد تصور ابن رشد الأيديولوجي، انطلاقاً من رؤية تاريخية معاصرة: «الخطاب الفلسفي الرشدي عقلانية نقدية واقعية. لقد تحرّر ابن رشد: معرفيًّا من هيمنة الجهاز الإبستمولوجي الذي كرّسته في المشرق مدرسة حران بكيفية خاصة والأفلاطونية الجديدة بكيفية عامة، وأيديولوجيًّا من العوامل الاجتماعية - التاريخية التي صاغت حلم المدينة الفاضلة الفارابية والحكمة المشرقية السينوية، فاتجه إلى معالجة العلاقة بين الدين والفلسفة بعقلانية واقعية تحفظ لكل من الدين والفلسفة هويته واستقلاله، وتسير بهما في اتجاه واحد، اتجاه البحث عن الحقيقة.
إنه جزء من خطاب عقلاني واقعي نقدي تميَّز به الفكر العربي الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحدين، خطاب كان هو الآخر مظهراً من مظاهر الصراع السياسي الصامت أحياناً، المتفجر أحياناً بين مشرق الخلافة العباسية والفاطمية من جهة، ومغرب خرج هو والأندلس عن سلطة الخلافة منذ بداية الدولة العباسية نفسها. إن الحذر في المجال السياسي يتحوّل إلى نقد في المجال الفكري. إن الواقعية النقدية الرشدية لم تكن امتداداً للنزعة نفسها لدى ابن باجة وابن طفيل وحسب، بل كانت تتويجاً لتيار نقدي ظل يتحرك في اتجاه واحد، اتجاه رد بضاعة الشرق إلى المشرق في الفقه مع ابن حزم الظاهري، وفي النحو مع ابن مضاء القرطبي، وفي التوحيد (الكلام) مع ابن تومرت، وفي الفلسفة مع ابن رشد» .
وهكذا، يستند الجابري في قراءته لفلسفة ابن رشد إلى استكشاف القضايا والمفاهيم الكبرى في فلسفته العقلانية، كقضية التوفيق بين الدين والفلسفة، واستقراء الظروف التاريخية التي عرفها المشرق والمغرب على حدٍّ سواء، من أجل عقد مقارنة فكرية ومنهجية بين فلسفة الشرق وفلسفة الغرب الإسلامي، مع رصد كل الأبعاد الأيديولوجية التي كانت تعبر عنها فلسفة ابن رشد التوفيقية.
* تقـــويم قراءة عابد الجابري
يتبيّن لنا، مما سبق قوله، أن قراءة محمد عابد الجابري للتراث العربي الإسلامي قراءة بنيوية تكوينية قائمة على استقراء الداخل النصي، واستكشاف المرجع الخارجي التاريخي والأيديولوجي. بيد أن ما يؤخذ على الجابري موقفه من المستشرقين، حيث يعتبر رؤيتهم في التعامل مع التراث رؤية سلبية، إما تاريخية، وإما ذاتوية، وإما فيلولوجية. بيد أننا نجد من المستشرقين من كان موضوعيًّا في تعامله مع التراث العربي الإسلامي، بل هناك من دافع عن هذا التراث بطريقة علمية، فبيّن أثر الحضارة العربية الإسلامية على الغرب كلّه، كما فعلت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (Sigrid Hunke) في كتابها: «شمس العرب تسطع على الغرب» . كما أن كثيراً من هؤلاء المستشرقين قد حققوا النصوص التراثية تحقيقاً علميًّا وموضوعيًّا، ولولا هذا التحقيق لما استطعنا الوصول إلى كثير من المؤلفات العربية الإسلامية الرائدة، وهذا ما يتجلى بيِّناً في مجال تحقيق الدواوين والمخطوطات والنصوص الأدبية. ويعني كل هذا أن المستشرقين خدموا تراثنا بشكل من الأشكال، ومهما كانت نواياهم سلبية أو إيجابية. ولم لا نستفيد من مناهج المستشرقين والماركسيين في التعاطي مع النصوص التراثية؛ فهي قد تساعدنا بحال من الأحوال في فهم بعض الجوانب من هذا التراث الإنساني؟
وحينما يتكئ محمد عابد الجابري منهجيًّا على البنيوية التكوينية، فإنه لا يأخذها بحذافيرها، كما هي واضحة بيّنة عند صاحبها لوسيان كولدمان، بل يأخذ روحها العامة ومنظورها الفلسفي، دون الأخذ بمفاهيمها الإجرائية، كالفهم والتفسير، والتماثل، والبنية الداخلية، والرؤية للعالم... فهو يأخذ منها تصورها الجزئي، دون أن يستلهم مبدأ التماثل الذي يعني تجاوز القراءة الانعكاسية المباشرة، والانتقال إلى قراءة تماثلية يتطابق فيها الداخل مع الخارج، ولكن بطريقة غير مباشرة. كما أن قراءة الجابري قائمة على تعدد المناهج: المنهج البنيوي، والمنهج التاريخي، والمنهج الأيديولوجي. ويعني هذا أن ثمة تنافراً بين هذه المناهج، فكيف يمكن الجمع بين المنهج البنيوي الداخلي مع المنهج التاريخي والمنهج الأيديولوجي باعتبارهما منهجين خارجيين؟ كما أن البنيوية –نظريًّا ومنهجيًّا- لا تتعامل مع العتبات الخارجية كصاحب النص والمعاني المباشرة، بل تنطلق من قراءة المفاهيم الشكلية للوصول إلى الدلالات الثابتة، عبر علاقات الاختلاف والتضاد والتناقض. في حين، نجد لدى الجابري تلفيقاً منهجيًّا واضحاً من خلال الجمع بين مناهج متداخلة ومتنافرة إبستمولوجيًّا رؤيةً وإجراءً وتصوراً.
وهناك سؤال آخر ملح ولافت للانتباه، فهل يمكن أن يكون التراث بالفعل نقطة انطلاق إيجابية لنهضتنا العربية الحديثة والمعاصرة؟ ألا يمكن أن يكون تراثنا عائقاً أمام تحقيق نهضة علمية تكنولوجية سريعة؟ والآتي، أنه كم سيستغرق تفكيرنا في إشكالية التراث؟ لأننا ضيعنا وقتاً كثيراً في معالجة إشكالية التراث، ومناقشة ثنائية الأصالة والمعاصرة. وبالتالي، لم نصل إلى نتائج حسية ملموسة، أو نتائج يقينية لها مردودية فعالة في واقعنا الاجتماعي والثقافي والفكري والسلوكي. وفي هذا الصدد، يقول الباحث اللساني المغربي عبد القادر الفاسي الفهري: «إنه يمكن أن يتوخّى من التراث انطلاق النهضة. كذلك يمكن أن ننظر إلى التراث كعائق للنهضة. وهذا شيء ليس من باب التمني، ولا من باب عدم التمني، ولكنه شيء موجود وفعلي، وهو أن التراث في كثير من الأحيان عائق لهاته النهضة، وفي المجال اللغوي والمجال اللساني أتحدث عن تجربة. كانت الدعوة إلى التراث، في كثير من الأحيان، ومازالت، عائقاً للتطوّر وللتصوّر ولحل مشاكل اللغة العربية، فمشاكل اللغة العربية الفعلية يمكن أن نتحدث عنها، وأن نقف عندما يقدم لنا التراث من حلول لها إذا أردنا، مثلاً، أن نضع كتاباً مدرسيًّا، كتاباً لقواعد اللغة العربية، فما الحلول التي يقدمها لنا التراث؟ وما الحلول التي يمكن أن نستخلصها من اللسانيات الحديثة؟إذا أردنا أن نحل مشكل التعريب، وهو مشكل فعلي، ما التنظير أو ما المنهج الذي يمكن أن يأتي عبر التراث؟ إن التراث في كثير من الأحيان، يجعلنا نتأخر عن ظرفنا، ونبقى دائماً في زمان التراث لا زماننا الحالي والمستقبلي. هناك تراجع وعدم ولوج التاريخ» .
وعليه، فهناك –إذن- انتقادات لتصورات الجابري تتعلق بالمنهج من جهة، وانتقادات تتعلق بإشكالية التراث من جهة ثانية.
* خلاصــــة تركيبيـــة
وخلاصة القول، يتبيّن لنا أن منهجية محمد عابد الجابري في تعامله مع التراث العربي الإسلامي، وبالأخص في مجال الفكر والفلسفة، منهجية بنيوية تكوينية تعتمد على خطوات ثلاث، وهي:
أولاً، المعالجة البنيوية الداخلية التي ترتكز على استقراء دلالات الألفاظ والمفاهيم، واستكشاف المعاني والمعطيات الدلالية، وتحديد القضايا والإشكاليات.
وثانياً، المعالجة التاريخية التي تعنى بتبيان الأبعاد التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي أفرزت هذه الإشكاليات الفكرية والفلسفية المطروحة من قبل صاحب النص.
وثالثاً، الوظيفة الأيديولوجية التي يحويها النص أو المعطى الدلالي أو الفكري الداخلي .
ومن هنا، فمنهجية الجابري تقوم على مجموعة من المبادئ الرئيسية، وهي: ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث، وفصل المقروء عن القارئ لتحقيق الموضوعية، ووصل القارئ بالمقروء لتحقيق الاستمرارية، والاعتماد على رؤية منهجية قائمة على وحدة الفكر ووحدة الإشكالية، والانطلاق من تاريخية الفكر برصد الحقل المعرفي والمضمون الأيديولوجي، وذلك حين التعامل مع الفكر الإسلامي والفلسفة على سبيل التخصيص.