هل هو ضرب من الطباق البلاغي إذن، أم أنهما المتضايفان المنطقيان، أم أنه المتخيل الذي يعبث بوعينا بحقيقة الزمان وسيولة تعريفه كتعبير عن صيرورة سيالة، أو كبعد رابع بلغة الفيزياء النسبية؟ لا نقصد هذا ولا ذاك. لأننا إن فعلنا ذلك واستدرجتنا فتنة الزمان؛ ذلك الطيف الهارب، فلن نخرج إلى واقعنا، وسيسقط منا الحاضر سهواً لأن الحاضر ما هو في نهاية المطاف إلاَّ لحظة تأملنا في الزمان نفسه. إنه اللحظة التي تمكننا من أن نرى الزمان يتحرك في اتجاهين اثنين، أحدهما إلى الماضي السحيق والثاني إلى المستقبل. إذن ما هو الحاضر؟! وعليه، ندرك أن تعريف الزمان مستحيل، لأنه على الأقل يؤدي إلى دور منطقي. طالما أن الزمان لا يمكن تعريفه إلا بالزمان. فالمسألة تأخذ الصور التالية:
ـ ما هو الزمان ؟
إنه محض تخارجات ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل
ـ ما هو الماضي؟
إنه ما يقع قبل الحاضر.
ـ وما هو الحاضر؟
إنه ما يقع قبل المستقبل، أي ماضي المستقبل.
سنحاول أن نجيب بشكل مختلف:
ـ ما هو المستقبل؟
إنه ما يكون الحاضر بالنسبة إليه هو الماضي.
ـ وما هو الماضي ؟
إنه ماضي؛ ماضي المستقبل.
يبدو أن الماضي والمستقبل يعرفان بعضهما على أساس أنهما متضايفان.
فالزمان هنا يعرِّف نفسه بواسطة تخارجاته. إذن، الفلسفة والتجريد لا يعرفان الزمان، بل يزيدانه غموضاً.
الفيزياء نفسها تلهو بالزمان وتنظر إليه كإجرائية بحثية. الزمان هو بعد. وهذا البعد يتعرف من خلال تخارجاته. لكن ما معنى الزمان في الخبرة الجماعية؟ الزمان التاريخي هل هو كرونولوجيا؟ لا ندري كم استغرق تاريخ تدجين الحصان؟ واكتشاف النار؟ لكن غياب التاريخ يجعل من ذلك كما لو أنه جرى كلمح من البصر في تاريخ الشعوب. الزمان الاجتماعي هو زمان حركة الأمم، يتحدد بإنجازاتها. هناك عصور قديمة وعصر وسيط وعصر حديث. هنا يتوقف الزمان الكرونولوجي، فلا قيمة للتاريخ الغريغوري في عمر النهضات والحضارات. وعليه فهناك في زماننا الحديث من يعيش تاريخياً على شروط الازمنة القديمة. عصر وسيط لا يزال يحتفظ بملامحه في عصرنا الحديث. هل لازلنا إذن مصرين على أن نتحدث عن ماضٍ وحاضر ومستقبل كتاريخ كرونولوجي. إن الموجة التي تغزوا عصرنا ومجتمع المعرفة الذي يفرض نفسه نمطاً للحاضر والمستقبل يمثل طفرة جديدة ليس بالإمكان تحقيبها على النمط القديم فحتى تحقيب الإنجازات يجب أن يتجاوز لغة السنين والحساب. ليصبح تاريخ إنجاز أمم.
إن الأزمان هنا في حياة الأفراد النوعيين كحال الاجتماع يحقّب بالإنجازات لا بالأرقام. ومن توقف إنجازه ساوى صفراً في حساب التقدم الحضاري. إنه الموت الحضاري حتماً. فهل المجتمع العربي اليوم وقد بات خاوي الوفاض لا يملك من الإنجاز إلا استحضاراً وتبعيةً وتقليداً وانغلاباً، هل هو في حكم الميت؟ لا جدال في ذلك. إن العالم العربي اليوم يتأرجح بين تخارجات هذا الزمان الممنوح من كل الجهات؛ فهو عالة على ماضيه الذي أبدع فيه أجداده وما قصّروا. وهو في الحاضر عالة على حداثة غيره، وليس له من المستقبل سوى حلم هو نفسه حلم ممنوح لأن العرب لم يعد في مكنتهم الحلم باستقلال. إن تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 و 2003 خير مؤشر على أننا ندخل مستقبلنا القهقرى، بل وهو مؤشر على إفلاس في فلسفة الزمان عندنا. لقد عشنا عقوداً من الأحلام الأيديولوجية العربية. ويوم فكّرنا في أن نكتب تقريراً عن تنميتنا البشرية وجدنا أنفسنا كيانات موجوعة ومهزومة. لكنها تواجه انجراحات الفشل بتعويضات طفالية وتحجب شمس الحقيقة بالغربال.
إن الحديث عن المستقبل العربي، حديث ذو شجون. والمستقبليات العربية هي جزء من واقعنا المتردي. إنها مستقبليات لا ترى الواقع كما هو وفي شموليته. إنها مستقبليات متخلفة، تَخَلُفَ وعينا ووجداننا العربيين. لم يعد المستقبل مسألة اختيارية؛ ولذا كان متعيناً أن تصبح مستقبلياتنا مستقبلية لا ماضوية.
في هذا الملف مجموعة من المقالات والحوارات، تتمحور حول موضوع التربية والتعليم والبيداغوجية ووضع الجامعة العربية والمستقبليات من حيث هي. لقد سعينا من خلاله إلى إثارة مشروع يعاني النسيان والإهمال من قبل خصومه بقدر ما يعاني الشطط والتحيز من قبل أنصاره. النقد المزدوج حاضر فيما نقدمه، إيماناً منا بضرورة نقد الذات، بالمستوى من العمق الذي نسعى إلى نقد الآخر. وقد كنا ولا زلنا في مجلة >i< على ذلك العهد ملتزمين في تقديم كل ما من شأنه خدمة الحوار والتسامح والتواصل.. هي رسالتنا التي آمنا بها قبل عقد من الزمن وتُرجمت على منبرنا.. آمنا بذلك يوم أدركنا حاجة الأمة إلى خطاب التواصل والسلم المجتمعي والتعددية.. يوم أدركنا أن طريق العنف والإقصاء والتطرف آيلة حتماً إلى الباب المسدود.. اليوم أدرك الكثيرون أهمية ما دعونا إليه واستشعرنا خطره.. إن أملنا في مستقبل عربي وإسلامي وحواري وتعددي ومستقبليات تكون في حجم هذا المستقبل.. ويبقى أن نؤكد على أن نهجنا النقدي هو علمي لا تسكنه مقاصد قاصرة أو حزازات شخصية.. وأن حجم مستقبلنا العربي وتحدياته تفرض علينا مزيداً من التفكير ونكران الذات، وقدراً عالياً من جهاد المعرفة في مستقبل لن يرحم من لم ينجح في الدخول إلى مجتمع المعرفة.