شعار الموقع

تحولات الفكر الفلسفي المعاصر

جواق سمير 2019-05-16
عدد القراءات « 968 »

 

 

 

تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر..

هل من آفاق كونية إبداعية جديدة؟

جواق سمير*

* باحث من الجزائر، يُعد أطروحة دكتوراه في فلسفة العلوم والقيم في الفلسفة الغربيَّة المعاصرة.

 

 

 

 

 

الكتاب: تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر: أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل.

الكاتب: الدكتور عبد الرزاق بلعقروز.

الناشر: الدار العربية للعلوم، بيروت، بالاشتراك مع منشورات الاختلاف، الجزائر.

سنة النشر: الطبعة الأولى، 2009م.

الصفحات: 287 صفحة.

ﷺ مدخل

تتوخّى هذه المُساهمة تقديمَ قراءة في كتاب «تحوّلات الفكر الفلسفيّ المُعاصر»، لصاحبه الدكتور عبد الرزاق بلعقروز، وهي قراءة لا نهدفُ من ورائها عرض ما ورد في متن الكتاب من أفكارٍ ونصوص واختصارها، بل إننا نسعى من خلال تقديمها إلى لفت النظرِ والانتباه إلى بعض القضايا الفكريَّة التي تطرّق إليها الكتاب طيلة ما يُقارب ثلاث مئة صفحة.

والتي تحتاجُ إلى عرضها على طاولة المساءلة والبحث والنقاش من جديد، لا من أجل تقويض وتهديم ما ورد فيها من أفكار بل لإثرائها وجعلها أُفقًا ومُفتتحًا لبحوثٍ أخرى، وهي الغاية الأساسيَّة من عقد هذا المصنف في الدعوةِ إلى استكشاف دروب ومسالك تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر، والخوض في مغامرة أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل والإفادة منها، في وقتٍ نحنُ في مسيس الحاجة إلى القيام بدراسة تحليليَّة ونقديَّة للمتون الفلسفيَّة على القدر الذي يُسعفنا بفهمٍ رحب للقضايا المعاصرة والراهنة.

تأسيسًا على ما سبق ذكره، يجوز لنا طرحُ الاستفهام التالي: كيف نقرأ تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر؟ وما هي الفوائد التي يمكن لنا تخريجها؟ وما هي العبر التي نحصيها من هذا الدرس الفلسفيّ؟.

لكتابات الباحث الجزائريّ والأستاذ الجامعي عبد الرزاق بلعقروز، مكانتها الخاصَّة في مدونة التأليف الفكريّ والفلسفيّ في الجزائر كما في الوطن العربيّ، والقارئ في كتبه يستبصِرُ حسَّها النقديّ الذي مكّنها من التملُّص من النزعة النصيَّة المُهيمنة في أرجاء العالم العربيّ، وهي النزعة التي ترى في الكتابة الفلسفيَّة مُجرد مُمارسة أكاديميَّة جلّ غايتها شرحُ النصوص الفلسفيَّة سواء الغربيَّة منها أو العربيَّة (التراث)، ممّا يجعلها في غفلةٍ عن الواقع وشروطه ورهاناته، ما يُوحي بأننا إزاء نمطٍ من الكتابة الفلسفيَّة تنأى بنفسها عن كلّ انغلاق أكاديميّ من شأنه أن يكون لها مانعًا من الإفادة منّ مُختلف المرجعيات والتخصصات الفكريَّة الأخرى.

تأسيسًا على ذلك، لا نتردد في القول: إنّ عبد الرزاق بلعقروز صاحب مشروع فكري ونظريّ مُتماسك تحكُمُه هواجس المفهوم والمعنى والتواصل، وعن هذه النقطة بالذات، ستُحاول هذه المراجعة الولوج إليها من خلال تقديم بطاقة قراءة لكتابه الموسوم بـ«تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر: أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل»، الذي اختطّه سنة 2009.

وما يحسن الإشارة إليه في عقب هذا الموقف، تلك المساحات النظريَّة الشاسعة التي تحرك فيها مُفكرنا في كتابه هذا، بدءًا بالبحث في جينيالوجيا المُصطلح الفلسفيّ وما يقتضيه ذلك من انتقالٍ وتحوّلٍ للمفهوم الفلسفيّ عبر مُختلف الحقب التاريخيَّة له، وصولًا إلى الحديث عنّ العولمة في القول الفلسفيّ العربيّ، مرورًا بمناولته لسؤال الحداثة عند طه عبد الرحمن، وعن العلاقة المُلتبسة بين الفلسفة والأدب من خلال نموذج عبد الوهاب المسيري، مع تقديم قراءة لنظريَّة أخلاقيات المناقشة لفيلسوف التواصليَّة يورغن هابرماس، وعن عودة الديني والمقدس في الفلسفة الغربيَّة المعاصرة، وعن التسامح والمجتمع المدني وعن العالميَّة والكونيَّة...، وغيرها منّ المواضيع الفكريَّة التي تستلزمُ انفتاحَ الوعي على قضايا الحداثة والهويَّة والعولمة والتسامح والكونيَّة.

في كلّ تلك المحطات الفكريَّة كان عبد الرزاق بلعقروز على وعيٍ كبير بالدور الذي يُمكنه القيام به، كمثقفٍ وباحث استمد مقومات تكوينه الفكريّ من تكوينه الفلسفيّ الرصين من جهة، ومن استشكالِ الواقع من جهةٍ أخرى، فأتى نمط كتاباته محكومًا بهاجس الراهن والرغبة في فهمه، فاتخذ كتابه العمدة «تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر»، صورة سؤال واندهاش إزاء أسئلة تخصّ القضايا التيّ قُمنا بذكرها أعلاه.

ﷺ الكتاب.. البنية والمكونات

يتكوّن عنوان الكتاب من شقين، أحدهما رئيسي «تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر»، وآخر فرعيّ يستدعي الانتباه بوصفه المدخل الأساسيّ لفهم الكتاب، وهنا تكمن أهميَّة هذا المصنف، الذي يركز عنوانه الفرعيّ على دراسة أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل، وقد توزعت محاوره على مُقدمة وثلاثة أجزاء، كلّ جزء يحوي ما بين ثلاثة إلى أربعة فصول.

في مقدمة الكتاب يرصد المؤلف تحولات الفكر الفلسفيّ المعاصر، من خلال حديثه عن النشاط المخصوص الذي تشهدُهُ الفلسفة المعاصرة، في مُساءلاتها وتفكراتها ومساراتها، وفي أعينِ المُؤلف، إنّ هذه المخصوصيَّة تتأتى «من التحوّلات التي مستْ نماذج الفهم ومقولات التفكير، بخاصّة تلك التي صاغتها عقلانيَّة الحداثة الفلسفيَّة مع لحظة التأسيس الديكارتي وتوابعها المعرفيَّة والتاريخيَّة: الإصلاح الديني والثورة العلميَّة والثورة السياسيَّة وعصر النهضة وعصر الأنوار، وصولًا إلى الانغلاق الفلسفي مع هيغل، إنّه انغلاقٌ لأنَّه رفعَ هذه المعقوليَّة الذاتيَّة بمحدداتها المشهورة: الحق في النقد، الحريَّة، استقلال العمل، المنزع المثالي في الفلسفة، رفعها إلى مرتبة الوعي المطلق بالذات»[1]، الأمر الذي انتهى إلى المركزيَّة الغربيَّة وفلسفة الوعي والذات.

بيد أنّ الفكر الفلسفيّ لم يستوِ عند تلك الحال، إذ سيشهد تحوّلًا ومنعرجًا سواء على الصعيد الفكري أو على مستوى الطرح الاشكالي مع نهايات القرن التاسع عشر، «الذي كان يلوح بمعالم فكر فلسفيّ مختلف تبدلت فيه هذه النظرة إلى نماذج العقلانيَّة وبخاصّة الفلسفة الذاتيَّة وريثة الديكارتيَّة، وصارت هذه الذاتيَّة يُنظر إليها كتهمة لا ينفكُ الفكر الفلسفي المعاصر على ترديدها ونقدها، وأضحت نذرًا على حلول عصر العدميَّة الآتي لا محالة، وبشارة على تصدع التمركز الثقافي الغربي (...) ثم إنّ إعادة الاعتبار لمقولات التعددية والاعتراف والخصوصيَّة الفلسفيَّة، لم تصبح ممكنة إلَّا خارج الخريطة الإشكاليَّة التي رسمتها خطاطة الأنوار»[2].

تأسيسًا على هذه المستندات، يتضحُ لنا أنّ هناك رغبة قويَّة تدفع بمفكرنا إلى رصد تحوّل الخطاب الفلسفيّ المعاصر، عن هذه النقطة بالذات يتحدث عبد الرزاق بلعقروز قائلًا: «إنّ مرادنا من هذه المقاربات ذات المنحى الفلسفيّ، رصد التحول الجذري العميق، والمساءلات النقدية العنيفة لنماذج العقل بمعناه الحداثي، وقيم التنوير الفلسفي، ونظريات التقدم الحضاري، بخاصة تلك التي طورتها عناوين الحداثة الغربية المختلفة، متبوعة بإرادة تأصيلها حضاريًّا، أو في جعلها كونية أو شمولية، وسيكون رصدنا لهذا النقد يجمع بين الداخلي والخارجي، داخلي يستثمر العدة المعرفية والمنهجية التي أفرزتها تحولات العلوم الإنسانية المعاصرة، والقراءات التأويلية المختلفة –نيتشه، فوكو، بودريار- وخارجي يعتمد على الخصوصيَّة الثقافيَّة في شكلها الأخلاقيّ لتقويم الحداثة الغربيَّة»[3].

أتى الجزء الأوّل من الكتاب موسومًا بـ«تحولات المفهوم فيّ الفلسفة: من منطق الكليَّة والتجرُّديَّة إلى المنظوريَّة والرهان التداوليّ»[4]، تفرد الفصل الأوّل منه الذي جاء تحت عنوان «إشكاليَّة المُصطلح الفلسفيّ: جينيالوجيا العلاقة بين الإرادة والكلمة والمعنى»، للحديث عن إشكاليَّة المصطلح الفلسفيّ من حيث المفهوم والخصوصيات، ومن حيث حقيقة العلاقة التي تجمعُ الفلسفة واللغة، ثمّ ينتقل للحديث عن نماذج لارتحال المفاهيم الفلسفيَّة، ليختتِم هذا الفصل بالحديث عن الوشائج بين الجينيالوجيا والمصطلح من حيث منهج القراءة، الخطوات والنتائج.

أمَّا الفصل الثاني والمعنون بـ«سؤال الحداثة عند طه عبد الرحمن: من النقد الأخلاقيّ إلى إعادة إبداع المفهوم»، فإنه انفرد بمهمة الحديث عن المشروع الفكريّ المسمى بـ«إعادة إبداع المفاهيم» للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، الذي يروم من خلاله بناء صرح فكريّ للإبداع العربي وتخليص العقل العربي من التبعيَّة.

وتبعًا لذلك تخصَّص هذا الفصل للحديث عن مفهوم العقل عند طه عبد الرحمن، وفقه الفلسفة، وعن السؤال المسؤول، وكلها آليات فكريَّة يروم من خلالها طه عبد الرحمن تخليص العقل العربيّ من التعبيَّة الفكريَّة ونقله إلى منزلة الإبداع والاجتهاد، بعد أن تبيّن له أنّ «المُتفلسفة العرب لا قدرة لهم على إنشاء خطاب فلسفيّ مخصوص ومختلف، فهم يؤولون إن أوَّل غيرهم، ويحفرون إذ حفر غيرهم، ويفككون إذا فككوا، وكأنّ سُبل الفكر والقول ضاقت عليهم، وأنّ أرض الفكر لم تكن واسعة ليتفسحوا فيها، وحجة المتفلسفة العرب في ذلك هي النهوض بواجب الانخراط في الحداثة العالميَّة والاستجابة لنداء الشموليَّة الفلسفيَّة»[5].

أمَّا الفصل الثالث من الجزء الأوّل، الموسوم بـ«تداخل المفهوم الفلسفيّ المركب والعنصر الأدبي لدى عبد الوهاب المسيري»، فقد خصَّصهُ عبد الرزاق بلعقروز، لفكّ غموض العلاقة بين الفلسفة والأدب، مُتوسلًا في ذلك بنموذج عبد الوهاب المسيري، من خلال إسهاماته فيما يُسمى بـ«أدب الطفل».

يفتتحُ مُفكرنا هذا الفصل بسؤالٍ فلسفيّ عن أيَّة علاقة يُمكن أن تقُومَ بين الفيلسوفِ والطفل؟ وفعلًا فـ«الأوّل يُسائِلُ قضايا نظريَّة مُستعصيَّة على الفهم والتبسيط، وموضوعاتها مُجردة ومُفرداتها غريبة قد لا تجلو للأفهام إلَّا بزيادة تأمل وفضل معاناة، لينجلي ما خفي وينكشف عمَّا أغمض، أما الثاني أي الطفل، فدائرته الشعوريَّة وقطب اهتماماته لا يتعدى عالم الأشياء، فكيف تتأتى له هذّه القدرة التي بها يفهَمُ لغة الفيلسوف، أو تحصل له معرفة من طراز فلسفيّ يُنمي بها إمكاناته العقليَّة الكامنة ويوقظ بها عاطفة القلق الفلسفيّ»[6].

وتكمن أهميَّة هذا الفصل كونه يرمي إلى «فك الارتباط بين هذا الاعتقاد السائد بين الفلسفة والطفل وبين رسوخها في الذاكرة والفكر والممارسة، وإعادة وصل العلاقة بينها توسطًا بالأدب بمَّا هو مَعبر من الفلسفة إلى عالم الأطفال، بكلّ تساؤلاته وحيرته واندهاشاته من الأشياء حوله، وفضوله المعرفي الذي يدفعه إلى التساؤل والقلق والإحراج أي المحركات الأولى للعقل الفلسفيّ الذي ينحو هذا المنحى»[7].

بعدها ينقلنا الكاتب من الحديث عن العلاقة بين الفلسفة إلى الحديث عن «إعادة الوصل بين المفهوم الفلسفيّ والعلوم الاجتماعيَّة في المشروع التواصليّ، قراءة في نظريَّة أخلاقيات التواصل عند هابرماس»، وإنّه يجوز لنا الاستفهام تبعًا لذلك، عن سر الهمامة البالغة التي أولاها عبد الرزاق بلعقروز لنظريَّة إيتيقا التواصل لممثل الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقديَّة يورغن هابرماس، إذ نلحظ أنَّه خصّص له أزيَدَ من خمس وعشرين صفحة.

 الإجابة عن هذا الاستفهام نستبصِرها في قوله: «أخذت النظريَّة التواصلية الجديدة الآن تخترق ميادين علميَّة متعددة، وتنزعُ الاعتراف تلو الآخر بأصالتها وجدتها وعمقها الإنساني والعلمي، وتحقيق التواصل بين مختلف فروع المعرفة الانسانيَّة قبل تحقيقه واقعيًّا، ثم إلى جانب هذا فإنّ أحد نقاط القوة في هذه النظريَّة هو بُعدها التداوليّ واعتبارها الأخلاق مُكونًا أساسيًّا للعقلنة والتواصل معًا، واستعارتها أيضًا لآليات التحليل النفسي الفرويدي، ثم تطوير هذا المنظور إلى المستوى الاجتماعي، الذي يجني فيه كلّ أطراف المحاورة تبادل الرمز واستعراض الحياة، على نحوٍ مُتفاعل لتحقيق آليات الاندماج والتواصل في المجتمع باعتماد شروط البرهان»[8].

ﷺ الفلسفة والحداثة

أمّا الجزء الثانيّ من الكتاب فأتى مُعنونًا بـ«تحوّلات العلاقة بين الفلسفة والحداثة: من التوحُّد وتأسيس المشروعيَّة إلى النقد الجذري والمواجهة»، يحوي بداخله ثلاث محطات أساسيَّة تتناول قضايا فكريَّة مُختلفة، بدءًا بحديثه عن الأصول النيتشويَّة لنظريات النقد المابعد حداثيَّة، وصولًا إلى المعنى الفلسفي لعودة المكبوت الديني في الثقافات المعاصرة، مرورًا بالحديث عن الفلسفة ونثر الخطاب الاستشراقي.

من هنا وعلى ضوء ذلك، يفتتح الجزء الثاني، بفصلٍ أوّل موسومٍ بـ«الأصول النيتشويَّة لنظريات النقد الما بعد حداثيَّة: من الهويَّة والتطابق إلى المنظوريَّة وتعدديَّة التأويل»، وفيه يُقدم الكاتب نظريَّة النقد عند نيتشه، من خلال استعراض مُحددات النقد الجينيالوجي، ونقد نيتشه للحداثة وأصنامها، ليختتِم الفصل بالحديث عن ملامح الحضور النتشوي في خطابات فلاسفة ما بعد الحداثة (أركيولوجيا فوكو - تفكيكيَّة جاك دريدا - جون بودريار).

عن كلّ ذلك يقول الكاتب: «مثّلت اللحظة النيتشويَّة مُنعطفًا نوعيًّا في تاريخ الثقافة الغربيَّة بصفةٍ عامة والحديثة منها بصفةٍ خاصَّة، وتكمن نوعيتها في كون أنها لم تُقدم رؤيَة تراكميَّة كإغناء وتعميق، أو تواصُلٍ لتطور الوعي الفلسفي الغربي، بل غيّرت تمامًا طريقة إدراك المعنى وبدلتْ استراتيجيَّة التأويل، لقد توجّهت مطارق النقد النيتشوي إلى القيم الثقافيَّة الغربيَّة التي قام عليها كلّ التراث الفلسفيّ، كالثقة في العقل وشعارات التقدم والحداثة والعلم وتفاؤلات الأنوار وغيرها»[9].

أمّا الفصل الثاني فيأتي موسومًا بـ«الفلسفة ونثر الخطاب الاستشراقيّ: من ميتافيزيقا التمركز إلى المُساءلة المُضادة»، وانطلاقًا من ذلك، يعتبر صاحبنا هاهنا أنّ فلسفة الوعي والذات هي المسؤولة الأولى والأساسيَّة على تأسيس المركزيَّة الغربية والخطاب الاستشراقيّ، وفي السياق نفسه يرى الباحث «بلعقروز» أنّ هذا «التأويل قد فقد الكثير من دلالته ومفاعيله في الفهم والتأويل، بخاصة مع تراجع مقولات الأنوار وفلسفات المركزية الانسانية والمفاهيم المتشعبة عنها كالحرية والعقلانية والذاتية، وأفرزت هذه القراءة خلاصة وجود فلسفات وليست فلسفة بالمعنى الكلي، وأقرت بتكوّن عقول كثيرة تتمايز بتمايز الظروف والإرادات وليس عقلًا له نواته المنطقية والجوهرية»[10].

ليختتِمَ صاحب الكتاب الجزء الثاني بفصلٍ ثالث أتى تحت عنوان «المعنى الفلسفيّ لعودة المكبوت الديني في الثقافات المعاصرة»، هذه العودة التيّ يشهدها الدين بعد أنّ اعتقدت الحداثة أنها قامت بطرده بشكلٍ نهائيّ، إلَّا أنّ هذا «اللا-معقول» قد عاد إلى النقاش الفلسفيّ المعاصر خاصَّةً بعد ظهور فلسفات ناقدة ومُتمردة على العقل وعلى المركزيَّة الذاتيَّة وعلى البرنامج الطوباويّ للأنوار.

يُقدم لنا صاحبنا هاهنا رصدًا مُكثفًا عن استشكال العلاقة بين الحداثة والدين، من أجل مزيَّة «الكشف عن المعايير الأخلاقيَّة والعقلانيَّة التي أسهمتْ في تقليص دائرة الدين وتصنيفه ضمن مقولات الفكر اللا-عقلانيّ، ففعل العقلنة بما هو مُحدد جوهري من محددات الحداثة قد أسهَم في تشكيل صورة سلبيَّة حول الدين»[11].

أمَّا عن مُبررات القول بعودة الديني والمقدس إلى ساحة النقاش الثقافيّ والفلسفيّ المعاصر، فهي على اختلاف السياقات والانتماءات الثقافيَّة والحضاريَّة يرصُدُها لنا صاحب الكتاب في الآتي:

- إنَّ استقراء بعض النماذج الفلسفيَّة المعاصرة يجدها تستلهم من الأديان ضماناتها المعرفيَّة وليس من العقل والعلم.

- التهديد الذي باتت تمثّله بعض الأخطار الغامضة مثل القلق إزاء اندلاع حرب ذريَّة، أو ما باتت تثيره قضايا تحسين النسل والهندسة الوراثيَّة، التغييرات الأيكولوجيَّة... إلخ.

- أفول المعنى وموت الإحساس الروحيّ بالوجود.

- تفكك الأنساق الفلسفيَّة الكبرى[12].

لينتهي صاحب الكتاب إلى الدعوة لإبداع فلسفة دينيَّة جديدة توازن بين العقل والحسّ والوحي، وذلك بقوله: «أعتقد أنّ الوقت قد حانَ للتفكير في تطوير فلسفة دينيَّة جديدة، لأنَّ عالم اليوم مُقبل على تحوّلٍ حضاريّ عميق لا يقتصِر على تجديد الرؤيَة بقواعد المُعاملة أو إنشاء ميثاق أخلاقيّ بين المُجتمعات أو تجديد مبدأ المسؤوليَّة، أو نقد الشموليَّة وأولويَّة الأنطولوجيا، فهذه النظريات لا يسعنا في نهاية الأمر إلَّا أن نعترف لها بإيلائها الأخلاق مُحددًا أصليًّا للتقويم، غيرَ أنّ التداخل الحاصل بين تمظهراتها الفلسفيَّة التي توهمنا بكونيتها وشموليتها، وبين العناصر الدينيَّة المستبطنة خلف مقولاتها، يُوجب علينا التفكير في تأسيس فلسفة دينيَّة تنضبط بالنموذج المعرفي التوحيدي، وتتنوعُ فيها مصادر المعرفة عن طريق تحقيق التوازن بين الوحي والعقل والحسّ»[13].

ﷺ الفلسفة والعولمة

يأتي الجزء الثالث والأخير من الكتاب، موسومًا بـ«روح العولمة وتحوّلات مهمة الفلسفة: التداول شرط التسامح والتواصل»، افتتحه بالحديث عن التصوف المقارن، من خلال البحث في العناصر المشتركة والأبعاد الكونيَّة للتجربة الصوفيَّة، وفيه أعرب بلعقروز عن الصعوبة التي تُواجه الباحث في هذا المجال، كون من الصعب إيجاد تعريف جامع مانع للتصوف كموقف روحيّ يتميّز بالنشاط والتأمل، ومكمن السبب في نظره يعود أساسًا إلى تنوع هذه التجربة واختلاف أشكالها وحضورها في جميع مناحي الفكر[14].

بعدها ينقلنا الكاتب في رحلةٍ معرفيَّة تتجاوز الحدود الجغرافيَّة والإثنيَّة والعقديَّة الضيقة إلى رحاب الكونيَّة، ففي الفصل الثاني الموسوم بـ«المجتمع المدني عبر الحدود القوميَّة: كيف تُعيد العولمة تشكيل المجتمع المدنيّ؟»، يتحدث صاحب الكتاب عن فتوحات العولمة وآلية تأثيرها على بناء مفهوم المجتمع المدنيّ، فإذا كانت دلالات المجتمع المدنيّ تتصف بخصوصيَّة الانتماء العرقيّ والقوميّ، فإنّ «التأويل الجديد للمفهوم كما يصنعه الحدث هو اضفاء الدلالة العالميَّة»[15]

أمّا الفصل الأخير من هذا الجزء، والذي يأتي تحت عنوان «العولمة في القول الفلسفي العربيّ»، فقد ركن فيه صاحب الكتاب إلى ثلاث مواقف من العولمة في الخطاب الفلسفيّ العربي: الموقف الرافض، الموقف المنخرط، الموقف الترشيديّ، الأوّل من يرفضها رفضًا قطعيًّا وحُجته الأساسيَّة في ذلك، أنها شكل من أشكال الاستعمار أو هي امتدادٌ له، أما الطرح الثاني فيرى في العولمة كظاهرة واقعيَّة لا يُمكن تجاهلها، أما الأطروحة الثالثة فهي دعوةٌ إلى ترشيد العولمة وإحداث التوازن بين عناصرها مع التأكيد على الأخلاق والمعنى كجوهر للإنسان[16].

ﷺ الخاتمة والمحصلة

ذيّل عبد الرزاق بلعقروز كتابه بخاتمةٍ يُمكن اعتبارها حلقة مفصليَّة في بيان تصوّره للحديث عن تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر، وعن هواجسه وتساؤلاته يقول: ما الذي نتعلمه من مُقاربة هذه التحوّلات في الفكر الفلسفيّ المعاصر، بخاصَّة في أسئلته حول المفهوم والمعنى والتواصل؟ ما الإفادة التي يُمكن تخريجها كبرنامج يوقظُ عاطفة القلق الفلسفي وطاقة العقل على التفكير والإبداع لدينا؟

لذلك ينبغي التنبيه إلى الفوائد التي خلُصَ إليها المؤلف من درس تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر، وهي:

أولًا: الحق في الفلسفة

لقد عبّر عبد الرزاق بلعقروز في هذه المناسبة عن وعيه بحاجة الفكر العربيّ إلى استيعاب درس تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر من خلال نيلِ الأحقيَّة في الفلسفة، نقرأ له في هذا المعرض: «لم يعد التفكير الفلسفيّ مخصوصًا بدائرة حضاريَّة محددة، أو بعقلٍ آريّ لديه القدرة على التركيب والبناء، في حين تفتقدُ الثقافات الأخرى إلى هذا الوصف، لأنّ الأصل في الفلسفة هو هذا المنطلق، غيرَ أنّ هيمنة ميتافيزيقا التمركز وإرادة تأصيلها في النموذج الثقافيّ الغربيّ أفرزت تقسيمات ثنائيَّة متضادة وعميقة في الوقت نفسه، كالقسمة بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، (...) إنّ الحقّ في الفلسفة معناه أنّ الإنسان بإمكانه التفلسف بمعزلٍ عن ملله ونحله، لأنَّه موصولٌ بالحق الطبيعيّ الذي يتأسس على مبدأ الحريَّة المتحققة بالأصل والفعل»[17].

ثانيًا: من الحداثة وما بعدها إلى روح الحداثة وقيمها

يخلص الباحث الجزائريّ عبد الرزاق بلعقروز، من وراء هذه الخطوة، بل وهي الغايَة الأساسيَّة من عقد الباب الثاني «الفلسفة والحداثة» الدفاع عن الاختيار الحداثيّ، وهو بذلك يُقدم دعوة إلى ضرورة «صرف الاهتمام بالحداثة كتحقق تاريخي غربيّ لديها اشتراطاتها وتحدياتها، والاحتفاظ بجوهر الحداثة، أي مجموعة القيم الفكريَّة الموجهة للنهوض بمعانيه النفسيَّة والاجتماعيَّة والماديَّة، هذه القيم التي كانت سببًا في استبصار المخارج ونقل المُجتمع الغربيّ من طورٍ حضاريّ إلى طورٍ حضاري آخر يعلوه تقدمٌ»[18].

ثالثًا: نحو تفعيل الاهتمام بقيم الفكر الفلسفي

أمّا الإفادة الثالثَّة التي يُمكن لنا تحصيلها من برنامج تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر، هي الدعوة إلى صحوة العقل وإثارة قلقه التساؤلي والإشكاليّ، خاصَّةً ونحنُ في عصرٍ يُسيطر عليه نموذج العولمة، وعن رغبة هذا النموذج في بسط هيمنته وتعميمه في شتى المجالات والأماكن، الأمر الذي يستدعي منا الانتهاض بتحدي فلسفيّ له الجرأة والشجاعة في استشكال الأحداث والمواقف، عن هذه النقطة بالذات يكتب صاحبنا هاهنا قائلًا عن ضرورة «الحاجة إلى صحوة العقل وتجديد قيمه وبعث الحياة في الحس التساؤلي، ونقد القناعات النفسيَّة والفكريَّة الشائعة، فضلًا عن الأفكار والقيم الذوقيَّة والسلوكيَّة الرائجة، إنّ إيقاظ عاطفة القلق الفلسفيّ تجعلنا بمنأى عن التقبل المنفعل بالأشياء الممثلة في ثقافة الصورة والاعتقاد في واحديَّة الرأي وصدقيته المطلقة، أو إتقان لغة الإكراه وإقصاء الآخر، لذلك فنحنُ نُراهن على قيم التفكير الفلسفيّ بهدف التصدي الواعي والمؤسس لإرادة التنميط والتطبيع مع منطق الأشياء فكريًّا وذوقيًّا»[19].

وأخيرًا، يُمكننا القول: إنَّه منّ الصعب والحال هذه، فصلُ ما دوّنه عبد الرزاق بلعقروز عن تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر عن مشروعه الفلسفيّ الذي يتسِم بوحدة المتن والإنتاج الفكري، بُغية فهم وضعيَّة العقل العربي الذي يرزحُ تحت نير الانقياد والتبعيَّة والأخذ بعوامل الإبداع والاجتهاد، الذي كان العقل العربي فيّ مسيس الحاجة إليه.

كما لا يملكُ أيّ باحث أن يُنكر نجاح هذا المثقف في التمسك بهاجس المفهوم وسؤال المعنى ورهان التواصل في جلّ ما ألّفه الرجل من مُصنفات، ما دُمنا نعثُر في أروقتها على عناصر تصوّره لسؤال المفهوم الفلسفيّ، والحداثة، والعولمة، وهاجس الكونية وما تقضيه من تسامحٍ وتواصُلٍ وتعايُشٍ.

وطريقته في المُساءلة النقديَّة (المعرفيَّة والمنهجيَّة) للقضايا التيّ أثَّثتْ مشهد إنتاجه الفكريّ، ثمَّ طالما أنّ الاهتمام بالمفاهيم الفلسفيَّة من شأنها –في نظره- أنّ تُخلصنا من ضيق الانقياد للتعبيَّة إلى آفاق الإبداع والاجتهاد، من هنا كرست مُؤلفاته إلحاح صاحبها على ضرورة الانخراط في الفكر الكونيّ والعالميّ.

 

 

 



[1] عبد الرزاق بلعقروز، تحوّلات الفكر الفلسفيّ المُعاصر، ص9.

[2] المصدر نفسه، ص 10.

[3] المصدر نفسه، ص 11.

[4] المصدر نفسه، ص ص 17-38.

[5] المصدر نفسه، ص 48.

[6] المصدر نفسه، ص 61.

[7] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[8] المصدر نفسه، ص 80.

[9] المصدر نفسه، ص 108.

[10] المصدر نفسه، ص ص 137-138.

[11] المصدر نفسه، ص 177.

[12] المصدر نفسه، ص ص 201-202.

[13] المصدر نفسه ص 203.

[14] المصدر نفسه ص 209.

[15] المصدر نفسه، ص229.

[16] المصدر نفسه، ص ص 259-277.

[17] المصدر نفسه، ص 279.

[18] المصدر نفسه، ص280.

[19] المصدر نفسه، ص 281.