شعار الموقع

اركون ناقداً للأستشراق

رمزي بن حليمة 2019-05-18
عدد القراءات « 973 »

أركون ناقدًا للاستشراق

 

الدكتور رمزي بن حليمة*

* باحث في الحضارة العربية- تونس.

 

مقدمة

تعدّدت الآراء وتباينت المواقف تجاه حركة الاستشراق منذ تاريخ نشأتها إلى حدود استقرارها، فذهب فريق إلى الاحتفاء بها والعمل على الاستفادة من ثمراتها ومنجزاتها، بتوظيف مكاسبها ومخرجاتها في دراساته وأبحاثه، سعيًا منه إلى تجديد النظر في القضايا والإشكاليات المتّصلة بواقع المحضن الفكري والثقافي المنتسب إليه.

وجنح فريق ثانٍ إلى الإمعان الدقيق في مقاصد هذه الحركة وغاياتها، ابتغاء تعقّلها والتوقّف على حدودها، بتوضيح ثغراتها ومنزلقاتها.

وبين هذه النزعة وتلك، نقول: إنّ تحقّق أيّ مشروع نقديّ يدّعي الموضوعيّة التامة حول ظاهرة الاستشراق، يبدو مطلبًا عزيز المنال في ضوء المتطلّبات التي يجب توفّرها لتحقيق هذا الهدف، فهو مسعى يستوجب بدءًا حسن التمكّن العلمي والمعرفي للذات الدّارسة، وإلمامها بمختلف الآليّات المُنتجة لهذا الجهد الفكريّ بدءًا بمقتضيات التأصيل والتبويب، ووُصولًا إلى مرحلة التفريع والتّدقيق.

زد على ذلك ضرورة التخلّص من البعد الحنيني عند دراسة الأشياء، والتمسّك بالمنهج الإبستيمولوجي أداة لتحصيل المعارف لأنّه يُمثّل بحقّ قاطرة مُساعدة في نُظم التحليل والتفكيك وإعادة البناء.

وإذا ما تمّ تحصيل هذه الشروط وتوفّرت عند الذات الدّارسة، أمكنها حينئذٍ أن تهتدي إلى تحديد الطرائق البحثية التي توخّتها هذه الدراسات وفهم مخرجاتها ومقاصدها، وبيان الفصل والوصل بين ما قالوه عن إرثنا الفكري والثقافي، وما قلناه وفهمناه نحن منه.

فبين جهد مبذول للمستشرقين وتقويم وتقييم له من ناقديه يتفاوت دقّة ووُضوحًا، عمقًا وإحكامًا، نقول: إنّ الباحث لا يجب أن يجحد الإضافات التي قدّمتها الدراسات الاستشراقيّة، ويجب أيضًا أن يتوقّف عند الدرس النّقدي لها. فالمعلوم أنّ الدراسات الاستشراقيّة تميّزت بتنوّعها الكمّي والنوعي، فمنها الدراسات الوصفيّة الاستكشافيّة لبعض الظواهر، ومنها أيضًا الدراسات العلميّة المتخصّصة في مجال أو حقل علمي ومعرفي مخصوص، وغيرها كثير.

ولقد حقّقت فعلًا إسهامًا حقيقيًّا في تجديد طرائق النظر والبحث في قضايانا، فبين جانب إيجابيّ تمثّل خاصة في الإضافة النوعيّة في طرائق النظر والدّراسة، وتحقيق جانب من الطرافة الفكريّة في مستوى النتائج والمخرجات، وبين جانب آخر نقيض يتّسم بالسلبيّة نتيجة الثغرات التي وقعت فيها هذه الدراسات الاستشراقيّة، إمّا لسوء فهم أو محاولة إساءة الفهم لغايات وأغراض معيّنة.

وبين هذا وذاك تنزّلت تقريبًا كلّ المحاولات التي اهتمّت بالفكر الاستشراقي، فكيف تحدّدت التجربة النقديّة لمحمد أركون للدراسات الاستشراقيّة؟ وما هي دوافعها؟ وأين تجلّت مواضعها؟ وما هي الإضافات التي استحدثتها؟ وما هي النقائص التي تضمّنتها؟

كلّ هذه الأسئلة نحاول الإجابة عنها ضمن مبحثين جامعين: خصّصنا أوّلهما لدراسة منطلقات العمليّة النقدية ومواضعها في فكر محمد أركون، وخصّصنا ثانيهما لموضعة هذه التجربة ببيان ملامح الإضافة والطرافة فيها، وكذلك تحديد أوجه قصورها ومحدوديّتها.

أوّلًا: تجربة أركون النقديّة.. منطلقاتها ومواضعها

إنّ مقاربة إشكاليّة الاستشراق وما يرتبط بها من قضايا، مطمح يضيق عنده المجال، ولا يتّسع إلَّا لدراسة مستفيضة تعالج أسس ومقوّمات ومواضيع وخصائص الخطاب الاستشراقي.

فالهدف المراد الذي نروم بلوغه هو مجرّد توضيح بعض جوانب متّصلة بكيفيات التّناول والطرح كما واجهه النقد العربي الحديث عامة، وكما تمثّله محمد أركون خاصة[1]، وتفسير مجمل الإضاءات والنتائج التي توصّل إليها.

إنّ فهم التجربة النقديّة التي قدّمها أركون تستوجب منّا النظر في مطلبين: يُعنى الأوّل بتحديد موقف أركون من الدراسات الاستشراقيّة أي بيان رفضه أم قبوله لها. ويختصّ الثاني برصد مواطن العمليّة النقديّة ومواضعها، وإلى أيّ حدّ يُمكن اعتبارها بحقّ مظهرًا من مظاهر التّجاوز في الدراسات النقدية المهتمّة بهذا المشغل.

1- أركون والاستشراق: جدليّة الرفض والقبول

لم تخلُ العديد من الدراسات قبل أركون وبعده، من مباحث اتّصلت بظاهرة الاستشراق من جوانب وجهات مختلفة، إلَّا أنّ ذلك كاد ينحصر في نظرنا ضمن محورين رئيسين هما: فضل الاستشراق على الثقافة العربية من جهة، ونقد الاستشراق وبيان وقصوره عن فهم الفكر والثقافة والحضارة العربية من جهة أخرى.

أمّا مبحث الفضل فمتأتٍّ من كون الاستشراق مثّل رافدًا مهمًّا لتطوير الثقافة العربية، وأسهم في إعادة تنشيط الفكر العربي - الإسلامي بفضل اكتشاف بعض النصوص ذات الأهمية الكبرى، أوتطوير مجالات بحثيّة أساسيّة مثل اللّهجات[2]...

وأمّا مبحث النقد فمتأتٍّ من كون الاستشراق نشأ في تربة غربيّة، ألجأت إليه دوافع وغايات مخصوصة، وتعدّدت الاعتراضات وفق الهواجس المنشأة لها. فكان «البعض يهاجم الاستشراق كمقدّمة للتشديد على فضائل هذه الثقافة الأهلية أو تلك... والبعض الآخر ينتقد الاستشراق في سياق الدفاع ضدّ الهجمات التي تطال هذا المعتقد السياسي أو ذاك... ولدينا فريق ينتقد الاستشراق بسبب تزييفه لطبيعة الإسلام»[3].

في هذا الإطار التمايزي يمكن أن ننزّل فكر أركون حول تصنيف التيارات الاستشراقية التي يستثني منها «الخطابات الاستشراقية التي أنتجت قبل مرحلة الاستقلال؛ لأنّها لم تعد لها إلَّا أهميّة تاريخية لمن يريد أن يحدّد مثلًا نظام الفكر الذي تنتمي إليه»[4].

ولاختيارنا نقد الخطاب الاستشراقي ما يبرّره، كما أنّ لاختيارنا أركون أنموذجًا مبرّرات وأسباب أهمّها:

1- الشائع أنّ الكثير من المسلمين والمفكّرين يرون أركون منخرطًا ضمن تيّار الاستشراق، بالرغم من الفروق الواضحة التي تميّزه عن المستشرقين ونبرتهم وأساليبهم.

2- اعتقاد البعض أنّ ردّ فعل أركون ضدّ مناهج الاستشراق الكلاسيكي وأساليب عمله، هو شيء مختلف تمامًا عن الردّ الشائع للعرب المسلمين تجاه الاستشراق الذين كرّسوا جهدًا كبيرًا لتعقّب «أخطاء الاستشراق» وتناسوا نواقص الخطابات الإسلامية.

لقد كان لمقاربة أركون المتّصلة بالخطاب الاستشراقي، دور رئيس في تحويل وجهة الدّرس النقدي لإقرارها المعلن بتراجع أهميّة الدراسات الاستشراقيّة، وهذا التراجع يرجعه إلى ثلاثة أسباب رئيسيّة:

السبب الأوّل: إهمال المستشرقين إلى المتطلّبات الرئيسية التي ينتظرها جموع المسلمين، خاصة مع استمرار التقابل بين الخطاب والحقيقة المعيشة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فالاستشراق أراد تشكيل مجال معرفي متمحور حول الكتابات المقدّسة، وامتنع عن استثمار وتحليل واقع المجتمعات المفترض أن يكرّس جهوده لدراستها.

السبب الثاني: رفض المستشرقين استفادة المجتمعات العربية والإسلامية من إيجابيّات التفكير النظري والمناهج الجديدة، المطبّقة على المجتمعات الغربيّة من قبل العديد من الباحثين والفلاسفة، وهذا السلوك تترتّب عنه نتيجتان: الأولى: الإمعان في احتقار مواقف المسلمين لأنّ المستشرقين يعتقدون أنّهم يقارعون المسلّمات والفرضيّات باليقين العلمي. والثانية: استمرار تجاهل المستشرقين للمكتسبات الإيجابيّة لعلوم الإنسان والمجتمع وعدم الثقة بها.

السبب الثالث: يتمثّل في رفض إجراء مناقشة إبستيمولوجيّة متّصلة بالمنهج والممارسة العلميّة، ضمن منظور نظريّة المعرفة التي ستسهم بشكل فعّال في وضع حدّ للتصوّرات والقناعات الأيديولوجية.

إنّ هذه الدوافع مجتمعة، تقودنا لإبداء ملاحظتين:

أولاهما: إنّ الخطاب الاستشراقي -الذي ينتقده أركون- يقيم مسافة بين موضوع الدراسة والدراسة. وهذا الحاجز من شأنه أَلَّا يحقّق المعرفة المرجوّة والنتائج المأمول الوصول إليها. فكأنّ هذه الدراسات، هي دراسات بعيدة عن المجتمعات الإسلامية ولا تمتّ إلى الواقع بصلة. بل يراها أركون قراءة ظاهريّة لبعض القضايا التي اكتشفها الاستشراق. لذلك يظلّ السؤال قائمًا: هل باستطاعة هذه الدراسات وفق هذا المنهج وهذه الرؤية أن تحقّق المعرفة العلميّة الدقيقة للظواهر المدروسة؟

ثانيهما: إنّ في رفض المستشرقين الانفتاح على المكتسبات العلميّة المستحدثة لا يحقّق نتائج ملموسة؛ لأن تحقيق المعرفة المتكاملة وصياغتها مرتهن -كما يرى أركون- بالانفتاح على مفاهيم علميّة، وطرائق مستحدثة متّصلة بعلوم الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، وهذا من شأنه أن يسقط الترسّبات الأيديولوجية التي رافقت تشكّل الظواهر الثقافية والحضارية.

2- مواضع النقد

لئن حُدّدت دوافع نقد الخطاب الاستشراقي وانتظمت، فإنّها تبقى في حاجة إلى الانتقال من البعد النظري إلى البعد العملي، ذلك أنّ المنهج العلمي في مختلف تراكيبه وسياقاته وأغراضه وغاياته يبدو في حاجة ماسّة للتّساوق والتكامل بين هذين الجانبين، فأيّ سبيل ركب أركون ليدلّل على صحّة نقده؟

لقد حظي البحث التطبيقي بمكانة محترمة في قراءة أركون، وكان تعويله على دراستين استشراقيتين مدخلًا مهمًّا للدلالة على صحّة المطاعن التي عرضها هما:

الدراسة الأولى: لبرنارد لويس[5] حول «الدولة والفرد في المجتمع الإسلامي»، كانت مهمّة للكشف عن هذه المحدوديّة، والقصور الذي رافق مضامين الخطاب الاستشراقي في الانفتاح على مناهج جديدة، ولقد أفرزت قراءة أركون لهذا العمل الاهتداء إلى نقيصتين:

الأولى: محافظة لويس على تقمّص هيأة المراقب الخارجي، أي إنّه يقف مجرّد شاهد لوقائع وأحداث اجتماعية وتاريخيّة من ناحية. ويُحجم عن الدخول في عمق الظاهرة والوضع المدروسين ومقاسمة أصحابه أوجه إكراهاته وإرهاصاته من ناحية أخرى.

الثانية: اكتفاء لويس بالنّقل الخطّي «البارد» لاعتقادات المسلمين وممارساتهم.

إنّ هذا النوع من البحوث، وهذه المناهج المعتمدة تعطّل إنتاج المعرفة واكتشاف الحقائق؛ لأنّها تُبقي المحافظة على أطر معيّنة ينبغي تجاوزها ومن أهمّها:

أوّلًا: الاستمرار في تبنّي «الطريقة السكونيّة» وعدم الخوض في المسائل المثيرة للجدل أو المفعمة بالحساسيّة، وهذا ضرب من ترسيخ القناعات القائمة على مبادئ شمولية وكلّية مثاليّة.

ثانيًا: الاستمرار في ترسيخ مفاهيم ثابتة لا تتغيّر مثل مفهوم الكفاءات المؤهّلة لتأويل هذا القانون... وغيرها. وهذا ضرب من ترسيخ اللاّمفكّر فيه وتثبيته، وهذا ما يتعارض مع غائية تحصيل المعرفة دون معوّقات أو الإحجام عن ملامسة وتحسّس مواضيع معينة باسم «القداسة».

إنّ هذه الأطر وغيرها، تقود ضرورة إلى تجميد الفكر البشري وسجنه في نوع من الفلسفة الماهياتيّة والتيولوجيا الدوغمائية على حدّ عبارة أركون. ولهذه الأسباب مجتمعة يقوى الرفض الأركوني لهذه الأنماط والتشكّلات التي تتعقّب خطوات هذه المقاربات؛ لأنّ معالجة مثل هذه المسائل المتّصلة بالفرد والدولة وغيرها من المسائل في المجتمع الإسلامي تستوجب شرطين أساسيين هما:

الأول: ضرورة تفكيك التصوّرات العقليّة التي اعتبرت عبر التاريخ مفاهيم اعتقادية لا يمكن النّيل منها؛ لأنّ هذه الصيغة كفيلة بتحقيق التجاوز المطلوب لأسلوب التاريخ التقليدي، وكفيلة أيضًا بفتح الأبواب لتطبيق مكتسبات الفكر المعاصر ومناهجه في المجال العربي الإسلامي. إنّ هذه الرؤية التفكيكيّة للتصوّرات القديمة المترسّبة تاريخيًّا والتي خلّفها الماضي مطلب ضروري نحو إعادة التفكير من جديد في بعض المفاهيم ذات الصلة بالسّيادة العليا التبريريّة وبالسلطات السياسية في كلّ مجتمع إنساني.

الثاني: أنّ مشكلة الفرد والدولة في المجتمع الإسلامي لا يمكن معالجتها إلَّا في إطار جدليّة قوى الأقلّيات والأغلبية في كلّ فضاء اجتماعي - سياسي[6].

الدراسة الثانية: هي عبارة عن مجموعة من البحوث أنجزها بعض المستشرقين وقد وضعت تحت عنوان جامع «حياة النبي محمّد»[7] ولعلّ أهمّ نقاط الالتقاء بين هذه الدراسات هي التمسّك بالمنهجيّة نفسها القائمة على البحث عن المصادر الأصول وضبط سلسلة الناقلين (الإسناد) واختزال الحقيقة التاريخيّة في مجرّد جرد للوقائع والتّسلسل الزمني الدقيق لتتوصّل أخيرًا إلى التمييز بين ثلاث طبقات من التراث: الأولى، تحتوي على مادة تاريخيّة جديرة بالتصديق. والثانية، مليئة بالأساطير المتنّوعة. والثالثة، ذات اتجاه سياسي وعقائدي.

ولعلّ المشكل الذي يظلّ قائمًا –ووقع تغييبه في هذه الدراسات- كيف يمكن الجمع بين الحقيقة التاريخيّة التي تكتب، والكلّية التاريخية المعيشة من قبل الذوات الاجتماعية؟

إنّ هذه الأمثلة من الدراسات مجتمعة تدلّل على جملة من الحقائق والاستنتاجات:

أوّلًا: إن النقد الاستشراقي لم يفعل إلَّا أن زاد من خطورة المنهجيّة الإيمانية الشكلية عند المسلمين وتفاقمها سوءًا ضمن الاتّجاه الأكثر فيلولوجيّة وتاريخاوية. ورغم هذا لا ينفي أركون أهميّة تتبّع الأحداث من حيث التّسلسل التاريخي لأنّه يكشف عن عملية تطوّرها ويحدّد السياقات التي انبثقت بها سلسلة الأحاديث النبوّية، وتحديد الطريقة التي مارست بها دورها وسلطتها التشريعية.

ثانيًا: إنّ المنهجيّة الفيلولوجية[8] تبعثر الظواهر المتحرّكة والمعقّدة وتجعلها جامدة وساكنة، ذلك أنّ الفيلولوجيا أو علم النّصوص القديمة يُعنى بدراسة النّصوص اللّغويّة دراسة تاريخيّة مقارنة لتحصيل جانب من الفهم والاستعانة به في دراسة الفروع الأخرى التي يبحث عنها علم اللّغة.

ومن المفيد القول في هذا المقام: إنّه ثمّة تداخّل في الضبط المصطلحي والدلالي لكلّ من الفيلولوجيا وعلم اللّغة؛ ذلك أنّ المجال المعرفي للفيلولوجيا مختصّ أوّلًا في فكّ الرّموز القديمة والانشغال بالآثار، ومهتمّ ثانيًا بتحقيق النصوص والمخطوطات بغية نشرها. في حين أنّ علم اللّغة نعني به أساسًا دراسة النّصوص والمخطوطات من خلال الجوانب اللّغويّة.

ورغم هذا التمييز يجب الإقرار بالترابط الوثيق بين المبحثين حيث لا يُمكن لعلم اللّغة أن يستغني عن الفيلولوجيا لأنّ مصادر علم اللّغة هي أساسًا النصوص اللّغويّة، وكذا الحال بالنسبة لعلم الفيلولوجيا الذي لا يُمكنه أيضًا الاستغناء عن مُنجزات علم اللّغة لأنّه مُعتَمده الرّئيس وعُدّته التي يتوسّل بها في دراسة النصوص وتحليلها.

إنّ ما رآه أركون أنّ من أهمّ مرتكزات هذا التحليل (فقه اللغة) التركيز على أحاديّة معنى النصّ وأصله الإيتمولوجي، وهذا المنحى يجعل للنصّ معنى واحدًا. ويرى أركون أنّ هذا المنهج يمارس ضغطًا مزدوجًا، فهو يرفض الأخذ بعين الاعتبار الأساطير والتزويرات والتحريفات والتصوّرات الخياليّة التي يتصوّرها المخيال الجمعي، والتي تضعف من المضامين الحقيقيّة لكلّ وجود اجتماعي وآليّات إنتاجه للمعنى والحقيقة من جهة.

كما أنّ هذا المنهج ينتقي الوقائع التي يمكن السيطرة عليها وتحديد زمني صحيح لها، وبذلك فهي لا تشكّل حقيقة تاريخية عقلانية لأنّها مقطوعة عن الحقيقة المعاشة من قبل الفاعلين الاجتماعيين، من جهة أخرى.

ثالثًا: إن الممارسة العلميّة الاستشراقية مالت إلى تغييب المراجعة النقدية التي لا بّد منها من أجل تحليل الخطابات التي تمحورت حول الظاهرة الإسلامية منذ بداياتها، وبذلك عزّزت مكانة الخطاب الإسلامي الذي رسّخ طيلة قرون عديدة مسائل يقبل التفكير فيها وأخرى لا يقبل التفكّر فيها.

ثانيًا: النقد الأركوني للاستشراق بين الأهليّة والقصور

نسعى في هذا المبحث الثاني إلى توضيح وجهين متقابلين في عمليّة النقد التي خصّها أركون لبعض الدراسات الاستشراقيّة، فعرضنا في المطلب الأوّل الوجه الإيجابي لعمليّة المراجعة التي قام بها للفكر الاستشراقي في مستوييها النظري والتطبيقي، وبيّنّا في المطلب الثاني ملامح القصور والمحدوديّة في هذه القراءة النقديّة.

1- في أهليّة البدائل والحلول التي يقترحها أركون

لا يخفى على الباحث أنّ التّيارات والدراسات الاستشراقية ولّدت منظومة فكرية تتلاقي أحيانًا وتتنافر أحيانًا أخرى، وهذه الوضعية مرتهنة بالحيثيات المنتجة لها، والطرائق الناظمة لها على مستوى كيفيّات التّناول، وعلى مستوى الآليات والمناهج المعتمدة للنظر في المشاغل وتدارسها.

إنّ هذا الخطاب يظلّ محافظًا على هذه الخصلة وهذا الميسم ما دامت دراسة الظواهر والقضايا محافظة على المثلّث العلائقي المرتكز على الباحث الناظر في ثقافة الآخر من جهة، ونوع الثقافة المدروسة من جهة ثانية، وتدخّل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من جهة ثالثة.

إنّ تداخل هذه العوامل وتشابكها الواحد مع الآخر يسهم في تحديد نوع الخطاب وتوجيهه، وفي هذا السياق العام تتنزّل المقترحات والحلول التي استساغها أركون والسؤال المطروح: هل إنّ هذه البدائل تمثّل مشروع إعادة صياغة للخطاب الاستشراقي، أم مشروعًا بديلًا ينفي الأول ويؤسّس لآخر جديد ومستحدث؟

إنّ اللّافت للنظر أنّ أركون لا يدحض الفكر الاستشراقي، ولا يدعو إلى تجاوزه، بالرغم من الإقرار الضمني لدى بعض الباحثين[9] بموقعه التراجعي حين يقارن مع العلوم الإنسانية الأخرى. ولكن الموقف الأركوني يؤصّل لاستمرارية الخطاب الاستشراقي، مع الدعوة الملحّة لمراجعته حتى يستوفي درجة العلميّة والموضوعية.

وإنّ هذه المراجعة لا بّد أن تأخذ بعين الاعتبار بعض التوصيات، منها ما هو نظري ومنها ما هو عملي:

الجانب النظري: يقوم هذا الجانب على جملة من المقوّمات أهمّها:

أوّلًا: إنّ الاهتمام الأساسي والأوّلي ينبغي أن يتركّز حول المنشأ التاريخي للوعي الإسلامي وتشكّل بنيته المشتركة، وهنا يلزم التمييز بين مرحلة النقل الشفهي وبين تلك المرحلة التالية التي تشكّلت فيها المخطوطات التي وصلتنا عبر كلّ واحد من التراثات الاجتماعية والثقافية التي استمرّت وعاشت حتى هذا اليوم، وإنّ التمييز بين المرحلة الشفاهية والمرحلة الكتابيّة[10] يتجاوب مع التحليل الأنثروبولوجي الذي يحلّل التنافس بين العقل الشفهي والعقل الكتابي[11].

ثانيًا: ضرورة التمييز بين المنهج النقدي الجذري الذي يتجاوز كلّ الخصوصيات الثقافية، والملغي لكلّ الترسّبات الأيديولوجية، وبين المنهج الفيلولوجي التاريخاني الذي يثير الشكوك الكثيرة إزاء التراث الذي وصلنا ويحطّ من قيمته العلميّة، وهذا من شأنه أن يعرقل المسعى الطموح والإيجابي لإعادة التفكير بنموذج العمل التاريخي الباحث في الثقافة العربية والإسلامية

الجانب العملي: يقوم هذا الجانب أيضًا على جملة من المقوّمات أهمّها:

أوّلا: ضرورة إعادة قراءة التاريخ عن طريق التوسّل بالتحليل الأنثروبولوجي الذي يقوّي ويوسّع نتائج التقصّي التاريخي والدراسة التاريخية، لأنّ المعروف «أنّ الأنثروبولوجيا تشكّل منهجًا يسعى إلى تجميع المعرفة بالإنسان من كافة الجوانب، وذلك بهدف تقديم فهم متكامل ومترابط عن الإنسان وحياته ونتاجه الحضاري في الماضي والحاضر، ومن ثمّ يكون لديها القدرة على استقراء أنماط الحياة المستقبليّة»[12].

واللاّفت أنّ أركون يتغاضى عن التباين بين المدارس الأنثروبولوجية والتنويعات أو التفريعات المتعلّقة بالمعرفة الدينية، الاجتماعية... ليركّز على الفاعلية الإجرائية لهذا المنهج أكثر من البحث عن الإجرائية الماهيّاتية أو الاصطلاحية، إنّ البحث عن الغائية النفعية لهذا المنهج هي التي توجّه فكر أركون أكثر من أيّ شيء آخر.

ثانيًا: لا بدّ من التوجّه نحو العقل والتعويل عليه لتقصّي مسارات كلّ أنماط المجتمعات المعروفة حتى لحظتنا الراهنة، واستثمار تجاربها واكتشافاتها وأخذ العبرة من إخفاقاتها، وهذا التقصّي يقترن بحركتين:

1- إعادة دمج كلّ الجهاز المفهومي والتاريخيّات المجتزأة في تاريخية واحدة، ومن ثمّ نحدّد لها وظائفها الأيديولوجيّة الأوّلية وقصورها الفلسفي وأخطائها الكبيرة.

2- مرتبطة بسابقتها، تتعلّق بمشروع تفكيك التراث لتحقيق وتحصيل فهم أفضل للماضي من ناحية، وإرساء قواعد صلبة وأسس متينة لمنهج فكري وممارسة تاريخية أكثر التصاقًا وتعايشًا مع الواقع الحقيقي من ناحية أخرى.

إنّ اقتران هاتين الحركتين -التخلّي عن الوظيفة الأيديولوجية والتمسّك بمشروع تفكيك التراث- من شأنه أن يحرّر الفكر الباحث في الثقافة الإسلامية ويدفعه إلى إعادة إنتاج نفسه متمسّكًا في الآن ذاته بمنهجيّة التعقلن والعقلنة حسب عبارة أركون، وتطبيقها على كافة الحقول والمعارف المرتبطة بالمجال العربي - الإسلامي.

إنّ هذه المقوّمات ضمن الجانب العملي تشكّل مجتمعة لبنات الفكر العلمي الذي ينشده أركون، وتشكّل أيضًا موقفًا منفتحًا تجاه المعرفة والممارسة، إنّ هذا التوّجه لا يعني أنّ الفكر أو المعرفة ينبغي أن تلتزم بمقتضيات الممارسة دائمًا إمّا لتوجيهها وإرشادها، وإمّا للاستفادة بها، إنّ تحصيل المعرفة بمثابة الجهد الديناميكي المستقلّ عن كلّ غاية أو منفعة فوريّة[13].

إنّ هذه اللّبنات تشكّل أسسًا لاستراتيجيّة مستحدثة، منسقّة ومنفتحة كما قال أركون لإعادة استكشاف ودراسة الفكر والثقافة العربية - الإسلامية بعدما أعلنت المناهج السابقة إفلاسها، فلا المقاربة الفيلولوجيّة، ولا المقاربة التاريخية، ولا المقاربة التمجيديّة... ولا غيرها استطاعت التملّص من الفرضيات الأيديولوجية والمغالطات وتحصيل المعرفة العلميّة الدقيقة.

إنّ أركون لا يسقط الخطاب الاستشراقي ويستبدله بخطاب آخر أو يتخلّى عنه، وإنّما يحاول توجيهه توجيهًا مستحدثًا ويرسم له الطرائق، ويحدّد له الآلّيات اللازمة بغية تحقيق العلميّة والدقّة المعرفيّة، بعدما عجزت الخطابات الاستشراقية القديمة على بلوغ هذه الغايات، لذلك كانت عبارة عن مبادرات فوضويّة مبعثرة ومعزولة تتّسم بالتكراريّة، ومحمّلة بأغراض ونوايا غير علميّة[14].

لقد آن الأوان لأنّ يجدّد الخطاب الاستشراقي نفسه، ومن هنا يكون لزامًا عليه أن ينخرط في هذه الاستراتيجيّة المستحدثة والمتغيّرة والمنفتحة على الفكر العلمي الجديد، حتى يتحرّر من رواسب الحدود الابستيميائية والأبستيمولوجيّة المسجون فيها منذ عقود.

2- في طرافة التجربة النقدية ومحدوديّتها

لسنا نجحد الجهود التي قدّمها أركون في قراءته للفكر الاستشراقي، ولسنا نخفي أيضًا احترازنا إزاء البدائل والحلول الناهضة بمشروع تحديثي للفكر الاستشراقي وفق استراتيجيّة معيّنة، كنّا قد أبنّا مقوّماتها وأسسها فيما تقدّم من بحثنا. وهذا الاحتراز متأتٍّ من بعض العوائق التي يمكن أن تعيق هذا الترقّي المعرفي في طرح المسائل والظواهر المدروسة، ويمكن أن يحملها البعض محمل الجدّ، ويمكن أن يحملها البعض الآخر محمل التخمينات والفرضيات من أجل الثرثرة والاجترار.

لسنا نودّ تقنين هذه الاعتراضات وتعميمها بشكل يتلبّس فيه مقتضى الواجب النقدي مع مقتضى التعقيب على الآراء، إنّ المهمّ من كلّ هذا الانخراط في ثقافة محاورة الآخر، وتطارح وجهات النظر مع مراعاة خاصية التثمين أو إبراز الحدود.

فنقول أوّلًا، إنّ الدعوة الملحّة للانفتاح على المنهج الأنثروبولوجي كما نادى بذلك أركون تشكّلت كردّة فعل على المنهج الفيلولوجي وقصوره عن تحصيل المعرفة المرجوّة. والحقيقة أنّ هذه الدعوة لم تكن دعوة رياديّة نادى بها أركون قبل غيره بل ثمّة من سبقه من بعض المفكرّين العرب.

كما طالب بها بعض المستشرقين فكتاب يوهان فابيان FABIAN «الزمن والآخر: كيف تصنع الأنثروبولوجيا موضوعها» -1983- يعدّ عملًا فريدًا من نوعه وبالغ الأهمية في آن معًا، إنّ جهد فابيان الجدّي لإعادة توجيه انتباه الأنثروبولوجيا نحو التناقضات الواقعة في الزمن والسلطة، والتطوّر الأثنوغرافي، وموضوعه المؤسّس هو جهد مرموق أيضًا»[15].

كما تنبّه مكسيم رودنسون إلى أنّ المهدّد بالزوال هو سيطرة الفيلولوجيا وليس نهاية الاستشراق؛ لأنّ الزيادة الكبيرة في المعلومات، بالإضافة إلى أدوات البحث وتقدّم طرق الدراسة، أصبحت تمكّن الباحث من تجاوز المرحلة الفيلولوجية لذلك أصبح الربط بين العلوم الاجتماعية والدراسات الناظرة في الثقافة والفكر الإسلاميين حاجة لا مفرّ منها الآن ومطلبًا مشروعًا[16].

ولكن السؤال الذي يظلّ قائمًا: هل باستطاعة هذه الطرائق المستحدثة والتوسّل بالمنهج الأنثروبولوجي أن يحقّق المعرفة العلمية المفتقدة للأيديولوجيا؟ وإن سلّمنا بعلمية المنهج الأنثروبولوجي هل نحن بحاجة إلى مناهج لإعادة قراءة التراث أم استحداث حلول ومخارج لمواكبة الحداثة؟

ثانيًا: إنّ الدعوة إلى إنشاء مخيال جماعي، وبلورة منهج مستحدث يقوم على استراتيجية معيّنة تجعل من تحقيق المعرفة هدفًا رئيسًا لها، مطمح مشروع ولكن التساؤلات الجوهرية: من هو الدارس؟ ومن هو الآخر المدروس؟ وما هي كيفية الدراسة؟ وما هي الغاية من الدراسة؟.

إنّ العلاقة بين الثقافات هي علاقة غير متكافئة وتقوم على الممايزة والتناقضات، وهذه مسائل يصعب تجاوزها أو إخفاؤها. إنّ الذي يحرّك هواجس الممارسة الاجتماعية وتمثّلاتها هي النزعة إلى التفاخر الفوقي الذي يتنامى بصفة ملحوظة، ورغبة الشعوب الممتلكة للقوّة والإرادة في اختراق الآخر لأغراض سياسية واقتصادية.

ونقول أخيرًا: إنّ بناء استراتيجيّة المعرفة الكلّية والكونية القائمة على إفراغ الديانات من بعض فروقاتها التمييزيّة المتصلة بعوامل الغريب والعجيب والأسطورة والخرافة والشخصيات الفوق إنسانية والمتعالية... والتي تمثّل حقيقة أسس مقوّماتها، وسرّ تميّزها واستمراريّتها، إنّ هذا الإفراغ يبدو في اعتقادنا مطلبًا يصعب تحقّقه لأسباب متعدّدة من بينها:

أوّلًا: هناك ثوابت ودعائم مركزية متّصلة بالبعد العقائدي والشعائري والإيماني... تميّز كلّ ديانة عن نظيرتها، رغم سعي البعض إلى ردم الفجوة بين هذه الديانات، والمناداة بضرورة الحوار والتقارب بين الأديان والحضارات، ولكنّ هذا المطلب يبقى في مستوى التنظير ولم يلامس مرحلة التطبيق رغم المحاولات المتعثّرة والبطيئة لبعض الداعمين لهذا المنحى[17].

ثانيًا: إنّ تجاوز الدين لتحقيق المصالحة بين الشعوب سعي محفوف بالهزّات؛ لأنّ مفهوم العصبيّة والعرق ما زال رائجًا، ولأنّ الدين يكتسب بعدًا عقائديًّا ووجدانيًّا وثقافيًّا مترسّخًا تاريخيًّا في الضمير الجمعي الإنساني وإن اتّخذ تشكيلات متعدّدة ومتنوّعة طيلة مساره التاريخي «فأزلية الدين متجذّرة في أزلية ما هو مقدّس في الوجدان الإنساني، من الصعب حسب الدلائل إلَّا أن نلاحظ السهولة التي يحوّل بها –أولئك الذين يتخلّون عن القيم والمعتقدات المقدسة- بعض القيم الأخرى من سياسية واقتصادية وعملية، من مجرّد قيم لها أهمّيتها الاختبارية أو النفعيّة إلى قيم ليست أقلّ قدسيّة من التي هجروها، حتى وإن لم تدخل في صلب الآلهة أو الأرواح فوق الطبيعية»[18].

إنّ هذه الملاحظات المقتضبة تتماشى مع ما أثبته الفكر البشري في مجال تحصيل المعرفة، والحقيقة، أنّه سعي متواصل دون هوادة أو استكانة رغم المعوّقات والمخاطر الحافة بهذه المهمّة المتأصّلة في الضمير البشري، والمرتحلة تاريخيًّا في فضاءات ثقافية وحضارية متعدّدة. وهذه الديمومة تتجدّد باستمرار تماشيا مع المستحدثات والطرائق البحثية المتجدّدة.

ولكنّ هذه الصيرورة لا تمنعنا من «الإثبات» بأنّ معرفة الآخر واستكشافه تتضمّن معانيَ ودلالات متعدّدة ومتغيّرة؛ لأنّها إنجاز تتداخل في نظمه فواعل ثلاثة لا بدّ أن تراعى كلّها وتأخذ بعين الاعتبار: أوّلها، منشئ المعرفة، والسياق الذي أنتجت فيه. ثانيها، اعتبار المعرفة بكونها اجتهادًا فكريًّا وعقليًّا تحرّكه هواجس متعدّدة من أجل تأصيل غايات وأهداف معينة. وثالثها، القارئ المتقبّل للمعرفة باعتباره ذاتًا له كيفياته في التأويل والفهم والتفسير...

والسؤال الملحّ: هل إنّ هذه الاستراتيجية الجديدة التي استحدثها أركون للخطاب الاستشراقي، ليجدّد نفسه قادرة على تحقيق المعرفة المأمولة وقادرة على أن تستوفي الحقيقة الكليّة للظواهر الثقافية المدروسة وإقصاء تدخّل الأيديولوجيا؟

الخاتمة

إنّ الدرس النقديّ الذي خصّه محمد أركون للدراسات الاستشراقيّة حرّكته نزعتان رئيسيّتان: أولاهما غلبت عليها الاحتفائيّة بأثر الاستشراق ودوره الرّئيس في تطوير الخطاب الفكري في الثقافة العربيّة، وثانيهما متجذرة في أدبيّات السّجال النقدي من أجل بيان النّقائص، وتوجيه النظر إلى طرائق جديدة في طرق الدراسة، والمعالجة للتوصّل إلى مُخرجات لها من الفاعليّة الإجرائيّة والمعرفيّة الشيء الكثير.

ونحن نعتقد أنّ هذا الدرس الأركوني لم يكن مقالة إلغاء وتهميش ودحض للخطاب الاستشراقي، بقدر ما كانت دعوةً الغاية منها تنبيه الفاعلين والمهتمّين بهذا المجال إلى إعادة النّظر في الطّرائق والمناهج المعتمدة في دراساتهم، فالرفض الأركوني للاستشراق كان مُنطلقه منهجيّ بالأساس وهو ما أنتج تبعًا قُصورًا معرفيًّا وعلميًّا في النتائج التي تمّ التوصّل إليها اعتمادًا على المنهج الفيلولوجي.

إنّ الرأي عند أركون هو إعطاء الأولويّة المطلقة للمنهج الأنثروبولوجي باعتباره ضمانة رئيسيّة لتحصيل معارف أكثر متانة وطرافة علميّة، والابتعاد عن تلك النّزعة الفيلولوجيّة التي سقطت فيها معظم الدّراسات الاستشراقيّة والتي أفرزت بدورها آراء ومعارف تنحو نحو الدّغمائيّة والانغلاقيّة.

إنّ التوسّل بالدرس الأنثروبولوجي وجَعله العُدّة الرّئيسيّة في مُباشرة القظايا والإشكاليّات، هو الغائيّة التي يبتغي أركون تحقيقها حتّى تكون النتائج المستخلصة ذات جدوى علميّة ومعرفيّة.

إنّ الفاعليّة الإجرائيّة للدراسات الاستشراقيّة في واقعنا اليوم تستوجب لزامًا الاستفادة المطلقة من المناهج المستحدثة لتطوير مُخرجاتها ومحصّلاتها، بما يحقّق الإضافة النوعيّة في مضامينها، وينعكس إيجابًا على مُضاعفة غاياتها النّفعيّة بما يخدم الفكر ويطوّر نُظم اشتغاله.

إنّ هذا المقصد الذي نحا إليه أركون يبقى محمودًا على علّاته، ولكنّ الرّجل تغافل صراحة عن الاختلافات الجوهريّة التي تتميّز بها المدارس الأنثروبولوجيّة فيما بينها. زد على ذلك أنّ اعتمال منهج واحد في عمليّات الدرس والنظر نراهُ بتواضع غير كفيل لتحصيل معرفة تدّعي الموضوعيّة في نتائجها، فكلّما تعدّدت مداخل النظر كلّما اقتربنا من تحصيل جهة نظر أكثر شموليّة وإحاطة بالموضوع المدروس.

إنّ ما نراه نحن عن صواب أنّ الدرس الاستشراقي لئن لم تكن بداياته منظّمة لخدمة أهداف معيّنة، بل كانت ثمرة جهود فرديّة قام بها البعض شغفًا وحبًّا لاكتشاف الشرق وحضاراته، إلَّا أنّه سرعان ما وُجّهت أهدافه وغاياته بُغية إحكام السيطرة وبسط النفوذ الفكري والسياسي والاقتصادي، تزامنًا مع امتداد النفوذ الاستعماري، ومحاولة الدول المستعمرة بسط سيطرتها على المستعمرات في الشرق واستغلال ثرواتها.

ومع هذا لا يجب أن نجحد أثر حركة الاستشراق في طرق النظر والدراسة في فكرنا العربيّ اليوم، فقد مكّنت الدّارس العربيّ من آليّات اعتُدّ بها لإعادة قراءة تُراثه الفكري وتعقُّله بما يُعزّز ثقافة الانتماء إليه، رغم بعض النّزاعات الدّونيّة التي تملّكت البعض وهي مردودة على أصحابها.

إنّ الوعي الجمعي بضرورة استثمار المحصّلات الإيجابيّة من أيّ جهد فكري مهما كان مأتاه، مع توفّر الاقتدار على التمييز بين الغثّ والسمين نراه مدخلًا لإعادة بناء وهيكلة مقدّراتنا الثقافيّة والفكريّة، ولعلّنا بهذا نضع اللّبنة الأولى للرؤية الاستراتيجيّة الحداثويّة، وهي رُؤية لا تُهمّش الماضي أو تُقصيه، وإنّما تُخلّصه من طابعه الدّوغمائي ومتعلّقاته، وتكون صمّام الأمان ضدّ كلّ الظواهر المستحدثة في واقعنا اليوم، والتي باتت خطرا يُهدّد انتظامنا المجتمعيّ فكرًا ووُجودًا ويُقوّض أيضًا سلمنا الأهليّ.

 



[1] المصدر المعتمد في هذا البحث هو: محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، و الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1996. انظر تحديدًا: الخطابات الإسلامية، الخطابات الاستشراقية والفكر العلمي»، ص ص. (43-64).

[2] محمد أركون، مصدر سابق، ص41.

[3] انظر: إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة: صبحي حديدي، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1996م.

[4] محمد أركون، مصدر سابق.

[5] انتقد إدوارد سعيد كثيرًا برنارد لويس، ولمزيد من التوسّع راجع كتابه: الاستشراق، المعرفة، السلطة الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، بيروت - لبنان: مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الثانية 1984.

[6] راجع، محمد أركون، مصدر سابق.

[7] المرجع السابق، ص ص. 257 – 258.

[8] انظر:

Philologie: 1 étude d’une langue ou d’une famille de langues, fondés sur l’analyse critique des textes, 2, établissement ou étude critique de textes par la comparaison des manuscrits ou des éditions par l’histoire. Le Petit Larousse, 2007, p.814.

[9] إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص265.

[10] لمزيد التوسع بشكل عام راجع: والتر أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة: حسن البنا عز الدين، سلسلة عالم المعرفة، عدد 186/ 1994.

[11] راجع: محمد أركون، مرجع سابق، ص20.

[12] انظر: حسين فهم، قصّة الأنثروبولوجيا، سلسلة عالم المعرفة، عدد 98/ 1986، ص ص18-19.

[13] المرجع السابق.

[14] محمد أركون، مصدر سابق. ص262.

[15] إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص40.

[16] شاخت، تراث الإسلام، ترجمة: حسين مؤنس، إحسان صدقي العمد، محمد زهير السمهوري، الجزء الأول، الطبعة الثالثة،، ص.ص92-93، سلسلة عالم المعرفة عدد 233/ 1990، ص ص92-93.

[17] لمزيد التوسع راجع بشكل عام: أليكس جورافسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة: خلف محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 215/ 1996.

[18] راجع: روبرت نيسبت، علم الاجتماع، ترجمة: جريس خوري، لبنان: منشورات دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1990، ص241.