الغيرية المقهورة أو التاريخ الآخر
من منظور فالتر بنيامين
الدكتور بلعاليه دومه ميلود*
*جامعة الشلف، الجزائر.
أولًا: المفارقة البنيامينية
ليس من باب الغرابة أن نستعيض عن المقدمة العادية بالحديث عن «المقدمة – المفارقة»، عندما يتعلّق الأمر بجانب من جوانب فكر هذا الفيلسوف اللغز، خاصة في مجال دقيق وخطير مثل مجال التاريخ؛ إذ في هذا المجال تحديدًا يتم اختبار مضمون المفارقات ومدى قيمتها بالقياس إلى صاحبها أولًا وإلى متلقيها ثانيًا.
ذلك أن المفارقة الفلسفية لمفكر ما إذا ما جرّدت من سياقها التاريخي، صارت مجرد لعبة شكلية تصلح للتسلية الذهنية أكثر مما تصلح لجدية النظرة الثاقبة. من هذا القبيل هي مفارقة ولتر بنيامين الفلسفية، ومحصلة ذلك أنه فيلسوف وفنان وناقد أدبي، فضلًا عن كونه مناضلًا وثائرًا متمردًا على ذاته وعصره، بل على تاريخ مجتمعه بأسره. إنه مفكر أدار ظهره لزمانية عصره حتى يتمكن من فهم وتفسير حقيقة معاصرته، فهمًا وتفسيرًا يتجاوز بهما حالة انسداد تاريخ عصره وما آل إليه من «بربرية جديدة».
جوهر المفارقة كون هذا الفيلسوف دعا للتفكير في التاريخ بطريقة مضادة للتاريخ، بمعنى أنه سعى، باسم عقلانية نقدية، إلى وضع العقل التاريخي، الأوروبي تحديدًا، أمام تناقضاته الخاصة حتى يتمكن من إدراك الخطر الكامن في ذاته، وهو خطر «الخدعة التاريخية» التي ستقوده حتمًا إلى تحطيم ذاته بذاته، أو كما نقول: تخريب بيته بيديه.
لعل الانتباه إلى هذه المفارقة الكبرى، هو الذي يحملنا على أن نتجاوز مباشرة المقدمة لنتساءل فيما إذا كانت هذه المفارقة شكلًا جديدًا للتعبير عن خيبة أمل فلسفية في العثور عن تصور ما للتاريخ وفق طروحات فلسفة التاريخ المعهودة، أم أن الأمر متعذر بالكلية ما لم نتمكن من الارتقاء إلى تصور للتاريخ في اتجاه مضاد لفلسفة التاريخ ذاتها؟
يبدو أن مشروع الإجابة عن هذه الإشكالية سيظل حبيس هذه المفارقة ما لم نحدد منذ البداية نمط التاريخ الذي يستهدفه تفكير بنيامين الفلسفي، إذ يبدو أن هناك تاريخ يفكر فيه (ويفكر به أو بواسطته أيضًا)، وهناك تاريخ يفكر ضده.
إن التاريخ الأول لا يعدو أن يكون تاريخه الخاص، أي ذلك التاريخ الذي يفكر فيه انطلاقًا من «وضعية محددة» وأفق ما، أو بلغة غدامير، التاريخ «كموقف تأويلي» (Situation herméneutique)، بينما التاريخ الثاني هو التاريخ الذي تحددت معالمه النظرية الأساسية منذ عصر الحداثة الأوروبية وتحديدًا مع عصر الأنوار، والذي جسدته التاريخية الألمانية خلال القرن التاسع عشر، سواء في صورتها المثالية الهيغلية أو في صورتها المادية الوضعية.
طبيعي إذًا بالنسبة لفيلسوف مادي ثائر، مثل ولتر بنيامين، يشتغل على هدى «النظرية النقدية» لمدرسة فرانكفورت الألمانية، أن يتّجه تفكيره في التاريخ بالمعنى الأول، بينما يتجه ضد التاريخ بالمعنى الثاني.
على هذا الأساس يمكن أن نحلل تصور التاريخ عند بنيامين على ضوء التمييز بين لحظتين أساسيتين: لحظة الهدم ولحظة البناء.
ثانيًا: بنيامين ولحظة الهدم التاريخي
تبعًا للفصل الذي يحدثه بنيامين بين نمطي التاريخ سالفي الذكر، وبالنظر لالتزامه الفكري والسياسي أيضًا بخط المدرسة الفرانكفورتية ذات النزوع النقدي الماركسي، يعلن منذ البداية أن مهمة االنقد الحقيقي للتاريخ هي مهمة موكولة حصريًّا إلى «المؤرخ المادي»، أي المؤرخ الماركسي الذي يحلل وقائع التاريخ على ضوء فكرة «الصراع الطبقي»، استنادًا إلى مقولة ماركس الشهيرة: «إن تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ للصراع الطبقي». وعليه فإن من أولويات مهمة المؤرخ المادي هي هدم مسلّمات غريمه المؤرخ التاريخاني، وعلى رأس هذه المسلّمات مسلمة: «التقدم» (Progrès).
إن فكرة التقدم كما هيمنت على جميع صور التاريخانية هي، بنظر فيلسوفنا، فكرة غير أصيلة بتاتًا؛ إذ هي مجرد تعبير مخادع تبنته فلسفة التاريخ البرجوازية من أجل تمديد عمر «المنتصر»، وتأبيد إرادة الهيمنة للطبقة الحاكمة ضد «الآخر المهزوم أو المغلوب على أمره».
لذلك يعلن بنيامين في الأطروحة السابعة حول مفهوم التاريخ أنه من واجب المؤرخ المادي أن «يمسح التاريخ من جديد وضد التيار»[1]، وما التيار المستهدف هنا إلَّا تيار التاريخانية الألمانية كاستهداف مباشر، ومن ثم استهداف النزعة التقدمية المباطنة للحداثة الأوروبية استهدافًا غير مباشر. أي باختصار، هي دعوة إلى ضرورة هدم التصور التاريخاني للتاريخ هدمًا فلسفيًّا سيأخذ لاحقًا صياغته البراديغمية في شكل «تأويلية استطيقية»، أو إذا ما استعرنا عبارة الباحث ستيفان موزاس (S. Mosès): نقول يأخذ صورة «براديغم إستطيقي للتاريخ»[2].
غير أن هذه التأويلية الإستطيقية، في كل الأحوال، لا تشتغل بمنأى عن الهاجس النقدي السياسي الذي يظل يسفر عن وجهه عبر كل صور التعبير الفلسفية النقدية، سواء الفنية منها أو الإيطيقية، بل حتى في الصورة التيولوجية التي يمكن أن تنتهي إليها هذه التأويلية (صورة الخلاص اليهودي)، حتى وإن أخذت صورة التيولوجيا السالبة (Théologie négative)، على اعتبار أن بنيامين سيوظف مفهوم الخلاص كمعادل لمفهوم الثورة بمعناها السياسي، أي باعتباره فعلًا ممكنًا لتغيير وجهة التاريخ لصالح الطبقة المقهورة.
2 -1. خطاب التقدم كهاجس للنقد السياسي
في «رسالة موجهة إلى ماكس هوركهايمر بتاريخ فبراير 1940، يصرح فيها بنيامين بأن الوضعية العالمية، ويقصد بها وضعية الحرب العالمية، هي التي أملت عليه كتابة نصه أطروحات حول مفهوم التاريخ»[3]، وهو النص الذي انتهت إليه عصارة أفكاره النقدية حول فكرة التقدم، الأمر الذي يكشف عن مدى تأثير الثقل السياسي الذي تنطوي عليه هذه الفكرة، ومن ثم مدى شعور بنيامين، كمعاصر لحرب مدمرة أولًا وكناقد مادي ثانيًا، بالتشاؤم وفي الوقت ذاته برغبة ملحة في سحق هذه الفكرة سحقًا أبديًّا، والقدرة تاليًا على شق طريق الأمل نحو تاريخ جديد، وتقدم مختلف وهذا ما يؤكد قوله: «باسم أولئك الآخرين الذين يعيشون بلا أمل نسعى لجلب الأمل»[4].
أول ما يبرز الهاجس السياسي في عملية الهدم التاريخي هذه، يبرز على مستوى نقد فكرة «التقدم» على ضوء فكرة «الكارثة»، وهو نقد وجد تعبيره الصارخ أولًا في كتاب «الممرات» حيث يقول: «يجب تأسيس مفهوم التقدم على مفهوم الكارثة، ذلك أن القول بأن الأشياء تستمر على وتيرة واحدة، فتلك هي الكارثة»[5].
وبالحدة نفسها يسجل بنيامين في إحدى ملاحظاته التمهيدية لأطروحاته حول مفهوم التاريخ ما يلي: «الكارثة هي التقدم والتقدم هو الكارثة، إن الكارثة هي متصل التاريخ»[6].
غير أن بنيامين يستعيد في الأطروحة التاسعة «حول مفهوم التاريخ» فكرة التقدم الملازمة للكارثة من خلال قراءة تأويلية للوحة «الملاك الجديد» (Angélus Novus) للرسام الألماني السويسري بول كلي (Paul Klee) والتي اشتهرت أيضًا «بملاك التاريخ» (L’Ange de l’Histoire)، وهي لوحة كما يقول بنيامين ما نصه: «يبدو فيها هذا الملاك على أهبة الابتعاد عن شيء ما يصوب نظره نحوه، واسع العينين، فاتحًا فاه، منشور الجناح، على منواله صورة ملاك التاريخ الذي يدير وجهه صوب الماضي، فحيث تتراءى لنا سلسلة من الحوادث، لا يرى هو سوى كارثة واحدة ووحيدة، كومة من أطلال وأطلال تسابق خطواته. يحاول جاهدًا التوقف لبعض الوقت عساه يوقظ الموتى ويلمّ الشتات، لكن إعصارًا من الجنة يهب فيحول بينه وبين إغلاق جناحيه ساحبًا إياه بقوة نحو المستقبل الذي يدير له ظهره، في حين أن ركام الأطلال يتصاعد أمامه حتى السماء، إن هذا الإعصار هو ما نسميه الكارثة»[7].
لا شك أن مثل هذا التماهي بين مفهومي التقدم والكارثة له دلالته التاريخية والسياسية الكبرى، وذلك بالنظر لكون الماضي، من وجهة نظر المهزومين، ليس إلَّا سلسلة من الكوارث المتتالية التي تسببت في إحداثها الطبقات الحاكمة عبر كل العصور بدافع من الأنانية وحب التملك، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة: تمرد العبيد، حرب الفلاحين، جوان 1848، انتفاضة جانفي البرلينية 1919... وهي شواهد كثيرًا ما ترد ضمن كتابات بنيامين المتفرقة، وهي لا تعكس جبروت الماضي الذي انقضى فقط، بل لا تزال تشهد على راهنيتها، إنها في نظر بنيامين، كما يقول في «الأطروحة السادسة»: شواهد حية على هذا «العدو الذي لا يزال إلى الساعة يهيمن»[8].
لكن ما هي الأسباب البعيدة التي تحول بيننا وبين فهمنا لحقيقة هذه الكوارث والإخفاقات المتتالية؟ هل علينا أن نلجأ إلى إيمان أعمى بقدرية التاريخ ومنطق الأمر الواقع؟ أم أن هذه القدرية هي حيلة التاريخ من أجل التقدم المستمر للبشرية؟ ألم يقل ماركس ذات مرة: «إن التاريخ يتقدم من الجانب السيئ للأشياء»؟ والمفارقة الكبرى، عند بنيامين، أن كل هذه الكوارث تحدث في صلب التقدم التقني والعلمي الذي نمجده اليوم؟!
إن محاولة فك خيوط هذه المفارقات تقتضي حسب بنيامين، وعيًا تاريخيًّا «استثنائيًّا»، نابعًا من حالة الطوارئ التي لا تزال تتخبط فيها الطبقة المقهورة، أي ضرورة الوعي بأن الوضع الكارثي للتاريخ كوضع استثنائي هو ما يشكل القاعدة وليس الاستثناء، ولعل هذا ما يظهر بوضوح في الأطروحة الثامنة إذ يقول: «إن تاريخ المقهورين يعلّمنا بأن حالة الطوارئ التي نعيشها هي القاعدة، يجب علينا أن نبلغ تصورًا للتاريخ يأخذ في الحسبان هذه الوضعية، وذلك حتى نتمكن من اكتشاف مهمتنا وهي أن نظهر للعيان حالة الطوارئ الحقيقية، وبهذا نكون قد حافظنا على موقفنا المتماسك في الصراع ضد الفاشية»[9].
غير أن إبراز حالة الطوارئ هذه تقتضي بدورها قلبًا كاملًا للأدوار على خشبة مسرح التاريخ، حيث يوكل الدور الرئيسي فيها إلى شخص المؤرخ المادي القادر على إعادة تأويل التاريخ من وجهة نظر المهزومين، وهذا بعد فضح كل نزعة تاريخية ترتدي قناع التقدم باسم مقولات الضرورة العلية والتحليل الموضوعي للوقائع التاريخية، والحياد الأيديولوجي بشأن أحكام التاريخ.
ولعل هذا ما يحيلنا مباشرة إلى الحديث عن الموقف الفلسفي في لحظة الهدم التاريخي لفكرة التقدم عند بنيامين، أو ما يسميه هو ذاته «بالموقف المادي».
2 -2. مفارقة التقدم/ الكارثة والموقف المادي
ينظر بنيامين إلى النزعة المادية ضمن سياق تاريخي فلسفي خاص هو سياق «النظرية النقدية»، ومن ثم إلى الماركسية في صورتها «الفرانكفورتية» تحديدًا، وعلى هذا الأساس يفهم الموقف المادي عند بنيامين باعتباره «الملازم الموضوعي للجهد النقدي»[10].
ولهذا التحديد التاريخي أهميته القصوى بالنظر إلى نظرية فلسفية للتاريخ تجعل من المادية التاريخية أساسها المنهجي في تقويض البناء الفلسفي للتاريخ حتى في صورته الماركسية الشائعة، أي كفلسفة تنساق هي الأخرى، وبشكل ما، وراء دعوى التقدم التاريخاني.
الأمر الذي يؤكد أكثر على الوعي النقدي الثوري لدى أنصار النظرية النقدية، ومن ثم لدى بنيامين ذاته على كل أشكال الوعي التاريخي الزائف، وعلى رأسها «التاريخانية الألمانية» التي تستمد وجودها من فكرة التقدم كما أشاعتها فلسفة الأنوار. وعليه فإن الماركسية التي يرتكز عليها النقد الفرانكفورتي، ومن ثم النقد البنياميني أيضًا، هي الإطار الذي يسمح بالتفكير، في حركة التاريخ من وجهة نظر المصالح التاريخية للبروليتاريا،»[11] خاصة في حقبة تاريخية بدا فيها التاريخ بلا معنى أو وجهة، اللهم إلَّا معنى ووجهة الكارثة.
إن الدعوة إلى إعادة تأويل التاريخ من وجهة نظر المهزومين هي دعوة لفلسفة تاريخ جديدة تجد منابع ولادتها، فضلًا عن الرومانسية الألمانية، ضمن تراكب عجيب لمرجعيتين فكريتين شديدتي الاختلاف: الماركسية (Marxisme) والخلاص اليهودي (Messianisme juif).
لكن هو تراكب وليس تركيبًا، لأن بنيامين ذاته يدعو للتخلص من «التركيب النسقي» المنظور إليه لدى تيار النظرية النقدية عمومًا، كأحد أعراض المرض المزمنة للعقل المهيمن»[12]، الذي تصوره التاريخانية على أنه «العقل التاريخي بامتياز».
ولذلك يدعو بنيامين للإطاحة النهائية بهذا العقل، لا لاستبداله باللاعقل، وإنما بتفجير منطقه الداخلي أو «البراديغم» الذي يحكمه من الداخل، ومن ثم استبداله ببراديغم عقلاني آخر من شأنه أن يعيد الأمل في مستقبل تاريخي أفضل؛ إذ بالنسبة لبنيامين أن «نهاية الإيمان بوجود معنى للتاريخ لا يؤدي بالضرورة إلى هدم فكرة الرجاء، بل على العكس من ذلك، لا يمكن لفكرة الرجاء أن تتشكل كمقولة تاريخية إلَّا على أنقاض العقل التاريخي تحديدًا»[13].
يرتكز تفجير براديغم العقل التاريخي عند بنيامين على الإطاحة بمفهوم التقدم من خلال مفهوم أعم يرتدّ إليه في النهاية وهو مفهوم الزمن، حيث يكتب ما نصه: «إن فكرة تقدم النوع الإنساني عبر التاريخ لا تنفصل عن فكرة الحركة ضمن زمن متجانس وفارغ، إن نقد هذه الفكرة يصلح كأساس لنقد فكرة التقدم بصورة عامة»[14]، ذلك أن زمن التقدم هذا يجد ولادته الأصلية في الزمن الكرونولوجي، المتصل والمتجانس، الذي أشاعته فيزياء نيوتن، وهو ضرب من الزمن الفارغ، تم إسقاطه على مجال التاريخ من قبل المؤرخ التاريخاني، حيث يتم ملء هذا الزمن الفارغ بجملة من الحوادث المتتالية، باسم سببية مزعومة، حتى يأخذ من ثم صورة زمن تاريخي معقول وذي معنى.
من هنا تأتي خدعة التقدم التاريخي كخدعة فلسفية للتاريخ تسللت خلسة، وفي غفلة من الوعي المادي التاريخي، إلى الواجهة معتلية بذلك ركح مسرح التاريخ. وصار من واجب المؤرخ الحقيقي أن يعيد تشييد مادية تاريخية قادرة من صميم ذاتها على سحق فكرة التقدم»[15].
ولا يكون ذلك إلَّا بقدرة المؤرخ المادي على إحداث انقطاع في المجرى الجنوني نحو مستقبل مجهول حتى يتسنى له إخضاع الوقائع التاريخية لضرب من التحليل النقدي مؤسس على إعادة التأويل، بعبارة أخرى، على المؤرخ المادي أن يوقف التدفق الفارغ للزمن، مستخدمًا العناصر المعزولة بواسطة هذا الانقطاع بغية تحليلها واستخلاص الدروس منها، وبذلك تختفي كل ضروب القدرية التاريخية التي أسست لها تاريخانية القرن التاسع عشر، سواء في ثوبها الوضعاني باسم انسياقها الأعمى وراء موضوعية مضللة، أو في ثوبها الهيغلي المثالي باسم إيمانها الأعمى في تقدم مستمر للروح كوعي بالحرية.
بناء على هذا الأساس يشرع بنيامين في بناء تصور للتاريخ ينسجم مع مفهوم مختلف للزمن التاريخي، وذلك انطلاقًا من براديغم مغاير لبراديغم العقل التاريخاني ألا وهو براديغم النقد الإستطيقي، أي على الهرمينوطيقا تحديدًا.
ثالثًا: بنيامين ولحظة البناء التاريخي
واضح مما سبق أن الهاجس النقدي الذي يحرك اهتمام بنيامين التاريخي هو هاجس التحرر من أسر النظرة التقدمية للتاريخ كما أشاعتها التاريخانية، تلك النظرة التي «تنتهج طريقة جمع الوقائع بغية ملء الزمن المتجانس والفارغ»[16]، ومن ثم تجريد التاريخ من مضمونه الملموس، أي التاريخ كصراع تتكرر صورته مع كل حاضر أو كل وضعية جديدة.
ولذلك على المؤرخ المادي أن يعيد بناء هذه الصورة في كل حين وآن، قاطعًا الطريق أمام كل شكل من أشكال التعاطف مع «المنتصرين». غير أن بنيامين يعي أن مهمة إعادة بناء التاريخ هذه لا يمكن أن تفي بها المادية التاريخية وحدها ما لم تلجأ إلى الثيولوجيا في صيغتها الخلاصية اليهودية، وذلك حتى يتمكن من تخليص المادية التاريخية ذاتها من طابع الآلية التي قد توقعها هي الأخرى في شرك التقدمية الفارغة.
إن مهمة بناء التاريخ من جديد بهذا المعنى تقتضي تدخّلًا ثوريًّا على مستوى التصور المادي التاريخي، وذلك بإقحام فكرة الخلاص اليهودي كفكرة هي عند بنيامين تشكّل لحظة ثورية بامتياز. ولعل هذا ما أفصح عنه منذ كتاباته الأولى، خاصة في كتابه «حياة الطلبة» عام 1915 من خلال قوله: «سنهتم، على غرار الييوتوبيين السابقين، بالتاريخ انطلاقًا من وضعية محددة قادرة على اختزاله ضمن نقطة بؤرية حيث لا تفرض عناصر الوضعية النهائية نفسها باسم تقدمية فارغة، وإنما باسم إبداعات وأفكار، بالرغم من خطورتها وسخريتها، ملتصقة بصورة عميقة بلحمة كل حاضر (...) إن هذه الوضعية (...) لا يمكن إدراكها إلَّا في بنيتها الميتافيزيقية، كمملكة خلاص أو كفكرة ثورة شبيهة بثورة 89»[17].
وبهذا المعنى سيأخذ تصور التاريخ عند بنيامين طابعًا تأويليًّا، يمكن اختزاله في فكرتي «التحيين» (L’actualisation) والفداء أو الخلاص (La Rédemption). فبعد أن حدد مهمة المؤرخ المادي كمهمة هدم للتاريخ التقدمي من حيث هو تاريخ مبني على تصور للتدفق الزمني الفارغ، يسعى من جانب آخر إلى إنقاذ المفهوم الأصيل للتقدم من حيث هو تقدم يحصل على مستوى الوعي التاريخي كوعي ثوري، يعكس زمانية خاصة هي زمانية الخلاص، فكيف يمكن للفكر التاريخي أن يستعيد مثل هذه الزمانية في ظل تصور مادي للتاريخ؟
يسمي بنيامين الإجراء الذي ينتهجه المؤرخ المادي والذي يسمح بإنقاذ «الماضي المقهور» من عالم النسيان، بعملية «البناء» التاريخي، حيث يتم إعداد حلقة ربط جديدة بين الحاضر والماضي. في ظل هذه الرؤية للتاريخ تكتسي الحوادث الماضية في كل حلقة ربط جديدة معنى جديدًا، فالبناء التاريخي هو ضرب من التحيين، أو إعادة تأويل الماضي على ضوء وضعية حالية، إنها كما يقول بنيامين: «الالتقاط المنظاري للماضي بواسطة الحاضر»[18] «Le passé télescopé par le présent».
بهذا المعنى لا يمكن للمؤرخ أن يتحدث عن «تاريخ موضوعي»، أو عن حقيقة تاريخية مطلقة، طالما أن كل عملية تحيين جديدة تظهر التاريخ من زاوية خاصة ومختلفة، وهو الأمر الذي يسمح لنا بالقول: إن التاريخ، حسب بنيامين، ليس هو نهاية المطاف إلَّا ضربًا من التأويل، أي مجرد واقعة لغوية، تمامًا مثل ما هو الحال بالنسبة لتاريخية الإستيطيقا، حيث نجد كل جيل يستملك الأعمال الفنية بطريقته الخاصة ومن زاوية مختلفة عن الأجيال السابقة، فالإستيطيقا بهذا المعنى تمنح لبنيامين، كما يقول ستيفان موزاس: «نموذجًا لتاريخية خاصة، غير محكومة بمبدأ السببية، ومؤسَّسة على فكرة انخراط كل عمل فني ضمن منطقة زمانية مستقلة، مولدة بذلك حاضرها الخاص وماضيها الخاص، ومن ثم مستقبلها الخاص»[19].
في ظل هذا البراديغم التأويلي الإستيطيقي، يمكن لفكرة التقدم أن تستعيد كرامتها الفلسفية، أي استرداد أصالتها كمفهوم أُخطئ استعماله في سياق غير سياقه الإنساني، ونقصد بذلك سياق التاريخانية.
إن التقدم في صيغته البنيامينية هو ذلك الضرب من «التقدم الذي لا يجد مثواه في اتصالية العملية الزمانية، وإنما في انقطاعاتها حيث نستشعر مع كل لحظة انبثاق شيء جديد كما لو أن صبحًا جديدًا بدأ يتنفس»[20]. مفاد هذا الكلام باختصار أن بإمكان الفن أن يتأسس كبراديغم جديد لفلسفة التاريخ على أنقاض براديغم العقل التاريخاني، ومن ثَمَّ كإطار لوعي تقدمي خارج مجال الزمانية الكرونولوجية الفارغة التي تجعلنا أسرى للعود الأبدي للمشهد المتكرر والمماثل دائمًا. فبفضل الرؤية المنظارية للحاضر والماضي التي تعمل على التأليف بين وقائع تبدو ظاهريًّا متناقضة ومتنافرة، يتم إبداع منظورات جديدة تسمح بتكوين نظرة جديدة على الوقائع، هذه النظرة لا يبلغها إلَّا من يملك القدرة على قراءة وتأويل نص التاريخ بالقياس إلى وضعيته الخاصة.
هنا بالذات يلجأ بنيامين إلى الثيولوجيا عبر توظيف فكرة الخلاص اليهودي كفكرة نموذجية حتى يستكمل تصوره البديل للتاريخ، حيث يصرح في ملاحظاته التمهيدية لأطروحاته أن المخلص يحدث انقطاعًا في التاريخ، وأنه لا يتدخل عند نهاية تطور ما[21] مسببًا بذلك حالة «توقف» أو «تعطل» لحظي للتدفق الزمني المتصل. إنه توقف عن الانشغال باليومي المبتذل وانتزاع الحاضر من رتابة الزمن الفارغ، ومن ثم رفعه إلى مستوى الزمن التاريخي الحقيقي هو ما يسميه بنيامين ذاته بالزمن الخلاصي (Temps messianique) حيث يختصر فيه تاريخ الإنسانية بالكامل.
مثل هذا الزمن هو الذي يجد تعبيره النموذجي في المفهوم الذي أبدعه بنيامين وهو مفهوم «الحاضر الاستثنائي» (L’ à-présent) في الأطروحة السادسة عشر حول مفهوم التاريخ، يصف بنيامين هذا الضرب من مفهوم الحاضر قائلًا: «لا يمكن للمؤرخ المادي أن يتنكر لمفهوم للحاضر، لا يفهم كمجرد عبور، وإنما كتوقف وتعطل للزمن (...) إنه يظل يمتلك جميع قواه، وقادر بما فيه الكفاية على تفجير متصل التاريخ»[22].
فلكي يتم تفجير هذا المتصل التاريخي الفارغ يكفي أن نستدرجه نحو لحظة التوقف، أي لحظة انقطاع التدفق حتى يتسنى لنا إيجاد فرصة للخلاص من التاريخ المفروض علينا كأمر واقع، وذلك بواسطة النظرة الثاقبة التي على المؤرخ أن يمتلكها بشأن الحاضر، وبقدرته على التشكيك المستمر في مدى صلاحية التأويلات التقليدية والمعيارية للتاريخ، باعتبارها دائمًا تأويلات الطبقة السائدة أو المنتصرة.
فالمؤرخ المادي بهذا المعنى هو بمثابة الملاك المخلص لتاريخ المقهورين من سطوة المنتصرين على هذه الأرض، وذلك بالتأسيس لحاضر يكون بمثابة «الآن» الذي تنبثق منه صور خاطفة للزمن الخلاصي. وهو زمن، تكون فيه كل لحظة من الماضي بمثابة لحظة خلاص أخيرة، كما لو أن يوم القيامة قد حدث أو يمكن أن يحدث في كل حين، وأن يعيد إنتاج نفسه بشكل جديد دائمًا بواسطة القراءة التأويلية للنصوص.
ففي هذا المفهوم بالذات، أي مفهوم «الزمن الخلاصي»، يجد بنيامين أساس تصوره البنائي للتاريخ كتاريخ مغاير، يشهد على ذلك قوله في نهاية الأطروحة الأخيرة حول مفهوم التاريخ ما نصه: في زمن الخلاص «كل ثانية كانت بمثابة الباب الضيق الذي يمكن أن يلج منه المسيح المخلص»[23].
المؤرخ المادي بإمكانه أن يرى هذا المسيح وهو يلج من الباب الضيق للاستذكار الجماعي ويقظة الوعي التاريخي، وعلى هذا النحو يُحدث انقطاعًا في مجرى الزمن المتجانس والفارغ. في الواقع، إن هذا الباب الضيق لا ينفتح إلَّا بفضل اشتعال المؤرخ على اللغة، أي على التأويل المتجدد باستمرار للنص الذي يتشكل في التاريخ وبالتاريخ.
بقي أن نقول في آخر المطاف، بأنه بفضل عملية التأويل هذه فقط، التي يمكن أن تطرأ مع كل لحظة وأن تعيد معها تقييم كل لحظات التاريخ، قد تحظى فكرة التقدم التاريخي بثقة «ملاك التاريخ».
[1] Sur le concept de l’Histoire, dans Œuvres III, paris, Gallimard, coll. « Folio essais », 2000, p. 430.
[2] S. Mosès, L’Ange de l’Histoire, paris, Seuil, coll. « La couleur des idées », 1992, pp.124-125.
[3] W. Benjamin, Gesammelte Schriften, I. 3., p. 1225 s.
[4] Paul-Laurent Assoun, l’école de Francfort, PUF, 1990, p. 104.
[5] W. Benjamin, Livre des passages, Editions du Cerf, 1989, p.491.
[6] W. Benjamin, Gesammelte Schriften, I. 3., p. 1244.
[7] Sur le concept de l’Histoire, op.cit, p. 434.
[8] Ibidem (thèse VI).
[9] Ibid, thèse VIII.
[10] Paul-Laurent Assoun, l’école de Francfort, PUF, 1990, p. 38.
[11] Ibid., p. 83.
[12] Ibid., p. 109.
[13] S . Mosès, L’Ange de l’Histoire, paris, Seuil, coll. « La couleur des idées », 1992, p.24
[14] Ibid., p.439.
[15] Cf. Michael Lowy, « Progrès et catastrophe. La conception de l’histoire de Walter Benjamin », dans : HISTOREIN, volume 4 (2003-4), p. 202.
[16] Sur le concept de l’Histoire, op.cit, pp. 427-428.
[17] W. Benjamin, Vie des étudiants, 1915, dans Mythe et violence, Lettres nouvelles, 1971, p.37.
[18] W. Benjamin, Livre des passages, op.cit, p.492.
[19] S . Mosès, L’Ange de l’Histoire, op.cit, pp.124-125.
[20] W. Benjamin, Livre des passages, op.cit, p.492.
[21] W. Benjamin, Gesammelte Schriften, I. 3., p. 1243.
[22] Sur le concept de l’Histoire, op.cit (thèse XVI).
[23] Ibidem (thèse XVIII).