نقد متن السيرة النبوية..
نظرات في تهذيب ابن هشام
الدكتور علي مزيان*
* كاتب وباحث من المغرب، البريد الإلكتروني: Mazyan72@hotmail.com
مقدمة
شكَّل النقد الداخلي من خلال النظر في المتون، الدعامة الأساس لبيان صحة النصوص في مقابل النقد الخارجي الذي يهتمُّ بالأسانيد؛ من حيث تعديل الرواة أو تجريحهم.
ولعل الدافع إلى اقتحام هذا الأمر وتتبُّع بعض نصوص السيرة النبوية، أن العناية بنقد المتون تُمليها خصوصية المنهج التاريخي الذي نشأت السيرة النبوية في سياقه، فلم تكن تفاصيل حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) عند المؤرخين، إلَّا حلقة من مجموع حلقات التاريخ الإنساني -بصرف النظر عن الجانب التعبُّدي الجلي فيها- لذلك عمد مؤرخو الإسلام القدامى إلى الاشتغال بالمبتدأ أولًا، ثم بالمبعث ثانيًا، ثم بالمغازي ثالثًا.
كما أن نقد المتون يُمليه كذلك، ذلك الإصرار غير المبرَّر على الاحتفاظ ببعض الأخبار في كتب السيرة بدعوى ورودها في كتب الحديث؛ لأن المحدِّثين اختلفوا في النظر إلى أسانيدها بين موثّق لها ومضعّف. لهذا فإن القصد هو النظر في محاولة رائدة رامت تنقية مصنف السيرة ممَّا علق به من القصص الباطلة والوقائع الملفَّقة؛ وقائع نقدها القدامى وبيَّنوا عللها وردوها، لكنها ما زالت جزءًا لا يتجزَّأ من تصوُّر المسلمين لحياة النبي (صلى الله عليه وسلم).
فنقد المتون بهذا الاعتبار داعم لنقد الأسانيد، وهو منهج أصيل في التاريخ الإسلامي، نبَّه إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومارسه الصحابة من بعده، في وقت لم تتضخَّم فيه سلسلة السند التي تحمل على نقد الرجال فيها. بل إن أول محاولة لتهذيب سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) اهتمَّت بنقد المتون، والعناية بها كما كان الشأن في تهذيب ابن هشام لسيرة ابن إسحاق.
تجليات نقد المتن في تهذيب ابن هشام
لقد نشأت السيرة النبوية نشأةً تاريخيةً، وكان التأليف في السيرة حلقة من حلقات التصنيف التاريخي، لذلك اختلف أسلوب جمعها وكتابتها، فإذا كان الحديث النبوي يهتمُّ بواقعة معينة يحتاج فيها شهادة تنهض على ثبوت تلك الواقعة، من غير أن يحتاج إلى سياق «قصصي»، فإن السيرة النبوية تعتني بسياق الحوادث وتعمل على جمع شتات الوقائع لتشكِّل مسارًا «تاريخيًّا» يسهل تتبُّع أحداثه.
لذلك فإن «التاريخ يُبْقي على الحديث ولكن غرضه الإخبار عن الحكاية التاريخية كقصة مترابطة كاملة، بدون إثقال الكلام بتكرار الأسانيد وتكرار البيانات»[1]، وهو المنهج ذاته الذي سلكه ابن إسحاق في تصنيف سيرته المسماة «المبتدأ والمبعث والمغازي»، غير أن ابن هشام أعمل فيها منهجه الخاص وزعم أنه بصدد تهذيب مؤلَّف ابن إسحاق.
إلى جانب هذه النشأة التاريخية لتصنيف كتب السيرة، فإن كتب السيرة والمغازي المعتمدة، كان لنقد المتن أثر واضح في نشأتها، فموسى بن عقبة[2] (توفي 135هـ) ألَّف مغازيه بعد أن أعمل معايير النقد في متون تصنيف شُرَحْبِيل بن سعد المدني[3] المُكنى بـ«أبي سعد» حين قام عليه الناس «فاتَّهموه أن يكون يجعل لمن لا سابقة له سابقة»[4]، وهو الأعلى إسنادًا بحيث كان يروي عن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)[5]، لكن علو إسناده لم يكن يشفع له، فرُدَّت مغازيه بسبب اضطراب ضبطه[6] وليس لاتِّهامٍ في عدالته.
ثانيًا: عدم مراعاة مقصد ابن إسحاق في تصنيفه
لقد تعامل ابن هشام مع سيرة ابن إسحاق، وحدَّد معالم منهجه في تعاطيه مع نصوصها وبيّن ذلك بنفسه في مستهل تهذيبه. غير أن المتأمِّل فيما أورده ابن هشام من معايير النقد التي طبقها على سيرة ابن إسحاق، سيلحظ سريعًا أنها تتعلَّق في معظمها بالمتون، وقد فصَّل تلك المعايير بداية، وبيَّن أسباب إعراضه عن «بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب»[7].
لذلك عمد إلى إسقاط أزيد من ثلث مصنف ابن إسحاق مرة واحدة دون أن يُعمل فيه شيئًا من تهذيبه، بدعوى أنه «ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه ذكر»[8] فكان «المبتدأ» أول ما فرط فيه المهذب، لأنه لم يجد -في نظره- علاقة بين بداية الخلق ومبعث الأنبياء وتتابع رسالاتهم، وبين سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وهذه أولى مخاطر عدم مراعاة خصوصية منهج المؤلف التاريخي.
إن ابن إسحاق وهو يصنّف السيرة، إنما حرَّكه المنهج التاريخي الذي يفترض وضع سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ضمن سياق بشري عام يبتدئ بظهور آدم، ويستوعب بقية الأنبياء والرسل، لأن الحديث عن سيرة المصطفى حديث عن رسالة الإسلام التي يشكّل الأنبياء كلهم حلقات متّصلة ضمن سيرورة هذا الدين، ولم يكن الإسلام جزيرة منفصلة عن سائر الرسالات السابقة، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) معزولًا عن سابقيه من الأنبياء، وليس المقام مقام استدلال واستقصاء للأدلة المؤكِّدة لهذا الأمر[9].
لقد أدرك ابن هشام أن تجرُّؤه في تعامله مع نص ابن إسحاق، قد يجرُّ عليه بعض النقد، لذلك سارع إلى تعليل فعله، فحمله «على هذه الجهة للاختصار»[10].
لكن هل من الاختصار أن يتمَّ إسقاط أزيد من ثلث الكتاب؟ ألم يكن حريًّا بابن هشام أن يعمد إلى تهذيب «المبتدأ» كذلك؟ فيورد منه بعض المحطات المفصلية من تاريخ «الإسلام» لينسجم بذلك مع منهجه في «التهذيب».
فالطبري حين وجد بين يديه مادة تاريخية عظيمة بحيث يكون «الاستقصاء في ذلك يقصر عنه العمر، وتطول به الكتب»[11] لم يُغفلها ويُلقي بها جانبُا، بل سعى إلى اختصارها، استهله باعتذار إلى من سيقرأ مؤلَّفه، يعلّل به إعراضه عن الكثير من الأخبار.
فتنبَّه الطبري إلى أن التطرُّق لتاريخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنما يفترض ضرورة التمهيد له بـ«ما تقديمه بنا أولى، والابتداء به قبله أحجى»[12] فـ«لخص» المبتدأ فيما يناهز تسعمائة صفحة، بينما هذَّب اليعقوبي «مبتدأ» ابن إسحاق في ثمانين صفحة فقط!
ومما تجدر الإشارة إليه، أن ابن هشام لم يدرك -ربما- أن ما عزم على تهذيبه، إنما هو تلخيص قد لا يحتاج إلى تهذيب؛ لأن ابن إسحاق قد كفى من بعده عناء اختصار سيرته، وتهذيبها. فعجَّل بذلك في حياته بعد أن اقترح عليه المنصور[13] تلخيص مصنَّفه، حين رأى فيه تطويلًا وتفصيلًا قد لا يحقِّق المقصد من تأليفه. فكان ابن هشام بتهذيبه إنما يلخِّص تلخيص ابن إسحاق لسيرته، فأولى بعمل ابن هشام أن يُدْعى «تهذيب التهذيب».
لقد أدرك ابن هشام أن ما ساقه من تعليل ليُبرِّر به إسقاط جزء كبير من كتاب ابن إسحاق قد لا يكون مستساغًا، لذلك عزَّز هذا التعليل وهو يذكّر برغبته في تأصيل «السيرة»، واستبعاد كل ما لم ينزل «فيه من القرآن شيء»[14].
وهذا معيار آخر أعمله المهذب في سيرة ابن إسحاق، غير أن كل ما أبقاه من تلك السيرة ليس مما نزل فيه القرآن، أو حتى أشار إليه إشارة بعيدة! بل إن المنهج القرآني في تعامله مع سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يُلاحظ فيه نوع من «العبور الزمني» المتكرِّر إلى ذكر مواقف الأنبياء والرسل مما يتوافق وسياق الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
لذلك فإن المبتدأ جزء أصيل من سيرة الإسلام وقصة مبعث النبي (صلى الله عليه وسلم)، فالربط قائم ووثيق بين ماضي الإسلام عند أنبياء الأمم السابقة، وبين حاضره عند خاتم الأنبياء.
كما أن من دوافع كتابة السيرة عند المصنفين -وابن إسحاق منهم- ذلك «النسق القصصي» القرآني في سوق مواقف الرسل والأنبياء مع أقوامهم[15]. نسق ألهم أوائل كُتّاب السيرة إخراج «قصة الإسلام» التي ابتدأت بآدم (عليه السلام) وتعاقبت مع توالي الأنبياء والرسل، ليدونوا حلقتها الأخيرة مع مبعث النبي (صلى الله عليه وسلم).
وإذا تجاوزنا مسألة «المبتدأ» نجد أن ابن هشام حذف أحداثًا مفصلية في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) أصلها القرآن الكريم تصريحًا كخبر يوم «الإنذار» حيث بلّغ النبي (صلى الله عليه وسلم) دعوته إلى عشيرته[16] مما أثبته الطبري في تاريخه[17].
ثالثًا: الانتقائية في قبول الشعر أو رده
إن ابن هشام اقتحم من العقبات أعقدها، وأدخل نفسه مداخل ما كان له ليقربها، إذ لم يكْفِه أنه تكلَّم في المؤرخين بغير لغتهم وتعامل معهم بغير منهجهم، بل انتحل «جُبَّة» الناقد العالم بالشعر وبحوره، الضابط لأراجيزه وقوافيه، فسلَّ سيفه وأطلق لسانه يوثِّق ما يحلو له مما أورده ابن إسحاق من أشعار، فيقبل منها ويرد، ومنتهى معرفته في الشعر أنه رأى أشعارًا ذكرها ابن إسحاق، لمير المهذب «أحد امنأه لا لعلم بالشعر يعرفها»[18].
إن ابن هشام اللغوي المتمكِّن استثمر ثقافته اللغوية، وتضلُّعه في النحو[19]، وجعلهما مقصلة يجزُّ بها أشعار ابن إسحاق في سيرته، دون أن يلتفت إلى أن خصائص التصنيف التاريخي خلال هذه المرحلة كان امتدادًا لنهج «أيام العرب» وملاحمهم حيث يتمازج الشعر -بوصفه مقوّمًا لهذا اللون من التأليف- والوقائع والأحداث التاريخية، من غير أن يشترط أحد صحة الشعر من عدمها.
ولم يشذّ التأليف في السيرة عن هذا النهج، فسيرة عروة بن الزبير، من أقدم وأوثق مصنفات السير، يستعمل فيها المؤلّف الأشعار، مع اعتماد قليل على الأسانيد[20]، وكذلك فعل شيخ ابن إسحاق عبد الله بن أبي بكر المدني[21] الذي كان يُدخل «في الحوادث الأشعار على أفواه أولئك الذين كان لهم أثر ظاهر منه»[22].
وإذا قيل: إن ابن سلّام الجمحي[23] قد انتقد أيضًا ابن إسحاق فيما ساقه من الشعر واعتبره «ممن أفسد الشعر وهجّنه وحمل كل غثاء منه»[24] فهذا انتقاد مقبول من رجل تخصّص في الشعر وفنونه، حين وجّهه إلى الشعر خاصة.
أما تجرؤ ابن هشام على التصدِّي لنقد الشعر فقد كان مخاطرة، لا سيما وأن التدمري قد أشار في مقدّمة تحقيق سيرة ابن هشام إلى أن المهذب أبقى على الكثير من الشعر الفاسد[25].
لذلك، فابن هشام لم يكن منسجمًا مع مبدئه القائم على استبعاد كل الشعر الذي يُنكره المحقّقون، إذ أقرَّ بنفسه، في مواضع من تهذيبه -وهو يعلّق على ما يورده من الأشعار- بأنها مردودة عندهم ومع ذلك أثبتها، فقد قال في ختام قصيدة نسبها إلى أبي طالب يستعطف فيها قريشًا: «بعضه لا لعلم بالشعر ينكر أكثرها»[26].
ولعل من المنطق ألَّا يُثبتها ابن هشام قياسا على قول أهل العلم، وانسجامًا مع قصده إلى استبعاد ما استبعده المحقّقون. علمًا أن ابن هشام يستهلّ إيراد معظم الأشعار بقوله: «حدَّثني بعض أهل العلم بالشعر» ولم يُسمِّ أحدًا منهم، وقد ساق هذه العبارة في تهذيبه أكثر من عشر مرات.
إذا كان قارئ السيرة المسلم قد يتفهَّم إقدام ابن هشام على إقصاء «أشياء بعضها يشنع الحديث به»[27] باعتبار ذلك تنزيهًا للنبي (صلى الله عليه وسلم) من بعض ما قذف به في نفسه وأهله من طعن لا يليق بمقام النبوة، رغم أن القرآن الكريم نقل بعض تلك الافتراءات، فإن القارئ قد لا يتفهَّم حذف ابن هشام ما قد «يسوء بعض الناس ذكره»[28] ليؤسّس بذلك مقياسًا جديدًا للنظر في متون السيرة النبوية ينبني على حذف ما لا يُرضي أطرافًا بعينها ذكره من أخبار المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
ولعل التوجُّس من السياق السياسي العام الذي عاش فيه المهذّب دفعه إلى إقحام معايير لنقد المتون بعيدة عن النظر العلمي، ستتضخَّم في قابل الأيام لتصير حاكمة على كتابة التاريخ الإسلامي بشكل عام.
وهذا الاعتبار هو ما دفع ابن هشام إلى عدم ذكر يوم «الإنذار» السالف الذكر، لما فيه من تعزيز موقع العلوين من «شيعة» علي (رضي الله عنه) وهم المنافسون لآل العباس، لا سيما وأن في خبر الإنذار ما يشير إلى مزيَّة «الوصية» لعلي (رضي الله عنه) التي تقوِّي طرف الشيعة على حساب آل العباس[29].
ومما يزيد هذه الرواية خطورة فضلًا عن مضمونها، الراوي نفسه؛ الشاهد على تفاصيل أحداثها، وهو عبد الله بن عباس الذي يرى فيه آل العباس شاهدًا منهم على «شرعية» العلويين خصومهم السياسيين.
كما أن ملابسات عصر ابن هشام السياسية كانت حاضرة بقوة، حيث آثر ابن هشام اعتماد رواية البكائي في نقله لسيرة ابن إسحاق دون رواية يونس بن بكير الذي كان مُتَّهمًا بالتشيُّع[30]، وهي تهمة كفيلة بأن تُقصي روايته رغم قوّة ثبوتها وصدقها.
كما يضاف إلى أسباب استبعاد ابن بكير، علاقته بالبرامكة الذين نكبهم الرشيد. فإذا كان أهل الطبقات يعدُّون يونُسَ صدوقًا إلَّا أنهم يذكرون علاقته بيحيى البرمكي، فبعد أن نقل الذهبي ثقته وصدقه استدرك قائلًا: «إلَّا أنه كان مع جعفر بن يحيى البرمكي»[31]، فكان من سوء طالع ابن بكير أن يُرمى بتهمتين قصمتا مسيرته العلمية، بعد أن جرّت عليه غضب السلطة السياسية القائمة؛ تهمة التشيُّع، وتهمة موالاة من كان يكيد لبني العباس من البرامكة.
غير أن ابن هشام، ورغم أخذه برواية البكائي، إلَّا أن شيخه هذا لم يأذن له بنقل روايته كاملة، بل أذن له في نقل بعضها فقط، لأن بعضها الآخر -كما صرَّح بذلك ابن هشام- «ما يقرّ لنا البكائي بروايته»، من غير أن يبيِّن المهذّب الأحداث التي لم يسلم له البكائي بروايتها، وهو أمر ستنشأ عنه فراغات ستُلجئ المهذّب إلى ملئها اعتمادًا على غيره، أو إسقاطها بالكلية، من غير أن يُكلِّف نفسه عناء إتمام النقص الحاصل جرّاء عدم الإقرار بالرواية.
لهذا ظلّ هذا الأمر معلّقًا، فلا يكاد الباحث يستبين مواضع السقط التي أهملها، ولا مواضع الإكمال التي أتمَّها. ولعل حشد التهذيب بألفاظ من قبيل «زعموا» و«يزعمون» من تجلِّيات هذه المفارقة.
بناء على ما سبق فإن ما أقدم عليه ابن هشام يتجاوز حدود التهذيب. لقد غيّر ملامح كتاب السيرة لابن إسحاق. فقد تحوّل -بعد التهذيب- إلى مرجع في دقة اللغة، وسلامة التركيب، وجودة اللفظ، وصار ضمن دائرة اختصاص اللغويين، بعد أن سلك ابن هشام منهج تهذيب الكلام في السيرة حين زيّنَ نص ابن إسحاق، وأصلح عبارته وحسَّنها.
لذلك ضمر في هذا التهذيب البعد التاريخي الذي على أساسه صنَّف ابن إسحاق، وغاب عنه الكثير من سياق الأحداث، وقلَّت فيه الفوائد التاريخية حين تمَّ إسقاط حيثيات الأخبار وظروف الوقائع. لذلك غلبت تسمية «سيرة ابن هشام» على الكتاب، لأن القارئ يجد نفسه، ببساطة، أمام مؤلَّف غير الذي أراده ابن إسحاق، وإلَّا لكان من الأولى تسميته «سيرة ابن إسحاق بتهذيب ابن هشام» لو لم يتعدَّ عمل ابن هشام حدود التهذيب.
كما أن ابن هشام لم يلتزم بمعايير موضوعية في تعامله مع متن ابن إسحاق، حين استحضر ما رُمي به ابن إسحاق من قبل بعض معاصريه كالإمام مالك وهشام بن عروة، في بناء مواقف مسبقة كان لها الأثر البارز في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق، كما حمله ذلك أيضًا على أن يُؤثر رواية البكائي على ما نقله ابن بكير.
لقد كان بين يدي ابن هشام مادة علمية تتيح له تأسيس منهج علمي في نقد المتون لو أنه انسجم مع ما أفصح عنه في مقدّمة تهذيبه. غير أن ضمور القيمة التاريخية لهذا التهذيب، وتحوُّله إلى مؤلَّف في التدقيق اللغوي وغلبة فوائد التركيب، أوقعه في معضلة لم يتمكَّن من تجاوزها، انضافت إلى تحرُّجه من شرط شيخه البكائي عليه، لا سيما وأن ابن هشام قد ألزم نفسه باستقصاء كل السيرة «منه بمبلغ الرواية له»[32] فضيَّق عليه الدائرة، فلم يلتزم بمنهج الإسناد هذا، حيث نجده ينقل الروايات بعد أن يستهلها بعبارة «حدثني بعض أهل العلم» التي ترد بشكل كبير في ثنايا الكتاب.
إن من صنَّف بعد ابن هشام في التاريخ والسيرة لا يكادون يذكرون تهذيبه إلَّا نادرًا، وإن فعلوا فلشرح لفظة أو لضبط كلمة، بينما ظلَّ كتاب ابن إسحاق عمدة من رام التأليف في التاريخ والسيرة، وبقي مصنَّفه معروفًا متداولًا إلى حدود مراحل متأخِّرة من القرن التاسع الهجري على الأقل، فالذهبي يتعامل مع سيرة ابن إسحاق الذي «كثّر وطوّل بأنساب مستوفاة اختصارها أملح»[33] وحشدها «بأشعار غير طائلة، حذفها أرجح»[34] وملأها «بآثار لم تصحّح».
ومع ذلك يرى أن ابن إسحاق قد «فاته شيء كثير من الصحيح لم يكن عنده»[35]، مؤاخذات لم تحمل الذهبي على اعتماد تهذيب ابن هشام إلَّا في مواضع نادرة. فبعد أزيد من خمسمائة عام من هذا التهذيب ما زال الذهبي ينظر إلى أن مصنَّف ابن إسحاق «محتاج إلى تنقيح وتصحيح، ورواية ما فاته»[36].
فإذا كان هذا موقف الذهبي فلماذا هذا الإعراض عمَّا أقدم عليه ابن هشام في تهذيبه؟ علمًا أن دعوة الذهبي، إلى تنقيح مصنَّف ابن إسحاق وتصحيحه، وإتمامه بما فاته من الصحيح، إنما كانت بعد أن اطَّلع على تهذيب ابن هشام[37].
رغم أن دعوة الذهبي تلك، رام تحقيقها ابن هشام كما صرَّح بذلك في مقدّمة تهذيبه، إلَّا أن الذهبي ما زال يدعو إلى تهذيب آخر بعد مرور أزيد من خمسمائة عام، فما حقيقة ما أقدم عليه ابن هشام؟ وما حقيقة ما ينادي به الذهبي؟
خاتمة
لعل ما سبق التنبيه عليه أعلاه، قد يدفع في اتجاه التوقُّف مليًّا عند الكثير من المسلَّمات التي ظلَّت الثقافة الإسلامية تحتفظ بها، وعلى رأسها «موسوعية» القدامى، من غير تحقيق للمراد من ذلك.
فمن الجدير أن يكون المقصود سعة الاطِّلاع، وتنوُّع الاهتمام، لكن من غير أن يقصد بذلك تخصُّصهم في كل الفنون والعلوم. وقد بدا جليًّا من خلال ما سبق، أن ابن هشام حينما أعمل تخصُّصه في سيرة ابن إسحاق أبدع وأجاد، لا سيما وأن تمكُّنه من علوم العربية؛ نحوًا ولغةً، أسعفه في تدقيق الكثير من الألفاظ، ببيان المبهم منها، وشرح المستغلق فيها. حتى صار تهذيبه قبلة من رام تجلية معاني عبارات ابن إسحاق، فلو أنه اقتصر على ذلك في مجمل تهذيبه، وسحبه على كل كتاب ابن إسحاق لكان عملًا يكاد يقترب في بعض جوانبه من عمل «المحقّقين» بالمفهوم المعاصر.
إلَّا أنه حين ألزم نفسه بمعايير استقاها من حقول معرفية أخرى، وقصد بها مجال السيرة النبوية، التي نشأت نشأة تاريخية، حتى صارت منطلق علم التاريخ عند المسلمين، بل وجد ابن هشام نفسه أمام نصوص متحت من أسلوب أيام العرب الكثير من خصائصها، فالثلث الأول من كتاب ابن إسحاق خصه «للمبدأ» ينقل فيه أخبار الأولين من الأنبياء والمرسلين والحضارات البائدة، وهي أخبار لا تنضبط لقواعد المحدِّثين من حيث اتصال الأسانيد والضبط والعدالة، وإن كان جزء من تلك الأخبار مما قصَّه القرآن الكريم.
لذلك تعذّر على المهذّب النظر فيها وتنقيتها وترجيح بعض الأخبار على الأخرى، لم يجد بدًّا من إسقاطها جملة واحدة، فضاع ثلث الكتاب. ولما كان بقية الكتاب في المبعث والمغازي على نهج «الملاحم» التي تتأسَّس على رواية الأشعار بوصفها مكوِّنًا رئيسًا من بنائها التاريخي، أعمل فيها معايير المحدِّثين الصارمة فحذف من تلك الأشعار الكثير منها، بدعوى عدم إمكان وصولها إلينا من العهود الغابرة.
فما بقي بين يدي ابن هشام إلَّا روايات تحتاج إلى تنقية وتحقيق -سيرًا على منهجه- فأدرك بعد إسقاط العديد منها، أنه سائر نحو إسقاط الكتاب بأكمله؛ إذ إن ابن إسحاق وهو يصنِّف، لم يعتمد منهج المحدِّثين حتى يلزم به، بل قصد مواقع الأحداث، وساحات المعارك يعاينها، ويأخذ رواية من عاشها، وحضر تفاصيلها، دون أن ينظر في أحوال الشهود لكثرتهم واتِّفاق رواياتهم، لا سيما وأن ابن إسحاق استعان بأجيال متأخِّرة من أبناء يهود المدينة الذين احتفظوا بتفاصيل خيبر وأخبار بني النضير وغيرها، رواية عن آبائهم.
وهذا منهج أصيل عند المؤرِّخين. لكنه في المقابل منهج لا يستقيم مع ما معايير ابن هشام. فاضطر ابن هشام -نفسه- أن يتنصَّل من تلك المعايير التي أفصح عنها في مقدّمة كتابه، في الكثير من مواضع كتابه، فأورد المنقطع من الأخبار والمعلّق، وغير المسند.
لقد لخَّص ابن إسحاق مصنَّفه بنفسه، وكفى المهذِّبين عامة عناء ذلك، لذلك فإن ابن هشام أخرج في حقيقة الأمر تهذيب التهذيب، وبشكل لم يقصده ابن إسحاق، بسبب تباين المنطلق، واختلاف المنهج؛ فابن إسحاق صنَّف في التاريخ وفق منهج المؤرِّخين.
[1] محمد بن إسحاق بن يسار، مقدمة المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق: محمد حميد الله، المغرب: معهد الدراسات والأبحاث والتعريب، 1396 – 1976.
[2] صاحب المغازي، ثقة حجة، من صغار التابعين، الذهبي، ميزان الاعتدال، 4/ 214.
[3] توفي بين 121هـ و130 هـ، انظر: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، 3/430.
[4] الذهبي، سير أعلام النبلاء، 6/ 267
[5] ابن كثير، التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، تحقيق: شادي بن سالم آل نعمان، اليمن: مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة، ط1، 1432هـ - 2011م، 3/ 206.
[6] سير أعلام النبلاء، 6/ 267.
[7] سيرة ابن هشام، 1/ 4
[8] نفسه.
[9] عن أبي هريرة E، أن رسول الله ﷺ، قال: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ». صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ح: 3535.
[10] سيرة ابن هشام، 1/ 4.
[11] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 1/ 6.
[12] نفسه.
[13] طلب المنصور من ابن إسحاق أن يُصنِّف كتابًا من آدم إلى زمنه، فلما صنَّف له ابن إسحاق الكتاب، وجده المنصور مُطوَّلًا، فذهب ابن إسحاق «فاختصره، فهو هذا الكتاب المختصر» تاريخ بغداد، 2/ 16.
[14] سيرة ابن هشام، 1/ 4.
[15] المبتدأ في قصص الأنبياء، ص: 45.
[16] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} الشعراء: 214.
[17] نقل هذه الرواية الطبري عن محمد بن إسحاق في تاريخه. تاريخ الرسل والملوك، 2/ 319.
[18] سيرة ابن هشام، 1/ 4.
[19] ينعت عبد الملك بن هشام في كتب الطبقات بكونه «النحوي» سير أعلام النبلاء، 8/ 464، وأضاف صاحب طبقات النسابين «كان عالمًا بالأنساب واللغة وأخبار العرب» ص: 51، وهو «متقدّم فى علم النّسب والنحو» إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي، 2/ 211.
[20] محمد بن صامل السلمي، منهج كتابة التاريخ، السعودية: دار ابن الجوزي، ط 1، 1429 هـ، ص298.
[21] توفي حوالي 135هـ. تاريخ الإسلام، الذهبي، 3/ 676.
[22] يوسف هوروفنتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ترجمة: حسين نصار، القاهرة: مكتبة الخانجي، ط2 2001، ص: 60.
[23] توفي سنة 231هـ، سير أعلام النبلاء، 10/ 652.
[24] محمد بن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني، جدة، 1/7
[25] السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: تدمري، ص:7
[26] السيرة النبوية، ابن هشام، 1/ 280.
[27] نفسه، 1/ 4.
[28] نفسه.
[29] ينظر تفاصيل هذه الحادثة: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 319.
[30] قال فيه الذهبي: «ومما ينقم عليه التشيع» تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، 4/ 1259. رقم الترجمة: 368.
[31] سير أعلام النبلاء ط الحديث: 8/ 27.
[32] سيرة ابن هشام، 1/ 4.
[33] سير أعلام النبلاء، 6/ 267.
[34] نفسه.
[35] نفسه.
[36] نفسه.
[37] قال الذهبي عن ابن هشام: «وقد سَمِعْتُ «السيرة» من روايته، فأخبرنا بها أبو المعالي الأبرقوهيّ. قرأتها في ستّة أيّام في النهار الطويل» تاريخ الإسلام، 5/ 387.