شعار الموقع

الإنسان الحائر بين الحقيقة والخيال

وائل احمد الكردي 2019-05-19
عدد القراءات « 613 »

الإنسان الحائر بين الحقيقة والخيال..

بحث في جدلية العلم الكوني والمجلد السردي والنص المحكم

الدكتور وائل أحمد خليل الكردي*

* كاتب وباحث وأستاذ جامعي من السودان. البريد الإلكتروني: wailahkhkordi@gmail.com

 

 

 

 

 

مدخل: جدلية العلم والسرد والرسم الخيالي

تبحث هذه المقالة في العلاقة الجدلية للتناسب العكسي بين اتساع الخيال وضيق القوانين العلمية، ليكون الناتج هو مجلدات سردية سواء بالمرويات الأدبية أو بالنظريات العلمية، مما يستوجب الاسترشاد والتوجيه بمراجع كونية علوية هي النصوص المحكمة.

ذكر جيلبر ترايل (Gilbert Ryle) في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين أذهلتهم صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدونه فيها، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخارية، فقام أحد الفلاحين وقال: «نعم سيدي المطران، نحن قد فهمنا تمامًا كل ما قلته عن الآلة البخارية، ولكن بالفعل هنالك حصان ما داخل تلك الآلة، أليس كذلك؟»[1].

إن هذا الفلاح البسيط لم يتيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرَّها خيل، ومن ثم فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وإنما من الداخل، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال.

وبالرغم مما يبدو من سذاجة الفكرة لأول وهلة إلَّا أنه لو حدث الأمر كما تصوره الفلاح فعليًّا، عندها كان سيكون هذا فتحًا في تاريخ الكشوفات العلمية أعظم ربما من اختراع الطائرة دون طيار؛ إذ إن ذلك سوف يعني أن العلم Science قد بلغ درجة إلى الحد الذي أمكن فيه تطوير عقل الحصان ليحل محل الإنسان في قيادة القطار فيكون هو وحده القائد والمتحكم فيه. هكذا تكمن خطورة الإبداع الإنساني فيما يسمى (الخيال).

ولو أننا أعطينا كل فرد في العالم في وقت واحد ورقة بيضاء، وطلبنا منهم أن يرسموا كائنًا خرافيًّا أو أسطوريًّا بمحض الخيال المجرد، ثم جمعنا كلها وأخضعناها للمقارنة الدقيقة لما وجدنا أيَّ تطابق بين أيٍّ منها، ولكنها كلها برغم هذا التباين لم تخرج عن حدود مفردات الواقع المشتركة بينهم من طول وعرض وارتفاع وعمق ودائرة ومثلث ومربع ومتوازي والخط المستقيم والخط المتعرج والمنحني ومبدأ العين ومبدأ الأنف والفم واليد والأرجل.

وهكذا هي فقط إعادة تشكيل وتركيب وترتيب أوضاع بتصورات فردية لنفس المفردات الواقعية المشتركة بين الجميع، والتي تشكل سقف أو حدود الخبرة لديهم ودون أن يأتي أحد بمفردة أو عنصر خارج عن هذا العالم الذي نعيش فيه، مما يعني أن احتمالات تكوين وإعادة تكوين الأشكال من هذه العناصر أو المفردات وفق الخيال الإنساني المجرد هي احتمالات مفتوحة أو لا نهائية.

وفي مجمل الأمر، يحاول الإنسان دائمًا الخروج من حدود أو إطار الواقع المفروض أمامه إلى آفاق الخيال المرسوم في ذهنه عن هذا الواقع. وعلى هذا يمكن القول: إن كل الإبداعات العلمية النظرية قد ظهرت على أساس من افتراضات أملتها هذه المخيلة الإنسانية كتفسير لحقيقة الوجود الذي نعيش فيه.

وما يدعم هذا القول هو الكشف عن طبيعة مسألة الفرضية العلمية في ذاتها ومن أين تأتي وكيف تتكون في ذهن العالم؟ فإذا علمنا أن أكثر ما يتصل بنشأة الفرضيات العلمية هو العامل الباطني –هذا بخلاف العوامل الخارجية التي تنتج الفرضية بناء على مقدمات مسبقة تترتب عليها نشأة الفرضية منطقيًّا- لتأكد لدينا دور المخيلة التجريدية المهم في البناءات العلمية.

فهذا عبدالرحمن بدوي يؤكد -على لسان الطبيب وفيلسوف العلم الفرنسي كلود برنارد (C. Bernard) في كتابه الشهير (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي)- أن أكثر الظواهر التي شاهدها كبار العلماء وأقاموا عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها التي يشاهدها الناس كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه لديهم، فظاهرة سقوط الأجسام مثلًا هي ظاهرة مشاهدة في كل وقت وعند كل إنسان ومع ذلك لم يصل أحد قبل نيوتن (I. Newton) إلى وضع قانون الجاذبية.

فالأمر يتوقف في هذه الحالة على العوامل الباطنة، أي الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد، وهذه العوامل الباطنة هي ما تجعلنا نفترض -بنوع من الوجدان أو العيان الحدسي- ما عسى أن يكون القانون الذي عليه تجري الظاهرة، وبحيث إننا لا نستطيع أن نضع قواعد للاختراع في العلم، ولا أن نعلم القواعد التي يمكن أن تُراعى في إنشاء الفرضيات الجيدة أو المنتجة؛ لأن هذه مسألة فردية خالصة، إنما القواعد التي نستطيع أن نضعها هي تلك المتصلة بما يتلو وضع الفرضية، أما قبل وضع الفرضية فالأمر يتعلق بشيء ذاتي[2]، وهو ليس شيئًا غير ما نسميه بالمخيلة والخيال.

إن تكوين الافتراض العلمي في ذهن العالم يتبع تمامًا رهان (بيضة كولمبوس)، فعندما عاد كريستوفر كولمبوس (Ch. Columbus) من رحلة استكشافه لأمريكا غانمًا استخف بعض حسَّاده بكشفه، وقلَّلوا من شأن إنجازه في حفل تكريم ملك إسبانيا له، حتى أن أحدهم قال: إنه لو أطلق سفينة شراعية بلا ربان فحتمًا ستصل إلى ما وصل إليه، فاستمع إليهم كولمبوس ثم استأذن الملك في الرد عليهم، فأخذ بيضة من السلة وتحدَّاهم أن يستطيع أحدهم أن يوقف البيضة على رأسها المدبب، فهذه حتمًا أسهل من اكتشاف أمريكا، فعجز الجميع عن ذلك، أما كولمبوس فقد نقر قمة البيضة المدببة فأحدث في قشرتها تجويفًا صغيرًا فكان أن أمكن للبيضة أن تستقر واقفة عليها.

كلهم كان من الممكن أن يفعلوا ما فعله كولومبوس، ولكنهم كانوا لا يمتلكون مخيلته نفسها، فضاقت أبصارهم عن رؤية الفرضية الكامنة وراء حجته. وكذلك سقطت الملايين من ثمار الأشجار على رؤوس ملايين العلماء أو ما نحو ذلك دون أن يستنبط أحد منهم فكرة الجاذبية، وحده نيوتن فعل.

ثم رأينا كيف أدى العامل الباطني في تكوين الفرضية العلمية إلى إدخال مفاهيم جديدة في العلم مثل: دور الملاحظ (role of observer) وسقوط السببية (collapse of causality) وحرية إرادة الإلكترون (free well of Electron) حيث لوحظ أن الإلكترون في مداره حول نواة الذرة يخرج عنه دون سابق إنذار ودون مسوغ معلوم، ليبدأ مسارًا جديدًا مما يدل على عدم خضوع الجسيمات الدقيقة لقانون سببي[3].

ولقد ترتب على هذه المفاهيم التصور بانفلات المادة بفعل الانعكاسات المتبادلة بين (الكون – الوعي) الأمر الذي أفرز ما سُمِّي بظاهرة الشذوذ السببي (causal anomalies) والتي تتجاوز القياس الاستقرائي التقليدي ويفقد بسببها عنصر التنبؤ العلمي[4].

ومن ثم أصبحنا نستطيع أن نتصور على غرار مبدأ اللا نهايتين لدي بليز باسكال عوالم على مدى الكون الكبير (نسبية أينشتاين) والكون الصغير (الكوانتم) يكون من المستحيل فيها فيزيائيًّا تطبيق أيًّا من منهجي التحقق (Verification) والتكذيب (Falsification) على قضايا تجريبية معينة إلَّا على نحو احتمالي فقط[5]، وهو ما تمثل فيما عرف في الأدبيات فيزياء الكوانتم (Quantum physics) بمبدأ الارتياب أو اللايقين (uncertainty principle) لدى هايزنبيرج (Heisenberg) ويفيد عدم قدرتنا على الحكم بماهية الجسيم لكم الطاقة نسبة لعلاقته بالضوء المسلط عليه معمليًّا، فالجسيم أصلًا في حالة حركة فإذا أسقط عليه الضوء من مصدر بعيد تشتت تركيز الأشعة الضوئية المنتشرة ولم تكفِ لإدراكه، وإذا أسقط من قريب زاد تركيز الأشعة الضوئية من سرعة حركة الجسيم فلم يمكننا تعيينه أيضًا[6].

وانحسب هذا الأمر إلى ميدان الرياضيات كذلك، حيث برز العالم الألماني كورت جودل (K. Goedel) بمبرهنة عدم الاكتمال (incomplete) فحتى الرياضيات في شكلها الصوري الصرف القائم على البديهيات تنفلت من تحت يدها قضايا سوف تبقى بالنسبة للإنسان إلى الأبد غير قابلة للفصل فيها لأنه لا يمكن إثباتها ولا دحضها، إذن فالرياضيات التي تفسر بها قوانين العالم ليست دائمًا مكتملة[7].

وهكذا تذوب الأحكام المنطقية الصارمة على كل القضايا بالصدق والكذب وحدهما، وصار الاتجاه نحو تكوين وإحلال (منطق القيم – المتعددة) (Many – valued logic) حيث إثبات اشتمال الحساب المنطقي على قيم غير محددة أو غير متعينة بين طرفي الصدق والكذب، فالقضايا يمكن أن تقع في حالة ظرفية معينة من أحوال حدوثها ولا يكون في مقدورنا وقتها القطع بأحكام الصدق أو الكذب عليها[8].

وكان هذا هو المنطق الذي أدى ببعض علماء الفيزياء المعاصرين ممن اتسعت لديهم مساحة الخيال فتواضعوا على نظرية فيزيائية تضم كافة نتائج الفيزياء الحديثة (الكوانتم والنسبية) تعرف بنظرية (الأوتار الفائقة) (Superstring theory) والتي تم التعبير عنها بنحو آخر بنظرية (M M Theory) ليخلصوا فيها إلى أن هذا الكون هو أكوان متعددة متوازية قد تتحقق فيها كل الاحتمالات الساقطة، أو التي تم استبعادها عن كوننا هذا الذي نعيش فيه، من خلال تمدد جسيمات الطاقة ونفاذها إلى تلك المتوازيات الوترية الكونية، فلا يصدر –كما نتوقع والحال هكذا– خيال بإعادة تشكيل مفردات على غير الواقع في الكون الراهن إلَّا ولزم له صدى وتجسُّد في كون آخر، فقد صمّمت هذه النظرية بطموح أن تحوي كل شيء.

وعندما سئل الفيزيائي النظري في المركز الأوروبي للبحوث النووية في سويسرا جون إليس (J. Ellis) عن نظرية الأوتار الفائقة، قال بأنه يعتقد أن من الخير أن نفكر في صورة الأوتار التقليدية التي نعرفها ونألفها كأوتار آلة الكمان على سبيل المثال، فنحن إن قرنَّا وتر بالكمان أمكنه أن يهتز بوترات عديدة وعلى مستويات مختلفة، والوتر الفائق على هذا المنوال، فأنواع الجسيمات الأولية المختلفة تقابل فيما يبدو الأشكال المختلفة لاهتزازات تلك الحلقة المنتجة للأنغام المختلفة الصادرة عن وتر كماني واحد، فهناك في الحقيقة عدد غير محدود من الأساليب الاهتزازية التي يمكن أن يتّخذها الوتر الفائق، والجسيمات الأساسية التي نعرفها حتى اليوم والأشياء التي يتكون منها كل ما حولنا تقابل بالضبط السلم المنخفض في البناء النغمي لما يمكن أن يصدر من وتر واحد معين[9].

إذن ليس بغريب أن يسعى الخيال السردي لدى الروائي الإسباني ثير فانتس أن يبدع ضمن أشهر روائع الأدب العالمي لشخصية خلاقة بنحو دون كيشوت (Don Quishott) فيجعله يغرق في أدب الفروسية وقصص الفرسان في زمان النبل والنبلاء، الذي أفل منذ سنوات بعيدة حتى تمثّلها كلية واختلطت بشخصيته وتصوراته، وطغت على عينه فلا يعود يرى الحاضر الذي يعيش فيه، ولا يرى نفسه إلَّا فارسًا يعيد أسطورة شرف الفرسان وعهد النبلاء بكل تقاليد النبل والفروسية حتى ولو كان ذلك محض خيال رمى به إلى مبارزة طواحين الهواء على أنها عمالقة أشرار فيسقط على الأرض مضرَّجًا بالدماء والجراح تنزف.

ولكن ما يجعلنا نفسر الأمل الذي كان دافعة للقيام والمضي في طريقه الذي عزم كان أن يكون هذا الخيال قد جرى حقًّا على وتر كوني آخر في لحظة ما ولو بشكل ضمني في عقل الكاتب.

ولكن الشاهد في هذه السردية التراجيدية الساخرة لدون كيشوت أن يستحضر بخياله آفاقًا غير متحققة بالواقع الراهن، أو أنها أُنجزت في ماضٍ سحيق ولم تعد، أو أنها تكمن في مستقبل بعيد.

كل هذا يمثل سردًا كونيًّا لمحاولات الإنسان أن يؤكد قدرته على وضع يده على العالم بأسره، بأن يبني من حصيلة الشواهد حوله افتراضات لرؤى كونية شاملة world-view من أجل أن يعطي بها تفسيرًا مستساغًا للعالم، وربما ظن أنه كلما تطورت خبرته، وازدادت حصيلة هذه الشواهد المدركة لديه، واتسعت بها عنده حجم الافتراضات التفسيرية، ضاقت الهوة بين نسبة الحقيقة ونسبة الخيال في الواقع وفي وعي الإنسان، ولكنه في كل مرة يجدها تتسع أكثر.

فإذا كان البطل الإغريقي الأسطوري سيزيف قد حكم عليه بأن يصعد بالصخرة إلى قمة الجبل العالي، وعندما يبلغها تسقط الصخرة إلى سفح الجبل، ليعود سيزيف ليحملها مرة أخرى إلى القمة وهكذا إلى الأبد، فإن العلم في بحوث العلماء يفعل نفس ما يفعله سيزيف بالصخرة، حيث إن العلماء في كل مرة يحققون كشفًا يبلغون به قمة العلم سرعان ما يتبين لهم أن هنالك قممًا أخرى أعلى وراءها عليهم بلوغها، لدرجة يظهر أن جهل الإنسان هو الذي يتسع وليس علمه فسبحان القائل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[10].

ولكن الإنسان في نهاية الأمر يجد لزامًا عليه أن يتحرك في الوجود حوله ولا مفر، وينشئ بهذه الحركة ضروبًا في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وهو ما يتطلب اتجاهًا للحركة وغاية لها، وهذا بدوره يفرض أمام الإنسان قيمة ما تدلّه على المعنى.

والمغذي الذي اختاره لوجوده في العالم والحياة، فإما أن يكون أثرًا وإما أَلَّا يكون؛ ولذلك فكما أن الغلاف الجوي يحيط بالكرة الأرضية في مدارها الكوني، كذلك يحيط الخيال بالعلم، ويلتف العقل الإنساني حول الحقائق الثابتة والقوانين العلمية في معرض تأويلها وتوظيفها بحسب ما لديه من رؤية كونية شاملة.

ولأجل هذا كثيرًا ما ينشئ الإنسان مجلدًا سرديًّا يضع فيه ظواهر وأحوال وقوانين ونظريات الوجود، وكل مجلد سردي هو ملف معني بقضية محدَّدة تصنف فيه كل المحاولات التخيلية تجاه هذه القضية، وهذا التصنيف هو مما يفيد ويغذي النقد Criticism.

وهكذا فإن السرد هو القالب التداولي في التعبير الضروري عن الفكرة العلمية في جملة المحيط العقلي الخيالي، كما أنه الناقل للخبرات المتراكمة بين أجيال الإنسان، في رسائل منطقية على مستوى الفهم، وفي رسائل أدبية على مستوى الشعور، لتؤدي دورها الأساسي وهو إعادة بناء وتصور الواقع والعالم على نحو أكثر تطورًا، في كل مرة بالقدر نفسه الذي يجسّد فيه السرد أيضًا ما خفي على مدونات التاريخ قياسًا على ما ثبت من هذا التاريخ.

كما أن المجلد السردي الذي يدوّن فيه الإنسان ما يقع لديه من الكون إنما يمثل على الأرجح المسافة أو فضاء الجدال بين الحقيقة الواقعة المعلوم ثبوتها، والأفق الخيالي على غرار اللوحة التشكيلية المتكاملة العناصر والأبعاد.

ولذلك كان النقد criticism يفرض على السرديات شرطي البناء النسقي systematics والتراتب والتكامل والاتساق السياقي coherence of context للعناصر المروية أو القصة، فالسرد إذن هو أداة الخيال ومطيته.

أما على صعيد التأثير السردي في رسم مقولات العدم والمصير والمجهول القادم، فيمكن أن نجد تعبيرًا عنه في ذلك القلق الناشئ عن تلك الفكرة السردية التي ضمَّنها دان براون (Dan Brawn) بالنص اللافت للانتباه في روايته (الأصل) Origin التي صدرت مؤخرًا: «تذكر لانغدون أن اختبار تورينغكان تحديًا اقترحه مفكك الرموز آلانتورينغ، لتقييم قدرة الآلة على التصرف بطريقة لا يمكن تمييزها عن سلوك الإنسان. في الأساس، يقوم حَكَم بشري بالإصغاء إلى حديث بين آلة وإنسان. وفي حال لم يتمكن من معرفة أي من المشاركين هو الإنسان، تعتبر الآلة ناجحة في الاختبار. تم اجتياز تحدي تورينج في الاختبار الشهير الذي أُجري عام 2014م في الجمعية الملكية في لندن، ومنذ ذلك الحين تقدمت تكنولوجيا الذكاء الصناعي بوتيرة سريعة للغاية»[11].

 هكذا يعكس هذا النص جدلية تطور الذكاء الاصطناعي في الانتقال من حالة العقل الحسابي Reason الذي لا يتجاوز عمليات تحصيل الحاصل المنطقية الرياضية tautology في معالجة المعلومات المعطاة على نظام التغذية الراجعة feed back، وهو ما جعل الآلة حتى الآن رهن تحكم الإنسان وسيطرته، إلى حالة العقل الانفعالي Mind والذي يتجاوز حدود التفكير الرياضي استقراءً واستنباطًا ليبلغ العمليات الشعورية الآدمية ومهارة إرسالها بالطبقات الصوتية للغة، مما لا يخضع لأي وظائف حسابية أو صياغات علمية ابتداءً.

وهذا العقل الانفعالي يحتوي العقل الحسابي ويسيطر عليه في التوظيف والاستخدام التداولي في الحياة العامة، وهو ما يجعل البشر بشرًا. والآن وبعد اختبار تورينج ودخول الذكاء الاصطناعي بقدراته الفائقة فضاء العقل الانفعالي فما مظان أحوال الإنسان في الوجود بعدها، وكيف سيعيد رسم أدواره المستقبلية في خضم ما أوكت يداه وبما كسبت.

إن دخول هذا الأمر إلى الأنماط السردية على هذا النحو الذي يثير المخاوف على مكانة الإنسان في العالم من حيث بقاؤه وتميُّزه إنما يعيد السؤال حول الخصوصية العقلية للإنسان بكونه يملك المخيلة الفريدة، التي مكنته دومًا من ممارسة حياته في هيئة شعوب وقبائل يختلفون في ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق وأنماط حياتهم، ثم بالدرجة الأعلى أنهم عبَّروا عن هذا كله بكيفيات متعدّدة حتى في استخدام اللغة الواحدة[12]، فكان التعبير عن طريقة ما في الحياة يتناسب وكيفية معينة في استخدام اللغة العادية، الأمر الذي قد لا يتصور أن يسمح به تطور الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالمستوى الخاص لكل طريقة حياة على حدة، وإن كان من الممكن تصوره بالنسبة لصور الانفعال البشري على وجه العموم أي في كلياته المبدئية وليس في خصوصيته لدى كل طريقة في الحياة لشعب أو قبيلة وفي صياغات وأشكال التعبير عنها.

وهذا إذا سلمنا ابتداء بأن تعدد واختلاف وتمايز بني الإنسان الذي يجعل منهم شعوبًا وقبائل إنما هو خلق رباني ماضٍ بلا تبديل، ما دامت السماوات والأرض {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[13].

وليس هذا فحسب، فإن التعبير اللغوي التداولي الذي يعدُّ مكوِّنًا لازمًا لكل طريقة في الحياة ليس فقط يمثل النسيج الرابط لعقول الأفراد المنتمين لشعب معين أو قبيلة، وإنما أيضًا هو الناقل لكافة محمولات ومضامين الخبرة لدى الشعوب الأخرى إلى داخل الشعب المعين، ليتم إعادة التفاعل معه، وهو ما يجعل مجمل الخبرات الحياتية لدى كافة الشعوب مما يمكن نقله إلى العالمية من خلال الوسيط والقوالب السردية.

وهذا ما يمكن أن يكون قد دعا علماء وفقه اللغات وفلاسفة اللغة إلى افتراض تصوري للغة المتداولة عرفوه اصطلاحًا (اللغة الفوقية) (Meta-language) فتكون هذه اللغة الفوقية لغة شارحة على لغة الموضوع (Object-language) التي هي نمط اللغة المحكية المستعملة تداوليًّا لدى شعب أو قبيلة تبعًا لطريقتهم في الحياة، واختلافها عن غيرها من طرق الحياة الأخرى، وكان ذلك التقسيم حرصًا على الفهم والتفسير الكامل للوسيط اللغوي وما يحويه.

ولأجل هذا هناك من المناطقة من جعل (اللغة الفوقية) هذه على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى (disjoint) هي اللغة الفوقية المنفصلة عن لغة الموضوع وتدرس العناصر والمضامين والدلالات التي تحويها لغة الموضوع، فهي بمثابة شرح لهذه المضامين والدلالات وليس شرحًا مباشرًا لسياقات اللغة نفسها.

والمرتبة الثانية (overlaps) هي اللغة الفوقية المتداخلة في لغة الموضوع لتُعنى بشرح مكوناتها النحوية والتركيبية في سياقاتها، والمرتبة الثالثة (contains) هي اللغة الفوقية التي تحتوي لغة الموضوع وتحيط بها، من حيث إنها تشرح الأطر الصورية الرياضية والقواعد المنطقية العامة في بناء كل لغات الموضوع[14].

ولكن بالرغم من افتراض لغة شرح فوقية كانت من أجل الإحاطة الكاملة بفعالية اللغة والتحكم في أدائها التداولي والنقلي للخبرة، يظل السؤال قائمًا (إذا كانت لغات الموضوع تتجلى إبداعيًّا في التكييف السردي التخيلي لسمات الملكة العقلية والتصورية والوجدانية لشعب ما، وأنها تظل تتسع على مر الزمان من حيث ارتباط فكرة العقل باللغة ليس بكونها فقط وسيلة للتعبير والاتصال، وإنما بكونها عنصرًا تكوينيًّا في طريقة حياة يتوافق مع كل العناصر الأخرى فيها لتشكل وعيًا حضاريًّا معينًا، فكيف إذن للغة الفوقية أو لغة الشرح أن تلحق بهذا الاتساع المستمر للغة الموضوع وتقوم بالإحاطة والتداخل والتخارج بصددها؟)، إن الأمر في هذا لأشبه بمحاولة علماء فيزياء الكوانتم بالإحاطة والسيطرة على جسيم الطاقة وتفسير ماهيته برغم حالته في مبدأ الارتياب أو اللايقين لدى هايز نبيرج.

النظرية العامة للزومية النص المحكم

عندما يواجه الإنسان الكون بعقل مكشوف أعزل من المراجع والنصوص، فإنه يمكن وصف حاله قياسًا على ما كتبه كارل بوبر (K. Popper) فيما يحدث الطفرات في داخل البنية الجينية الوراثية لدى الكائن: «إن الطفرات على المستوى الجيني ليست فقط عشوائية، بل أيضًا عمياء تمامًا، إنها عمياء بمغذيين فأولًا، ليس هناك أي تعقب لهدف محدد. وثانيًا، بقاء طفرة لا يمكنه أن يحكم الطفرات الأبعد ولا ترددات واحتمالات حدوثها»[15].

وكذلك «على المستوى العلمي، نجد أن اتخاذ حدس افتراضي أو نظرية جديدة قد يحل مشكلة أو مشكلتين، لكنه دائمًا يفسح المجال للعديد من المشكلات الجديدة، ولنظرية ثورية جديدة تمارس فعلها تمامًا كما لو كانت عضوًا جديدًا فعَّالًا من أعضاء الإحساس، وإذا كان التقدم لافتًا فسوف تختلف المشكلات الجديدة عن المشكلات القديمة، سوف تكون المشكلات الجديدة على درجة من العمق تختلف اختلافًا جذريًّا، وعلى سبيل المثال حدث هذا مع نظرية النسبية وحدث مع ميكانيكا الكوانتم، ويتحقق الآن بشكل مذهل مع البيولوجيا الجزيئية. في كل حالة من هذه الحالات تفتح النظرية الجديدة آفاقًا جديدة مترامية من المشكلات غير المتوقعة»[16].

إن ما تشمله دلالة الخيال والمتخيل ليس فقط كافة الممكنات غير المحدودة في تأليف وإعادة التأليف لمفردات الخبرة في مركبات ذهنية جديدة في كل مرة، وإنما أيضًا الحيز المتسع من المتغيرات غير المحدودة أمام كل ثابت علمي، على منوال استشهادات كارل بوبر، وكلٌّ منهما يغذيان التصور السردي للعالم لدى الإنسان.

ولكن الفرق أن منها ما يتحقق في وجود عيني فعَّال، ومنها ما يظل مجرَّد حالة سردية لا تتحقق. وبقول آخر: من السرد المتخيل ما يكون فرضية تتحقق كاكتشاف علمي أو اختراع صناعي، ومنها ما يظل دومًا في حيِّزه كفرضية لا تقبل التحقق.

والمشكلة ليست في المخيلة بذاتها، وإنما المشكلة هي أن المجتمع الإنساني يحتاج إلى طريق يسير عليه بثبات مهما تغيرت الصور المتخيلة من حوله حتى لا يضيع. والمقصود هو حاجة الإنسان لثوابت قيمية برغم كل المتغيرات، وهذه الثوابت هي ما يضمن لديه الحق الواحد والعدل الواحد والاستفادة الإيجابية من كل متغير علمي والاستخدام السليم لكل ثابت علمي.

فالأمر تمامًا كالدستور بالنسبة للدولة، فالدولة بلا دستور حتمًا زائلة وبسرعة. ولكن هذه الثوابت للقيمة الإرشادية للإنسان في الكون حتمًا لا بد من اشتمالها على الوصف الكلي للكون ما علمنا منه وما لم نعلم، ولا يكون هذا ممكنًا إلَّا إذا نظرنا إلى الأمر وفق حجة الساعة كما قدَّمها وليم بيلي (W. Paley) في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) (Natural Theology) ردًّا على الإلحادية الداروينية، حيث إنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثَّرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة، هنا يثور العجب والدهشة والسؤال، فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة، فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة.

فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره، أم نعود فنقول: إن الحل هو أن يضرب كل إنسان في مرماه بهواه، ولكلٍّ أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك.

ولذلك جعل الله تعالى من القرآن الآيات المحكمات على ظاهر نصوصها بما لا يمثل شبهة ولا يحتاج لتأويل، وهو أغلب آي القرآن، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[17].

والتي هي ترسي الثوابت التي لا يؤدي الخيال الإنساني دورًا فيها بذاتها، ولا يملك الإنسان إلَّا اتباعها دون فحص العلة الربانية منها، على نحو سؤال العلماء للسببية في الطبيعة، وربما صح في ذلك مذهب ابن حزم الظاهري عندما قال: «لسنا نقول: إن الشرائع كلها لأسباب، بل نقول: ليس منها لسبب إلَّا ما نص عليه منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء»[18].

والحديث النبوي الصحيح أيضًا على منوال ذلك. وإنما للخيال السردي أن يدور كما يشاء وكيفما شاء حول هذه الثوابت المطلقة المعطاة بالنص المحكم ولكن ليس في تأويلها بذاتها، ثم لعل أن النص المحكم يكون هو العامل الوحيد الذي يسمح لأصحاب النظريات العلمية – نظرية داروين (Ch. Darwin) في تطور الجنس البشري مثلًا – أن يكون لها من الفائدة في فهم الحقائق الراهنة بين أيدينا، أي في مجالاتها وتطبيقاتها الفعلية القريبة في الوجود الفعلي للإنسان أمام الطبيعة في العالم ممن خضع بصورة حية إلى إجراءات الملاحظة العلمية والتجربة.

أما أن تجعل مثل هذه النظرية من نفسها شرطًا لتفسير الأصول البعيدة وأحوال النشأة الأولى وتفرُّعاتها، فهذا مما لا يمكن قبوله نظريًّا أو عمليًّا بحال بكون ذاك أمر لم يزل في حيِّز الافتراضات التي لا تتحقق برغم كل التقدم العلمي الراهن، فإن الله تعالى قد حسم فيه القول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا}[19].

فالإشهاد هنا لا يعني فقط الرؤية البصرية، حيث لا دليل في النص على قصره عليها؛ لذلك يمكن أخذ الإشهاد على معناه المطلق بما يفيد كل ما يدل على التثبت اليقيني. والمطالبة بتوقُّف العملية التخيلية الافتراضية في هذا الأمر يكون بسبب أن التخييل لا يكون إلَّا على مفردات وردت إلى حيِّز الخبرة عبر المنافذ الإدراكية الحسية أولًا، ثم يتم تركيبها في أشكال وهيئات متخيلة، ولكن عملية الخلق الأول لم ترد إلى المنافذ الإدراكية الحسية أصلًا لتكون عنصرًا من عناصر الخبرة لدى الإنسان.

إذن فالنص المحكم في القرآن الكريم هو محدَّد الثوابت في توجيه حركة الإنسان في الوجود والقيم التي عليه أن يحملها في إدارة الحياة. وعموم آيات القرآن الكريم هي اللغة الفوقية الشارحة والضابطة الوحيدة الممكنة ليس على لغات الموضوع التداولية بين الشعوب والقبائل، وإنما على مفردات وتأليفات المخيلة الإنسانية ومجلداتها السردية حول الأسئلة الكلية على ماهية الوجود والعدم والغاية والمبتدأ والمنتهى مما لم نشهد خلقه في هذا الكون.

خلاصة

إن الإنسان يحمل العالم في رأسه ويعيد بنائه فيه مرات ومرات ربما بلا منتهى، ثم يضع ما تصوره برسم خياله في حكايات وصور وفرضيات تفسيرية، فالخيال المجرد كالدائرة التي لا تبدأ لتنتهي بل تستمر، فإن لم يكن هناك عقال رابط للخيال الدائر بحد من الثوابت الأخلاقية والمعرفية يركن إليها الإنسان كمنطلق ومرشد وغاية في ممارسته الذهنية تلك لظل يدور بلا غاية وربما ينتج علمًا وعمرانًا ولكنه لن ينتج حضارة مجتمعية وقيم إنسانية وكونية عليا، ولربما أضاع الإنسان نفسه.

 

 

 

 



[1] Gilbert Ryle - Philosophical symposium (The physical basis of Mind) – Basil Blackwell,Oxford , 1957, p. 75.

[2] عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، الكويت: وكالة المطبوعات، الطبعة الثالثة، 1977م، ص 147 - 148.

[3] Dictionary of philosophy – edited by; I. Frolor, Progress publication, 1984, p. 348.

[4] Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – Rutledge& Kagan Paul, London, 1967.p. 24.

[5] Hans Reichenbach – philosophic foundation of Quantum mechanics – University of California, 1944, p. 29 - 30.

[6] ستيفن هوكينج، موجز في تاريخ الزمان، ترجمة: عبد الله حيدر، بيروت: أكاديميا، الطبعة الأولى، 1990م، ص 74 - 75.

[7] رولان أومنيس، فلسفة الكوانتم فهم العلم المعاصر وتأويله، ترجمة: أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 350، 2008م، ص 151.

[8] Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – p. 23.

[9] بول ديفيس وجوليان براون، الأوتار الفائقة نظرية كل شيء، ترجمة: أدهم السمان، دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، 1997م، ص 142.

[10] سورة الإسراء: 85.

[11] دان براون، الأصل، ترجمة: زينة إدريس، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2018، ص 50.

[12] Ray monk – Wittgenstein and the two cultures – BBC radio, 66 prospect, July 1999 ,pp. 1 - 2.

[13] سورة الحجرات: 13.

[14] Michael Fisher – Language, Meta-language – J. of the IGPL, vol. 4, no 2, p. 260.

[15] كارل بوبر، أسطورة الإطار في دفاع عن العلم والعقلانية، ترجمة: يمنى طريف الخولي، الكويت: عالم المعرفة، العدد 292، 2003م، ص 38.

[16] كارل بوبر، أسطورة الإطار، ص 37.

[17] سورة آل عمران: 7.

[18] محمد أبو زهرة، ابن حزم، حياته وعصره آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، ص 436.

[19] سورة الكهف: 51.