جاك لوغوف ومفهوم العصر الوسيط الطويل
الدكتور عبدالرحيم الحسناوي*
* كاتب وباحث، جامعة محمد الخامس الرباط/ المغرب، البريد الإلكتروني:
lhasnaoui@hotmail.com
«لا وجود لتاريخ جامد، وليس التاريخ أيضًا التغيير الصرف، بل هو دراسة التغيرات اللافتة. التحقيب هو الأداة الأساس لفهم التغيرات اللافتة».
Leff Gordon, History and Socail Theory, London; Merlin 1969, p. 130.
«التحقيب، شأنه شأن التاريخ بالذات، هو عملية تجريبية يصنعها المؤرخ».
«إن الزمن جزء من التاريخ، والمؤرخ مطالب بالتحكم في الزمن، في الوقت الذي يكون فيه خاضعا لسلطانه. وبما أن الزمن يتغير، يغدو التحقيب بالنسبة للمؤرخ أداة ضرورية».
Jacques Le Goff, Faut-il vraiment découper l’histoire en tranches ? Paris, Seuil, 2014
نحاول في هذه المطالعة البحثية تسليط الضوء على أحد أقطاب الفكر التاريخي في الغرب، ويتعلق الأمر هنا تحديدًا بالمؤرخ الفرنسي الشهير جاك لوغوف (Jacques Le Goff) (1924- 2014) الذي تخصص في دراسة العصور الوسطى حيث كانت له إسهامات تاريخية بارزة في هذا المجال، كما عكست رؤيته التاريخية منظورًا جديدًا لفكرة التحقيب ولا سيما إشكالية العصر الوسيط.
أولًا: العصر الوسيط: إشكالية التحقيب
يمتد العصر الوسيط على فترة زمنية تبلغ 1000 سنة تقريبًا، من 476م إلى سقوط القسطنطينية 1453م بالنسبة إلى البعض، أو إلى سنة 1492م تاريخ سقوط غرناطة. وينقسم العصر الوسيط بدوره إلى العصر الوسيط المتقدم الذي يبدأ مع بداية العصر الوسيط وينتهي بنشأة الإمبراطورية الكارولنجية[1] في سنة 800. ومن هذا التاريخ يبدأ العصر الوسيط الذي ينتهي مع بداية القرن 13م، ثم العصر الوسيط المتأخر الذي ينتهي بنهاية العصور الوسطى.
لقد أثارت مسألة تحديد مفهوم العصر الوسيط نقاشًا كبيرًا داخل أوساط المؤرخين الغربيين، ومعلوم أن المفهوم كان قد ابتكره مؤرخو القرن السابع عشر للدلالة على الحقبة التاريخية الممتدة من نهاية العالم القديم وانهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي إلى بداية العصر الحديث مع تطورات القرن السادس عشر الميلادي، ولا سيما مع النهضة الأوروبية وحركة الإصلاح الديني (البروتستانتية).
وإن كان من المعروف أن مصطلح النهضة لم يشع في الاستعمال إلَّا سنة 1855 من خلال الكتابات التاريخية للمؤرخ الفرنسي جيل ميشلي (Jules Michlet) الذي اعتبر أيضًا بأن العصر الوسيط هو بداية نشأة المجتمع المعاصر. بل إن المفهوم الإيطالي للمصطلح كان يعني إنعاش الثقافة الكلاسيكية، أي ثقافة اليونان والرومان التي احتقرت وأهملت من قبل العصور الوسطى المسيحية بحجة أنها وثنية.
اعترف يوهان هويزينغا (Johan Huizinga) (1872-1945)[2] بوجود عصر النهضة لكنه تساءل عما إذا كان التغيير إيجابيًّا أم لا، وذلك في كتابه (خريف العصور الوسطى)، L’Automne du Moyen Âge، إذ قال: أن عصر النهضة كان في فترة انحدار من العصور الوسطى العليا، ويرى بعض المؤرخون أن كلمة (Renaissance) هي كلمة محملة بمدلولات غير صحيحة بالضرورة، فهي تتضمن وبشكل قطعي ولادة جديدة من ما يفترض بأنه عصور مظلمة أكثر بدائية (القرون الوسطى).
العديد من المؤرخين يفضلون الآن استخدام مصطلح الحداثة المبكرة لهذه الفترة، وهي تسمية أكثر حيادًا حيث تسلط الضوء على هذه الفترة كفترة انتقالية بين العصور الوسطى والعصر الحديث.
ومن جهة أخرى يمكن النظر إلى النهضة كمرحلة، وربما كعصر، كما يرى بعض المؤرخين، وإن كان من الصعب تحديد بداية هذا العصر ونهايته، ما دامت النهضة تجد جذورها في نهاية العصر الوسيط وامتدادها في الأزمنة اللاحقة من تاريخ أوروبا (ميشلي)، وذلك بحكم التداخل الموجود بين نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث، على مستوى البنيات والعقليات، وهذا ما جعل أيضًا جون دوليمو (Jean Delumeau)[3] يتعامل مع النهضة كمرحلة زمنية طويلة تمتد من نهاية القرن الثالث عشر إلى مطلع القرن السابع عشر.
كانت الدراسات الأولى تنعت العصر الوسيط بكونه عصر ظلمات (L’âge des ténèbres) سادت فيه كثرة الحروب (حرب المائة سنة بين الإنجليز والفرنسيين 1337-1453) كما سادت فيه الأوبئة (طاعون 1358) والمجاعات، والانكماش الاقتصادي، واحتكار الكنيسة لعالم الثقافة والفكر. وهكذا توزعت الذاكرة الأوروبية إلى ذاكرة كنائسية طغت على جوانب مهمة من الحياة، وذاكرة علمانية مهمشة[4].
لقد كان الإنسيون (L’humanisme)[5] وخاصة مع بيترارك (Pétrarque) من أوائل الذين روجوا لتلك التسمية حيث نظروا إلى الحقبة السابقة لعصرهم على أنها حقبة بربرية ومرحلة حرب وتبشير، حيث كان على أوروبا مواجهة موجات متتالية من الغزوات الأجنبية، بدءا بغزوات قبائل الهون (Huns)، مرورًا بهجمات العرب المسلمين من الجنوب، والهنغاريين من الشرق، وانتهاء بتوسعات النورمانديين من الشمال.
كما تميزت هذه الحقبة أيضا وخاصة من الناحية الثقافية، بسيطرة الكنيسة والثقافة الدينية على المجتمع، ناهيك عن وجود اقتصاد فلاحي (الفيودالية) مغلق وركود في وسائل الإنتاج، وجمود التبادل التجاري والنقدي، وضعف التمدن، واستمرار أشكال العبودية.
ونجد امتدادًا لهذه النظرة السلبية للعصر الوسيط لدى مفكري عصر الأنوار وخاصة في فرنسا خلال القرن الثامن عشر، وتفسر هذه النظرة بالتوجه الأيديولوجي الذي تجلّى في كون العديد من مؤرخي الثورة الفرنسية كانوا قد حاولوا إظهار عصور ما قبل الثورة كعصور انحطاط، وربطوا التقدم بصعود البرجوازية التي كانت تناضل ضد الإقطاع والكنيسة، ووجدت في الثورة فرصة لنعت عصر ما قبل الثورة بعصر الظلام والانحطاط[6].
لكن مع تطوّر البحث التاريخي الاحترافي داخل الجامعة، القائم على أساس التنقيب الأرشيفي والانفتاح على تساؤلات العلوم الاجتماعية، أصبح العصر الوسيط ينظر إليه كحقبة تاريخية متغيرة وممهدة للتطورات اللاحقة التي ستعرفها أوروبا، وهكذا تم إعادة التفكير في العصر الوسيط من حيث كونه مرحلة هائلة من التغير التاريخي المستمر.
ثانيًا: أهمية العصر الوسيط لدى لوغوف
يعتبر جاك لوغوف من المؤرخين المحدثين الكبار الذين منحوا للعصر الوسيط أهمية معرفية بالغة داخل النسق الإسطوغرافي، بل إنه عرف عالميًّا كأكبر متخصص في تاريخ العصر الوسيط (لقب بابا العصر الوسيط)، فقد شغف به منذ طفولته حينما كان يطالع بنهم روايات الشاعر والروائي والمؤرخ وكاتب السيرة الاسكتلندي والترسكوت (Walter Scott) (1771- 1832)، ومؤلفات المؤرخ الفرنسي ميشلي.
ويبرر لوغوف اهتمامه المنقطع النظير بالعصر الوسيط كفضاء رئيسي لأبحاثه بدافع مهني كما يقول؛ لأن ذلك العصر فيه من المصادر والمراجع بالقدر الذي يلبي حاجات البحث، خلافًا للعصر القديم الذي يحتاج فيه المؤرخ إلى استنتاج ما جرى انطلاقًا من حجر أو عظم على طريقة علماء الآثار أو الحفريات، أو العصر الحاضر الذي يغرقنا بمعلومات ووثائق تفيض عن الحاجة.
وفي هذا السياق يقول لوغوف: «يصنع التاريخ بالوثائق وبالآراء، بالمصادر وبالأفكار، وكان يظهر لي -وكنت مخطئًا في ذلك، أو على الأقل كنت مبالغًا- أن مؤرخ العصر القديم كان ملزمًا باختيار غير مشجع؛ إما بالاكتفاء بالإرث الضعيف لماضٍ غير مؤهّل للخلود، وبالتالي الاستسلام لمحاسن التضلع. وإما التعاطي لمفاتن التركيب العشوائي. كما أن تاريخ الحقب القريبة كان يقلقني للأسباب العكسية، فالمؤرخ إما مرهق تحت ثقل الوثائق التي ترغمه على نهج تاريخي إحصائي وكمي. وهو أيضًا تاريخ مختزل، ذلك أنه إذا كان من الضروري التعاطي للحساب، وهو شيء ممكن في الوثائق التاريخية، فإنه من اللازم صنع التاريخ من الأشياء غير الخاضعة للأرقام، والتي غالبًا ما تكون هي الأساس، وإما مرغم على التخلي عن النظرة الشمولية. نوجد هنا إذن أمام تاريخ جزئي، ونوجد هناك أمام تاريخ كله ثغرات، وبين الاثنين يوجد العصر الوسيط»[7].
عرّف لوغوف بمنهجه العلمي الصارم الذي يتعامل مع التاريخ في شموليته، لا يكتفي بسرد الأحداث والمعارك والتواريخ والمعاهدات، بل يتعداها إلى رصد مختلف مظاهر الحياة في زمن ما، كأنماط التفكير وأنماط العيش والعادات والتقاليد والفن المعماري.
حاول جاك لوغوف في معظم إنتاجاته العلمية التي انصب اهتمامها بالأساس على العصر الوسيط الوصول إلى مرتكزات عميقة للحضارة الوسيطية. ففي إعادته لاكتشاف هذا العصر، الذي جعل هو منه، منذ أوساط ستينات القرن العشرين، مجال أبحاثه الأساس، لطالما عني لوغوف بتكوين نظرة شاملة لذلك العصر، بالرجوع إلى مصادر شتى، وبتحبيذ العناصر المادية والحسية، كما ينقلها لنا أدب العصر، أدب رفعه هو إلى مصاف مرجع لا غنى عنه بعدما كان مهملًا من لدن المؤرخين السابقين لصالح الوثيقة والأرشيف. إن الدعوة هنا إلى استثمار أو إدماج النص الأدبي أو الأثر الفني يجب أن يتم من دون التغافل، لا عن خصوصية مثل هذه الوثائق، ولا عن الأهداف الإنسانية من وراء إنتاجهما.
بدأت علاقة لوغوف بالعصر الوسيط سنة 1957 بكتاب أول عنوانه: Les intellectuels au Moyen Age (مثقفو العصر الوسيط)[8]، الذي أثار إعجاب أستاذه موريس لومبار (Maurice Lombard) المتخصص في الإسلام القروسطي، كما ثمنه أيضًا فرناند بروديل (Fernand Braudel) ففتح له باب الجامعة. أما المؤلف الثاني فهو أطروحته التي عالجت التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لأوروبا خلال القرون الوسطى من خلال كتاب «التجار والمصرفيين»[9].
وسع جاك لوغوف اهتماماته بصورة غير مسبوقة لتشمل المخيال القرووسطي في شتى تجلياته، فاشتهر بأعمال مجددة من أهمها: La civilisation de l’Occident médiéval (حضارة الغرب القروسوطية)[10] وكتاب La Naissance du purgatoire (ولادة فكرة المطْهر)[11]، ومؤلّف Dictionnaire raisonné de l’Occident médiéval (القاموس المشروح للغرب القرووسطي) بالتعاون مع جان كلود شميت (Jean-Claude Schmitt)[12]، وكتاب Héros & merveilles du Moyen Âge (أبطال العصر الوسيط وعجائبه)[13].
إن هذا المؤرخ الفذ المتخصّص في العصر الوسيط، قد ركز اهتمامه على تحديد ما ليس متخيلا أكثر من تحديده لما هو متخيل. ومن هنا، ورغم عدم إمكانية الفصل، فإنه يجب أن لا نخلط المتخيل بتمثلات الحقيقة الخارجية، ولا بالرمزية ولا بالأيديولوجيا[14].
إن هذا التحديد يبدو لنا صارمًا، ففي البداية، إنه لا وجود لتمثل مطابق تمامًا للشيء المتمثل، فكل صورة مهما بدت مطابقة للواقع تفترض تدخلًا طفيفًا للمتخيل. ومن جهة أخرى، يبدو لنا عالم الرموز منتميًا إلى المتخيل، بل هو الذي يعطيه تعبيراته الأكثر عمقًا والأكثر معنى. وفي الأخير، فإن الأيديولوجيات يمكن تأويلها، بكل شرعية، باعتبارها مجاميع أساطير معلمنة.
إن لوغوف يقترح تصنيفًا مهمًّا وممكنًا بين أصناف العجيب والمعجز والسحري في العصر الوسيط. وهو يعالج الأوجه المختلفة للفضاء والزمن والأحلام والعالَم الآخر… إن كل هذه الأوجه تنتمي إلى المتخيل. وقد أعلن لوغوف -دون أدنى تنازل- أن أيديولوجيا النماذج الأصلية مشتبه فيها موضحا أن عوالم المتخيل مبنية على العلم، أما النماذج الأصلية فهي هذيان مؤسطر[15].
إن نشأة غرفة انتظار الدخول إلى الجنة قد حددت تاريخيًّا (تكلّست نهائيًّا ما بين القرنين XII وXIII) وربطت بتطورات معقدة، منها ما هو اجتماعي وسياسي، ومنها ما هو عقلي (تقهقر السلطة الزمنية للكنيسة التي سعت إلى استرجاع ما فقدته من تأثير في فضاء وزمان ما بعد الموت بإعطاء قيمة لمفهوم المسؤولية الفردية، إلخ…).
إنّ امّحاء جهنم -اليوم- من الفضاء المسيحي الغربي يمكن أن يقارب بمنهجية مماثلة. فبُنى الفضاء الأخروي تتغير بتغير بنى عالمنا (نلاحظ أنه، في كل مرة يرتكز فيها تأويل المتخيل على مناويل تاريخية محددة، فإنه يضعها في علاقة ارتباط دالة بالبنى الاجتماعية والأوضاع المادية، وهذا أمر محمود في فكر مدرسة الحوليات (Les annales)[16] وفي منهج لوغوف على الخصوص). لقد بين لوغوف في معظم انتجاته الوسيطية أنه يجب البحث عن معنى المجتمع من خلال منظومة تمثلاته، ومن خلال المكانة التي تحتلها هذه التمثلات داخل البنى الاجتماعية وفي الواقع[17].
ومن مصادر الجذب في فكر لوغوف كشفه عن بقايا العصر الوسيط في آليات التفكير المعاصر، أي مساهمة الفكر القرووسطي وأنماط العيش القرووسطية في تكوين أوروبا الحديثة، بما يرفع عن هذا العصر صورة فترة مظلمة شبه بدائية بقيت لصيقة به قبل صدور أعماله. فهو يعتبر أن الحياة الدينية لأهل العصر الوسيط التي أقامت للكائن فضاء جوّانيًّا أو حميمًا يحيل على علاقته باللّه، هو الذي يقف وراء ولادة الذات أو ولادة الفاعل بالمعنى الحديث للكلمة، أي امتلاك ما يدعوه المؤرخ «أذنًا داخلية» و«عينًا داخلية» تجمعان الكائن بفضائه الحميم، من حيث تربطه أذناه الخارجيتان وعيناه البرانيتان بالعالم أو بالغير.
ولولا أهمية العصر الوسيط لما شهد هذه الانبعاثات المتتالية التي يؤكد لوغوف في بعض المحاورات المجراة معه على إذاعة فرانس أنتير (France Inter) إثنين التاريخ (Les Lundis de l›histoire) منها العناية التي أبداها الرومنسيون (Romantique) في القرن 18م[18] وبعده بالأساطير والتمثّلات والشخصيات القروسطية، وانبعاث الكثير من هذه العناصر في السينما الحديثة[19].
غداة صدور كتابه «أبطال العصر الوسيط وعجائبه» (2005) صرّح لوغوف بالقول: إن اعتبار الأجيال السابقة من المؤرخين العصر الوسيط ظلاميًّا و«بربريًّا» لم تصمد أمام أعماله وأعمال مجايليه الكبار وعلى رأسهم مارك بلوك (Marc Bloch) وفرناند بروديل التي كشفت فيه عن فكر حي يتجلى أكثر ما يتجلى في منتجات المخيال الاجتماعي والفني التي نذر هو أغلب أعماله للبحث فيها ومساءلتها.
وهنا يعيب المفكر لوغوف على التاريخ التقليدي كونه لم يأخذ بعين الاعتبار لا تاريخ الأدب ولا تاريخ الفن ولا تاريخ القضاء، والحال كيف يمكن دراسة حقبة أو حضارة معينة دون الرجوع إلى هذه التواريخ الثلاثة؟ ذلك أن رجال مجتمع ما ونساءه يحيون ويفكرون من خلال الصورة والمخيلة بالقدر نفسه الذي يحيون فيه ويفكرون من خلال تماسهم مع الواقع والعقل.
وفي السياق ذاته يرى جاك لوغوف أنه لفهم حقبة تاريخية ما، ينبغي الرجوع إلى الشاكلة التي كان بها أهلها يفكرون ويحلمون ويحسون ويشعرون. ومن هنا يعتبر بأن المخيال يهيكِل الأساطير وأنه يمكن تعريفه بأنه نسق أحلام مجتمع وحضارة، أحلام تحول الواقع إلى تطلعات مشبوبة للفكر الإنساني. يكفي أن ننظر إلى المعمار والنحت والرسم لنقف فيها على طلب أو انتظارٍ صادر عن جمهور العصر المعني. والحال أن هذا الطلب كان صادرا عن مخيالهم لا عن ضرورة اقتصادية أو اجتماعية أخرى[20].
قدّم جاك لوغوف، مساهمات نوعية تركت بصماتها على طريقة كتابة التاريخ، كما اهتم في دراسة تاريخ المجتمعات وتاريخ الذهنيات خلال العصر الوسيط. ومن الأفكار الأساسية التي ركز عليها، رفضه الحازم مقولة القطيعة في التاريخ الإنساني خلال مساره الطويل. ذلك أن التاريخ مجبول عبر حركات عميقة ومستمرة ولا يعرف أبدًا قطيعة مفاجئة.
كما كتب وأكّد ولم يتردد في تأكيد رؤيته أن عصر النهضة الأوروبية، كان نتاج سلسلة من محاولات النهضات التي عرفتها العصور الوسطى، وصولًا إلى النهضة البارزة أو الفاعلة التي عرفتها أوروبا في النهاية (القرن16م). كما أنه بقي يرى التاريخ بمثابة ذاكرة ليست موضوعية بالضرورة. وأيضًا، أبدى لوغوف موهبة كبيرة في مجال المساهمة بتبسيط النظريات العلمية المعقدة.
ثالثًا: العصر الوسيط: محددات كرونولوجية
أولى جاك لوغوف الكثير من الاهتمام لدراسة الفترة التي أمضى قرابة ستة عقود من حياته في دراستها والتمحيص في خباياها وآليات عملها، أي العصور الوسطى. ويشير في هذا السياق، إلى الصورة السوداء والعصر البربري، التي سادت عنها في كتابات المؤرخين والمفكرين، من القرن الحادي عشر حتى القرن الثامن عشر. وينقل المؤلّف عن فولتير قوله: إن العصر الوسيط أساء للعقل وللدراسات الجيدة بمقدار ما لم يفعله البرابرة من الهون والفاندال (Vandals).
حسب جاك لوغوف، فإنه ابتداء من القرن الحادي عشر لا يمكن إطلاقًا الحديث عن عصر الظلمات لنعت العصر الوسيط، الذي يرى فيه الزمن طفولته، أي الانطلاقة الحقيقية لأوروبا، مهما كانت أهمية الموروثات اليهودية والمسيحية والإغريقية والرومانية والجرمانية والتقليدية التي احتضنها المجتمع الوسيطي[21].
كما يمثّل القرن الثاني عشر في نظره انطلاقة كبرى للعصور الوسطى حيث اختفت العبودية ليحل محلها النظام الفيودالي، وتضاعف عدد السكان، كما استصلحت العديد من الأراضي الزراعية التي استفادت من تطور التقنيات. وبالتالي فقد أدى ذلك إلى وفرة الإنتاج.
من ناحية أخرى هناك النهضة الحضرية (المدن) والتجارية هي التي أدخلت على البنيات الفيودالية عنصرًا جديدًا: الطبقة الوسطى الحرة (صنّاع، تجّار)، التي انبثقت منها الطبقة البرجوازية إلى جانب مجموعة من القيم المرتبطة بالعمل، بالسلم وبنوع من المساواة.
ومن مظاهر نهضة المدن في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ظهور حركة ثقافية وفكرية تجسدت في مرحلة أولى في تعدد المدارس، وفي مرحلة موالية في ظهور جامعات بكبريات الحواضر الأوروبية، والتي خلقت رواجًا فكريًّا ساهم في إعمال العقل في ميادين متعددة من الحياة العامة.
وتنامي طبقة التجار، لكن هل يجوز نعت تاجر القرن الثالث عشر تاجرًا رأسماليًّا، وفق التساؤل الذي طرحه لوغوف في كتابه: Marchands et banquiers au Moyen Age (تجار ومصرفيو العصر الوسيط). في الواقع يتعلق الأمر بتاجر شبه رأسمالي، لأنه بالاستناد إلى التعريف الماركسي للرأسمالية، لا يمكن اعتبار العصر الوسيط عصرًا رأسماليًّا. لكن نشاط التجار تم داخل النظام الفيودالي، إذ عملوا على تفكيكه وتدمير بنياته[22] وهذه كلها مظاهر أساسية في التاريخ الاقتصادي لأوروبا، لأنها مهّدت بشكل ملموس للتحولات الرأسمالية اللاحقة.
ويرى لوغوف في عصر النهضة الأوروبي امتدادًا للعصور الوسطى التي سبقته. كما لا يتردد في التساؤل عمَّا إذا كان عصر النهضة الأوروبي عصر الاكتشافات والنزعات الإنسانية والعقلانية؟ ويلفت إلى أن هناك خطأً شائعًا، يقول أصحابه: إنه مع اكتشاف العالم الجديد (أمريكا) من قبل كريستوف كولومبوس سنة 1492، تغيّر العالم تمامًا. ويبين أن هذا رأي خاطئ، فالعالم لم يتغير تمامًا آنذاك، وكولومبوس نفسه إنسان من العصر الوسيط.
يبرر مؤرخ العصر الوسيط تساؤله: إن عصر النهضة لا يمثل حسب رأيه فترة تاريخية خاصة، ذلك أنه كان بمثابة النهضة الأخيرة في عصر وسيط طويل. بل ويذهب لوغوف أبعد من ذلك عندما يضيف بأن العصر الوسيط لم ينتهِ حقيقة، سوى في عام 1750، عندما انتصرت مفاهيم التقدم، وبدأت عملية تحول الصناعات الحرفية نحو استخدام الآلات وسادت في النقاشات المسائل ذات الطابع العلمي والفلسفي.
تقوم هذه النظرة على أساس الاستمرارية وليس القطيعة، وكما يرى جاك لوغوف الذي يقول عن الغرب الوسيطي قام على أنقاض العالم الروماني، وكأنه انساب على منحدر منذ أواخر الإمبراطورية الرومانية[23]، يحيل هذا القول على ضرورة التعامل مع أوضاع التفكك السياسي التي حصلت منذ أواخر الإمبراطورية الرومانية لفهم بداية العصر الوسيط.
يطرح جاك لوغوف عددًا من الأسئلة تهم فكرة التحقيب، ويبدو السؤال الرئيس الذي اختاره المؤرخ الفرنسي الكبير، لفترة العصور الوسطى التي كرّس لها عشرات الآمال ومئات الدراسات، كعنوان لكتابه الأخير، الصادر قبل وفاته بأيام قليلة، منهجيًّا بامتياز، إذ يقول السؤال - العنوان: هل ينبغي حقًّا تقطيع التاريخ إلى مراحل؟[24]
ما يقصده جاك لوغوف هنا، هو التساؤل حول التقسيم التقليدي المدرسي للتاريخ الإنساني، إلى عدة حقب متتالية ومدى صحة تقسيم التاريخ الإنساني السائد، إلى مجموعة من الحقب المتمايزة. والحال هنا أن المؤرخ جاك لوغوف يشكّك صراحة في صلاحية مثل هذا التقسيم، ويقدم بالمقابل، مجموعة من الأفكار والمفاهيم حول حقبتين تغطيان التاريخ الإنساني كله: الماضي والحاضر. ومن خلالهما يتعرض بالتحليل، لما يسميه المصادر الأساسية للتاريخ نفسه.
صاغ المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف بذلك مفهوم «العصر الوسيط الطويل» الذي يمتد من القرن الثاني أو الثالث إلى القرن الثامن عشر، واعتبر لوغوف أن جوهر العصر المذكور لا يتمثل في النظام الفيودالي بقدر ما يتمثل في بنيات المجتمع ما قبل الصناعي.
يؤكد لوغوف أيضًا على ضرورة إعادة النظر في تحقيب التاريخ ومعالجة التاريخ الوسيط من منظور البنيات الثقافية، أي العقليات والسلوكيات التي لم يحصل فيها تغير كبير خلال مرحلة النهضة في القرن السادس عشر. بمعنى أن التحولات الحداثية التي حصلت في هذا القرن كان أثرها محدودًا في أوساط البورجوازية، ولم تشمل باقي الفئات الاجتماعية إلَّا ابتداءً من القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية التي قلبت المجتمع الأوروبي رأسًا على عقب على مستوى البنيات المادية والثقافية على السواء، وأدخلته في العصر الحديث.
إن الانتقال من حقبة لأخرى -وفق المنظور الذي أبداه لوغوف- يكون عبر منعطفات (Tournants)، وهي بمثابة الحدود الزمنية التي تفصل بين الحقب، ولكن المفهوم هنا لا يشير إلى القطيعة (Rupture) بين الحقب فحسب، بل يدل أيضًا على وجود استمرارية (Continuité)[25] فالمنعطف لا يعبّر عن التحول فقط بل عن الاستمرارية أيضًا في ظل سيرورة تاريخية تفيد التراكم.
ويشير المنعطف بشكل أساسي إلى وجود تحولات لا تشمل فقط مجالًا واحدًا، بل مجموعة من المجالات والقطاعات بشكل متزامن ومتواز. وقد يكون المنعطف عبارة عن تاريخ محدد في سنة مثلًا، أو عبارة عن مدار زمني من سنوات عدة تتمركز حول سنة مركزية. إن صورة المنعطف أكثر من القطيعة، تمكن من إدراك الواقع وتحتفظ باستمرارية، يتضمنها كل انقطاع.
ويقترن المنعطف أيضًا بمفهوم التحول ووثيرته وهو مفهوم يمكن من فهم جيد للتطور المجتمعي، ونظرة واضحة عن الحاضر واستباق التطورات المستقبلة (التجربة وأفق الانتظار لفرانسوا هارطوغ François Hartog)[26].
وبخصوص وتائر التحول يمكن رصد الأشكال التالية: من حيث الإيقاع: سريع/بطيء، والطريقة: دورة/أزمة، والنضج: انتقال/طفرة، ودرجة الانتظام: إيجابي/سلبي، ومن حيث الاتجاه: خطي/ دوري، والعمق: ظرفية/بنية، ومن حيث المآل: تقدم/ تراجع.
يظل التحقيب إذن مجرد اصطلاح الغرض منه هو تحديد مرحلة زمنية ليس إلَّا، وهي من إنتاج المؤرخ. إن الحقبة باعتبارها نظيمة يفترض فيها حسب عبدالله العروي قانونًا ذاتيًّا يجب الكشف عنه[27]. فهي مفهوم افتراضي يتجدد بتجدد الإشكاليات التاريخية والأدوات المفاهيمية الموظفة في تحليل ودراسة تاريخ المجتمعات البشرية بهدف فهم التجربة الإنسانية. وإجمالًا نعني بالحقبة الخصائص والمميزات التالية:
1- إنها فترة زمنية ذات مميزات وسمات خاصة؛
2- هي أيضًا بمثابة قانون يمكن الكشف عنه؛
3- تبدو منحصرة بين تاريخين أو زمنين؛
4- مفهوم افتراضي يتجدد بتجدد الإشكاليات التاريخية والأدوات المفاهيمية؛
5- مرتبطة بنوع من التقويم تصور ذهني/ إنتاج المؤرخ؛
6- مرتبطة بنوع من الفعالية البشرية.
هكذا إذن دعا لوغوف إلى إعادة النظر في مقولة الزمن، المادة الأساسية للتاريخ. هنا أيضا يجب البحث عمن كان يتحكم في الزمن وفي قياسه، وفي استعماله. يجب تحطيم فكرة الزمن الواحد المتجانس والخطي، يجب استنباط مفاهيم عملية لأزمنة متعددة لمجتمع تاريخي، على شاكلة الأزمنة الاجتماعية المتعددة التي حددها موريس هلفاكس (Maurice Halbwachs).
يجب إنشاء تسلسل زمني علمي جديد يحدد تاريخ الظواهر بحسب مدة فاعليتها، وليس بزمن حدوثها. وهذا يصح للظواهر المادية والروحانية في الوقت ذاته. فكما يوجد تأريخ زمني لمصادر الطاقة كالبخار والكهرباء... إلخ يوجد أيضًا تأريخ للمخيال والمعتقدات (مثلًا ظاهرة الاعتقاد في التطهر من الذنوب في الدنيا قبل الآخرة في المجتمعات المسيحية التي بدأت منذ القرن الثاني عشر).
وفي نهاية هذه المطالعة البحثية، من الضروري الإشارة أو التنبيه إلى إن ما يميز لوغوف عن غيره من المؤرخين، هو إلمامه بمختلف معارف وفنون عصره، يحدثك عن التيارات الفلسفية والأدبية وعن الحركات الفنية والمذاهب الدينية، وعن أصل الأجناس والنشوء والارتقاء، حديثه عن وقائع التاريخ وأبطاله، فعمله الأكاديمي كان دائمًا مشفوعًا بتأمل عميق في وظيفة المؤرخ ومصداقيته ونزاهته، رغم إقراره بأنه يصعب جدًّا أن يكون المؤرخون موضوعيين؛ لأن التاريخ، في رأيه، يثير الأهواء، ومن الصعب كذلك أن نغض الطرف عن مجريات الواقع الراهن.
[1] الكارولنجيون سلالة ملوك ملوك فرنجة حكمت أوروبا من عام 750م حتى القرن العاشر، سميت السلالة بالكارولنجيين نسبة إلى شارل مارتل، وتعزز هذا الاسم بسيرة شارلمان مؤسس الإمبراطورية الكارولنجية.
[2] -Johan Huizinga, L’Automne du Moyen Âge, Paris, Payot, 2002.
[3] Jean Delumeau, La Civilisation de la Renaissance, Paris, Arthaud, 1967.
[4] Jacques Le Goff, Histoire et mémoire, Paris, Gallimard, 1988.
[5] يعني هذا المصطلح الحركة الفكرية التي ظهرت في أوروبا منذ القرن السادس عشر. والتي وضعت قيمة الإنسان فوق كل القيم. وتزامنت مع عصر النهضة التي نظّر لها في إيطاليا بداية من القرن الرابع عشر كل من بيترارك وبوكاس Pétrarque et Boccace ثم تطورت في القرنين الخامس والسادس عشر. انظر:
Encyclopédie Universalise, TXI Paris, 1996, p. 727 - 73.
[6] محمد حبيدة، تاريخ أوروبا من الفيودالية إلى الأنوار، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2010، ص 18.
[7] Jacques Le Goff, Pour un autre Moyen Âge, Paris, Gallimard, 1977, ( introduction).
[8] Jacques Le Goff, Les intellectuels au Moyen Age, Paris, Seuil, 1957.
[9] Jacques le Goff, Marchands et banquiers au Moyen Age, Paris, Seuil, 1957. p. 39 - 40.
[10] Jacques Le Goff, La civilisation de l’Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964.
[11] «المطهر» (Purgatoire)، إحدى العقائد المسيحية الغربية ظهرت بين فترة 1150م – 1250م، وهي فضاء أخروي بيني، فيه يتعرض بعض الأموات إلى اختبارات تطهيرية تخول لهم الدخول إلى الجنة. لقد اعتقدت جل الشعوب بالجزاء الأخروي، غير أن تجليات هذا الجزاء تختلف من ثقافة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر. فرسمت الأديان التّوحيدية على وجه الخصوص صورة لجهنم تجمع فيها بين المصير القاتم للكافر وصورة التعذيب، إلَّا أن تغير البنى الاجتماعية والثقافية في الغرب المسيحي قد غيرت من صورة الجزاء الأخروي. فحضر في العصر الوسيط مفهوم «المطْهَر» والذي يتمثل في كونه فضاء بينيًّا بين الجنة والنار، فهو فضاء تطهيري يتخلص فيه بعض الآثمين من خطاياهم ويخول لهم هذا الاختبار التطهيري التمتع بنعيم الجنة. انظر: Jacques Le Goff, La Naissance du purgatoire, Paris, Gallimard, 1981
[12] Jacques Le Goff, Dictionnaire raisonné de l’Occident médiéval. Paris, Fayard, 1999.
[13] Jacques Le Goff, Héros & merveilles du Moyen Âge, Paris, Seuil, 2005.
[14] Jacques Le Goff, L’imaginaire médiéval, Paris, Gallimard, 1985, p. 11 - 1.
[15] Ibid., p. 5.
[16] نشأت مدرسة الحوليات في إطار ثورة على التاريخ الوضعاني (Histoire positiviste) الذي كان سمة القرن التاسع عشر. لقد أراد رواد هذه المدرسة (الحوليات) أن يكون التاريخ إبداعا على مستوى المناهج والأفكار والمواضيع، وإبداعًا أيضًا في مستوى الأسلوب. وهو الأمر الذي فرض على المؤرخين اعتماد أنواع جديدة من المصادر وتسليط الضوء عليها من زوايا جديدة ترتبط بنوعية التساؤلات المطروحة ونوعية القضايا المتناولة، إذ لم يعد تاريخ الأمة الذي يمثله تاريخ الجنرالات والشخصيات الذائعة الصيت هو الذي يهم المؤرخين، بل أقحم التاريخ كل المغيبين والهامشيين من خلال دراسة المتروك من المصادر والمغيب من الفئات الاجتماعية: تاريخ المجانين، وتاريخ الرعاة والشرائح الاجتماعية الغائبة في أكثر الحالات من النصوص المصدرية، كالحوليات والسير والتراجم، حتى أنها أصبحت من أولوياته. للمزيد من التفاصيل انظر:
Guy Bourdé et Hervé Martin, Les écoles historique Paris, Seuil, 1983.
[17] إفلين باتلاجين، تاريخ المتخيل، ضمن كتاب: جاك لوغوف، إشراف: التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم: الطاهر المنصوري، مراجعة: عبد الحميد هنية، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص: 489.
[18] الرومانسية: اتجاه في الفنون الجميلة والأدب، يركِّز على العاطفة أكثر من العقل، وعلى الخيال والبديهة أكثر من المنطق. ويميل الرومانسيون إلى حرية التعبير عن المشاعر، والتصرُّف الحر التلقائي، أكثر من التحفظ والترتيب. وتختلف الرومانسية عن مذهب آخر يسمى الكلاسيكية.
[19] Jacques Le Goff, (dir.), Le Moyen Âge aujourd’hui: trois regards contemporains sur le Moyen âge: histoire, théologie, cinéma: actes de la rencontre de Cerisy-la-Salle, juillet 1991. Paris, le Léopard d’or, 1998.
[20] Bezard Ingrid. «Jacques Le Goff, L›imaginaire médiéval» in Médiévales, N°10, 1986. pp. 139-143. En ligne: http://www.persee.fr/web/revues/home/prescript/article/medi_07512708_1986_num_5_10_10302014 - 06 28
[21] Jacques Le Goff, La civilisation de l’Occident médiéval. Paris, Arthaud, 1984 p.11. Et du même auteur voir aussi: L’Europe est-elle née au Moyen Âge ? Paris, Seuil, 2003.
[22] Jacques le Goff, Marchands et banquiers au Moyen Age, op.cit., p.39 - 40.
[23] Jacques Le Goff, La civilisation de l’Occident médiéval, op.cit., p. 19, 54.
[24] Jacques Le Goff, Faut-il vraiment découper l’histoire en tranches ? Paris, Seuil, 2014
[25] Robert Bonnaud, Le Système de l›histoire, Paris, Fayard, 1989. et du même auteur voir aussi: Les tournants du XXe siècle: progrès et régressions, Paris, L›Harmattan, 1992. p.9 - 11.
[26] François Hartog, Régimes d’historicité. Présentisme et expériences du temps, Paris, Seuil, 2003.
[27] عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، الدار البيضاء - بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000، ص24.