شعار الموقع

النحو المغربي بين فضل القرآن وجهود النحاة

عبدالقادر بن فطة 2019-05-22
عدد القراءات « 1941 »

النحوي المغربي

بين فضل القرآن وجهود النحاة

عبدالقادر بن فطة*

 

*أستاذ محاضر، جامعة مصطفى اسطمبولي في معسكر، الجزائر. البريد الإلكتروني:

aek055@hotmail.fr

 

 

 

 

 

 

مدخل

لقد ضرب النحو المغربي بأصالته أعماق الدرس اللغوي، هيَّأ له القرآن المقوّمات لاحتضان تراكيبه المتنوّعة. ولعل من معالم الأصالة أنه أمدّ التراث اللغوي بالثوابت التي تنير الحقل اللغوي، هذا ما أدركه نحاة المغرب فضبطوا أصولها، وقيّدوها بمعايير خاصة كمعيار الاستدلال والاحتجاج على منوال الأصوليين في طريقة استقراء النصوص.

فقد رصدوا حركته في الدرس اللغوي، فاهتموا بمسائله للتنظير والتقعيد والتعليم، فقد شكّلت مؤلّفاتهم كابن مُعطٍ صاحب الألفية التي تأثر بها ابن مالك، والمكودي في الشرح الكبير والصغير، والمختار الشنقيطي في شافي الغليل، الذين تركوا ذخيرة نحوية أتت ملكة المتعلّمين حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية.

السؤال المطروح هل قدّم نحاة المغرب مادة علمية غزيرة يحتاج إليها كل من يمت إلى علم النحو بصلة؟

أولًا: فضل القرآن على النحوي المغربي

شكّل القرآن الكريم موقفًا مهمًّا للعقل أمام ما يحتويه من علوم لغوية وكونية ليوزّع جهوده المعرفية لتكون هذه العلوم منصهرة في لبنة واحدة. فما من علم إلَّا وكان القرآن الكريم هو الحقل الذي ينبعث منه هذا العلم. وهذا الأمر يخصّ كل المعارف التي برزت في التراث الإسلامي والعربي، وعلى رأسها علم النحو، فكان النص القرآني المنطلق الحقيقي له من خلال التعامل معه.

لقد كانت هناك مسائل نفيسة تجمع بين العلمين النحوي والشرعي، قال ابن رشد الحفيد (595هـ) وهو يفرق بين صنفي من العلوم: «علوم مقصودة لنفسها وعلوم ممهددة في تعلم العلوم المقصودة»[1].

وكان حيّز الدرس النحوي مهمًّا لأن الاستدلال على الأحكام الشرعية متوقّف على فهم النص الشرعي، فلا يمكن استنباط الأحكام الشرعية إلَّا بفهم النص فهمًا صحيحًا، ومقيّدًا بضوابط نحوية تتحكّم فيها قواعده المرتبطة بالإدراك والبيان الناتجة عن استقراء نظام اللغة العربية، ومعرفة أنماطها في الأداء والتخاطب. فالنحو سبيل لاستيعاب الكلام وإدراك العلوم، أمدّهم بمناهج تساعدهم في صياغة آرائهم، وتسديد اجتهادهم.

إن الإسهاب في إظهار قواعد النحو هو من توجّهات النحاة في توظيف ملكاتهم في التعامل مع القرآن الكريم، فهو مرتبط في مدلوله بعلم اللغة «أما علم اللغة فهو متعلّق بالقوانين التي تحكم دلالات الألفاظ والتراكيب»[2].

لقد كرّس نحاة المغرب مبدأ التبعية للقرآن بالوعي والفهم قصد تطويره، وجعله منارًا يبعث شعاعه لكشف فلسفة هذا العلم وحلّ عقده، وقد سلك علماؤه الاتجاه العلمي للإفهام والإقناع في تحليل مسائله، فاستقرؤوا التراكيب النحوية الواردة في القرآن لاستخلاص الأصول، فكانت قياسًا يثبتون بها القواعد للتعليل والإلزام، وكانوا «يحسون بنوع من التخلّف عن المشارقة، فحاولوا أن يعوّضوا ذلك بتأكيد تفوّقهم رغم بعدهم، وسبقهم رغم غربتهم، ومن هنا نراهم يتعصّبون للغة، حيث يفتنون علم النحو ويقتلون درسًا وتأليفًا»[3].

وقد ارتكزوا على التأويل بإعمال المنطق والاجتهاد في فهم النصوص والوصول إلى التخريجات. فالمنطلق الذي تأسّس عليه هو النص القرآني بعد أن استقرّت لغته لديهم، فوقفوا على دراسة القضايا المتعلّقة بالجمل لمعرفة الأسس ونظامها في السياق. فقد تمكّنوا من إبراز مستويات الجملة الثابتة والمتغيّرة.

ولم يقف الدرس النحوي عند البحث في الجملة، بل تجاوز ذلك إلى الكشف عن أنماطها ما يعكس تطوّر اللغة ونشاط أصحابها وضرورة التجديد. كما عرّج هذا العلم على قوانينه وأصوله، ومعرفة مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت له، ما يعكس عظمة لغة القرآن التي راعت التراكيب ودلالتها من منطوق ومكتوب، كأنّه اللغة بعينها هذا ما عبّر عنه ابن خلدون (808هـ): «النحو هو علم العربية»[4].

فقد أثبت النحو في نظر نحاة المغرب صبغة شاملة فهو لم يكتفِ بالكلمة المفردة، بل أصبح منهجًا لتحليل الجمل على معايير ثابتة تستمد موضوعيتها من مصادر اللغة، كاشفًا عن أنساق تركيبية بديعة، جامعًا الأبنية الكلية للنص، مستثمرًا ما أنتجته قرائح العرب وعبقريتهم، يصب كلّه في نظام لغوي مشتملًا على كلّ الاستعمالات اللغوية ذات الأنماط المختلفة.

فعلم النحو هو تابع للّغة بيد أنّه يتحكّم في قواعده الإعرابية ودلالتها. إنّ الاهتمام به دليل على نضجهم اللغوي خاصة عند جودي بن عثمان وعبد المالك بن حبيب السلمي (528هـ) وابن السيد البطليوسي (238هـ)، فقد حموا اللغة من اللحن والابتذال فهاجروا إلى المشرق، واحتكوا بكبار النحاة خاصة الكوفيين منهم كالكسائي والفراء وأخذوا عنهم، ومنحوا القدرة للمهتمين بها من الولوج في أسراره واستقراء حقائقه والحرص على بيئته تحقيقًا وتوثيقًا، ما جعل علم النحو ينشأ على يد كبار العلماء كابن معطٍ (628هـ) وابن آجروم (723هـ) لتستقرّ ضوابطه ومضامينه في كتبهم، وكان معيارهم اللغوي الإتقان والدّقة لضبط القواعد لذلك محّصوا الكلام، ولم يقبلوا إلَّا ما يناسب الأقيسة العربية الفصيحة.

لقد كثرت المؤلّفات رغم اختلاف توجّهات مؤلّفيها، إلَّا أنّ طبيعة علم النحو يملك آليات جعلته يفرض على أصحابه المعارف اللغوية المدعّمة بالملكات لضبط محتوياته ومقاصده. والظاهر من مؤلّفاتهم أنّهم فهموه فهمًا عميقًا لاعتمادهم على لغة القرآن، ما جعلهم يرفعون عن اللغة الاضطراب في تراكيبها، وتوضيح مراميها، والكشف عن إعجاز القرآن.

ولعلّ معرفة نحاة المغرب لأسرار هذا العلم جعلهم يدركون أساليب التعبير على نحو تلقائي ومن واقع اللغة وما ينفرد به القرآن من نظام متكامل نحويًّا.

فلغة القرآن تجمع بين الذوق والنظام العقلي، فأثرت علم النحو بطرق الأداء، فوسائل التعبير «لغة القرآن الكريم للسان العربي المبين، وقد كانت أساليبه في قراءاته الموثق النموذج الذي اعتمد عليه أئمة النحو في الوصف والتقعيد»[5]، هي المثال الأعلى، فاجتهاد نحاة المغرب في التأليف وشرح المتون، منبعهما عمق اللغة فإذا زاغت عنها لحقها الخلل، وأصابها الابتذال.

فقد أفاضوا في موضوعات كثيرة، وأعملوا عقلهم في استنباط القواعد والأحكام، فحدّدوا الوظائف النحوية للأنماط التركيبية الذي شهدها الارتقاء اللغوي، وتأكيد وجوب وضع النحو العربي وتمحيصه ليصبح أداة إيحائية، من أجل تيسير أغوار الخطاب اللغوي والأدبي معًا، وإخضاعه لنظام لغوي خال من التعقيد والتعسّف، ويحقّق الصّحة النحوية، اعتمادًا على لغة القرآن في تحديد العلاقات الأساسية في الجملة على أساس أنّها وظائف، يؤدّيها كلّ مكوّن بحسب ارتباطه لما بعده وما قبله.

فنظرًا لأهمية الدرس النحوي، اعتنوا بكلّ ما يتعلّق بنحو القرآن للتوصل إلى المقاصد من خلال ما تضمره التراكيب بغية تأصيل المعايير في استنباط الأحكام الناتجة عن تغيّر الواقع وفقًا لتطوّر الزمن، وتلاقي الفكر العجمي مع الفكر الإسلامي. حينها أدركوا الصلة القوية بين النحو والنص لأنّها تقودهم إلى فهم أسرار النص والوقوف على الفكرة الجوهرية، وتحديد الغاية.

وقد حدّد النحاة شروطًا في التعامل مع نحو القرآن، أن يكون النحوي صاحب علم لغوي ومعرفة بالقرآن والسنة معرفة دقيقة، والتبصّر في الخوض في قضايا النحو الذي فتح بابها سيبويه في إخراج المسائل من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي.

وأن تكون النظرة علمية مؤسسة على تعيين الأنماط النحوية المتوخى إيضاحها في السياق، وتظهر فطنته في إبراز الجوانب الدلالية في المواطن المختلفة من النص التي تتماشى مع الأنساق. ولا يتوقّف العمل هنا لضرورة التطرّق إلى دلالة الاقتضاء، وهي نوع من أنواع الإشارة، وهي ما كان العامل فيه مضمرًا إمّا لضرورة صدق المتكلّم وإمّا لصحة وقوع الملفوظ به.

ما يمكن قوله: إنّ مقدار البحث النحوي من خلال هذه الشروط أنّه استثمر القواعد اللغوية التي هي أهم مباحث الدرس النحوي في التراث العربي.

فالتصوّر النحوي عند نحاة المغرب أساسه الاعتناء بالجملة واللفظ، والصياغة لتحقيق الإعراب حتى تتّفق مع التأصيل والتجديد، فالإعراب في التصوّر النحوي دليل المعنى، وهو خاضع للتطوّر والتغيّر حسب العامل، ولذا فقد نال الإعراب عناية فائقة محاولين في ذلك تحديد دلالته وتوليدها.

فقد حكّموا منطق اللغة في تناولهم الدرس النحوي، فالذي توصّلوا إليه امتاز بالنضج، انبعث من إحاطتهم باللغة على أنّها وسيلة للفهم واستنباط الأحكام. فقد اهتدوا بفطنتهم إلى الإبانة عن كثير من أسرار هذه الدرس، وهذا ما نجده مبثوثًا في كتبهم. فكانت المادة القرآنية برهانًا على تناسق فاعلية علم النحو في الثقافة اللغوية في المغرب العربي، والنشاط الفكري، إمّا على المستوى المنهجي أو على المستوى الإجرائي.

فالدرس النحوي اختطّ منهجه من القرآن الكريم، وأُدخل في بناء النظام اللغوي للعربية. فكانت أبوابه ذات طابع ثابت، وموضوعاته تأخذ الصدارة في الدراسات ذات الصلة بالعلوم العقلية. فجعله القرآن عنصرًا في التفكير ووسيلة في نقل المفاهيم لغزارة المعاني والمقاصد، وصار لغة المصطلحات العلمية لدى المدارس النحوية وأصحاب القراءات. فوجدوا في مكوناته الغاية في تحقيق المعالجة المنطقية للتصورات المخزونة بصور أفضل وأكثر نضجًا، فاستقرّت مفاهيمه في دلالته. فبفضل القرآن أصبح ركيزة رئيسة لدى أهل العلم من أصوليين ولغويين ومفسرين. فما قدمه القرآن للنحو المغربي من إضافة نقّح المادة اللغوية لذوي الاختصاص في اللغة لتوثيق علمهم.

وجد النحوي أوجّ نشاطه في حضن القرآن الكريم، فنضجت المسائل وتأصّلت المصطلحات. ولذلك انبرى نحاة المغرب إلى وضع آليات كفيلة بالحفاظ على نظامه في الكتابة. وعظم ذلك بملامسة ما يكتنزه النص القرآني من أنماط تركيبية. حفّزهم إلى تصنيف مؤلفات تكون حصيلة ثراء استلهمه أهل النحو لينتفع به علماء اللغة والشريعة. فقد أمدّ القرآن الدرس النحوي المغربي بذخيرة نحوية للاحتجاج بالكلام الفصيح للتأكيد على مرجعيته في الموازنات اللغوية، واستنطاق حقيقتها المبثوثة في التراث.

فقد أدرك نحاة المغرب أنّ في القرآن إشعاعًا بيانيًّا تتبصّر به ما بلغته الدراسات النحوية، مع ضرورة الوقوف على أحكامه لاستقراء ما جاء فيها من تلطُّف وإعجاز وتعليل، تجاوز كلام العرب إلى ظواهر جزئية أرست ضوابطه الكلية، وفهم ما اعتاص من تراكيب للكشف عن جوانب مهمة في الدرس النحوي.

فالقرآن الإطار الوحيد الذي يؤدّي به النحو متطلّباته، ويفسّر مقاصدها، ويخلق التواصل بين النص والمخاطب. فهو لا يقف عند مضمون السياق بل يحيي الشعور الملائم مع التمتُّع بخصائص التعبير، تلوين الخطاب.

فتح النحو العربي آفاقًا واسعة لنحاة المغرب، فقد صار تأصيله مشروعًا لغويًّا واتجاهًا علميًّا بعد أن كانت تجاوبًا سلفيًّا فطريًّا مع مؤلّفات المشارقة. ولما كان القرآن المرجعية التي لا تُمارى؛ فإنه هيمن على سائر الحقول اللغوية، واكتسب النحو مشروعيته عبر التفوُّق وتخطي التقليد.

إن هذا النحو تمحور حول مسائل اختلفت فيها المدرستان البصرية والكوفية استفادت من القراءات القرآنية والشعر العربي، فقدّم نحاة المغرب تفرّدات جديدة، واجتهادات متّنت العلاقة مع المرجعية المألوفة، فارتقت بالنحو إلى مستوى راقٍ. واقتضى هذا الوضع أن تنضج المعالجة إلى مستوى الدرس النحوي المرتبط بالنص القرآني ولّد عن طريق التأليف علاقات داخلية تشكّل لحمة النحو العربي.

ولا شك أن الذي قام به هؤلاء النحاة كان للكشف عن أصالة النحو وإنتاج معرفة بمكوّناته وعناصره، مما قوّى هذا الشعور لديهم إلحاح النص القرآني نفسه على مدارسة ما فيه؛ فأدركوا جوهر لغته، فبقدر حرصه عليه كان حرصهم على تأكيد صلته بلغة العرب.

فقد أفضى هذا الوضع إلى توحّد القراءة التي تجمع بين التمسّك بالتراث وانفتاح على التجديد، إن هذا الفعل هو الذي حرّك مباحث نحاة المغاربة باتجاه التوسّع في دراسة مختلفة المسائل.

ثانيًا:جهود النحاة في تأصيل الدرس النحوي

لنحاة المغرب جهود جليلة، وآثار لها وزنها في اللغة. والظاهر من مؤلّفاتهم أنّهم فهموه فهمًا عميقًا لاعتماده على معرفتهم لأسرار العربية، جعلهم يدركون التراكيب النحوية، وما تنفرد به من نظام متكامل لفظيًّا ودلاليًّا.

فقد رصدوا حركة الدرس في الحقل اللغوي، فاهتموا بمسائله لاستنباط الأحكام من النصوص. لذا نجدهم يعالجون موضوعات كثيرة في كتبهم، وأكّدوا ضرورة النحو في إدراك أسرار التراكيب ودلالتها. فقد ساهموا في وضع اللّبنة الأولى في تأصيل أسسه، فلم يغفلوا عن شيء يستحق الخوض فيه.

أبدعوا في طرح مسائل كثيرة تشكّل ذخيرة نحوية، يغلب عليها الاستقصاء والتعمّق في التحليل، واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات. تميّزوا بالفطنة وحسن تصريف الكلام والكشف عن المعاني بوجوه الأداء وأصول اللغة، إنّهم يمثّلون قفزة مهمّة في الدراسات النحوية التي اعتمد عليها العلماء والباحثون قديمًا وحديثًا في منهج البحث العلمي والحركة اللغوية.

وقد سلك نحاة المغرب الاتجاه العلمي للإفهام والإقناع في تأليف الكتب، فكان قياسًا يثبتون به القواعد للتعليل والتأويل بإعمال المنطق والاجتهاد في فهم النصوص والوصول إلى التخريجات. فالمنطلق الذي تأسّست عليه هو النص القرآني، بعد أن استقرّت لدى أهلها فوقفوا عند دراسة قضايا النحوية لمعرفة أحكامها ونظامها في السياق.

كما حظيت اللغة العربية بأهمية واسعة لديهم؛ لأن الاستدلال على الأحكام النحوية متوقّف على فهم الخطاب اللغوي والأدبي، وهذا الفهم ينبغي أن يكون فهمًا دقيقًا ومضبوطًا بضوابط لغوية بحيث تُراعى فيه القواعد النحوية. فالدرس اللغوي كان بحاجة إلى النحو وضوابطها، فالقرآن أمدّ النحويين المغاربة بمناهج تساعدهم في صياغة آرائهم، وتسديد اجتهادهم خاصة في التراكيب.

فنظرًا لأهميته اعتنوا بكلّ ما يتعلّق بلغة لقرآن للتوصّل إلى المقاصد من خلال ما يضمره السياق بغية تأصيل المعايير في استنباط الأحكام الناتجة عن تغيّر النمط التركيبي. فتنوّعت طرق التأصيل والتجديد، منهم من آثر النظم، وساهم آخرون في شرح المتون، وأبدع جلّهم في التأليف ونظم المتون، وهذا ما سوف يتّضح في المسائل الآتية:

1- نظم المتون

لقد كان نظم المتون من أبرز الإنجازات التي قدّمها نحاة المغرب إلى النحو العربي، وجد فيها المشارقة الإشعاع النحوي الذي يؤصّل العلم بالنسبة للطلبة. فأشادوا بها كابن مالك مع ألفية ابن مُعطٍ، وقد تميّزت بالدقة في تناول المسائل النحوية، فأزالت كثيرًا من الغموض الذي اكتنف المصادر الكبرى في علم النحو كالكتاب لسيبويه. فأوصلت النحو العربي إلى هيئته الصحيحة، بحيث يستطيع طالب العلم أن يأمن ما يقرأ، وبما يستشهد.

فالمتون مصدر من مصادر النحو بوصفها وثيقة شاهدة على صحة هذا العلم. فهي أكثر انسجامًا مع اللغة، فيها أصول النحو وأحكامه، وما يوافق المقاييس دون حاجة إلى التأويل.

ومن النحويين الذين أصّلوا للدرس النحوي عن طريق نظم المتون يحيى بن معطٍ الزواوي (628هـ) كان له إسهام في خدمة النحو العربي، فقد عكف على دراسة أسراره، وعرف كيف يقترب من نحو القرآن بأسلوب علمي جمع فيه بين ثقافته الخاصة وذكائه بغية التوفيق بين الإعراب والمعاني، فهو أشبه بعلماء الشريعة، حتى أصبح مرجعًا يعود إليه العلماء للاستشهاد بآرائه النحوية «فقد رحل إلى بلاد مصر، فلقي المشايخ وباحث العلماء وناظرهم»[6].

لقد عني بخدمة القرآن، وانصبت دراسته على نحوه، وكان يرى لا سبيل إلى مبتغاه إلَّا بالوقوف على أسرار القرآن التركيبية، وإدراك دقائقه، والإلمام بأساليب العربية، وكان حاضرًا بذهنه وفطنته، فلا يُقبل على كتاب الله وكلام العرب إلَّا مبيّنًا للمعاني وأضراب الكلام.

لقد أحسّ بضرورة التقرّب من النحو العربي لمواجهة التحديات ومنها ظاهرة اللحن، وعدم الاكتفاء بما أنتجه المشارقة، فاتّجه ابن معطٍ إلى إثبات الارتقاء العلمي، وعمل مخلصًا على التماس الدقّة في التغيير والتجديد في الدرس النحوي. لقد اجتهد في سبيل حمايته من خلال مؤلّفاته مبيّنًا فيها التجديد والقدرة على التعامل مع اللسان العربي، فكان من أهم ما ألّف الرجل ألفيته التي أبدع فيها حتى صار مصدر إلهام لابن مالك «سبق ابن مالك لهذا العمل الفذّ ورغم ما يقال عن عمله فله المبادرة والسبق»[7].

فقد كان لابن معطٍ الفضل في ظهور هذا النوع من النظم رغم أنّ اليُشكري سبقه لكنّ لم يكن له صدى، فقد أبان على أنّها جوهر الدرس النحوي لمن سيأتي من بعده. فإبداعه في التعامل مع النحو العربي وطّن قوته، وعمّق الوعي بأهميته في الحياة العلمية. فحرصه تخطّى الصعاب بوضع ضوابط تصون الدرس النحوي، فكان ما وضعه إشراقًا لعصمته من الابتذال، «وإذا كانت ألفية ابن مالك نالت الشهرة المعهودة، فإنّ ذلك لا يضع من قيمة عمل ابن معطٍ الذي أفاد منه صاحب الخلاصة، شكلًا ومضمونًا، فلقد جرى على منواله في عدة أبيات، وفي طريقة النظم، كما اقتبس من معانيه وألفاظه الشيء الكثير»[8].

من ذلك يقول ابن معط في ألفيته:

القول في توابع الاسم الأوّل

نعت وتوكيد وعطف وبدل[9]

ويقول ابن مالك:

ويتبع في الإعراب الأسماءَ الأولْ

نعت وتوكيد وعطف وبدل[10]

فقد أسهب في إظهار ضوابط النحو العربي من خلال ألفيته، ووظّف ملكته في التعامل معها، فهي مبنية على: القوانين تحكم الأحكام، وألغت مبدأ التبعية قصد تطوير الدرس النحوي، وجعله منارًا يبعث شعاعه لكشف فلسفة هذا العلم وحلّ عقده. وسلك المسلك الذي اتّبعه نحاة عصره في الأخذ عن البصريين والكوفيين وانتقاء بعض آراء البغداديين، تناول مسائل كثيرة اعتمادًا على اجتهاده الخاص كمسألة عدم تقدّم خبر ما دام على اسمها، جاء في ألفيته:

ولا يجوز أن تُقدَم الخبر

على اسم ما دام وجاز في الأخر[11]

كما يظهر عليه نوع من الميل إلى البصريين خاصة سيبويه في إعراب الأسماء الستة:

وستة بالواو رفعًا إن تضف

والياء في الجر وفي النصب ألف[12]

والذي نستخلصه أنّ ابن معطٍ حكّم منطق النحو العربي، وكان اهتمامه كبيرًا به، واستطاع الإلمام بضوابطه. فالذي توصّل إليه امتاز برؤية شاملة انبثقت من إلمامه بالنحو العربي على أنّها وسيلة للفهم واستنباط الأحكام، فقد اهتدى بفطنته إلى الإبانة عن كثير من مسائله، وهذا ما نجده مبثوثًا في ألفيته.

2- الشروح

بادر نحاة المغرب إلى شرح الكتب والمتون حين أحسّوا بضرورة فهم أسرار اللغة والدين. وكانت فكرتهم تحمل الخطوط الكبرى لتأصيل الدرس النحوي، وكان لهم منهج خاص استندوا إلى عبقريتهم للتمييز بين اجتهادهم وعدم تقليد المشارقة. وقد ارتكزوا على القرآن الكريم بالدرجة الأولى قبل الحديث والشعر، فنبّهوا على كثير من الأحكام التي فاتت نحاة المشارقة. فالتمسوا الموضوعية والدقة في التعامل مع ما كتبه سيبويه والخليل وغيرهما لإبلاغ المتعلّم على ما يهدفون إليه، فآثروا أسهل السبل للتوضيح والتبسيط لما نعت بالغموض. فقد تصرّفوا في الإعراب تصرُّفًا طال به شرحهم، ينقلون المتعلّم إلى أجواء الأداء النحوي الذي يظهر مهمّة الكلام في التأثير والاستمالة، بعرض الصيغ القياسية على نسق جديد لإظهار سماحة العربية.

ومن النحاة الذين التفتوا إلى الشرح ابن أبي ربيع السبتي (688هـ) الذي عاش الوحدة العلمية بين الأندلس والمغرب فقد نبغ في النحو منذ صغره، ودرّسه بأمر من شيخه الإمام الشلوبين الذي كان يحفّزه بتدريس صغار الطلبة، حتى قويت شوكته، واستتمت طريقته.

فقد ألّف كتابه المشهور البسيط في شرح الجمل للزجاجي الذي يعدّ أول مؤلّف خاص بالمتعلّمين، لأنّ الزجاجي اتّبع فيه الاختصار والتنظيم والتذليل، عكس الكتب التي سبقته كالكتاب لسيبويه كان موجهًا لفئة خاصة متمرّسة في العلم، وكان بحاجة إلى تسهيل وهذا ما قام به المبرّد في المقتضب (286هـ)، فخصوصية هذا الكتاب استمالت نحاة المغرب والأندلس كابن الباذش (528هـ) وابن خروف (609هـ) وابن معطٍ.

لقد بذل السبتي في شرحه فيه جهدًا في إخضاع علو النحو تحت تصرّف المتعلمين، يسّر المقفل، وأكمل الناقص، وقيّد البيت بقائله. لقد أحسّ بضرورة التقرُّب منه لمواجهة من خالف سيبويه والزجاجي ومنهم ابن طراوة (526هـ)، وعدم الاكتفاء بما قاله، بل وقف رادًّا بعض الآراء التي ذهب إليها ابن طراوة.

من ذلك (أنّ والهاء) رفض وجود ضمير الأمر والشأن فيهما في رأيه لا منقول، فردّ ابن أبي الربيع مستشهدا بقوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ}[13]، وقوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ}[14].

وهذان ضميران يعودان على شيء مُتقدِّم، لا على ما دلّ عليه الكلام، ولا يصح أن يقال فيهما إلَّا أنّ الضمير من (أنّه) ضمير الخبر، والضمير من (فإنها) ضمير القصة[15].

كما خالف ابن طراوة وأيّد سيبويه في مسألة إلحاق تاء التأنيث «اعلم أن الفعل إذا أُسند إلى المؤنث، فإن كان التأنيث غير حقيقي، فأنت في إلحاق تاء التأنيث الفعل بالخيار، تقول: طلع الشمس وطلعت الشمس، قال تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[16]، وذهب ابن طراوة إلى أنّها ليس من باب طلع الشمس؛ لأنّه جمع، إنها تستند إلى اثنين وهو هنا قد أسند إلى الشمس والقمر فغلَّب المذكر، وهو عنده بمنزلة: زيد وهند قاما، وما ذهب إليه ابن طراوة يدفعه السماع»[17]، منتقدًا السبتي أبي الربيع إلى إثبات الارتقاء النحوي بالمغرب، وعمل مخلصًا على التماس الدقّة في التغيير والتجديد، التعسّف والانزلاق الذي انتاب بعض النحاة كابن طراوة وابن مضاء، فقد وجد في منهج شيخه أبي علي شلوبين الأرضية الثابتة لاستلهام حقيقة الدرس النحوي.

لقد اجتهد في سبيل خدمة النحو العربي من خلال مؤلّفاته خاصة «البسيط»، مبيّنًا فيه القدرة على التعامل مع اللسان العربي. لذا رأى ضرورة تخصيص شروح لائقة لمؤلّفات كبار النحاة يترعرع الدرس النحوي بين أحضانها.

إنّ تمسّك ابن أبي الربيع بالنحو العربي لم يقف عند ارتقائها، إنّما أبان على أنّ جوهر اللغة العربية يتّصل بوجود الأمة. فإبداعه في التعامل مع أسس على تقديسه، وتوطين قواعده على وعي عميق بأهميته في الحياة العلمية، وبوصفه آلة عقلية فهو الرابط المتين بين المستويات اللغوية.

كما كان لأبي زيد عبدالرحمن صالح المكودي (807هـ) النحوي المعروف فضل في تأسيس مدرسة ابن مالك بالمغرب، وأول من درّس كتاب سيبويه «لعله أول من أقرأ ألفية ابن مالك، ويذكر شارحوها أنهّ تلقاها من بعض طلبته، فاستحسنها، وأقرّ تدريسها ثمّ وضع عليها شرحيه الكبير والصغير»[18].

لقد أظهر قدرة فائقة وثقافة واسعة في الإحاطة بأسرار النحو العربي، وخفايا الأسلوب العربي، إلى جانب اطّلاعه على كتب النحاة المشارقة، كما كان المكودي متذوّقًا للشعر العربي، مطّلعًا على أصول اللغة في كلام اللغويين الصحابة، جمع إلى جانب ذلك كثيرًا مما يتّصل بالمأثور.

إن كان شرحه الكبير للألفية قد ضاع فإنّ الشرح الصغير بقي مُعتمدًا في التعليم والتصنيف، فوضعت له الحواشي والتعليقات، ومن الذين تناولوه علي بن البركة التطواني، ومحمد بن حمدون بن الحاج (1310 هـ).

واتّبع في هذا الشرح منهج الاختصار والتوضيح والتدقيق في التعامل مع الشواهد القرآنية التي تتطلّب جهدًا في إخضاع النظم تحت تصرّف لغة القرآن، فقد أحسّ بضرورة التقرّب من النص القرآني لتأصيل القاعدة.

من المسائل التي وقف عندها المكودي عمل اسم الفاعل وأصّلها بالتبسيط والتيسير:

وولي استفهامًا أو حرف نِدا

أو نفيًا أو جا صفة أو مسندا[19]

فقد ذكر خمسة شروط في إعمال اسم الفاعل، وقد نوّع في الشواهد من شعر، من ذلك أن يأتي اسم الفاعل معتمدًا على موصوف، قال الأعشى ميمون بن قيس:

كناطح صخرة يومًا ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

كما كان كثير الاستشهاد من القرآن الكريم كوقوع اسم الفاعل صلة لأل «إنّ اسم الفاعل إذا وقع صلة لأل عمل المذكور مطلقًا حالًا كان أو مستقبلًا أو ماضيًا، وإنّما عمل مطلقًا لأنّه صار بمنزلة الفعل»[20].

ووقف عند بعض الآيات كقوله تعالى: {إنَّ المُصَّدِّقِينَ وَالمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كريمُ}[21]، وقوله تعالى: {فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[22].

قلت: جعله واقعًا صلة أل مسوغًا لعطف الفعل عليه فيه نظر لأنه قد جاء عطفًا لفعل على الاسم غير واقع قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}[23].

فقد اتّجه المكودي إلى إثبات أصالة الدرس النحوي، وتجديده عن طريق ملامسة متن ابن مالك الذي شرحه كبار النحاة كابن عقيل (769هـ) والأشموني (879هـ) اللذين كانا يؤثران القراءات القرآنية في الاستشهاد خاصة الكوفيين حمزة والكسائي، إلَّا أنه عمل مخلصًا على التماس الدقّة في التسهيل، لجعل النحو العربي خليًا من التزمت الذي انتاب بعض المصنفات كما هو الشأن عند ابن مضاء (592هـ) الذي أعلن ثورة الظاهرية على المدارس النحوية، فقد وجد في كلام الله الأرضية الثابتة لاستلهام منهجه.

ومن كبار النحاة الذين خدموا النحو المغربي ابن زكري الفاسي (1143هـ) الذي لاحظ أنّ هذا النحو ضرورة للغوي فهمًا ودرسًا وللنحوي تطبيقًا وتفصيلًا. فهو من أهم العلوم اللغوية في الترجيح بين الأقوال المتباينة واستنباط القواعد النحوية.

وكان يرى قد يخطئ من يظن بأن الدلالة اللغوية تختصر على المستوى المعجمي، ولا تتجاوزه إلى المستوى النحوي الذي يمثّل في الحقل اللغوي كلّ الأنماط التركيبية.

إنّ الاهتمام به دليل على الأصالة، فقد صان اللغة من الابتذال، ومنح القدرة للمهتمّين بها من الولوج في أسراره واستقراء حقائقه والحرص على بيئته تحقيقًا وتوثيقًا، ما جعل الدرس النحوي ينشأ على يد كبار العلماء كالخليل وسيبويه لتستقرّ ضوابطه ومضامينه في مصنفاتهم.

وما نستطيع قوله هو أنّ ابن زكري الفاسي في كتابه شرح الفريدة للسيوطي يرى ضرورة الإحاطة بالمسائل النحوية الواردة في القرآن الكريم، مع العناية به حتى يتّضح التفسير والفهم للنصوص أكثر بلغة القرآن مع علم دقيق بالإعراب، فجهده جليّ وإسهامه واضح وتميّزه بخدمة القرآن كان مدعاة لغيره للاجتهاد «قصدت به حلَّ ألفية الإمام العلامة سيدنا الشيخ جلال الدين السيوطي، ووشَّحته بفوائد يضطر إليها النجيب، ويعترف بعظم مقدارها الفطن اللبيب، ولا يجد في غيرها ممّا اطّلعت عليه ووصل علمي إليه، والكلام مع أهل الإنصاف، ولا عبرة بمن معه من الدعوى ما يصدّ عن جميل الأوصاف»[24].

كانت قراءته لها قراءة واعية، فهو كان يدرك أهميتها ومعانيها تحتاج إلى معرفة عميقة بالنحو العربي. استطاع الإبانة عن معاني المتن مع الإعراب، والالتزام بما ذهب إليه النحاة الأوائل. لم يكتفِ بالشرح بل قارب بين آراء السيوطي وما جاء في خلاصة ابن مالك مع إبداء موقفه في بعض المسائل من ذلك قول السيوطي:

وحذف عامل أجز، ويلزم

في بدل من فعله ينتظم

كويله وويحه لبيكا

سبحان مع معاذ مع سعديك

وعجبًا منه وحمدًا وشكرا

كذا كرامة سلامًا حجرا[25]

وقد مال إلى تأييد السيوطي ونقد ابن مالك، «إنّ المصدر النائب عن فعله من قسم الصدر المؤكد، وهو في معنى الاستثناء من قوله «و حذف عامل المؤكد امتنع»»[26].

وما يميّز شرح الفريدة الإتقان والإلمام، واتّسم بالتدرج في المعنى في الإطار العلمي، مقتنعًا بالعلاقة المنطقية بين منهج النحاة والمناطقة، فانتصر لرأيه ودافع عنه، وتعمّق في التفصيل، وأقرَّ بوحدة المعنى في الحكم دون التقيّد بوحدة البيت في النظم.

فقد أعاد البحث في بعض الموضوعات، وأفاض فيها كالإضافة، فتعمّق وأعمل عقله فناقشها مناقشة دقيقة، «الإضافة على ثلاثة أقسام: منها ما هو على معنى في، وضابطه أن يكون المضاف إليه ظرفًا للمضاف نحو {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ}[27]، أو مكانيًّا نحو {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ}[28].

ومنها ما هو على معنى من، وضابطه أن يكون المضاف إليه جنسًا للمضاف، ومنها ما هو على معنى اللام»[29].

إنّ منهجه جمع فيه بين منهج النحاة ومنهج الفقهاء والفلاسفة، فسّر عدة قضايا نحوية، واستدل عليها بكثير من الآيات القرآنية والأشعار وأقوال العرب. وكان غرضه الذي امتثله في كتابه التوضيح والإقناع، والتبسيط والتخفيف على المتعلّم، وتسهيل الطريق لطالب العلم من الاقتراب من القرآن العظيم، وذلك بضم ما جاء في المؤلَّفين الفريدة والخلاصة بين دفتي كتاب واحد. وأزال التشكيك والوضع، وقدَّم صورة سليمة لعلم النحو، كما أعطى دفعًا جديدًا للتأليف لتعزيز الحركة اللغوية.

3- التأليف والتصنيف

خلّف النحاة المغاربة كتبًا كثيرة وجليلة في قيمتها، يرجع إليها المتعلِّمون والباحثون، إذ يجدون فيها تفصيلًا جامعًا لقواعد النحو العربي. فهم لم يقتصروا على النحو البصري، بل تعدَّى جهدهم إلى أكثر من ذلك من آراء الكوفيين حين يلتمسون ما يطابق توجّههم.

ومن هنا جاءت مؤلّفاتهم نفيسة، كانت المدد الثري في الدرس النحوي، فعدّت من الأصول التي أصَّلت النحو العربي. فمؤلّفاتهم صحّحت بعض المسائل وذكرت أخرى لم ترد لدى المشارقة، حكّموا فيها الصواب على أسس متينة وموثّقة بآيات الذكر الحكيم وما احتوته القراءات القرآنية، مع الاستعانة بالشواهد الشعرية، وحتى لغات العرب الفصيحة كتميم وهذيل وبني عقيل.

وكان على رأس المصنَّفات ما أنجزته المحاضر الشنقيطية، إذ استثمر علماؤها ما كتبه كبار النحاة كابن مالك وابن هشام، ومن أوائل النحاة الذين خدموا الدرس النحوي المغربي المختار بن الآمين الذي كتب كتابًا عُدّ يومها من أنفس الكتب في النحو العربي (شافي الغليل في علوم الخلاصة والتسهيل) بحث فيه مسائل مُحكمة «لخّص في شرحه للخلاصة توضيح ابن هشام وتصريح خالد الأزهري، ونصوص الأشموني وتنبيهاته التي كانت الأول وآراء ابن الدماميني (827هـ) في شرح التسهيل وربما نقل من مساعد ابن عقيل»[30].

فحرصه تخطّى عقبة اللحن بوضع ضوابط تصون لغة القرآن، فكان ما وضعه إشراقة لعصمتها من الرطانة.

فلم يخلُ حديث في القضايا النحوية من الاستشهاد بالقرآن الكريم، هذا ما نلمسه في هذا الكتاب، ومن القلائل الذين استدلّوا بالأحاديث النبوية الشريفة مثل ارتكازه في إثبات اتصال اللام بخبر كان، عن أم حبيبة زوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «وإني كنت عن هذا لغنية»[31].

وكذلك الأشعار الكثيرة المبثوثة في شافي الغليل. ورغم قيمة الكتاب في الدرس النحوي المغربي لم يُحقّق. فقد أثرى الدرس النحوي المغربي، فأصبح يملك روافد لكل المسائل النحوية ساعد طلبة العلم من الدخول إلى التقعيد والتأليف، ومنحتهم القدرة العقلية والعلمية على مواجهة اللحن الأمر الذي دفع بهم إلى الاجتهاد، ووضع الضوابط لتمكين المتعلّم من فهم أسرار كتاب الله، وتعبئتها لغويًّا حتى لا يتوغّل الدخيل إلى لغته.

كما كان المختار ابن بونا (1220هـ) من أهل العلم الذين عدّوا العلم بالتراث منقبة للباحث ومدعاة للتفاخر به. فقد صيّره شيئًا عظيمًا، وكان دافع القرآن الكريم جليًّا وواضحًا، مع اهتمامه بالدرس النحوي. حرص على انتقاء وتمحيص المادة اللغوية الهائلة ليصطفي منها ما يراه سليمًا وأصيلًا تدعو الحاجة إلى تأصليه.

يدفعه إلى ذلك التحري والتدقيق مع تجنّب ما لا داعي فيه إلى الإطناب والتطويل. ولابن بونا في مؤلّفاته إثبات ما جاء به القدامى من أهل العربية عن الدرس النحوي فقد عدّه من أسرار الدرس اللغوي العربي الأصيل. له أصول أفاد منها في تأصيل النحو العربي، ولم يأتِ عمله دعوة إلى التقليد إنّما عمل على ضبط أسس النحو العربي، وإثبات حقائقه من خلال فلسفته ومنهجه في الكتابة، قال عنه ابن الأمين: «طوّق بعلمه كلّ عاطل، ووردت هيم الرجال زلاله فصدر منهم وهو ناهل، لا يوجد عالم بعده إلَّا وعليه الفضل الجزيل، بما استفاد من مصنفاته وتلقى من مسنداته»[32].

عرفت حياته انتعاشًا منذ دراسته بتسهيل ابن مالك وشروحه، حيث حملت معها شحنة فائضة دفعته إلى البحث عن المزيد فوقع على شرح الدماميني، وراح يقبل على تلقي العلم والمعرفة من أفواه العلماء في مختلف العلوم الشرعية واللغوية في المساجد المشهود لهم بالكفاءة منهم المختار بن حبيب الجنكي وخديجة بنت العاقل الديمانية على دراسة اللغة العربية وأصول الدين.

وقد انكب على النحو بالدراسة والبحث في جميع مسائله، وما زاد اعتناءه به محاولةُ فهمه للقرآن الكريم شأنهم في ذلك شأن العلماء خاصة المناطقة، وكذا حرصه على حفظ الدرس النحوي.

ومن أهم ما ألّف الرجل كتابه الجامع بين التسهيل والخلاصة، المانع من الحشو والخصاصة، وقد قسّمه إلى قسمين: الأول التذليل المعروف بالاحمرار، فيه تفرُّدات ومساهمات اجتهد في إضافتها إلى النحو العربي، «تناول فيها جمع أبواب النحو في الخلاصة، مع زيادة فصول حذفها ابن مالك في الخلاصة مثل الموصول الحرفي، والتاريخ والقسم، والهجاء ومخارج الحروف وبعض التصريف، مثل الإلحاق والقلب نحا فيها نحو الإمام السيوطي»[33].

في هذا القسم إثبات لوحدة نسيج الدرس النحوي، يحتوي إضافات معينة ترتبط بتكوين الملكة التي تدركها الأذهان، ويكوّن صورة حقيقية للنحو العربي يرتكز عليه إدراك المتعلّمين. وهكذا أضفى التدقيق العلمي على الموضوعات التي تثير الاهتمام، كما يلعب دورًا كبيرًا في تسهيل عملية الحفظ، فطلبة العلم يميلون إلى النصوص الدقيقة، فتحاليله النحوية جاءت متميّزة به، استحوذ على ملكة تلاميذه التي وجدوا فيها راحة أدركوا من خلالها أصالة النحو العربي.

فهو لم يكتفِ بما ورد في ألفية ابن مالك، بل أعاد بناء قواعد مدرسة ابن مالك، وهذا بردِّ إلى الخلاصة ما هُمِّش من آراء في الكافية والتسهيل، يقول ابن بونا في عمل المصدر:

وأهمل المحدود والمؤخرا

مصغر منحذفًا والمضمرا

وما بتابع والأجنبي فصل

وغير مفرد وعن بعض عمل[34]

وجاء في الكافية:

وأهمل المضمر والمحدود

والمصدر فارقه التوحيد

ورب مجموع ومحدود عمل

وبالسماع لا القياس قد نقل[35]

العمل الثاني: فقد وضع مجموعة من الحواشي صاغها في تراكيب مختزلة أعاد فيها مفاهيم واستعمالات ضبط فيها مواطن الاتّفاق والخلاف، والشارد والنادر مع أدلتها.

كلّ هذا قيّده في الطرة التي لا يمكن الاقتراب منها إلَّا من أوتي ملكة في النحو، فهي تحوي مسائل مقفلة تتطلَّب تمرُّسًا، وكان لعلماء الشناقطة إسهام في توضيحها وتبسيطها، علّ من الأعلام الذين فتحوا مقفلها عبد الودود بن عبد الله الحيبلاوي في مؤلَّفه (روض الحرون من طرة ابن بون). وتبعه عدد من أهل النحو في شرحها وتذليلها بالحواشي والشروح لكن لم يصلوا إلى استكماله.

فنظرته الموضوعية النزيهة إلى ما كتبه فهو لا يكاد يخرج عمَّا كتبه من سبقه، فقد كان له وعي بجميع القضايا النحوية. فتتبع ما ذكره ابن مالك، ولم يقف عند هذا، بل كشف عن مساهمته الكبيرة في تطوير الدرس النحوي، ولو نظرنا إلى الكتابين لوجدناه من أكثر النحاة استيعابًا لألفية ابن مالك حتى وصل إلى ذكر مسائل لم يرد لها شاهد في كلام العرب، «لقد أورد من أسماء الأصوات زجر الحيوان نحوًا من خمسين اسم صوت، قال عنها: إنّ كلها مصحّح ومدروس بينما لم ترد شواهد الاستعمال إلَّا لنحو عشرة منها».

ما نستخلصه بعد هذه الوقفة المتواضعة مع جهود نحاة المغرب أنهم لم يتحرّجوا في مخالفة نحاة المشرق، وتغليطهم في مجموعة من المسائل، ولم يذوبوا في نحو المشرق، فقد أثبتوا ملكتهم في الترجيح والاجتهاد. ولم يكونوا متزمّتين في نهجهم، بل كانوا متسامحين، فاجتنبوا الطعن في نحو المشارقة، ولم يرموهم بالقصر في العربية.

فكانت غايتهم النبيلة هي إثراء النحو العربي وتأصيله انطلاقا من القرآن الكريم والكلام العربي الفصيح، وتوسعة الدراسات النحوية، وازدياد النشاط اللغوي.

فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من الظواهر النحوية إلَّا خاضوا فيها بالتأليف والشرح لضبط النحو العربي ضبطًا سليمًا. فبفضل جهودهم نما النحو العربي، وأقبل أهل العلم على مدارسته، فكانت الزوايا والمساجد مودعة بالإشعاع، رابطة حبله المتين، داحضة النسيان والإهمال.

 

 

 



[1] القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد، الضروري في صناعة النحو، تحقيق: منصور علي عبد السميع، مصر: دار الصحوة، ط1، 2010، ص 31.

[2] محمد بن تاويت، محمد صادق العفيفي، الأدب المغربي، بيروت: دار الكتاب لبنان، ط 2، 1969، ص60.

[3] الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق: عثمان آمين، مصر: دار الفكر العربي، ط2، 1949، ص45.

[4] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: محمد الدرويش، دار العرب، ص532.

[5] محمد المختار ولد أبّاه، ه تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1429هـ، ص575.

[6] ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار الصادر، 1972م، 2/235.

[7] صالح بلعيد، ألفية ابن مال في الميزان، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، ص 15.

[8] مختار ولد أبّاه، تاريخ النحو، ص291.

[9] موسى الشمولي، شرح ألفية ابن معط، الرياض: مكتبة الخريجي، ط1، 1985، 1/33.

[10] ابن مالك، متن الألفية، بيروت - لبنان: المكتبة الشعبنية، ص 34.

[11] علي موسى الشمولي، شرح ألفية ابن معط، 1/860 .

[12] المصدر نفسه، 1/250.

[13] سورة طه، الآية 74.

[14] سورة الحج، الآية 46.

[15] ابن أبي ربيع السبتي، البسيط في شرح جمل الزجاجي، تحقيق: عياد بن عبد الثبيتي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986م، ص755.

[16] سورة القيامة، الآية 9.

[17] المصدر نفسه، ص352.

[18] عبد الرحمن صالح المكودي، شرح المكودوي على ألفية ابن مالك، تحقيق: الدكتورة فاطمة راشد الراجحي، الناشر جامعة الكويت، ص15.

[19] المصدر نفسه، ص15.

[20] محمد المحتار ولد آباه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، ص450.

[21] سورة الحديد، الآية 18.

[22] سورة العاديات، الآية 3-4.

[23] سورة الملك، الآية 19.

[24] ابن زكري الفاسي، عنوان المخطوطة: المهمات الفريدة في شرح الفريدة، المقدمة، جامعة الملك سعود، الرقم 7039، تاريخ النسخ 1296هـ.

[25] جلال الدين السيوطي، متن الفريدة، مصر: مطبعة دار إ حياء الكتب العربية، ص29.

[26] المصدر نفسه، باب الإضافة.

[27] سورة سبأ، الآية 33.

[28] سورة يوسف، الآية 41.

[29] محمد المحتار ولد آباه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، ص393.

[30] محمد المحتار ولد آباه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، ص450.

[31] المصدر نفسه، ص 451.

[32] أحمد أمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، تحقيق: فؤاد السيد، مطبعة المدني، ط4، 1409هـ، ص97.

[33] محمد المختار ولد أبّاه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، ص457.

[34] المختار بن بونا الجكني، الألفية، نواكشط، ط1، 1426هـ، ص130.

[35] ابن مالك، شرح الكافية الشافية، تحقيق: عبد المنعم أحمد هريدي، مكة: جامعة أم القرى، ط1، 3/1111.