أصول الفقه والفلسفة..
قراءة في نظرية السيد محمد باقر الصدر
زكي الميلاد
ـ 1 ـ
النظرية.. العناصر والمكونات
في كتابه (المعالم الجديدة للأصول) الصادر سنة 1965م، تحدث السيد محمد باقر الصدر عمَّا بين أصول الفقه والفلسفة من علاقة وتفاعل، ومن تأثير وعطاء متبادل، بطريقة تلفت النظر لهذه العلاقة، وتضعها في إطار معرفي جديد، تجعل من الممكن اعتبار السيد الصدر صاحب نظرية في هذا المجال.
وعند النظر في هذه النظرية، يمكن القول: إن السيد الصدر أقام بنيانها على ركنين أساسيين، كان لا بد منهما في بلورة وبناء هذه النظرية، وهذان الركنان هما:
الركن الأول: الكشف عمَّا قدمته الفلسفة من عطاء وإبداع في مجال أصول الفقه، دفعت به نحو مسارات التطور والتقدم في الأزمنة الحديثة بشكل خاص.
الركن الثاني: الكشف عمَّا قدمه أصول الفقه من عطاء وإبداع في مجال الفلسفة، بشكل أضاف لها حيوية، وفتح لها أفقاً، وعرفها على رافد معرفي جديد هي بحاجة لتوثيق العلاقة معه، والتزود الدائم منه.
ومن الناحية التاريخية، يرى السيد الصدر أن هذه العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة وتبادل التأثير بينهما، قد حصلت في العصر الثالث من عصور تطور الفكر العلمي لأصول الفقه عند المسلمين الشيعة، والذي أطلق عليه السيد الصدر تسمية عصر الكمال العلمي، وافتتحته المدرسة الأصولية الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر الهجري على يد المحقق الوحيد البهبهاني (1118 - 1205هـ)، ووصلت إلى قمة التطور العلمي على يد الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281هـ)، الذي ما زالت نظرياته في حقل الدراسات الأصولية مؤثرة إلى اليوم.
وبشأن الركن الأول في هذه النظرية، يرى السيد الصدر أن الفلسفة كانت أحد مصادر إلهام الفكر الأصولي، وبالذات في العصر الثالث السالف الذكر، وحصل ذلك نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام، وبسبب انتشار فلسفات كبيرة ومجددة كفلسفة صدر الدين الشيرازي محمد بن إبراهيم (979 - 1050هـ)، فإن ذلك أدى إلى إقبال الفكر الأصولي في هذا العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة، والاستلهام منها أكثر من الاستلهام من علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي.
ومن الأمثلة على ذلك عند السيد الصدر، ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة كمسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة تعلق الأوامر بالطبائع والأفراد وغيرها[1].
وأما الركن الثاني والمتعلق بالكشف عمَّا قدمه أصول الفقه من عطاء وإبداع في مجال الفلسفة والبحث الفلسفي، في هذا الركن ومقارنة بالركن الأول توسع السيد الصدر في الحديث عنه، التوسع الذي كان ضروريًّا، وذلك لما يكتنف هذا الجانب من عسر وإبهام، وكونه يقع بعيداً عن الإدراك، وخارج نطاق التداول المعرفي، إلى درجة يمكن تصنيفه على خانة اللامفكر فيه.
في هذا الركن، وجد السيد الصدر أن علم الأصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله الخاص المتعلق بتحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، بل كان له إبداع كبير في قضايا تعد من أهم قضايا ومشاكل الفكر البشري، وذلك أن علم الأصول بلغ في العصر العلمي الثالث، وبصورة خاصة في المرحلة الأخيرة من هذا العصر، بلغ قمة الدقة والعمق.
وفي هذه القضايا، اعتبر السيد الصدر أن البحث الأصولي تفوق على البحث الفلسفي، فبينما كان البحث الفلسفي لا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامة للتفكير الفلسفي، ويستشعر هيبة الفلاسفة الكبار، ويتوقف عند المسلمات الأساسية في الفلسفة، وجاعلاً هدفه الأقصى استيعاب أفكار هؤلاء الفلاسفة والدفاع عنها.
في المقابل كان البحث الأصولي يخوض في درس المشاكل الفلسفية بذكاء وعمق، ومتحرراً من سلطان الفلاسفة التقليديين وهيبتهم.
وفي هذا النطاق، تناول علم الأصول جملة من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتصل بأهدافه، وأبدع فيها إبداعاً أصيلاً لم يجده السيد الصدر في البحث الفلسفي التقليدي، ولهذا أمكنه القول بأن الفكر الذي أعطاه علم الأصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق، كانت أكثر جدة من الفكر الذي قدمته فلسفة الفلاسفة المسلمين في هذا الشأن.
ومن المجالات التي أبدع فيها الفكر الأصولي، في نظر السيد الصدر المجالات الآتية:
أولاً: في مجال نظرية المعرفة، وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة البشرية ومدى إمكان الاعتماد عليها، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها. فقد امتد البحث الأصولي إلى مجال هذه النظرية، وانعكس ذلك الصراع الفكري الشديد بين الأخباريين والمجتهدين، الذي كان ولا يزال يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل، وكيف أن التيار الحسي تسرب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند الفقهاء، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الأوروبية إلى ذلك الوقت.
ثانيا: في مجال فلسفة اللغة، يرى السيد الصدر أن الفكر الأصولي قد سبق أحدث اتجاه عالمي في المنطق الصوري اليوم، وهو اتجاه المناطقة الرياضيين الذين يردون الرياضيات إلى المنطق، والمنطق إلى اللغة، ويرون أن الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلل اللغة ويفلسفها بدلاً من أن يحلل الوجود الخارجي ويفلسفه.
في هذا المجال فإن المفكرين الأصوليين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي، وما بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الأصول إلَّا دليلاً على هذا السبق.
ومن الطريف أن يكتب برتراند رسل رائد ذلك الاتجاه الحديث في العالم المعاصر، محاولاً التفرقة بين جملتين لغويتين في دراسته التحليلية للغة، وهما: (مات قيصر) و(موت قيصر) أو (صدق موت قيصر)، فلا ينتهي إلى نتيجة، وإنما يعلق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين فيقول: لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجاً مقبولاً؟
على هذا الموقف يعلق السيد الصدر بقوله: من الطريف أن يعجز باحث في قمة ذلك الاتجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الأصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق في دراساته الفلسفية التحليلية للغة ووضع له أكثر من تفسير.
ثالثا: في مجال فلسفة اللغة أيضاً، يرى السيد الصدر أن من أهم المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة، وتناولتها البحوث الجديدة في التحليل الفلسفي للغة، هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنها تعبر عن شيء موجود، فماذا نقصد بقولنا مثلاً: الملازمة بين النار والحرارة؟ وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب وجود النار والحرارة، أو معدومة؟ وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة؟ وإذا كانت معدومة ولا وجود لها فكيف نتحدث عنها؟
وقد درس الفكر الأصولي هذه المشكلة، متحرراً من القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق الوجود والعدم، فأبدع فيها.
رابعاً: في مجال نظرية الأنماط المنطقية، يرى السيد الصدر أن لدى بعض المفكرين الأصوليين بذور نظرية الأنماط المنطقية، فقد حاول المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني في كتابه كفاية الأصول، أن يميز بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي بما يتفق مع الفكرة الرئيسية في تلك النظرية.
وبهذا يكون الفكر الأصولي قد استطاع أن يسبق برتراند رسل صاحب تلك النظرية، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا، فقام بمناقشتها ودحضها، وحل التناقضات التي بنى رسل نظريته على أساسها[2].
هذه هي عناصر ومكونات نظرية السيد الصدر في العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة.
ـ 2 ـ
النظرية.. الأهمية والقيمة
نظرية السيد الصدر هذه في العلاقة بين الأصول والفلسفة، تتكشف أهميتها وقيمتها في النقاط الآتية:
أولاً: إن هذه النظرية جاءت من رجل مشهود له بالدراية والمعرفة في مجالي الأصول والفلسفة معاً، وليس في أحدهما دون الآخر، فمن جهة الأصول يعد السيد الصدر من طبقة العلماء الكبار المعاصرين في علم الأصول، وقد أمضى عمراً طويلاً مع هذا الحقل تعلماً وتعليماً، ولم ينقطع عنه طيلة حياته، وتتلمذ وتخرج من درسه الأصولي شريحة كبيرة ومميزة من العلماء والمفكرين الذين درسوا وصنفوا وكتبوا في هذا الفن، ومنهم من قرر أبحاثه ودروسه كالسيد محمود الهاشمي في كتابه (بحوث في علم الأصول) صدر في عشرة أجزاء، والسيد كاظم الحائري في كتابه (مباحث الأصول) صدر في خمسة أجزاء.
ومن جهة ثانية، يعد السيد الصدر صاحب مؤلفات شهيرة في علم الأصول، يعرفها كل من يقترب ويتواصل مع هذا الحقل في داخل الحوزات الدينية وخارجها، وله نظريات وابتكارات عرف بها، وأثمرت نقاشات علمية جادة.
ومن جهة ثالثة، يعد السيد الصدر أحد الدعاة البارزين في مجال تجديد علم الأصول وتطويره وتحديثه، ليكون علماً في مستوى العصر من جهة البيان والمنهج والمعرفة، وأحد الذين أسهموا في نهضة هذا العلم وتقدمه، وهذا ما يذكره له كل من تعرف على تجربته وتراثه الفكري والأصولي.
هذا من جهة الأصول، وأما من جهة الفلسفة، فالسيد الصدر صاحب الكتاب الشهير (فلسفتنا)، الكتاب الذي حين اطَّلع عليه الدكتور أكرم زعيتر من لبنان حمله حسب قوله على أن يضع السيد الصدر «في صف الفلاسفة الإسلاميين، وفي أئمة المتكلمين، وعلى الاعتقاد أنه بوفرة علمه، ووجاهة فكره، وقوة حجته، ينزل المنزلة التي تجيز له أن يجعل عنوان كتابه فلسفتنا»[3].
والذين تعرفوا على السيد الصدر وتجربته الفكرية وتراثه العلمي، لم يستنكفوا من إطلاق وصف الفيلسوف عليه، الوصف الذي ورد وتكرر بحقه عند كثير من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين.
وهذا يعني أن نظرية السيد الصدر هذه هي حصيلة دراية ومعرفة عالية وعميقة بطرفي هذه النظرية وهما علما الأصول والفلسفة، مما يعزز أهمية وقيمة هذه النظرية ليس في جهة أصول الفقه فحسب، أو في جهة الفلسفة فحسب، وإنما في الجهتين.
ثانياً: من يتعرف على هذه النظرية، سيجد أنها من أهم النظريات في مجال العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة، فهي من جهة تحاول تثبيت هذه العلاقة وتأكيدها، ومن جهة أخرى تحاول أن تضع هذه العلاقة أمام آفاق معرفية جديدة، تجعل من الفلسفة مكسباً معرفيًّا لأصول الفقه، ومن أصول الفقه مكسباً معرفيًّا للفلسفة.
تثبيت هذه العلاقة يتأكد نظراً لتلك الشكوك والاعتراضات الشديدة والقاسية، والداعية لفك العلاقة بين الأصول والفلسفة، بل وتنقية الأصول من رواسب الفلسفة، وتحصينه من تدخلاتها السافرة، وفي نظر أصحاب هذا الرأي أن أصول الفقه عبثت به الفلسفة، وحاولت السيطرة عليه، وتحويله من علم وثيق الصلة بالشريعة والوظيفة الشرعية، إلى علم يكون وثيق الصلة بالفلسفة والوظيفة الفلسفية.
والسيد الصدر مع علمه ووعيه الكامل بهذه الشكوك والاعتراضات، فإنه لم يخضع لها، ويصطف إلى جانبها، ولم تأخذه الهيبة والرهبة منها، بل وبخلاف هذا المنحى الضاغط دعا السيد الصدر إلى تثبيت العلاقة بين الأصول والفلسفة، وليس إلى قطعها وفصلها.
وبخلاف هذا المنحى أيضاً، لم يسجل الصدر موقفاً سلبيًّا تجاه الفلسفة من جهة علاقتها بأصول الفقه، وكنت قد تتبعت جميع الموارد التي أشار فيها السيد الصدر إلى الفلسفة في كتابه (المعالم الجديدة للأصول)، ولم أجد في جميع هذه الموارد إشارة سلبية تجاه الفلسفة وعلاقتها بالأصول، وبالعكس تماماً فقد ظل السيد الصدر في جميع هذه الموارد يمتدح هذه العلاقة بصورة واضحة، وكاشفاً عن التأثيرات الإيجابية للفلسفة في دفع الفكر العلمي لأصول الفقه نحو التطور والتقدم.
وهذا الموقف تجاه الفلسفة يكتسب أهمية وقيمة لكونه يأتي من السيد الصدر بشكل خاص، فهو الخبير بالفلسفة، والموصوف بالفيلسوف {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[4].
ومن جهة أخرى، يكشف هذا الموقف عن مفارقة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن معظم الذين اعترضوا على الفلسفة في علاقتها بالأصول، لم يعرف عنهم أو عن الكثير منهم أنهم خبراء بالفلسفة، وهذا بخلاف الذين امتدحوا الفلسفة وعلاقتها بالأصول، فقد عرف عن الكثير منهم أنهم خبراء بالفلسفة، والسيد الصدر أحد هؤلاء البارزين.
لم يكتف السيد الصدر بتثبيت هذه العلاقة بين الأصول والفلسفة والدفاع عنها، وإنما حاول أيضاً الكشف عمَّا تحمله هذه العلاقة من آفاق معرفية متبادلة بين هذين الحقلين، وهذا هو الجانب الأهم في هذه النظرية، ولولا هذا الجانب وما تميز به من إبداع وابتكار لكانت هذه النظرية في غير هذه المنزلة الفكرية، وما استحقت كل هذا الاهتمام.
وإذا كان معروفاً تأثيرات الفلسفة في أصول الفقه، وما قدمته في هذا الشأن من عطاءات معرفية، إلَّا أن الجانب غير المعروف بالقدر الكافي هو تأثيرات أصول الفقه في الفلسفة، وما قدمه لها من عطاءات معرفية.
هذا الجانب لا أدري إن كان هناك أحد غير السيد الصدر تحدث عنه أم لا! لكني أظن أن ليس هناك أحد أفضل من السيد الصدر تحدث عنه، ولا نبالغ إذا قلنا: إن السيد الصدر هو أفضل من كان يمكن أن يتحدث عن هذا الجانب المعقد من جهة، والمعمق من جهة أخرى.
ثالثاً: بإمكان هذه النظرية أن تفتح آفاق التواصل العلمي بين أصول الفقه والمعرفة الفلسفية الحديثة، فهي تقدم أصول الفقه بوصفه حقلاً علميًّا متقدماً في مستوى مواكبة تطور هذه المعارف الفلسفية الحديثة، وبإمكانه أن يمثل رافداً علميًّا ثريًّا لهذا النمط من المعارف.
ليس هذا فحسب، بل إن السيد الصدر حاول أن يبرز تفوق أصول الفقه على المعرفة الفلسفية الحديثة في المجالات التي تطرق إليها عند حديثه عن عطاء الفكر الأصولي وإبداعه في ميادين الفلسفة والمنطق، وتحديداً في مجالات نظرية المعرفة، وفلسفة اللغة، ونظرية الأنماط المنطقية، واعتبر السيد الصدر أن أصول الفقه في دراسة وتحليل هذه القضايا كان أكثر ذكاء وعمقاً وتحرراً من الفلسفة نفسها.
هذه الثقة التي تحدث بها السيد الصدر عن أصول الفقه في هذه المجالات المعرفية، لا يمكن لأي كان أن يتحدث بها وبهذه الدرجة من الثقة، وفي هذه المجالات تحديداً، وإذا كان بإمكاننا أن نأخذ بهذه الثقة عند السيد الصدر، فليس بإمكاننا التساهل بهذه الثقة مع غيره، وذلك لمعرفتنا الجازمة بكون السيد الصدر عالماً وخبيراً من طراز رفيع في هذين الحقلين: الأصول والفلسفة.
رابعاً: بهذه النظرية نقل السيد الصدر علاقة أصول الفقه من الفلسفة التقليدية القديمة إلى الفلسفة العلمية الحديثة، وهذه في المقاييس العلمية تمثل خطوة متقدمة، وفي غاية الأهمية، وبحاجة إلى التوقف عندها، والتنبه إلى قيمتها.
وكان بإمكان هذه الخطوة أن تحدث نقلة فكرية تاريخية مهمة في مسارات تطور الفكر العلمي لأصول الفقه، بنقله من التواصل العلمي مع الفلسفة القديمة وإشكالياتها ونظرياتها ومنهجياتها الجامدة، إلى التواصل العلمي مع الفلسفة الحديثة وإشكالياتها ونظرياتها ومنهجياتها الفاعلة.
والنقلات الفكرية التي حصلت في تاريخ تطور المعارف والعلوم، بدأت بمثل هذه الخطوات في التحول من العلاقة بشيء قديم إلى العلاقة بشيء حديث، والمضي في هذه العلاقة بأعلى درجاتها، والاستجابة لشروطها ومقتضياتها، وليس بالوقوف عند حدود هذه العلاقة والجمود عليها.
خامساً: تضع هذه النظرية أصول الفقه في صلب العلاقة مع العلوم الإنسانية، وتقدم أصول الفقه بأبهى صورة له، وبوصفه حقلاً له إبداعاته وابتكاراته في مجالات العلوم الإنسانية نفسها، وليس هناك أفضل من هذا المدخل في الكشف عن هذه العلاقة وتوطيدها.
وفي الأزمنة الحديثة شغلت هذه القضية شريحة من العلماء والمفكرين وبالذات المهتمين بقضايا أسلمة المعرفة، وقد حاول هؤلاء تقريب العلاقة المنهجية والمعرفية بين أصول الفقه وهذه العلوم الإنسانية والاجتماعية، لكنهم توقفوا عند الحدود النظرية، ولم يتوغلوا في الكشف عمَّا يمكن أن يقدمه أصول الفقه من إبداعات وابتكارات لها علاقة بقضايا ومشكلات العلوم الإنسانية والاجتماعية، على طريقة ما طرحه السيد الصدر.
ولو تنبه هؤلاء لنظرية السيد الصدر لوجدوا فيها سنداً قويًّا، ومدخلاً حيويًّا في تأسيس وتأكيد العلاقة بين هذين المجالين، والملاحظ أن هؤلاء إلى اليوم لم يتنبهوا إلى هذه النظرية وقيمتها في هذا الشأن، التي ليس لها ذكر في كتاباتهم ومؤلفاتهم.
علماً أن هذه النظرية التي ترجع إلى منتصف ستينيات القرن العشرين، لعلها من أسبق المحاولات وأنجعها في التنبه والالتفات إلى العلاقة بين علم الأصول والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
وهذه الملاحظة تلفت النظر إلى الشرط الغائب، والذي يظل غائباً في معظم الأحيان عن المحاولات الفكرية في المجال العربي، ونعني به شرط التتابع والتراكم، أحد أكثر الشروط حيوية وفاعلية في إنجاز عمليات البناء والتقدم، ومن دونه تصاب هذه المحاولات بالتأخر أو التعثر أو عدم الاكتمال.
وما أود الإشارة إليه أن المدخل الطبيعي لتجسير العلاقة بين أصول الفقه والعلوم الإنسانية والاجتماعية، لا بد أن يمر أولاً من بوابة الفلسفة، بوصفها تمثل المعرفة الناظمة للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وهذا ما تحقق في نظرية السيد الصدر.
سادساً: إن هذه النظرية إلى جانب نظرية الشيخ مصطفى عبدالرازق، هما من أهم النظريات التي بحثت عن أوجه العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة في المجال الإسلامي الحديث، وفي هذه الناحية أيضاً لم يتنبه الدارسون والباحثون إلى ضرورة ضم هاتين النظريتين إلى بعضهما، والنظر إليهما بوصفها نظريتين متعاضدتين في تدعيم وتطوير العلاقة بين هذين المجالين.
وهذه -على ما أعلم- أول محاولة تجمع بين هاتين النظريتين وتعاضد بينهما، وهناك حاجة ماسة لهذا التعاضد في هذا الشأن بالذات، الذي ما زال إلى اليوم لم يخطُ خطوات متقدمة، وبقي يراوح مكانه، ولم يخرج عن دائرة الجدل والنقاش، ولم يشهد تراكماً وتجدداً ملحوظاً.
ولو حصل هذا التعاضد منذ وقت مبكر، لكانت مسارات النقاش حول هذه القضية اليوم مختلفة، وزوايا النظر لها مختلفة أيضاً. وهذا ما يفسر بعض ما يحدث من تعثر أو تأخر في النقاشات الدائرة اليوم حول هذه القضية.
والتقريب بين هاتين النظريتين يستدعي الكشف عمَّا بينهما من فروقات تقرب ولا تفصل بينهما، فمن ناحية الزمن تنتسب نظرية الشيخ مصطفى عبدالرازق إلى النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين، بينما تنتسب نظرية السيد الصدر إلى منتصف الستينيات، وهذا يعني أن هناك فاصلاً زمنيًّا طويلاً نسبيًّا يفصل بين هاتين النظريتين، يزيد على عقدين من الزمن.
ومن ناحية المجال، تنتسب نظرية الشيخ عبدالرازق إلى الفلسفة، ومنها انتقل الحديث إلى أصول الفقه بحثاً عن أوجه العلاقة بينهما، بينما تنتسب نظرية السيد الصدر إلى أصول الفقه، ومنها انتقل الحديث إلى الفلسفة بحثاً كذلك عن أوجه العلاقة بينهما.
ومن ناحية المنهج، أقام الشيخ عبدالرازق نظريته على أساس العودة إلى المجال التاريخي، وتحديداً إلى التاريخ الفكري والاجتهادي القديم عند المسلمين، بينما أقام السيد الصدر نظريته على أساس العودة إلى المجال الفلسفي، وتحديداً إلى المجال الفلسفي الحديث عند الأوروبيين.
ومن الواضح أن هذه الفروقات من طبيعتها أنها تؤكد حاجة كل نظرية إلى الأخرى، حاجة تجعل كل نظرية تكمل نفسها بالنظرية الأخرى في تعاضد وتكامل.
هذه العناصر والأبعاد لعلها تمثل في تقديري، أبرز جوانب الأهمية والقيمة في نظرية السيد الصدر حول العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة.
ـ 3 ـ
النظرية.. ملاحظات ونقد
بعد تحديد نظرية السيد الصدر في العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة، وبعد الكشف عن أهمية هذه النظرية وقيمتها الفكرية والمعرفية، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية، ومنها:
أولاً: عند حديثه عمَّا قدمه أصول الفقه من إبداعات وابتكارات في مجال الفلسفة، تقصد السيد الصدر الاقتضاب والإجمال، ووعد بالشرح والتوضيح في الحلقات التالية والمتقدمة، وأشار إلى هذه الملاحظة في ثلاثة موارد للتنبيه والتأكيد عليها.
وهذا يعني أن السيد الصدر لم يطرح كامل رؤيته حول هذه النظرية، ولم يعطها حقها من الشرح والتوضيح كما تستحق فعلاً، الأمر الذي يعني أن هذه النظرية لا تتسم بالاكتمال، ولا تعبر عن اكتمال الرؤية عند السيد الصدر، ولا يمكن النظر لها بوصفها نظرية مكتملة من جهتي المبنى والمعنى، أو من الناحيتين الأفقية والعمودية.
ثانياً: إن الشرح والتوسع والتوضيح لهذه النظرية الذي وعد به السيد الصدر وأكد عليه، قد تخلى عنه فيما بعد، ولم يتطرق إلى هذه النظرية أو يقترب منها في الحلقات التالية، وذلك حين توقف عن إكمال كتاب المعالم بالحلقات المتصلة به والمتقدمة عليه.
وعندما رجع السيد الصدر إلى مشروع الحلقات بعد عشر سنوات، لعله فضَّل أن يكون المعالم كتاباً مستقلاً ومنفصلاً عن كتاب الحلقات.
انقطاع هذا الرابط كان سبباً -على ما يبدو- في توقف السيد الصدر عن المضي في الشرح والتوسع والتوضيح الذي وعد به عند الحديث عن هذه النظرية.
والسيد الصدر هو أكثر من يعلم بحاجة هذه النظرية للشرح والتوسع والتوضيح، وذلك لأهميتها وقيمتها من جهة، ولتفرده بهذه النظرية التي لم يسبقه إليها أحد من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة لتدعيمها وتأكيدها، وتعميق المعرفة بها، وتطوير النقاش حولها.
والأهم من كل ذلك أننا كنا نتوق لمعرفة رأي السيد الصدر حول هذه النظرية بعد مرور عشر سنوات عليها، وكيف سينظر إليها بعد كل هذه الفترة! وماذا سيقول عنها! ولا شك أن صورة هذه النظرية بعد عشر سنوات ستكون مختلفة عمَّا قبلها، لكننا لا نعلم على وجه التحديد بأي صورة ستكون، وهذا ما كنا نتوق لمعرفته.
وعلى كل تقدير ما كان ينبغي على الإطلاق التفريط بهذه النظرية في هذا المجال، أو التوقف عنها وعدم الاستمرار في رفدها وتطويرها، والوصول بها إلى حد النضج والاكتمال.
ثالثاً: يظهر أن السيد الصدر لم يتعمد إبراز هذه النظرية، والكشف عن أهميتها وقيمتها كما هي تستحق فعلاً، وتحدث عنها بطريقة عادية كما يتحدث عن أي موضوع عادي آخر، وليس بوصفها نظرية تستحق هذا الوصف، وتستحق هذا المستوى من التعامل المنهجي والمعرفي، لكنه التعامل الذي لم يحدث.
وغاب عن إدراك السيد الصدر أنه أول من تحدث عن هذه النظرية، بما يعطيه حق السبق والريادة، ولم يلتفت إلى أن الحديث عن هذه النظرية بالقدر الذي تحدث عنه في كتابه المعالم ليس كافياً على الإطلاق، وأنها كانت بحاجة ماسة إلى نوع من الضبط والتوسع والتماسك.
وما يؤكد هذا الانطباع انقطاع السيد الصدر عن هذه النظرية، وتوقف الحديث عنها، وعدم التنبيه إليها، ولفت النظر إليها في كتاباته ومؤلفاته التالية التي جاءت بعد كتاب المعالم، وبالذات كتاب الدروس.
رابعاً: حتى الذين جاؤوا بعد استشهاد السيد الصدر وغيابه، لم يلتفتوا أيضاً إلى أهمية وقيمة هذه النظرية، ولم يعطوها هذا الوصف، ويتعاملوا معها بهذا الوعي، وكونها تمثل نظرية بحاجة إلى تتميم وتكميل.
وهذا ما أشار إليه السيد الصدر نفسه، الإشارة التي كان يفترض منها أن تنبه الكثيرين من تلامذته ومن ينتمون لمدرسته الفكرية، وهم الذين أخذوا على عاتقهم حفظ تراثه الفكري وحمايته والدفاع عنه، وتمجيده وتخليده، ومع الدور الكبير الذي نهض به هؤلاء في هذا المجال، مع ذلك لم يتنبهوا لهذه النظرية، وأنها بحاجة إلى تتميم وتكميل.
وهناك من تلامذة السيد الصدر من تنبه ليس لهذه النظرية خاصة، ولكن إلى عموم العلاقة بين الأصول والفلسفة وعند السيد الصدر تحديداً، ومع الاقتراب من هذه العلاقة انصرف البحث إلى مجالات أوسع، تجاوزت حدود السيد الصدر وإطار نظرياته الفلسفية والأصولية.
واعني بهؤلاء تحديداً السيد عمار أبو رغيف الذي لاحت له في ثمانينيات القرن العشرين أن يقوم بصياغة النظريات الفلسفية لأستاذه السيد الصدر لكونها لم تدون جميعها في إطار مستقل، فهرع -حسب قوله- إلى بحوثه الأصولية محاولاً اكتشاف ما تبناه من نظريات فلسفية في الوجود، إلى جانب أبحاثه في فلسفة اللغة والأخلاق، وفي أثناء هذه المحاولة بدأ الشعور عنده يتحول إلى مشروع آخر له طابع نقدي يتجاوز حدود السيد الصدر ونظرياته الفلسفية في أصول الفقه، ويتجه إلى العلاقة بصورة عامة بين البحث الأصولي وقواعد المنطق والفلسفة، وما إن اقترب من هذا الموضوع، حتى تبين له أن هذا البحث يمس المعرفة الإسلامية كلها ويعم دراسات العقيدة والشريعة ولا يقتصر على أصول الفقه، إلى أن اتَّضح له فيما بعد أن هذا البحث يستدعي موقفاً من القضايا الأساسية في المعرفة الإنسانية[5].
فانصرف البحث كليًّا عن نظرية السيد الصدر.
هذه بعض الملاحظات النقدية تجاه نظرية السيد الصدر في شأن العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة.
[1] محمد باقر الصدر. المعالم الجديدة للأصول، قم: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، 1421هـ، ص115.
[2] محمد باقر الصدر. المصدر نفسه، ص119-121.
[3] أحمد أبو زيد العاملي. محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة، بيروت: مؤسسة العارف، ج1 ص 244.
[4] سورة فاطر. أية 14.
[5] عمار أبو رغيف. الأسس العقلية.. دراسات في المنطلقات العقلية للبحث في علم أصول الفقه، بيروت: دار الثقلين، 1997م، ج1، ص 15-16.