شعار الموقع

الفكر العربي اللساني .. نحو الجملة

قلايلية العربي 2019-05-26
عدد القراءات « 590 »

الفكر العربي اللساني.. نحو الجملة

 

الدكتور قلايلية العربي*

* كاتب وباحث من الجزائر.

 

مدخل

إنّ الحديث عن الجملة العربية من حيث ضوابطها ومكوناتها قد غصّت به الأبحاث، وتناوله الكثير من الدارسين، لذلك لا يهمّنا كثيراً تعريف الجملة ولا تقسيمات الجمل، وإعرابها، فقد كفانا مؤونة البحث في هذا المجال علماء اللغة السابقون، وإنما الذي ينعقد عليه الاهتمام في هذه المقالة هو دراسة الوظائف النحوية التي تؤديها الجملة في السياق، وأثر هذه الوظائف في تحديد الدلالات.

انطلاقاً من هذا التصور، يمكننا أن ننظر إلى الجملة على أنها أصغر وحدة تواصلية تؤدي شحنه دلالية تحمل فكرة إلى المتلقي، إذ لا يمكننا أن نتصور الوظائف النحوية التي تتضمنها الجملة بمنأى عن الوظائف الدلالية المستفادة من النص برمته.

وإنَّ أي محاولة للفصل بين النحو والدلالة تفقد النحو معناه، وتجعله صنعة قائمة بذاتها، ولعل شيئاً من هذا القبيل استولى على أذهان بعض النحاة في فترات متأخرة من مسيرة الدرس النحوي فراحوا يتبارون في اختلاق بعض التخريجات الإعرابية التي قادتهم إلى الإغراق في التأويلات والتقديرات اللفظية، غير أن الأهم في الأمر كله هو أن ننطلق في تأويلاتنا وتقديراتنا من البني الدلالية القائمة في ذهن (المتكلم/ المخاطب) وليس من الافتراضات البعيدة عن اللغة وعن عرف الناطقين بها؛ لأن اللغة أصلاً للتبليغ والتواصل، ولن يتم ذلك إلَّا إذا اشترك أبناء المجتمع اللغوي في مرجعية لغوية واسعة تفرض عليهم ضوابطها وتتيح لهم حرية الإبداع الذي به يتفاوتون في الهجوم على المعاني من أقصر الطرق وبأوجز الألفاظ، والأصل في ذلك كله مرده إلى الوحدات الكلامية الأولى وقد حصرها عبد القاهر الجرجاني في ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما[1].

من شروط تحقيق التواصل الناجح انسجام الوظائف النحوية لعناصر التركيب مع الوظائف الدلالية المقبولة عقلاً ولغةً، وكلّما ابتعدت الاحتمالات الإعرابية وما يترتب عنها من وظائف نحوية عن الاحتمالات الدلالية التي تتبادر إلى ذهن المتلقي بأيسر جهد وألطف تأمل ابتعد الإعراب عن الدلالة وأصبح النّحو صنعة لا طائل من ورائها.

إنّ المنطلقات الأولى للفكر العربي اللّساني بدءاً بأبي الأسود الدؤلي في عمله البسيط المتمثل في وضع نقط الإعراب على المصحف الشريف[2]، ومروراً بصاحب الكتاب سيبويه، إنما كانت منصبّة على النص اللّغوي برمته، وكانت نقطة البدء هي الجملة باعتبارها أصغر وحدة تواصلية ببنائها الصوتي والدلالي والنحوي (التركيبي).

وهذا ما وضعه في الحساب أبو الأسود الدؤلي وهو يضع نقط الإعراب على أواخر الكلمات في المصحف الشّريف، أي إنه كان مهتمًّا بالوظائف النّحوية حالة ارتباطها بالدلالة من جهة وبما يسبقها أو يلحقها في السّياق الكلامي من جهة ثانية، وما أمارات الإعراب من نصب ورفع وجرّ وجزم إلَّا مؤشرات إلى تلك الدلالات المقصودة من الكلام.

وكذلك فعل سيبويه حين تناول الكلام العربي بالاستقراء والتحليل، إنما كان ينطلق في تعليلاته وتخريجاته من أصول الفكر العربي اللّساني، تلك الأصول التي غدت كالمسلّمات ينتهجها الناطقون ويحذون حذوها من غير قسر أو إلزام يحد من حرياتهم التعبيرية لأنها تمثل دائرة أوسع من الطاقات التعبيرية للّغة، لذلك نجد سيبويه يكثر من مثل هذه العبارات: وأكثر العرب يقول[3]، واعلم أن بعض العرب يقول[4]، وسألت الخليل[5]، وسألته عن[6]، وهكذا يمضي في مثل هذه العبارات.

إنّ اعتناء الفكر العربي اللّساني كان متّجها إلى النّص، أي إلى التراكيب اللّغوية مرتبطاً بعضها ببعض، وآخذاً بعضها بتلابيب بعض. لأن التّواصل إنما يحقق وظائفه ويبلغ غاياته انطلاقاً من السّلاسل الكلامية وليس من الكلم مفصولاً بعضه عن بعض، وقد أكّد عبدالقاهر الجرجاني هذه القضية في مواضع شتّى من كتابه دلائل الإعجاز[7]، وما اهتمامهم بالجملة إلَّا باعتبارها اللبنات التي يُشاد بها صرح النّص.

تتموقع الجمل في النّص بحسب أهميتها الدلالية والوظيفية وتتشابك في علاقات معقدة، مرتبطة أساساً بالبنى الدلالية الذهنية التي تترجم طرق التفكير ووسائله واستراتيجياته لدى المجتمع اللّغوي وهذا ما يجعل تحليل العملية الكلامية في غاية التعقيد أحياناً؛ إذ من الصعب أن تتوصّل البحوث العلميّة إلى معرفة كيفيات التفكير عند الإنسان على وجه الدقة، فالنصوص اللّغوية عامة إنما هي ترجمة لفكر المبدع، وغالباً ما تكون هذه الترجمة مضللّة لاحتمالها أوجهاً عدّة من التأويلات، لأن الفكر اللّغوي لأي مجتمع من المجتمعات ينطلق من أصول تتصف بالتراكمية، لذلك بات من الصعب علينا الآن الوقوف على خصائص ومميزات الفكر العربي اللّساني؛ إذ إنّ استعمالنا اللغة العربيّة الآن مفارق من أوجه كثيرة الاستعمالات اللّغوية في الفترات السّابقة من مسيرة الحضارة العربيّة الإسلامّية؛ وذلك لعوامل شتّى ليس ها هنا مجال ذكرها، ولقد أقّر ابن خلدون هذه القضّية وهو يتحدث عن اللّغة في عصره، يقول: فصل في أن ملكة هذا اللّسان غير صناعة العربيّة ومستغنية عنها في التعليم[8].

ومن هنا رأى النّحاة صيّروا النحو علماً بحتاً وبعدوا به عن الهدف منه باعتباره قوانين لتعلّم الملكة، وحصول ملكة اللّسان العربّي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتّى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزّل بذلك منزلة من نشأ معهم[9]....، لذلك فهو يشيد بكتاب سيبويه لأن صاحبه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة.

اللغة والفكر

من السّهل أن نُطلق أحكاماً عامّة ونحن نقوّم نصًّا لغويًّا (إبداعاً ما) ولكن تلك الأحكام تظّل وجهات نظر مؤسّسة على تصوّرنا نحن، وليس على تصوّر صاحب النّص (المبدع)؛ لأن اللّغة لباس الفكر، ونحن ندرس اللّغة، ولا سبيل لنا لدراسة الفكر؛ لأن الفكر خلّاق ومبدع ومتطوّر ولكن في دائرة معالمه الكبرى (قيمه ومبادئه واتجاهاته)، فإذا وقع لفكر مجتمع ما انحراف أو اختراق في دائرته الكبرى هذه لسبب من الأسباب أدىّ ذلك إلى اختلال في لغة المجتمع واستلاب لها.

لذلك يحرص المفكرّون والمصلحون الاجتماعيون في سائر المجتمعات الحفاظ على قيم مجتمعاتهم وأصولها الحضارية والتراثية خوفاً من الذوبان والاندثار، وأوّل ما يجب المحافظة عليه في هذا الصّدد هو اللّغة.

على أن التطوّر والارتقاء ينبغي أن يستمدّا من أصالة المجتمع نفسها ومنها اللّغة، فالفكر هو الذّي يغني اللّغة ويطورّها بالاعتماد عليها، وقد يشعر بضيق ضوابطها ووطأة صرامتها عليه، لأنها تحّد من حرياته التعبيرية من جهة، كما أنّه يغنيها ويمدّها بالطاقات التعبيرية الجديدة التي تجعلها قادرة على الاستجابة للأفكار والتصوّرات المستجدّة.

وهذا ما يبدو لنا جليًّا إذا ما القينا نظرة فاحصة على ما وصلنا من آثار أدبية منذ العصر الجاهلي إلى غاية القرن الثاني الهجري بالموازاة مع ما أنتج بعد تلك الفترة إلى يوم الناس هذا، لا شك في أنّنا واجدون سيلاً عارماً من الألفاظ والتراكيب والاستعمالات اللّغوية لم تكن معروفة أصلاً في الفترة الأولى، هذا ما يدل على ذلك التّطور الهائل الذي حدث للّغة العربّية بسبب مؤثرات ودواعٍ فرضها التطوّر الحضاري.

اللغة واللسان

في المقابل فإن الضوابط النّحوية التي استنبطت من نصوص الفترة الأولى، وعلى أساسها بني ذلك الصّرح الشامخ المتماسك المتمثل في النحو هي نفسها التي مازالت صالحة لقياس الكلام العربي وإجرائه على سنن العرب وطرق مخاطباتها، لذلك فإن الدّعوة إلى تحرير اللّسان العربي من النّحو -باعتباره قيداً يحدّ من حرية المتكلم ويحجب عنه آفاق التعبير كما يرى البعض- دعوة باطلة، وإذا نظرنا إلى الفكرة (أية فكرة نريد التعبير عنها)، فإننا نجد في المقابل عدداً غير متناهٍ نظريًّا من التشكيلات الصّوتية تصلح للتعبير عنها، أي إن البنية العميقة (الفكرة) يقابلها في اللّسان العربي عدة بنى سطحية قادرة على إبرازها وتوصيلها إلى المتلقي وذلك راجع إلى طبيعة الثراء اللّغوي للجملة العربية كالتقديم والتأخير والحذف والإضمار وما إلى ذلك كالقدرة على قلب الجملة من فعلية إلى اسميّة أو العكس، وعملية التأويل كما في حال استبدال المصدر بجملة والعكس.

ولا أدل على ذلك من أنّ النصوص التي أُنشئت على مرّ العصور وحققت التّواصل والإبداع في شتّى مجالات العلم والمعرفة قد روعيت في إنشائها القواعد النحوية التّي استنبطت منذ مدة طويلة، ممّا يدل على أنّ النحو العربي ليس بعائق أمام عملية الإبداع.ولا يحدّ من قدرات المبدع، أمّا الذّين يريدون إحلال اللهجات العّامية المنتشرة هنا وهناك وجعلها اللّغة الرّسمية للناطقين والمبدعين والكتّاب، هم إنّما يريدون فصل أمة شامخة ضاربة بجذورها في أعماق التّاريخ عن أصولها وحضارتها ودينها.

اللغة والمستشرقون

يبدو لي أن أصول هذه الدّعوة ترجع إلى آراء المستشرقين إبان عصور النّهضة الأوروبية، عندما اتّجهوا إلى دراسة تراثنا اللّغوي والفكري والحضاري وفق مناهجهم الخاصّة التّي درسوا بها تراثهم، وخلصوا إلى آراء ونظريات اتخذوها منطلقات أساسية لنهضتهم الحضارية، من ذلك الثورة على القديم، والإيمان بتطور اللّغات والقيّم الحضارية.

ولقد حاولوا أن يدرسوا تراثنا وحضارتنا انطلاقاً من تصوراتهم هم، لذلك فهم ينظرون إلى اللّغة العربيّة نظرتهم إلى اللّغتين اليونانية واللّاتينية اللّتين ماتتا أو كادتا، فالمفكر جاك بارك يرى أنّ اللّغة العربيّة تعمل عكس التطوّر الذي أصاب اللّغات المتفرعة عن العالم الرّوماني لأنّها تتنّزل من علٍ، وأن رجال النّهضة في البلاد العربيّة قد وقع اختيارهم على الرّمز أكثر ممّا وقع على «الشّيء» هكذا يرى جاك بارك[10].

واقتفى أثر المستشرقين كثير من المفكّرين واللّغويين العرب، فمنهم من دعا إلى تطوير وتيسير النّحو العربي، ومنهم خطّأ مناهج القدماء في دراساتهم اللّغوية والنّحوية، ومنهم على سبيل المثال الدكتور زكي نجيب محمود الذي ينحو في هذا الشّأن نحو جاك بارك، بل ويتعمّق أكثر منه في هذا الاتجاه، يقول: «اللّغة عندنا نغم يطير بنا عن أرض الواقع ويصعد بنا إلى اللّانهائي في المطلق»[11]، ويرى الاعتناء باللّفظ مجرّد زخرف هندسّي ركّبت فيه دوائر تنظر إليه وتُنعم النّظر، تلك هي وقفة المثقف العربي من بناءات الكلام[12].

وفي موضع ثالث يرى أنّ اللّغة التي لا تتغيّر أواخر كلماتها في الإعراب تعتمد كلّ الاعتماد في تنظيم الفكرة على ترتيب اللّفظ، فهي تمتاز بالدّقة العلمية، وأمّا الأخرى أي اللّغة العربيّة فهي مجرّد ليونة شاعر[13]، ليس المجال هنا للرد، ولكن يمكننا الوقوف قليلاً لمناقشة بعض هذه الآراء فنقول:

1- إن مستويات التخاطب (التواصل) متفاوتة الدرجات حسب مستويات المخاطبين العلميّة وأحوالهم الثقافية ومجالات تخصصاتهم، وهذه المستويات كلّها تخضع للضوابط نفسها المتعارف عليها لدى المجتمع صاحب اللّغة سواء كانت تلك الضوابط نحوّية أو صرفية أو دلالية.

أمّا عندما نستخدم اللّغة استخداماً أدبيًّا فنيًّا فإن الكتّاب والشعراء والمبدعين يطلقون العنان لأخيلتهم ليحققوا شيئين اثنين في آن واحد، التعبير عن الأفكار والمشاعر من جهة والاستخدام الفنّي للّغة من جهة ثانية، وهذا أمر شائع في جميع اللّغات، ومن يتأمّل الروائع الأدبية عند الكبار أمثال لامارتين وفيكتور هوجو وشيكسبير وغيرهم... يقف على هذه الحقيقة ماثلة رأي العيان؛ إذ تغدو ألفاظ اللّغة في الغالب وارفة ظلالها على النّص الأدبي فتصوره في حلّة قشيبة من الألوان الزاهية تطفح بالجمال والرونق بحيث تتعانق فيها أنواع المجاز والتشابه، والاستعارات والكنايات والتقديم والتأخير... وهكذا يغدو النص الأدبي صورة معبّرة مليئة بالإيحاءات والتلميحات، وكذلك الحال في النصوص الأدبية في العربيّة فهذا البحتري مثلاً يقف على إيوان كسرى فيشد انتباهه بقايا صورة على الجدار لمعركة أنطاكية التّي انتصر فيها الفرس على الرّوم أيّام كسرى أنوشروان فينشئ قصيدته السّينية التّي يقول فيها[14]:

وإذا ما رَأيْتَ صُورَةَ أنْطَا

كيَةَ ارْتَعْتَ بَينَ رُومٍ وَفُرْسِ

والمَنَايَا مَوَاثِلٌ، وأنُوشَرْ

وأنَ يُزْجي الصّفوفَ تحتَ الدِّرَفْسِ

وَعِرَاكُ الرّجَالِ بَينَ يَدَيْهِ،

في خُفوتٍ منهمْ وإغماضِ جَرْسِ

منْ مُشيحٍ يُهوي بعاملِ رُمْحٍ،

وَمُليحٍ، من السّنانِ، بتُرْسِ

تَصِفُ العَينُ أنّهُمْ جِدُّ أحيَا

ءَ لَهُمْ بَينَهُمْ إشارَةُ خُرْسِ

يَغتَلي فيهمُ ارْتِيابيَ، حَتّى

تَتقَرّاهُمُ يَدايَ بلَمْسِ

هذه صورة تخلّد صورة، فيتولّد فنّان خالدان في لوحتين رائعتين، صورة أنطاكية في الحجر واللّون، وصورتها في السّينية، ويمحو الزّمن الأولى من دنيا الواقع، ولا يقوى على الثانية في عالم الفنّ وأبدية الحرف»[15].

2- لقد واجهت اللّغة العربية تحدّياً كبيراً أمام حضارتين كبيرتين آنذاك: هما الحضارة الفارسية والحضارة الرّومانية في مرحلة انتقالها من البداوة إلى الحضارة، واستطاعت أن تثبت أمام العواصف الهوجاء، فاستوعبت سائر المستجدّات والقضايا المعقدة، وعبّرت عنها بأدقّ تعبير وأرقى ولا وقف أصحابها عند حدود «الرّمز»بل تجاوزه إلى «الشّيء».

3- إن ظاهرتي «الإعراب»والتقديم والتأخير في اللّغة العربيّة لدليل على دقّة اللّغة في التفريق بين المعاني لا على «ليونة شاعر» ألا ترى مثلاً الفرق بين الجملة الاسمية والفعلية في تقديم الاسم على الفعل والعكس، فالاسمية غالباً ما تكون في مواطن الوصف لأن العلاقة الإسنادية فيها حدثية، ولقد أفاض عبد القادر الجرجاني في هذا الموضوع[16] ولا يتّسع المقام هنا لمزيد من الحديث فيه.

4- هل حال اللّغة العربيّة الآن هي حالها عندما كتب جاك بارك كتابه «العرب من الأمس إلى الغد»، وأن العربيّة لم تتقهقر ولم تندثر كما كانوا يتوقّعون بل ازدادت تقدّماً وارتقاءً، سواء من حيث الناطقين بها أو من حيث اقتحامها المجالات المعرفيّة والعلميّة.... التي دعت إليها الظروف الجديدة، وأنت تجد اليوم للعربيّة رصيداً من الألفاظ والمصطلحات والتراكيب في شتّى فروع المعرفة الإنسانية.

ولا عاقل يدّعي للعربية المكانة العلميّة التي تضاهي بها اللّغات الغربية علميًّا وتكنولوجيًّا، ولا عاقل يصف العربية بالقصور والعجز، ونحن نرى اليوم النّصوص والمواثيق والعقود تُحزّز بالعربية في المؤسسات والإدارات وعبر وسائل الإعلام، وفي مجالات الاقتصاد والسّياسة والإعلام الآلي، وغيرها... إلَّا أنّ ذلك غير كافٍ للالتحاق بالرّكب الحضاري.

إنّ الثورة على اللّغة ووصفها بالجمود وإلقاء تبعات تخلّف أصحابها عليها إنما هو عتاب في غير محلّه، والأولى أن نعاتب عقولنا المقصّرة عن الخلق والإبداع، فالفكر الخلّاق هو الذّي يصنع في اللّغات الإشارات والرّموز والمصطلحات يودعها أفكاره ويبني بها مناهجه وبرامجه ويسجّل تجاربه.

اللغة والكلام

لنعد إلى الجملة باعتبارها اللّبنة الأساس لحمل الفكرة، واستعمل لها بعض علمائنا القدماء مصطلح (الكلام) أيضاً.

1- الكلام والجملة: يطلق مصطلح الكلام على اللفظ المركّب المفيد الذي يحمل معنى يحسن السّكوت عنده[17]، أمّا الجملة فهي عبارة عن الفعل والفاعل، أو المبتدأ أو الخبر، يقول ابن هشام في هذا الّصدد: «الكلام هو القول المفيد، والمراد بالمفيد ما دلّ على معنى يحسن السّكوت عليه، والجملة عبارة عن الفعل وفاعله كقام زيد، والمبتدأ وخبره كزيد قام، وما كان بمنزلة أحدهما، وبهذا يظهر لك أنهما ليسا بمترادفين كما توهّمه كثير من النّاس»[18].

يبدو أنّ ابن هشام يرد على الذين طابقوا بين الكلام والجملة كابن جنّي[19]. إذا حاولنا إمعان النّظر في هذه القضّية (الكلام أو الجملة) وجدنا أنهما يشتركان في خاصّة (حصول الإفادة)، أي تأدية وظيفة التواصل من خلال علمية الإسناد (المسند والمسند إليه)التي تعني عند النّحاة إيقاع نسبة تامّة بين كلمتين كنسبة الخبر إلى المبتدأ ونسبة الفعل إلى فاعله وهكذا... يقول سيبويه في المسند والمسند إليه «وهما لا يغني...»[20].

وذلك أن أدنى ما تحصل به الإفادة ويتم التواصل بين المتخاطبين هما كلمتان (فعل واسم)، أو(اسم واسم)كما سبق ذلك عند عبد القادر الجرجاني.

يستفاد ممّا سبق أن الإفادة قد تحصل بذكر المسند والمسند إليه كقولنا: (زيد قام)، أو (قام زيد)، تريد في الأولى الإخبار عن زيد بالقيام وفي الثانية تعيين القائم بأنه زيد وليس غيره، أما في قولنا: «عاد المسافر إلى أهله، فامتلأ البيت فرحاً»، فقد اجتمع في هذا التّركيب معنيان: الأول هو عودة المسافر، والثاني هو امتلاء البيت فرحا، وهذا المعنى الثاني مسبب عن الأول، وقد تمّ ذلك في عمليتين إسناديتين أي في جملتين فعليتين، فهو كلام من حيث تمام الإفادة:

أ - (م+م إ) أو(م إ+ م) - يؤدي فائدة فهو جملة وكلام

ب- (م+م إ) أو(م إ+م) + متعلقات الإسناد - يؤدي فائدة فهو كلام في أكثر من جملة.

وفي المقابل نجد أنواعاً من الجمل لا تستقل بذاتها أصلاً، فهي تحتاج إلى ما يسبقها أو يليها لتأدية وظيفة التواصل، كجملة الصلة، وجملة الشرط وجملة جواب الشرط، وجملة القسم وجملة جواب القسم، وكذا الجمل التي تؤدي وظائف تُتم ما يسبقها أو يلحقها في النص كالجملة المفسرة والجملة المبنية، والجملة المؤكدة وغيرها.

2- النص: عرّف علماء اللغة النص باعتباره يفيد الظهور والبروز والرفع، وبلوغ الشيء منتهاه[21].

أما اصطلاحاً فقد تناول مفهوم النص دارسون كثيرون كل حسب توجهه ورؤيته، فمنهم من نظر إلى النص انطلاقاً من اللغة التي تشكل أدواته، ومنهم من نظر إليه باعتبار حال المنشئ نفسه، ومنهم من وضع في اهتمامه المتلقي وكيفيات تقبله النص سواء كان مسموعاً أو مقروءاً.

هذا كله مع اعتبارات أخرى: نفسية واجتماعية ولغوية، فالنّص في حقيقته ليس له وجود فعلي محدد في الزمان، والمكان إلَّا بمقدار ما يعبر عن ذاته من خلال آثاره وتفسيراته لدى فئات القراء كل حسب مجتمعه وبيئته.

لذلك يعرفه صلاح فضل بأنه: «قوة متحولة تتجاوز الأجناس والمراتب المتعارف عليها وتبرز الخواص النوعية الماثلة في بعض أنماطه المتعينة، خاصة الأدبية، لكننا لا تصل إلى تحديد واضح قاطع لمفهوم النص»[22].

ولئن كانت معظم هذه الآراء تصدق على النص الأدبي الفني فإن النصوص الأخرى وهي كثيرة ومتعددة الأغراض والمضامين تنحو نحو التحديد والتخصيص وفقاً لطبيعة المحتوى المعبر عنه؛ إذ غالباً ما تبدو من خلالها الفضاءات اللغوية أقل حرية وأكثر انتقاء من حيث اختيار الألفاظ والمصطلحات. وهذا ما يجعل صياغة هذه النصوص تتطلب الدقة في الاختيار ومراعاة المعاني المراد توصيلها من حيث الرتب والتسلسل الفكري لها.

وإذا كان النص الفني مفتوح الجوانب «أمام القراءات والتأويلات» بحيث يجد القارئ نفسه أمامه حرًّا في اختيار تموقعه، فإن النصوص الأخرى وعلى الخصوص العلمية هي التي تحدّد تموقع القارئ منها مسبقاً بحيث تسعى إلى فرض محتواها فرضاً؛ لأن مضامينها ترتبط أصلاً بالعقل والموضوعية بعيداً عن الوجدان والعاطفة، «غالباً ما يقال: إن وظيفة اللغة هي تمكين شخص من إحداث تغيير في سلوك شخص آخر... ومن ثم فأي تغيير يطرأ على المعرفة يعمل بطريقة غير مباشرة على تغيير السلوك»[23]، كأن تدفعه الى عمل شيء، أو اتخاذ سلوك معين تجاه ظاهرة ما، أو تزويده بفكرة من الأفكار، أو إعطائه القدرة على فهم قضية معينة بحاجة إلى فهمها، وكذا إمداده بطاقات فكرية تؤهله للابتكار والإبداع.

إن التغيير الذي تحدثه اللغة في سلوك المتلقي يمكن أن يكون له جانبان: جانب يتعلّق بالمشاعر والعوطف، وهذا غالباً ما تحققه النصوص الفنية والإنتاجات الأدبية الراقية، وقد يكون فيه للخيال المبدع الخلّاق أثر كبير، وجانب يتعلق بالعقلانية والموضوعية، وهذا ما تهدف إليه النصوص غير الأدبية التي تحمل مضامين معرفية، وفي هذه الحالة يكتسي تغيير السلوك طابع الإقناع واتخاذ المواقف.

اللغة هي المادة الأساس لإنتاج النص سواء كان منطوقاً أو مسموعاً، وسواء كان أدبيًّا أو علميًّا، ولن يتم ذلك إلَّا في وحدات تركيبية، أي في فعل كلامي تنتظم فيه الرموز المنطوقة في سلاسل كلامية تحكمها الضوابط النحوية المتعارف عليها في اللغة.

إن دراسة القدماء للجملة والكلام كما سبق هي في الحقيقة دراسة لتلك الوحدات التركيبية التي تهدف إلى توصيل الأفكار من خلال النصوص ومدى قدرتها على أداء وظائفها التواصلية؛ لذلك يمكننا أن نستبدل بمصطلحي الجملة والكلام مصطلح (الوحدة التواصلية) فما هي الوحدة التواصلية؟ وما هي الشروط التي ينبغي أن تتوافر فيها؟.

الوحدة التواصلية

يمكننا أن نطلق هذا المصطلح على تركيب لغوي أو أكثر، يحمل فكرة أو أكثر يمكن الاكتفاء بها نهائيًّا أو مؤقتاً.

المقصود بالتركيب اللّغوي: ما تمّ النطق به في عملية إسنادية واحدة (كالفعل والفاعل) أو(المبتدأ والخبر)، وقد يتعلّق بهما ما يتمّ الإسناد ويفي بالمراد، وقد لا تحصل الإفادة إلَّا من حلال أكثر من تركيب.

والمقصود بالاكتفاء به نهائيًّا أو مؤقتاً: أن يتضمّن التركيب اللّغوي فكرة يحصل بها التّواصل فلا يحتاج إلى غيره، وقد يكون بحاجة إلى تركيب آخره لإتمام الفكرة وحصول الإفادة.

تؤدي الوحدة التواصلية وضيفتها من خلال نسق من الوحدات التركيبية الأخرى على المستوى السّطحي للنص، الذي تنسجم فيه الأصوات في سلاسل كلامية تخضع لقوانين النّحو المتعارف عليها، للتعبير عن مستوى عميق تتجسّد فيه الأفكار المراد توصيلها إلى المتلّقي.

من المعلوم أن التّواصل يتّم عن طريق إنتاج الكلام الهادف إلى إحداث تغيير ما في سلوك المتلقّي كما سبق، وذلك بتلقيه أمراً أو نهياً أو نصحاً من المتكلّم أو شرح موقف ما، أو رفع لبس عن قضية أو تفسير وضعيّة، أو إبداء رأي أو تعبير عن مشاعر وعواطف وما إلى ذلك...

وتمرّ عملية إنتاج الكلام عبر مراحل أربعة هي:

1- تحديد التغيير الذي ينبغي أن يكون له يكون له أثر في معرفة السّامع.

2- إنتاج صورة ذهنية تجسّد ذلك التّغيير.

3- تفتيت الفكرة إلى أجزاء يتم تحديدها برموز منطوقة اصطلاحية.

4- تنظيم هذه الرموز المنطوقة في سلسلة يجري ربطها بواسطة القواعد والمؤشرات النحوية التي ستمكّن السّامع من مراعاة تركيب الفكرة الأصلية[24].

تنبني هذه الخطوات الأربع على:

أ - تعيين المشكل المراد معالجته.

ب- تحديد الفكرة المعبّر عنها.

وهاتان المرحلتان تسبقان عمليّة النّطق وتمهّدان لها، وهذا ما تهدف إليه المرحلة الأولى، والثانية، أما المرحلة الثالثة فتمثّل الشروع في عملية إنتاج الكلام، واختيار الألفاظ والمصطلحات اللّغوية التي تحتاج إليها الفكرة، أي انتقاء الحقل الدلّالي الخاصّ بالموضوع المعبّر عنه.

والملاحظ أنه في هذه المرحلة الثالثة يستطيع فكر المتكلّم أن يعود إلى الوراء، أي إلى المرحلتين السّابقتين لإجراء التعديلات اللّازمة بالتّغيير أو الزّيادة أو الحذف أو الاستبدال أو التّقديم أو التأخير... كل هذه الاحتمالات قائمة بالنّظر إلى الظروف التي تكتنف عمليّة إنتاج الكلام.

وكذلك الشّأن في المرحلة الرابعة «النّهائية التي تمثّل الإجراء الفعلي وردود المتلقي الإيجابية أو السّلبية وما يرافقها من تغيير في سلوكه... فهي أيضاً قابلة للتكييف والمراجعة خاصة في النّصوص المنطوقة التّي تكون ردود أفعال المتلقي لها فور الانتهاء من عملية النطق بها، بخلاف النصوص المكتوبة والمسّجلة التي لا تسمح للمتكلّم بإجراء التعديلات اللّازمة إلَّا بعد لأيٍ؛ لأنه غالباً ما يكون الطرف الثاني غير متعيّن تحديداً أو غير ماثل أمام المتلقّي.

لقد عبّر عبد القاهر الجرجاني عن إنتاج الكلام بقوله: «هذا وأمر النّظم في أنّه ليس شيئاً غير توخي معاني النّحو فيما بين الكلم، وأنك ترتب المعاني أوّلا في نفسك ثّم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك»[25].

وكما أن البذرة تحتاج إلى تهيئة التربة لغرسها ثمّ تعهّدها والحفاظ عليها لتنمو وتستوي على ساقها، كذلك الفكرة تمثل ببال المتكلّم فينتجها كلاماً بعد أن يكون قد مهّد لها وهيّأ الظروف الملائمة، وقد يستدعي ذلك أفكاراً أخرى تخدم الفكرة المحوّرية، فالنّص عبارة مجموعة من الوحدات اللّسانية ترتبط ببعضها ارتباطاً عضويًّا، وغالباً ما نجهل أسباب هذا الارتباط ودواعيه... لأنّ هناك خلفيّة فكرية مجرّدة قائمة أساساً بذكر المتكلّم لا يمكن معرفتها على حقيقتها، وقصارى أفهامنا أننا نقترب منها.

وذلك لأنّ البنية اللّسانية الدّماغية لدى الإنسان تتميّز بالتفرّد والخصوصية بالرّغم من أنّ اللّغة اجتماعية، ولئن اشترط علماء اللّسانيات الحديثة لإفادة التواصل بين طرفين الاشتراك في السّنن، أي اللّغة المشتركة، انطلاقاً من أن اللّغة مخزون جماعي وقسمة مشتركة بين أفراد المجتمع اللّغوي.

لا نستطيع أن نصل على وجه الدّقة إلى معرفة خصائص الفكر اللّساني لدى مجتمع ما، وكلّ النتائج التّي قد نتوصل إليها من خلال أي دراسة إنّما هي نتائج تقريبية.

إننا نقرأ قصائد شعراء ما قبل الإسلام، وبالخصوص القصائد السّبع أو العشر، وقد نحكم عليها أحكاماً قاسية أحياناً عندما ننفي عنها الوحدة العضوية للقصيدة، إذ نرى أن كلّ مقطع منها أو بيت يكاد ينفرد عن غيره، والحقيقة أنّنا لا نعرف إلَّا قليلاً عن الذي أنتجها، أو بعبارة أخرى: نحن بعيدون عن الفكر العربي اللّساني.

إنّ ترتيب الأفكار في النّص يعود إلى قدرات المتكلّم/ الكاتب ورؤيته إلى الأشياء ومقدار تصوّره للمحيط والبيئة التّي هو منها؛ إذ لا يمكن أن أقول: إنّي كنت لأرضي نفسي. فالآخر ماثل أمامك وأنت تكتب، بل قائم في ذهنك أثناء الكتابة.

لقد توقفنا عند الكثير من الرّوائع الأدبية والفنية قي تراثنا العربي وحاولنا دراستها وتسليط الأضواء عليها، ولكنّنا في الحقيقة لم نتذوّقها، ولم نلمس ما فيها من جمال، أي إننا لم ندرس من خلالها الفكر العربي اللّساني إلَّا نادراً، وكثيراً ما ندرس البيئة الاجتماعية والسّياسة والثقافية التي أنتجت تلك الرّوائع، ولكننا لم نستنطق التّراكيب اللّغوية للوصول إلى خصائص الفكر الذي أنتجها، قد يعرف الدّارس منّا كثيراً عن لغته: نحوها وصرفها وبلاغتها وفقهها، لكنّه لا يعرف إلَّا قليلاً عن ذلك الفكر الذي أنتجها، وهذا ما ينبغي أن يحظى بالاهتمام الكبير من قبل الدّارسين والباحثين والمربّين.

نخلص ممّا سبق إلى أن النّص مهما كان فهو مكوّن من وحدات تواصلية تأتلف فيما بينهما مكوّنة بناءً متّصل الجوانب يعبّر عن موضوع واحد.

شروط الوحدة التّواصلية

يمكن القول: إنّه من شروط الوحدة التوّاصلية:

1-اختيار الألفاظ التي إذا ائتلفت مع بعضها أدّت المعنى المراد منها.

2-تأدية التّركيب اللّغوي معنى أو فكرة لا تتناقض مع ما يريد المتكّلم/ الكاتب.

3-إيجاد العلاقات الرّابطة بين وحدات النّص.

4-اختيار موضع الوحدة بالنسبة إلى باقي الوحدات.

5-القدرة على توصيل المحتوى إلى المتلقّي.

6-إيجاد التكامل والانسجام بين وحدات النّص.

7-مراعاة قوانين وضوابط النّحو.

ولنتأمّل هذه الأبيات للشاعر قريط بن أنيف، استباحت إبله بنو ذهل بن شيبان يقول[26]:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبان

إذن لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

كأن ربّك لم يخلق لخشيته

سواهم من جميع النّاس إنسانا

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا

شدّوا الإغارة فرساناً وركبانا

إنّها أفكار قامت بذهن الشّاعر تمحورت حول فكرة مركزية مفادها الإشادة بمازن الذين قصدهم الشّاعر حين ضاعت إبله فنصروه، إذن كيف صوّر الشاعر هذه الفكرة؟وكيف استدعت هذه الفكرة أفكاراً أخرى ثانوية لها بها اتّصال ومثول بذهنه؟

من الملاحظ أن التعبير عن الأفكار والآراء والقضايا العلمية يتطلّب غالباً المباشرة في استخدام الألفاظ لمعانيها الموضوعة لها في الأصل.

إنّ هذا المستوى من التواصل لا يتطلّب تقنيات تعبيرية راقية، أما في النصوص الأدبية (شعرية أو نثرية) فلا بد من استنطاق اللّغة في حدّ ذاتها وسبر أغوارها، إذ إن عملية الإبداع تكمن في قدرة المبدع على إحداث التوازن بين تصوير الأفكار وصنعها، وبين اكتشاف اللّغة اكتشافاً جديداً.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن علماء اللّغة والبلاغة الأوائل -وبالخصوص الذين قعّدوا للبلاغة أمثال أبي يعقوب السّكاكي- أحصوا لنا أوجها متعددة ومتنّوعة من هذه التّقنيات (صورا بلاغية) دأب المبدعون على أتباعها واحتذائها عند التعبير عن أغراضهم، وهذا ما نجده عند تصفّحنا لكتب البلاغة بعلومها الثلاثة(البيان والبديع والمعاني).

لذلك حين تناول النّقاد هذه الآثار الأدبية بالدّراسة والتّقويم، وإن اختلفت مشاربهم واتّجاهاتهم.أجمعوا أو كادوا على استجادة ما ناسب لفظه معناه وراعى مقاله مقامه، كما استقبحوا ما علا لفظه وانحّط معناه فسّموه صنعة أوعلا معناه وانحطّ لفظه فهم عندهم رديء السّبك قليل الماء والرّونق وفي هذا الاتّجاه يقول الجاحظ: «ينبغي للمتكلّم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينهما وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات... حتّى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات...

ومن هنا يمكن القول: إن الفكر العربي اللّساني اتّخذ الجملة (الإسناد) أصغر وحدة تعبيرية تحمل معنى، ولكنّ هذا الفكر تصرّف في لغته تصرّفاً واسعاً فضمّن الجمل شبكة من العلاقات الإسنادية غالباً ما تستعمل فيها ألفاظ اللّغة استعمالاً مجازيًّا يحقق من جهة قدرة المبدع على (الاختراق)، ومن جهة أخرى قدرته على (الانضباط)، والبلاغة العربية إنّما درست هذا المجال الرّحب بين الاختراق والانضباط، والنّحو إنّما هو في طبيعته تعليل للفكر اللّغوي للبرهنة على محافظة اللّغة على طبيعتها وجريانها على مألوف النّطق العربي في الاستعمال والتّواصل، فهو انتحاء سمت كلام العرب كما يقول ابن جني[27].

اللغة والاختراق اللغوي

من هنا فإنّ مواضيع البلاغة العربية التّي استقطبت جهود الدارسين، عالجت هذه الظاهرة، أي ظاهرة (الاختراق اللّغوي) من خلال ما تصوره الأساليب من صور بلاغية كالمجاز وأنواعه، والاستعارة وأشكالها، والتّشبيه وتقسيماته وغير ذلك...

ولكن النّصوص الأدبية التي أنشئت بعد عصر التقعيد البلاغي، إلى يوم النّاس هذا، تضمّنت طرقاً في الإبداع وأساليب في الأداء غير تلك الطرق والأساليب التي تناولها القدماء بالدراسة والتقعيد، فهي تتضمن وجوهاً للبلاغة لا تحصى ولا يمكن وضعها وضبطها في قواعد، ولكن يمكن دراستها.

وهذا ما تحاول الأسلوبية الوصول إليه، أمّا الرّصيد البلاغي القديم فلا يمكن إهماله، أو التغاضي عن فاعليته في تصوير المعاني وتقريبها إلى المخاطب/ المتلقي، فهو مازال ينبض بالحياة ويفيض بالحيوية، ولكن يجب أن ندرس بلاغة الصّورة التعبيرية أيًّا كانت وكيفما كانت، ولا نبقى حبيسي دراسة الصّورة البلاغية كما وردت عند القدماء.

ولقد سبق لنا بعض أبيات للبحتري وهو يصف تلك الصّورة التّي رآها أثناء وقوفه على إيوان كسرى، بحيث أعطى للصّورة قراءة عميقة مفعمة بالأحاسيس والعواطف، فبلاغة الصورة هنا ليس منشؤها استعمال الاستعارات ولا التشّابيه والكنايات كما نرى ذلك عند شعرائنا القدماء، ففي هذه الأبيات لا بدّ من البحث عن بلاغة الصّورة برمتها، وليس البحث عن الصورة البلاغية كما وردت عند القدماء، فالصّورة الحقيقية على الجدار جامدة، وقد صوّرها البحتري تصويراً جديداً ينبض بالحياة والحركة، ويجعل الرائي يغيب فيها بإحساسه وكأنّها حقيقة ماثلة أمامه:

تصف العين أنّهم جدّ أحياء

لهم بينهم إشارة خرس

يغتلي فيهم ارتيابي حتّى

تتقراهم يداي بلمس

أمّا إذا عدنا إلى أبيات قريط بن أنيق السّابقة، فهل يمكن اعتبارها وحدة تواصلية أو أكثر من وحدة؟ وهل يريد وصف ما تجيش به نفسه فقط، أو أنه يريد إيصال شيء إلى المتلقي؟

قد يكون المتلقي هو نفسه المتكلّم/ المبدع، ولقد جرّد المتنبي من نفسه متلقياً، وخاطبه قائلاً[28]:

كفى بك داء أن ترى الموت شـافيا

وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

وكذلك فعل أبو فراس حمداني[29]:

أراك عصيَّ الدمـع شيمتك الصّبـر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

وقريط في هذه الأبيات لا يشذّ عن غيره؛ فالفكرة التّي قامت بذهنه وألحّت عليه هي الإشادة والتّنويه بقبيلة مازن التّي نصرته وأعادت إليه إبله من بني شيبان، وشدّة غيظه من قبيلته التي قعدت عن نصرته، ذلك ما جعله يبدأ كلامه بذكر فضل هذه القبيلة عليه، فأنجز ذلك في تركيب شرطي (لو كنت...)، وجعل له جوابين: (لم تستبح...) و(إذن لقام...)، كلاهما صحّ أن يكون جواباً واللاحق منهما بدل من السّابق[30].

والأداة اللّغوية التّي ربطت الجواب الثاني بالأول هي (إذن)، وأطال الكلام بعد الجواب الثاني (إذن لقام...) للإشادة بمازن ووصفهم بالشجاعة والقوّة عندما تثار حفيظتهم (إن ذو لوثة * لان...)، وفي ذلك تعريض بقبيلته التي تقاعست عن نصرته، وجواب هذا الشرط دلّ عليه الكلام السّابق، كأنه يريد: (إن ذو لوثة لان إذن لقام...) – ذو لوثة: صاحب ضعف وتقهقر-.

يمكننا اعتبار الأبيات الأربعة الأولى (وحدة تواصلية)، تتألف من عدة جمل مترابطة مع بعضها، متماسكة تراكيبها بحيث لا يمكننا أن نقّدم أو نؤخر بيتاً منها عن موضعه.

أما الوحدة الثانية فتتمثل في الأبيات الثلاثة التالية:

(لكن قومي.... إلى آخر الأبيات)، وقد استعمل الشاعر أداة الرّبط (لكن) التي يغلب على معانيها الاستدراك، وقد فسّر ذلك بأن تنسب لما بعدها حكماً مخالفاً لحكم ما قبلها[31].

وهي بهذا المعنى لا تخلو من توكيد، وذلك بعد أن أثنى الشاعر على قبيلة مازن التفت إلى قبيلته موبّخاً ومعاتباً إيّاهم على عدم نصرتهم له عند الشدّة فأخرج كلامه مخرج التّوكيد ليعرب عن شعوره بالغيظ منهم والحنق عليهم.

لكنه لم يهاجمهم صراحة، بل اتخذ إلى ذلك سبيلاً وسطاً، نافياً عنهم إقبالهم على الشر قلّ أو كثر، وكأنه يرى ردّ الشرّ شرًّا، ودفع الإساءة إساءةً مثله، فهو يصور قومه مستضعفين وكأنهم يخشون الله أكثر من جميع النّاس، حتّى لكأن خشيتهم هذه جعلتهم لا يدافعون عن حمى قبيلتهم ولا يعادون أحداٍ، ويتمنّى بدلهم قوماً آخرين أمثال رجال مازن في الشّجاعة والإقدام عند الفزع.

أمّا إذا ما حاولنا أن ننفذ من خلال هذه الأبيات إلى بعض خصائص الفكر العربي اللّساني فإنّه يمكننا القول: إن الأفكار التّي كانت تدور بذهن الشاعر تتمثل في التعبير عمّا ألمَّ به من غيظ وهو يشعر بالمهانة ويطلب النّجدة والمساعدة، ويرى قومه متقاعسين عن نصرته، فيشتدّ غضبه عليهم.

كذلك فإنّ البنى العميقة التّي كانت ماثلة في ذهنه يمكن حصرها في الأفكار الآتية:

1- نصرة قبيلة مازن له.

2- وصف رجالها بالشجاعة (معشر خشن).

3- الإلحاح على قومه باللّوم والعتاب.

4- وصفهم بالجبن.

ولتجسيد هذه الأفكار اختار الشاعر حقلاً دلاليًّا مفعماً بالألفاظ المعبرة عن بيئته الطبيعية والبشرية منها: الإبل، مازن، ذهل بن شيبان، معشر خشن، اللوثة (الضعف) الشر، الناجذين، ركبوا، الإغارة، فرسان... إلى غير ذلك.

أمّا التراكيب اللّغوية التي اعتمدها فتتمثّل في كثرة الجمل الفعلية في الوحدة التّواصلية الأولى لتناسب الحركة والخفّة والهبوب إلى النّجدة، أما في الوحدة الثانية فقد أكثر من الجمل الاسمية ليصف السّكون والجمود عند أهل قبيلته الذين لم يتحرّكوا لنصرته.

واستطاع الشاعر من خلال هذه القطعة/ القصيدة أن يحصر معاني كثيرة في تراكيب قليلة، مستعملاً أساليب الشرط، وقد رأينا بعضها من قبل، والأحوال كما في قوله: «زرافات ووحدانا»، وقوله: «حين يندبهم»، وقوله: «وإن كانوا ذوي عدد»، وقوله: «وإن هانا».

وقد أكثر من التقديم والتأخير حتّى يستطيع تأدية المعاني والأفكار التي تدور بذهنه، كما في قوله» «لا يسألون...»؛ حيث أخَّر المفعول الثاني لـ(سأل) إلى آخر البيت: «برهانا»، وقدم عليه الجملة الظرفية (حين يندبهم) للتعجيل بذكر سبب السؤال، وهو الندبة أي الاستغاثة، وكذلك فعل في قوله: «لكنّ قومي...» حيث أخّر خبر(لكنّ) وهو (ليسوا) عن رتبته مقدّماً عليه الحال (وإن كانوا ذوي...) ليؤكد على كثرتهم التي لم تنفعه.

وهكذا نرى أن الفكر العربي في تلك الفترة يتعامل مع لغته تعاملاً حسّيًّا حتّى وهو يصف عواطفه وأحاسيسه، ولقد استطاع هذا الفكر أن يوجد في لغته الألفاظ والمصطلحات التّي جرت على الألسنة في المواقف المعيّنة، سواء أثناء الخوف أو الغيظ، أو المرح، أو المدح أو الهجاء، لكل لون من ألوان الشعر حقله اللّساني الخاصّ، إلَّا أن عبقرية المبدع تكمن في كيفية التعامل مع هذه الألفاظ وطريقة نسجها وإخراجها في سلاسل كلامية معبّرة عن القصد وموفية بالمراد، لذلك فإننا حين ندرس بعض الأشعار القديمة تبدو لنا لأولّ وهلة متماثلة الألفاظ، ونكاد نحكم عليها حكماً عامًّا، لكننا عندما نمعن فيها النّظر تتبدى لنا الفروق في المعاني والتصوير.

 

 

 

 

 



[1] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق د. محمّد التّنجي بيروت، دار الكتاب العربي، ط2، 1997، ص: 14.

[2] شوقي ضيف، مدارس النّحو، مصر، دار المعارف، ط 2، ص16.

[3] سيبويه، الكتاب، تحقيق محمّد عبد السلام هارون، بيروت، عالم الكتب، ط 3، 1983، ج 4/ 378.

[4] الكتاب ج 4/ 229.

[5] الكتاب ج 4/ 368.

[6] الكتاب ج 4/ 356.

[7] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 17، 56، 57، 303، 382، 390.

[8] مقدمة ابن خلدون، مطبعة عبد الرّحمن، ص: 419.

[9] مقدمة ابن خلدون، ص: 421.

[10] جاك بارك، العرب من الأمس إلى الغد، ترجمة علي سعد، بيروت، مكتبة دار الكتاب اللّبناني، ص: 79.

[11] زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، دار الشروق، ط 7/ 1982، ص: 219 - 220.

[12] زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، ص: 234.

[13] زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، ص: 363

[14] خليل شرف الدّين، الموسوعة الأدبية الميّسرة، بيروت، دار الهلال، ط/1983، ص: 115.

[15] خليل شرف الدّين، الموسوعة الأدبية الميّسرة، ص: 116.

[16] عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 96 وما بعدها.

[17] ينظر: مغني اللّبيب عن كتب الأعاريب لجمال الدّين بن هشام، تحقيق د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، ط2/ 1969، ص: 419.

[18] ينظر: مغني اللّبيب عن كتاب الأعاريب، ص: 149.

[19] ابن جنيّ، الخصائص، تحقيق محمّد عليّ النّجار، لبنان، دار الكتاب العربي، ج 1/ 17.

[20] سيبويه، الكتاب، ج 1/ 23.

[21] ينظر: مختصر العين للزبيدي، ط1/ 1996، مادة (نص)، ولسان العرب لابن منظور، ط/ 1982، بيروت مادة (نص)، وأساس البلاغة للزمخشري ص: 852.

[22] صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، مكتبة لبنان ناشرون، ص: 294.

[23] روي. سي هجمان، اللغة والحياة والطبيعة البشرية، ترجمة د. داود حلمي السيد، ط/ 1989، جامعة الكويت، ص: 165.

[24] روي. سي هجمان، اللغة والحياة والطبيعة البشرية، ص: 166.

[25] فخر الدين قباوة، المورد النحوي الكبير، ط4/ 1987، دمشق، ص: 105.

[26] الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق: درويش جويدي، بيروت، المكتبة العصرية، ط/ 2001، ج1/ 92.

[27] ابن جني، الخصائص، ج1/ 34.

[28] العرف الطيب في ديوان أبي الطيب، للشيخ ناصيف اليازجي، بيروت، دار الأرقم، ص: 486.

[29] الموسوعة الأدبية الميسرة، ص: 178.

[30] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج1/ 16.

[31] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج1/ 322.