دور الشبكات الاتصالية في إرساء
ثقافة الحوار بين الشرق والغرب..
نظام المتوسط لميشال شوفالييه نموذجاً
الدكتورة نادية الرياحي*
* جامعة تونس.
مقدمة
راجت في أدبيات القرن الثامن عشر الدعوة إلى توحيد العالم وإرساء السلام بين مختلف الشعوب ومن أبرز مشاريع الوحدة العالمية والسلام الكوني، مشروع الكاتب والسياسي الفرنسي إيمريك كريسي Emeric Crucé (1590-1648) في مصنفه بعنوان: «سيني الجديد» Le Nouveau Cynée الصادر سنة 1623، حول فيدرالية دائمة للملوك أو ممثليهم تكون مهمتها حلّ الخلافات بين شعوب العالم على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم[1].
بالإضافة إلى ذلك فقد عرض الدبلوماسي لاباي دو سان بيار L’Abbé de Saint Pierre (1658-1743)، مشروعاً حول السلام الدائم سنة 1713 [2] أو مشروع إيمانويل كانط Emmanuel Kant حول السلام الدائم سنة 1793، والذي طرح من خلاله فكرة الدولة الكسموبوليتية الإنسانية التي يعتبرها أفضل أشكال الانتظام الاجتماعي، وأفضل الأشكال التعديلية للممارسة السياسية[3]، أو مشروع شارل فورييه Charles Fourrier (1772-1837) حول الوحدة الكونية من خلال مؤلفه الوئام العالمي L’Harmonie universelle [4] الصادر سنة 1803. كما يمكن الإشارة إلى مشروع كل من كارل ماركس Karl Marx وفريدريك أنجلز Frédéric Engels حول فكرة الأممية لتوحيد العالم، وذلك من خلال الدعوة إلى تطوير حكومة عالمية عن طريق الأممية البروليتارية بما هي إيديولوجية التضامن الأممي للبروليتاريين والشعوب العاملة في جميع الدول، وقد بادر ماركس وأنجلز إلى الدعوة إلى وحدة كل العمال في العالم من خلال شعار «يا عمّال العالم اتحدّوا»[5] الذي ختما به البيان الشيوعي.
لكن ما الذي يميّز المقاربة السان سيمونية عن بقية المقولات حول الوحدة الإنسانية؟
إنّ أبرز ما يميّز المقاربة السان سيمونية عن بقيّة منظّري الوحدة الإنسانية مثل كانط أو فورييه أو لاباي دو سان بيار، أنّها كانت بمثابة خارطة طريق تحوّلت من طور المشروع النظري مع كلود هنري دو سان سيمون[6] إلى طور التطبيق العملي مع أتباعه من بعده، الذين آلوا على أنفسهم مواصلة ما طرحه أستاذهم الراحل من خلال عدد من المشاريع ولعّل مشروع ميشال شوفالييه حول نظام المتوسط من أهمّ هذه المشاريع. كما أنّ السان سيمونية توجهت إلى العالم في كلّيته، على خلاف هذه المشاريع التي توجهت إلى الشعوب الأوروبية، من أجل إنشاء كونفيدرالية على مستوى أوروبي.
الملاحظ أنّ هاجس الوحدة العالمية كان حاضراً في أغلب مؤلفات سان سيمون وكان الفكرة المركزية التي نظّر لها ودافع عنها منذ كتابه الأول رسائل مقيم بجنيف إلى معاصريه سنة 1803 مروراً بمؤلّفه حول إعادة تنظيم المجتمع الأوروبي سنة 1814، الذي نجد فيه بذور الوحدة الأوروبية والسند النظري لقيامها، وصولاً إلى آخر مصنفاته المسيحية الجديدة سنة 1825. كما أنّ ما يميز مقاربة سان سيمون هي محاولته تقديم جملة من الوسائل والآليات الكفيلة ببناء مجتمع عالمي من خلال دعم الصناعة والاكتشافات العلمية، ومدّ الشبكات الاتّصالية لتحقيق جملة من المصالح الاقتصاديّة العالميّة المشتركة، ومن خلال المشاريع التي دعا حكومات العالم إلى إنجازها. ولذلك تكمن أسبقية السان سيمونية في الجمع بين مقولات الاقتصاد السياسي والنظريّات الاتصالية الحديثة، لتحقيق فكرة الوحدة العالمية القائمة على الحوار بين الثقافات والحضارات.
وقد وضع السان سيمونيون، بدءاً بسان سيمون ووصولاً إلى الإنتاج الفكري لأبرز زعماء المدرسة السان سيمونية، مخططات لربط جزئي العالم القديم، الشرق والغرب، وذلك في إطار مقاربة عالمية تدعو لتوحيد العالم وتأمين السلام الكوني بالاعتماد على فلسفة الشبكات.
ويفيد مصطلح شبكة اتصالية في المدونّة السان سيمونية مجموعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتبادلة بين الشعوب والحضارات[7]. وهكذا تضمّ الشبكة إضافة إلى الطرق الاتصالية من سكك حديدية وقنوات مائية القروض الائتمانية ورؤوس الأموال المخصصة للاستثمارات في الأسواق العالمية[8].
لقد قام السان سيمونيون بجهد كبير للربط بين الهدف من إنشاء الشبكات الاتصالية العالمية، مثل السكك الحديدية والقنوات المائية والبحرية، والهدف الاجتماعي للوحدة الاقتصادية للعمال داخل المصانع في كل العالم، ومن الهدف الأخلاقي والديني من التوحدّ، معتبرين أنّ المشاريع الصناعية العالمية وسيلة لتقريب الشعوب والأفراد، وبالتالي إحلال السلام وثقافة الحوار[9].
تهدف هذه الورقة إلى البحث في دور الشبكات الاتصالية، التي دعا أتباع الفيلسوف الاجتماعي كلود هنري دو سان سيمون إلى إنشائها، في إرساء دعائم الحوار بين الثقافات ودفعه بعد تحقيق السلام على المستوى العالمي وأساساً بين الشرق والغرب، وذلك من خلال دراسة المشروع الذي اصطلح المهندس السان سيموني ميشال شوفالييه Michel Chevalier [10] على تسميته بـ«نظام المتوسط» Le système de la Mediteranné.
-1-
دور الشبكات الاتصالية في دفع حوار الثقافات
من خلال المدونّة السان سيمونية
جعل سان سيمون من تحقيق التقدم الهدف الرئيس من دعوته للعالمّية بحيث تكون الوحدة الإنسانية محصّلة التطوّر البشري، وتتويجاً للتطورّ الذي عرفته المجتمعات الإنسانية منذ الانتقال من طور المجتمعات الإقطاعية إلى طور المجتمعات الصناعية، لتصبح الوحدة العالمية هي المحصلة الطبيعية للتطور، أو أفق التقدم العلمي والفكري. كما حاول سان سيمون بناء أركان المجتمع الصناعي العالمي المستقبلي على أساس الإنتاج والتصنيع، بفضل البرامج الصناعية الطموحة، والتخطيط العلمي الدقيق، لدفع الحرية الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمعات الإنسانية، وقد مثّلت هذه الآراء مقاربات تأسيسيّة لفكرة الوحدة العالمية التي راجت في أدبيات القرن الثامن عشر وفي فلسفاته الإنسانية.
أقرّ سان سيمون بأنّ المجتمع الصناعي المنشود القائم على الشبكات الإتصالية المتطورة هو نظام عالمي؛ ولذلك فلا يمكن أن يتمّ في بلد واحد من البلدان الأوروبية، بل في إطار مجتمع أكبر يضمّ كل الشعوب الأوروبية، من خلال مجلس يقوم بإدارة الأشغال العامة والمشتركة، على أن يكون منفتحاً في مرحلة ثانية على كل الجنس البشري[11]. وقد انتهى في كتابه الجاذبية العامة La Gravitation universelle سنة 1815 إلى اقتراح بإنشاء مؤسسة سياسية تجمع أوروبا كلّها، يكون على رأسها العلماء والصناعيون باعتبارهم قيادي المجتمعات الحديثة، ويعتبر مشروع الكونفدرالية الأوروبية الذي بشّر به سان سيمون من خلال كتابه حول إعادة تنظيم المجتمع الأوروبي، الذي وضعه بالتوازي مع انعقاد مؤتمر فيينا سنة 1814، استشرافاً لمشروع الاتحاد الأوروبي الذي لم ير النور إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن العشرين (1957).
كما كان سان سيمون من أولّ المنادين والمبشرين بوصل القارات والشعوب حتى عدّ مفكر فلسفة الشبكات Philosophie des réseaux بمفهومها الحديث. لقد اعتبر سان سيمون أنّ الشبكات الاتصالية ضرورية لضمان سلاسة الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتسهيل تنقل الأفكار والمعلومات والأشخاص داخل الفضاء الكوني. كما حاول صبغ العلاقات الإنسانية بصبغة تقنية؛ لذلك كان كثيراً ما يقارن بين حركة الدم داخل الجسم البشري وحركة المياه بفضل القنوات المائية كشبكات اتصال حديثة بين مختلف شعوب العالم على اختلاف ثقافاتهم[12]. من هنا قامت فلسفة سان سيمون على الدعوة إلى تأسيس ومدّ عدد من الشبكات الاتصالية الكونية[13]. وقد حثّ في كلّ مؤلفاته قادة المجتمع الصناعي الجديد على توجيه جهودهم لتنويع هذه الشبكات بهدف تحقيق الوحدة الإنسانية[14].
كان سان سيمون يعوّل على دور هذه الشبكات الاتصالية لتحقيق الحراك السياسي وإنجاز ما لم تستوفه الثورات الاجتماعية الليبرالية التي عرفتها أوروبا منذ نهاية القرن الثامن عشر وخاصة الثورة الفرنسية، ولضمان سلاسة الحراك الاجتماعي والاقتصادي وتسهيل تنقل الأفكار والمعلومات والأشخاص داخل الفضاء الكوني.
تبعاً لذلك كان سان سيمون من أبرز دعاة مدّ شبكات من السكك الحديدية وشقّ القنوات المائية في العالم، مثل قناة السويس، وقناة إنبارتيدو في المكسيك بين المحيطين الأطلسي والهادي، والقناة الرابطة بين مدريد والبحر الأبيض المتوسط، والقناة الرابطة بين الدانوب والراين، والقناة الرابطة بين الراين وبحر البلطيق[15].
كما اعتُبر سان سيمون أوّل من أوحى إلى الشركة الجغرافية بباريس بدراسة إمكانات نجاح مشروع شقّ قناة بناما، التي تعتبر من أهمّ المشاريع الهندسية التي فكّر فيها الإنسان في القرن التاسع عشر[16]. من ثمة فقد اعتبر بعض المؤرخين أنّ ميثولوجيا الشبكات الاتصالية تعود بجذورها إلى سان سيمون الذي كان أوّل من نادى بها، وإلى أتباعه من بعده، فشبكة الاتصالات التي عرفها العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من خطوط هاتف وتلغراف وسكك حديدية وقنوات مائية وغيرها مدينة للسان سيمونية، من خلال الدعوة إلى تنويع قنواتها لتحقيق فكرة الوحدة العالمية.
لقد برزت فكرة الدعوة إلى الوحدة والسلام العالميين بغاية دفع الحوار بين الثقافات في الإنتاج الفكري للسان سيمونيين وحتى في اختيار عناوين صحفهم الناطقة باسمهم وخاصة صحيفة الجلوب Le Globe [17]، التي تعبّر عن الوحدة العالمية، فقد كانت مواضيع مقالات الجلوب تتناول بالأساس التطورات التكنولوجية مثل تطوير تقنيات ووسائل الاتصال وخاصة مدّ شبكات السكك الحديدية بهدف إرساء ثقافة الحوار بين الشعوب. كان السان سيمونيون يعتبرون أنّ المجتمع الصناعي العالمي، الذي دعوا إلى قيامه، هو أقدر المجتمعات على إسعاد المواطنين، وأنّ الدولة الصناعية هي نظام المستقبل، ولكي يستمر نشاط المجتمع الصناعي، الذي ينادي به السان سيمونيون، كان لا بدّ من قيام حركة واسعة للتبادل التجاري بين كل أرجاء الكون حتى يتيسرّ الحصول على المواد الأولية اللازمة، وحتى تدور عجلة المصانع، ويتم تصريف المنتجات والسلع في الأسواق العالمية. وتنسجم هذه الأفكار مع مقولات سان سيمون خاصة في تأكيده أن الإنسانية تتجه نحو الوحدة والسلام بعد إرساء دعائم المجتمع الصناعي العالمي المستقبلي، الذي تتحدّ داخله العلوم والفنون الجميلة والصنائع، بهدف استثمار الكون[18]. وقد برزت هذه الأفكار خاصة في مقال حمل إمضاء الأب أنفانتان Père Enfantin زعيم المدرسة السان سيمونية، بعنوان «مقولات حول التنظيم الإقطاعي والتنظيم الصناعي»[19]. وقد أكّد أنفانتان في هذا المقال أنّ الانتقال من النظام الإقطاعي القديم إلى النظام الصناعي العالمي الجديد يقتضي مدّ سلسلة من الشبكات الاتصالية، التي اعتبرها ضرورية لتحقيق التقدم وتدعيم سهولة انتقال المنتجات الصناعية والاختراعات والاكتشافات والأفكار وسرعتها، وكذلك تدعيم العلاقات الإنسانية ووحدة الشعوب في إطار من الاحترام، وبالتالي غدت الشبكات الاتصالية آلية لدعم ثقافة الحوار بين الشعوب[20].
من هذا المنطلق دعا السان سيمونيون إلى ربط أجزاء العالم بشبكات اتصالية، مثل شق القنوات المائية ومدّ شبكات السكك الحديدية، بهدف استغلال الكون واستثمار خيراته وثرواته الطبيعية، وذلك لتحقيق مزيد من التقدم للإنسانية، ومن ثمّة لإحلال السلام الدائم[21].
أكّد السان سيمونيون أنّ الشبكات الاتصالية، التي تؤمن انتقال رؤوس الأموال والأشخاص، ستضمن سرعة وتنوع المبادلات، وهو ما سيؤمن ولادة مجتمع جديد أكثر تنظيماً، ومن ثمّة أكثر ثراء ورخاء. لأنّ تنقل الثروات بين كل أرجاء الكون ستضمن اندماجه وحسن انتظامه، وستتدعم كذلك قدرات الإنتاج داخله؛ لأنّ تقليص المسافات الجغرافية سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من الازدهار، وسيحقق التوزيع العادل للثروات الطبيعية[22]، يقول الأتباع: «... إنّ مدّ شبكة اتصالية مثالية لنقل الأشخاص والأفكار والبضائع ستجعل من الإنسانية كلها في حالة واحدة اجتماعية... لأنّها تضمن العدالة في توزيع الثروات والمنتجات وفي اقتسام خيرات الكون...»[23].
بالإضافة إلى ذلك فقد اعتبر السان سيمونيون في إطار مقاربتهم العالمية أنّ الكون سيصبح فضاء مشتركاً بين كل الإنسانية بفضل الشبكات الاتصالية، وهو ما سيحقق حلم سان سيمون المنظر الأول لفكرة الوحدة العالمية من خلال العمل على وضع هذه الفكرة موضع تطبيق، يقول الأتباع في عرض المذهب السان سيموني: «... يجب أن يكون كل الكون لأناس متآخين، لهم هدف واهتمام واحد، هو الاستغلال الكامل والمنهجي للكوكب... هذا الفضاء المشترك الذي آن الأوان لحسن استثماره بعد ربط مختلف أجزائه بشبكة اتصالية محكمة التنظيم...»[24].
لقد دعا السان سيمونيون إلى إنشاء الشبكات الاتصالية منذ مقالاتهم الأولى الصادرة بصحيفة المنتج Le Producteur، عندما أشاروا إلى دور هذه الشبكات الاتصالية في التقدم الاقتصادي[25]. كما عملت مقالات الجلوب Le Globe، وخاصة تلك التي حملت إمضاء ميشال شوفالييه Michel Chevalier، على حثّ الحكومات الأوروبية على مدّ هذه الشبكات، والتأكيد على الرخاء الاقتصادي الذي ستجلبه للشعوب.
ويميّز ميشال شوفالييه والأب بروسبير أنفانتان، زعيما المدرسة السان سيمونية، بين نوعين من الشبكات: الشبكة المادية التي تتكون من الخطوط الاتصالية المادية مثل وسائل النقل البرية والبحرية، التي شبهّها سان سيمون بنظام الشرايين داخل الجسم البشري، والشبكة الاتصالية اللامادية مثل تنقلّ القروض والأموال عبر البنوك[26].
وقد أولى بروسبير أنفانتان أهمية بالغة لإنجاز الشبكات الاتصالية إلى حدّ أنّ الصحفي السان سيموني أدولف قيرو Adolphe Guéroult قد كتب على قبر أنفانتان الذي توفي في 31 أوت 1863 هذه الكلمات التي تلخّص عقيدة هذا الرجل وإنجازاته: «...شبكة مثالية من السكك الحديدية، قنوات توحّد العالم، نظرية اقتصادية سياسية جديدة ومتجددة...»[27].
وقد أكدّ السان سيمونيون أنّ السلام العالمي لا يمكن أن يبنى إلا بالحوار والتسامح والتفاهم بين مختلف الحضارات والثقافات. ويقصد بالحوار الثقافي أو الحوار الحضاري مختلف المبادرات والتصورات النظرية أو العملية السياسية والثقافية والاجتماعية التي تهدف إلى تحقيق التفاهم والتعايش بين مختلف الحضارات.
وهكذا وضع السان سيمونيون مخططات لإنشاء شبكة من القنوات المائية والبحرية، ودعوا إلى ربط أجزاء العالم ببعضها، من خلال شقّ قناة السويس في المتوسط، أو قناة المانش بين فرنسا وأنجلترا، أو قناة بناما، وغيرها من القنوات، وذلك لربط أوروبا بالعالم. يقول ميشال شوفالييه: «... لنفترض أن الشعوب المتحضرة شقت قناتي بناما والسويس فإنّ الصورة المثالية للعالم ستكتمل، وسنؤمن كذلك السلام العالمي بين الشعوب، والوفاق الاجتماعي داخل كل أمة...»[28].
وكان ميشال شوفالييه قد اقترح تكليف الجيوش النظامية بمدّ هذه الشبكات، معتبراً أنّ الهدف من إقامة هذه الشبكات الاتصالية، يكمن إضافة إلى تبادل المنتجات في نشر الديمقراطية في المجتمعات الحديثة، إذ كان ميشال شوفالييه يعتبر أنّ «السكك الحديدية هي قنوات ديمقراطية بالأساس»[29]. ويذهب ميشال شوفالييه أبعد من ذلك عندما يعتبر، في إحدى مقالاته التأسيسية لأيدولوجيا الاتصالات المعاصرة، أنّ الشبكات الاتصالية هي في الوقت ذاته تقنية لتحقيق الترابط والتواصل، وأيضاً محركاً لصنع منظومة سياسية وأخلاقية، فقد قرن السان سيمونيون بين حرية الإنسان وحرية البحار. ولذلك -كما يرى- : «... في تحسين الشبكات الاتصالية عمل من أعمال الحرية الحقيقية الوضعية والتطبيقية؛ لأنّها تحمل في طياتها تغيراً اجتماعيًّا إيجابيًّا، كما أنّها تمكن من التبادل والتواصل المتكافئ بين الناس، وذلك لتحقيق الديمقراطية... لن يقتصر هدف وسائل النقل على تقليص المسافات بين نقطة جغرافية وأخرى، بل بين أمّّة وأخرى وطبقة اجتماعية وطبقة أخرى...»[30].
كما شبّه ميشال شوفالييه دور السكك الحديدية ووسائل الاتصال الحديثة بدور الأديان في توحيد البشرية وجمع شعوبها حول فكرة واحدة أكثر تطبيق وواقعية من الأديان، وهي فكرة الازدهار الاقتصادي والصناعي والرخاء الاجتماعي[31]. وفي درس الاقتصاد السياسي بالكوليج دو فرانس Collège de France، الذي كان ميشال شوفالييه يلقيه في الفترة الممتدة من سنة 1841 إلى سنة 1843، يقول ميشال شوفالييه: «... السكك الحديدية أدوات ديمقراطية بالمعنى الشرعي للكلمة؛ لأنّها تؤمن لكل الطبقات الاجتماعية وسائل ناجعة لتبديد الفوارق الاجتماعية الموجودة في وسائل الاتصال التي عرفتها الإنسانية إلى حدّ الآن...»[32].
وهكذا أصبح مفهوم الشبكات في المدونّة السان سيمونية تقنية ورمزاً للوحدة الإنسانية، ومحركاً للسلام العالمي؛ لذلك اعتبر ميشال شوفالييه أنّ الشبكات التقنية الاتصالية تؤمن الانتقال من حالة الصراع إلى حالة الوحدة[33]. يقول ميشال شوفالييه: «... تبدو السكك الحديدية، في عيون من يؤمن بأنّ الإنسانية تتجه نحو الوحدة الكونية، الرمز المثالي لهذه الوحدة الكونية... ستغيرّ السكك الحديدية من ظروف الوجود الإنساني... إنّ مدّ الشبكات على مستوى العالم والبواخر في البحار بمثابة الثورة الصناعية والسياسية التي سيعرفها العالم...»[34].
اعتبر السان سيمونيون، وعلى رأسهم ميشال شوفالييه، أنّ الانتقال من مرحلة الهيمنة إلى الوحدة، في إطار علاقة الشعوب بعضها ببعض، لا يمرّ إلا عبر مدّ الشبكات الاتصالية، وذلك لتحقيق مبدأ الوحدة الإنسانية؛ لأنّ مدّ هذه الشبكات حول المتوسط هو السبيل الأمثل لتجاوز مسألة الهيمنة والرغبة في السيطرة إلى مرحلة الحوار والتوحد لتحقيق الأهداف المشتركة[35]. وبالتالي لا تصبح هذه الشبكات مجرد تقنية ربط واتصال، بل منظومة اقتصادية وسياسية وخاصة إنسانية هدفها توحيد الشعوب، وصنع السلام الدائم، وإرساء ثقافة الحوار بين الشعوب[36].
وقد وظّفت فلسفة الشبكات الاتصالية في المدونّة السان سيمونية للمرور من حالة الحرب والصراع إلى التوحدّ والتنسيق في علاقة الشعوب بعضها ببعض، وخاصة علاقة جزأي العالم القديم، أي الشرق والغرب. يقول ميشال شوفالييه Michel Chevalier: «... إنّ أكبر وأطول صراع دموي عرفته البشرية طوال تاريخها أفقدها آلاف الطاقات والإمكانيات، هو الصراع بين الغرب والشرق... لصنع السلام لا بدّ من توحد الشرق والغرب ومصالحتهما... مصالحة الروح بالمادة... سيصبح المتوسط فراشاً يجمع الشرق بالغرب، بدلاً من ساحة حروب وسفك للدماء...»[37].
وبالتوازي مع مقالات ميشال شوفالييه، فقد دعا المهندس السان سيموني هنري فورنال Henri Fournel [38] إلى إنشاء عدد من الخطوط الحديدية، تبدأ من رؤوس الخلجان والأذرع المتفرعة من البحر المتوسط، وتتبع هذه الخطوط الحديدية الأودية والأنهار نحو قلب القارّة الأوروبية، وذلك بالتناغم مع شق القناة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر. وذلك بهدف توحيد جزأي العالم القديم، وللتأكيد على أهمية التفاعل بين الثقافات لتحقيق السلام في المتوسط، وللكشف عن القيم المشتركة بين الثقافات، وضرورة التعايش بينها للحيلولة دون التحارب والصراعات وما ينجم عنها من حروب ونزاعات[39].
بالإضافة إلى ذلك فإنّنا نجد صدى هذه الأفكار في أعمال عدد من أتباع سان سيمون مثل إسماعيل إيربان[40] والأثنوغرافي قيستاف ديتشال Gustave D’Eichtal اللذين حضَّا -في كتابهما (رسائل حول العرق الأبيض والعرق الأسود) Lettres sur la race noire et la race blanche الصادر سنة 1838- إلى احترام الأجناس المختلفة لأنّهما اعتبرا أنّه لا وجود لأجناس راقية وأخرى وضيعة. كما حلما بعقد مصالحة وتعايش بين الأعراق (العرق الأبيض والعرق الأسود) داخل المستعمرات الفرنسية بالجزائر، وذلك خاصة بعد القضاء على العبودية[41]. كان إسماعيل إيربان يراهن على التوفيق بين الأعراق والأجناس والديانات من خلال الدعوة إلى إحلال العقيدة السان سيمونية التي كانت دعوتها عالمية وقائمة بالأساس على تحقيق السلام في العالم وعلى الوحدة بين الشرق والغرب.
وكانت صحيفة الجلوب Le Globe الناطقة باسم المدرسة السان سيمونية قد نشرت خلال الأشهر الأولى من سنة 1832 عدداً من المقالات التي تنادي بالاتحاد بين العالمين الشرقي والغربي، عندما أبدت اهتمامها على وجه الخصوص بالبحر المتوسط وبشقّ قناة تربطه بالبحر الأحمر، وهي قناة السويس التي كان السان سيمونيون يعتبرونها ضرورية حتى تستطيع دول الغرب نشر الحضارة في مختلف أنحاء الشرق[42].
وبما أنّ مصر هي البلد الذي يربط الشرق بالغرب، إذ تجاور البحر الأبيض المتوسط الذي تطلّ عليه أوروبا من جهة والبحر الأحمر الذي تبدأ عنده آسيا من جهة أخرى، فقد اتجه أنفانتان باهتمامه إلى مصر لإعادة بعث مشروع كان قد فكر فيه أستاذه سان سيمون، مشروع شق قناة في السويس لربط البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. غير أن فشله في إقناع محمد علي باشا[43] بجدوى هذا المشروع لم يمنعه من إنشاء شركة دراسات قناة السويس التي أنتجت الدراسات التي سمحت لفرديناند دي ليسبس Ferdinand de Lesseps بشقّ هذه القناة ليتمّ الاحتفال بتدشينها في 16 نوفمبر 1869 [44].
ولكنّ الدعوة الأبرز في فلسفة الشبكات الاتصالية التي أثرت آنذاك في الرأي العام الفرنسي والعالمي هي نظام المتوسط للمهندس السان سيموني ميشال شوفالييه، الذي اعتبر أنّ الوحدة بين الشعوب التي تعيش على ضفاف المتوسط ستكون الخطوة الأولى نحو الوحدة العالمية. ويعد هذا المشروع تتويجاً لفلسفة الشبكات التي طرحها سان سيمون. وكان شوفالييه قد طرح على أعمدة الصحيفة الناطقة باسم المدرسة السان سيمونية الجلوب Le Globe المشروع الذي أطلق عليه اسم نظام المتوسط في الفترة الممتدة من 20 يناير إلى 12 فبراير 1832، وهو عبارة عن سلسلة من المقالات التي تدافع عن فكرة الوحدة بين الشرق والغرب وإقرار السلام وإرساء دعائم الحوار بين حوضي المتوسط، وقد جمعها في نشرية حملت عنوان نظام المتوسط.
-2-
نظام المتوسط: مشروع كونفدرالية متوسطية لدفع الحوار بين الثقافات
تصوّر المهندس ميشال شوفالييه أنّ البحر المتوسط سيصبح أرخبيلاً كبيراً تتصل جزره فيما بينها عبر شبكة من القنوات الاتصالية، لتحقيق المصالحة بين مختلف شعوبه والرخاء الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، وذلك من خلال رسم مخطّط لربط شعوب الكونفدرالية المتوسطية المزمع إنشاؤها عبر مدّ شبكات السكك الحديدية على طول السواحل لتسهيل نقل البضائع والأشخاص[45].
لقد حاول شوفالييه من خلال هذه المقالات جعل البحر الأبيض المتوسط مجالاً للتنسيق والتفاهم والتوحد، ومحركاً للسلام العالمي بدلاً من أن يكون مسرحاً للحروب والنزاعات، ولذلك اعتبر أنّ الشبكات والتقنيات الاتصالية ستؤمن الانتقال من حالة الصراع والتنافس إلى حالة الوحدة والتناغم والتعاون لتحقيق السلام وإرساء دعائم ثقافة الحوار بين شعوب المتوسط[46].
كان هدف ميشال شوفالييه[47] الرئيس جعل المتوسط فضاء للتعاون واللقاءات السلمية بين الثقافات المختلفة، بعد إنهاء الصراعات والحروب، وتطوير الشبكات الاتصالية، ليكون المتوسط فضاءً واسعاً للاتصال، ولتنقل البضائع والأشخاص والأفكار[48]. وذلك في محاولة لمقاومة كل أشكال اللاتفاهم التي قد تؤدي إلى حصول التوترات والصراعات والحروب، ولإحلال التعايش بين مختلف ثقافات المتوسط. ويقول في هذا الشأن: «... بإمكاننا اعتبار المتوسط جزر كبيرة لا بدّ من التفكير في جعلها متصلة بشبكة من السكك الحديدية لنقل الأشخاص والبضائع الخفيفة مقابل تكفل البواخر بنقل البضائع الثقيلة؛ لانّ ذلك وحده الكفيل بنقل الخبرات والتجارب، وتامين مناخ ملائم للاطلاع على ثقافة الآخر والنهل منها في كنف الاحترام المتبادل...»[49].
وكان ميشال شوفالييه قد أعلن في مقاله الصادر بصحيفة الجلوب Le Globe بتاريخ 12 فبراير 1832 عن مشروع لإقامة شبكة اتصالية تربط بين ضفتي المتوسط، عندما ذكر أنّ التوفيق بين مصالح الغرب والشرق يعتبر خطوة أولى في سبيل تحقيق الوحدة والسلام العالميين، ومن ثمة يتعدّى هذا المشروع مستوى الكونفدرالية الأوروبية الذي طرحه سان سيمون في كتابه حول إعادة تنظيم المجتمع الأوروبي سنة 1814، وذلك عبر إقرار الاحترام المتبادل بين الثقافات والحضارات بدل إذكاء روح الصراع والهيمنة القائمة على فكرة المركزية الغربية لتحلّ محلها فكرة الكونية أو العالمية الإنسانية، يقول ميشال شوفالييه في نظام المتوسط: «... بإمكاننا اليوم العمل على تحقيق السلام داخل فضاء المتوسط، وذلك بمزيد احترام الاختلافات الثقافية، والتواصل بين الحضارات المتوسطية، لدفع المبادلات التجارية، ولإحلال السلام، ودعم الحوار...»[50].
في هذا الصدد يمكن اعتبار مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، الذي رأى النور سنة (2008)، والذي حاول أن يجمع بين ضفتي المتوسط، تجسيماً لحلم يجد جذوره في المشروع الذي طرحه ميشال شوفالييه في نظام المتوسط[51] سنة 1832. إذ يعود مشروع إقامة اتحاد متوسطي يجمع بين جميع دول حوض البحر الأبيض المتوسط إلى أفكار ميشال شوفالييه الذي يقدّم تصوراً يقوم على الندية والمساواة من حيث المساهمة والتكامل بين جزأي العالم القديم.
وقد شخّص ميشال شوفالييه المتوسط وجعل منه جسماً حيًّا تتواصل أعضاؤه بحركة طرائق الاتصال والشبكات الاتصالية كتنقل الدم في شرايين الجسم البشري[52]. لقد اعتبر شوفالييه أنّ الوحدة بين الشعوب التي تعيش على ضفاف المتوسط ستكون الخطوة الأولى نحو الوحدة العالمية، والأداة الرئيسية لهذه الوحدة ستكون السكك الحديدية التي اعتبرها رمزاً للوحدة: «... يجب أن يكون كل الكون لأناس متآخين لهم هدف واهتمام واحد هو الاستغلال الكامل والمنهجي للكوكب...لا بدّ من الانطلاق في ذلك عن طريق دعم التجارة الدولية بمدّ شبكات السكك الحديدية... بفضل سهولة حركة الاتصال ستتنقل المنتجات الصناعية والاختراعات والاكتشافات والأفكار بسرعة كبيرة كما ستتدعم علاقات الإنسان بالإنسان...»[53].
وقد وضع ميشال شوفالييه في نظام المتوسط ملامح الشبكات الاتصالية العالمية من خطوط حديدية وقنوات ومسالك بحرية. ولما كانت الشبكات الحديدية عند السان سيمونيين هي النواة الأولى للتألية ولتحقيق الحلم الكسموبوليتي، فقد حاول ميشال شوفالييه رسم مخطط عام لشبكة السكك الحديدية في أوروبا وإفريقيا وهي تقريبا المشاريع نفسها التي أنجزت فيما بعد[54]. كما أكدّ ميشال شوفالييه أنّ السلام العالمي يمرّ عبر إقرار سلام دائم بين شعوب المتوسط بين الشرق والغرب وقد تخيّل شوفالييه إعلان سلام مماثل لمعاهدة ويستفاليا Westphalie التي وضعت حدًّا لحرب الثلاثين وهي آخر الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا، ويتماهى مشروع شوفالييه للسلام المتوسطي في نقاط كثيرة مع مشروع كانط نحو السلام الدائم في أوروبا[55].
وقد دعا ميشال شوفالييه في إطار مشروع الكونفدرالية المتوسطية، التي حدّد خطوطها الكبرى في نظام المتوسط، إلى توجيه حملة إلى مصر لتحقيق اللقاء بين الشرق والغرب، لأنّه كان يعتقد أنّ الولادة الجديدة لأوروبا المرهقة بفعل الحروب وفشل الثورات الاجتماعية والمقولات الليبرالية لن تتحقق إلا إذا انفتحت على حضارات أخرى وتوحدّت معها، لتحقيق الوحدة الإنسانية الكونية، وإشاعة قيم الحق والعدل والمساواة والقيم الإنسانية بين مختلف الشعوب[56].
إذ أكد ميشال شوفالييه أنّ التوفيق بين مصالح الغرب والشرق يعتبر خطوة أولى في سبيل التعاون لنشر السلام العالمي، لذلك دعا إلى إنشاء شبكات اتصالية متنوعة وعلى الخصوص شق قناة تصل بين البحرين المتوسط والأحمر. كما أكدّ ميشال شوفالييه في نظام المتوسط أن مصير أوروبا الاقتصادي والسياسي يتحدّد في المتوسط البحر المشترك بين الشرق والغرب[57].
وقد دعم عدد من السان سيمونيين فكرة نظام المتوسط لميشال شوفالييه ومن بينهم أوغست كولان Auguste Colin، الذي أكدّ أهمية الشبكات الاتصالية للربط بين مرسيليا والإسكندرية بخطّ سريع يضمن تجاوز المسافة في ستة أيام من الإبحار، وقد ورد ذلك بمقالة له بمجلة العالمين Revue De Deux mondes الصادرة بتاريخ 1 يناير 1839، إذ أبدى أوغست كولان Auguste Colin ابتهاجه بتحوّل مصر إلى مركز تجاري متنوع ومتعدد الجنسيات، بفضل التشجيع على الاستثمار التي أقرّه محمد علي باشا في إطار مشاريعه التحديثية التي ساهم فيها التجار والخبراء الأوروبيون والأقباط والشراكسة واليهود[58]. يقول أوغست كولان Auguste Colin: «... لقد تكوّن بمصر عالم تجاري كوسموبوليتي سيمكن من إنشاء شبكة من المواصلات مثل القنوات أو السكك الحديدية بين أوروبا والهند... لا بدّ من دعم مشاريع هذا الصناعي الكبير لتوحيد جزأي المتوسط...»[59].
كان أتباع سان سيمون يرون في الشرق مجالاً لتطبيق فكرة الوحدة الإنسانية، وإطاراً مناسباً لإنجاز المشاريع الصناعية العالمية الكبرى التي طالما حلموا هم وأستاذهم بتحقيقها[60]. كما مثلّ الشرق والغرب في الفلسفة السان سيمونية ثنائية المادة والروح، ولذلك فإن توحيدهما هو توحيد للمادة والروح وللعلم والصناعة[61].
فقد اعتقد الأب أنفانتان Enfantin أن الشرق سيمكن الغرب من البعد الروحي الذي فقده، في حين يؤمن الغرب الجانب التقني والعلمي الذي يفتقر إليه الشرق، ليكون زواج الروح والمادة وزواج النظرية والتطبيق، وكل ذلك بهدف تحقيق الوحدة الإنسانية وإحلال السلام.
كما أنّ فكرة التقدم، التي تقوم عليها الفلسفة السان سيمونية الإنسانية، تفرض قانون الانسجام بين عالمي المادة والروح أي بين الشرق والغرب. ولذلك كان الأتباع يعتقدون أنّ المصالحة الروحية بينهما ستغير الحياة المادية في الكون باتجاه الوحدة والسلام والتقدم[62]. يقول أنفانتان:
«... أي مشهد ستصنعه الإنسانية على ضفاف المتوسط عندما يحلّ التواصل السلمي بين أوروبا وإفريقيا وآسيا بدلاً عن الصراع وسفك الدماء... سيكون مشهد اكتمال الوحدة الإنسانية رائعاً...»[63].
وهكذا أراد الأتباع أن تكون حملتهم على مصر مجالاً لتطبيق أبرز أركان مذهبهم الاجتماعي، وعلى الأخص فكرة العمل الصناعي المنتج، وذلك خاصة بالنجاح في ربط الشرق بالغرب عبر شقّ قناة السويس، وهي الهدف الرئيسي الذي حدده الأتباع بزعامة الأب أنفانتان Père Enfantin، إذ أراد أن يجعل من الرحيل إلى مصر تطبيقاً عمليًّا لأفكار المدرسة السان سيمونية حول الوحدة العالمية. يقول أنفانتان: «... ستكون قناة السويس مجال عملنا، سوف نحقق ما ينتظره منا العالم لكي يعترف بنا كرجال... لسنا رجالاً يطالبون بملايين الجنيهات، كما هو الحال بالنسبة للمهندسين الأنجليز، إننا عمال يعيشون على الكفاف وكل هدفنا أن يصبح هذا العمل العالمي حقًّا ميداناً للحماس والتضحية لا يقل بحال من الأحوال عن ميدان القتال، وأن النصر يجب أن يكون حليفنا، نحن، جنود السلام...»[64].
وقد استقر رأي السان سيمونيين على الرحيل إلى الشرق لإطلاق أكبر المشاريع الإنشائية والعمرانية ليقوى بفضلها مركز فرنسا في العالم. ومن أهمّ هذه المشاريع شق قناة تربط بين البحرين المتوسط والأحمر، إذ كان من المنتظر أن يعود هذا المشروع بالنفع الكبير على تجارة العالم بأسره، وأن تستفيد كل الأمم من شق مثل هذه القناة بقيادة فرنسا، التي كانت قد تأثرت من تحول التجارة الشرقية إلى طريق رأس الرجاء الصالح، فتراجعت الحركة التجارية بموانئها المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، وعلى وجه الخصوص ميناء مرسيليا، ولم يكن في استطاعتها الاستمرار في منافسة أنجلترا بالاعتماد على الطريق البرّي عبر مصر بين أوروبا والشرق، وذلك لأنّ مرور التجارة عبر مصر كان يكلّف فرنسا نفقات كثيرة في التفريغ وإعادة الشحن والنقل إلى الإسكندرية[65]. ولذلك كان الأتباع يولون هذا المشروع أهمية خاصة؛ لأنّ النجاح في إنجازه سيغير من صورتهم داخل فرنسا[66].
ومن سجنه في سان بلاجى Sainte-Pélagie بباريس، حيث كان الأب أنفانتان يقضي فترة عقوبة بالسجن بعد محاكمته من قبل الحكومة الفرنسية إلى جانب ميشال شوفالييه وهنري ديفرييه، بتهمة «القيام بأعمال مضرّة بالنظام السياسي والاجتماعي القائم وتشويه القيم الأخلاقية»[67]، انبثقت فكرة الرحيل إلى الشرق، لجمع شمل الأتباع من جانب، ولمحاولة تطبيق مبادئ المذهب الاجتماعي للمدرسة السان سيمونية من جانب آخر، وخاصة فكرة توحيد جزأي العالم القديم، أي الشرق والغرب. وقد أعرب بروسبير أنفانتان Prosper Enfantin في إحدى رسائله بتاريخ 8 أوت سنة 1833 إلى إيميل بارو Emile Barrault عن اعتقاده بوجوب قيام الجماعة بشقّ قناة بين البحرين المتوسط والأحمر لتصل أوروبا بالهند والصين، على أمل أن يؤدي نجاحهم في حفر هذا الطريق المائي إلى اعتراف العالم بقوتهم وبمقدرتهم[68].
وقد تناول السان سيمونيون مشروع القناة بين البحرين المتوسط والأحمر في كتاباتهم ومقالاتهم التي كانوا ينشرونها في الصحف قبل السفر إلى مصر وبعد العودة منها، ففي العدد الثاني من صحيفة المنتج Le Producteur نشر دوبوشيه مقالاً عن دور وسائل المواصلات، ومنها القنوات المائية، في تسهيل نقل المنتجات الصناعية وانتشار المخترعات والأفكار بين مختلف الشعوب وخاصة قناة السويس[69]. أما بروسبير أنفانتان فقد أعرب في إحدى رسائله إلى أحد أتباعه إيميل بارو Emile Barrault عن اعتقاده بوجوب قيام الجماعة بشقّ قناة بين البحرين المتوسط والأحمر لتصل أوروبا بالهند والصين. وذلك بهدف ربط العالمين الإسلامي والمسيحي، يقول أنفانتان: «... يقع على عاتقنا أن نشق بين مصر وفلسطين طريقاً جديدة لتصل أوروبا بالهند والصين، ولسوف نشق بعدئذ طريقاً آخر في بناما، وبذلك نضع أحد قدمينا في بلاد النيل والآخر في بيت المقدس، في حين يمتد ذراعنا الأيمن إلى مكة ويصل ذراعنا الأيسر إلى روما، إن السويس هي مركز حياتنا العملية، وفيها سوف ننفذ العمل الذي ينتظره العالم منا لكي نثبت قوتنا وشدة بأسنا...»[70].
وهكذا بدأ بروسبير أنفانتان Prosper Enfantin بتوجيه الدعوة إلى أتباعه المخلصين للتوجه إلى الشرق بقصد توحيد نصفي العالم الغربي والشرقي، ووضع مشروع نظام المتوسط لميشال شوفالييه موضع تطبيق. وقد سعى الأتباع إلى تحقيق حلم الأب أنفانتان وكان الكاتب ايميل بارو Emile Barrault أكثرهم حماساً لهذا المشروع خاصة وأنّه قد سبق له أن أثار الدور الذي يمكن أن يلعبه السان سيمونيون لتحقيق المصالحة بين الشرق والغرب: «... علينا اليوم العمل على توحيد الشرق والغرب، هذا الثنائي القديم المتكوّن من المادة والروح...»[71].
خاتمة
تكمن أهمية مقاربات المدرسة السان سيمونية في الجمع بين مقولات الاقتصاد السياسي والنظريّات الاتصالية الحديثة لتحقيق فكرة الوحدة العالمية[72]. وذلك عبر مدّ جسور الاتصال بين الثقافات المختلفة، وتسخير كلّ الطاقات والإمكانات للاتصال بالآخر مهما نأى به المكان.
ولذلك يمكن اعتبار مشروع نظام المتوسط لميشال شوفالييه قد حقّق نوعاً من الجمع بين النظرية التقنية الاتصالية والمقولات الاقتصادية السياسية، ولكن في إطار مختلف لما أسّس له الاستشراق الكلاسيكي فيما بعد، أو المشاريع الكولونيالية القائمة على إقصاء الآخر؛ لأنّ هذا المشروع يقوم بالأساس على الاتصال بثقافة الآخر، والنهل من خصوصياته السوسيوثقافية، في إطار حوار ثقافي متكافئ، وذلك من أجل عالم جديد يسوده الرخاء والعدل والمساواة والسلام لجميع البشر، وذلك بإقامة حضارة إنسانيّة عالميّة قائمة على الديمقراطية والمساواة بدل تهميش الآخر[73].
ولذلك فإنّ السان سيمونية التي نجدها في جذور العولمة بمقارباتها الحديثة، كمحطة تأسيسية في تاريخ الفكر الإنساني الحديث، لا تزال مشروعاً قائماً للتفكير في طرائق الاتصال بين الثقافات والحضارات، خاصة في ظلّ فتوحات العولمة المدعومة بثورة الاتصالات، ولكن في إطار احترام الخصوصيات الثقافية المتمايزة بين الشرق والغرب[74].
ويعتبر شعار احترام الخصوصيات الحضارية واحترام التعدديّة الثقافية الذي رفعته المدرسة السان سيمونية عنصراً أساسيًّا في رفض العولمة الثقافية القائمة على الهيمنة بأشكالها المختلفة لتحقيق شراكة عالمية متكافئة، ولذلك فقد ابتكر دعاة الحفاظ على الخصوصيّة الثقافية مصطلحاً جديداً يقدّم صورة أكثر إيجابية، وهو مصطلح التعددية الثقافية، الذي يعني أنّ التقارب الحاصل في ظلّ العولمة بين الهويات الثقافية أمر لا اعتراض عليه من حيث المبدأ، ولكن ينبغي أن يكون في إطار تكريس استقلالية الهويات الثقافية وخصوصياتها[75].
إنّ إثارة موضوع التعددية الثقافية كواقعة جديدة في عصر العولمة تأتت من لحظة استخدام وسائل الإعلام والاتصال التي وضعت الإنسان في مقابل الإنسان، ووضعت هوية الأنا في مقابل هوية الآخر، للبحث عن سبيل للعيش معاً والتعايش في ظلّ الحوار، عبر توفير مجال جديد تفصح فيه كل الشعوب، مهما اختلفت أصولها التاريخية وتطلّعاتها المستقبلية، عن ذاتيتها وثقافتها وسلوكها الحضاري نحو الأنا ونحو الآخر أيضاً[76].
[1] Émeric Crucé, Le nouveau Cynée: ou, discours d›état: représentant les occasions et moyens d›établir une paix générale et liberté du commerce par tout le monde, I. Villery, 1623.
[2] Cf. Rachida Tlili, « La présence de la Turquie dans les projets de paix universelle de l’abbé de Saint Pierre » dans L’Abbé de Saint-Pierre, Perspectives contemporaines colloque international des 25-27 septembre 2008. CCIC Cerisy la Salle- Université de Caen.
[3] Voir Immanuel Kant, Projet de paix perpétuelle, Edition bilingue, traduction de J.Gibelin, Paris, Librairie philosophique J.Vrin, 2002.
[4] Charles Fourier, «L’Harmonie universelle », Bulletin de Lyon, 11 frimaire 1803, reproduit dans la publication des manuscrits, t. I, pp. 52 - 53.
[5] كارل ماركس وفريدريك أنقلز، بيان الحزب الشيوعي، القاهرة، دار الجمل للنشر والتوزيع والإعلان، 2000.
[6] كلود هنري دو سان سيمون، (1760-1825)، فيلسوف و مفكر فرنسي، نظرّ لفكرة الإنسانية الكونية ولتحقيق السلام العالمي وذلك بعد ربط أجزاء العالم بشبكات اتصالية (قنوات مائية وشبكة حديدية)، من أهم مؤلفاته: «المسيحية الجديدة» و«رسائل من مقيم بجنيف إلى معاصريه». لمزيد التفاصيل انظر:
Hubbard M.G., Saint Simon, sa vie et ses travaux, suivi de fragments des plus célèbres écrits de saint Simon, Guillaumin, Paris, 1857 ; Charlety Sébastien, Histoire du saint-simonisme (1825 - 1864), Paris, Editions Gonthier, 1931, Pereire Alfred, Autour de Saint-Simon, Documents originaux, librairie spéciale pour l’histoire de France, Paris, Honoré Champion, 1912 ; Janet Paul, Saint- Simon et le saint-simonisme, Paris Librairie Germer Baillière, 1878, D’Allemagne Henry- René, Les saints- simoniens, 1827 - 1837, Paris, Grund, 1930.
[7] Pierre Musso, Le vocabulaire de Saint Simon, Paris, Ellipses, 2005, pp.52-53.
[8] Ibid, p.59.
[9] Ibid, p. 52.
[10] ميشال شوفالييه: (1806-1879)، خريج مدرسة الهندسة بباريس دورة 1823 مختص في المناجم، كان في الخامسة والعشرين من عمره عندما ترك وظيفته تلبية لنداء أنفانتان الذي أراد أن يجعل منه صحافيًّا، ومبشّراً بالعقيدة السان سيمونية، عمل مدرساً في كوليج دو فرانس ومستشاراً لنابليون الثالث. تمكن من الحصول على منحة من الحكومة للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية من جانفي 1834 إلى نوفمبر 1835 لدراسة التقنيات والشبكات الاتصالية بالولايات المتحدة، وقد ضمّن نتائجه في كتابه الصادر سنة 1836 بعنوان: رسائل حول أمريكا الشمالية lettres sur l’Amérique de Nord سنة 1836، وهو خلاصة للرسائل التي كتبها لصحيفة Journal des débats أثناء تواجده بالولايات المتحدة الأمريكية. انتخب شوفالييه سنة 1845 نائباً في البرلمان الفرنسي، وتزوج من ابنة أحد الأعيان، وهي إيما فورنييه Emma fournier. ساند نابليون الثالث الذي عينه مستشاراً، وتمكن من دخول مجلس الشيوخ سنة 1860. كما دعم أفكار نابليون الثالث الاقتصادية، وكان له دور بارز في تشجيع الإمبراطور على إمضاء اتفاقية التبادل الحرّ التجاري مع أنجلترا سنة 1860، وهي الاتفاقية التي كان لها صدى واسع في أوروبا ونسجت عدة دول على منوالها فيما بعد.
[11] Claude Henri de Saint Simon et Prosper Enfantin, op.cit, t XV, pp.244 - 245.
[12] Pierre Musso, Télécommunications et philosophie des réseaux, La postérité paradoxale de Saint- Simon, Paris, PUF, 1998, p. 15.
[13] Pierre Musso, Saint Simon et le Saint-simonisme, Paris, PUF, 1999, p. 80.
[14] Ibid, p. 78.
[15] محمود صالح منسي، «أتباع سان سيمون ونشاطهم في مصر (1833-1836)»، المجلة التاريخية المصرية (القاهرة).- مج 17، ع1.- ، ص. 71.
[16] حصلت الشركة الجغرافية بباريس وعلى رأسها فردناند دي ليسبس على رخصة العمل في هذا المشروع الكبير بمبلغ قدره عشرة ملايين فرنك، وقد افتتحت القناة سنة 1819.
[17] الجلوب: صدرت صحيفة الجلوب صحيفة العقيدة السان سيمونية Le Globe, journal de la doctrine saint simonienne يوم 18 جانفي 1831، وقد تغيرّ عنوانها أكثر من مرة خلال فترة صدورها الممتدة من 11 نوفمبر 1830 إلى 20 أفريل 1832.
[18] Jacques Lajard De Puyjalon, L’influence des Saint-simoniens sur la réalisation de l’Isthme de suez et des chemins de fer, Paris, Librairie de Jurisprudence ancienne et moderne, 1926, p.25.
[19] Le Producteur, op.cit, 22 septembre 1825, Paris, p. 406.
[20] Sébastien Charlety, op.cit, p. 36.
[21] Exposition de la doctrine saint simonienne, première année, 1829, Paris, au bureau de l’Organisateur, 1830, quatrième séance, p.109.
[22] Pierre Musso, Télécommunications et philosophie des réseaux, La postérité paradoxale de Saint-Simon, op.cit, p. 91.
[23] Armand Mattelart, Histoire de l’utopie planétaire, de la cité prophétique à la société globale, Paris, la Découverte, 1999, p. 151.
[24] Exposition de la doctrine saint simonienne…, op.cit, première année 1829, quatrième séance, p. 35.
[25] Jacques Lajard De Puyjalon, op.cit, p. 110.
[26] Armand Mattelart, Histoire de l’utopie planétaire …op.cit, p. 125
[27] Jean Pierre Alem, Enfantin : le prophète à sept visages, Paris, Jean Jacques Pauvert, 1963, p.221.
[28] Michel Chevalier, Le Globe, 12 février 1832.
[29] Michel Chevalier, Ibid.
[30] Michel Chevalier, Lettres sur l’Amérique de Nord, t. II, Paris, Gosselin, 1836, p.3.
[31] Ibid, pp.18 - 19.
[32] Michel Chevalier, Cours d’économie politique fait au collège de France, Paris, 1842, leçon 15, p. 378.
[33] Pierre Musso, Saint et le Saint simonisme…op.cit, p. 109.
[34] Michel Chevalier, Le Globe, 12 février 1832.
[35] Pierre Musso, Saint Simon et le Saint simonisme…op.cit, p. 108.
[36] Le Globe, 12 février 1832.
[37] Michel Chevalier, Le Globe, 15 février 1832.
[38] هنري فورنال (1799-1876)، التحق بالمدرسة الهندسية بباريس سنة 1820 مهندساً مختصًّا في المناجم وقد عرف خاصة بوضعه لمخطط شبكة السكك الحديدية بمدينة باريس، وقد استقال من عمله وهو في أوّج نجاحاته ليتفرغ كلّيا لنشر مبادئ المذهب السان سيموني، وذلك بداية من سنة 1828، من خلال الإسهام في كتابة عدد من المقالات في الصحيفة الناطقة بلسان السان سيمونية الجلوب Le Globe، وإلقاء عدة محاضرات دعائية للمدرسة، وقد قاد هنري فورنال إلى جانب أنفانتان الأتباع، بعد سنة 1832، نحو المرحلة التطبيقية في تاريخ المدرسة السان سيمونية وذلك بالانخراط في المشاريع الرأسمالية، وهو ما تدعم خلال تجربة الجزائر الاستعمارية.
[39] Le Globe, 12 février 1832.
[40] توماس إيربان: ولد توماس إيربان بكيان Cayenne في 31 ديسمبر 1812، وقد اختلط بالليبراليين بمرسيليا، وهناك تعرف على المذهب السان سيموني وأعجب بأفكاره، وسافر مع بعثة رفقاء المرأة Les Compagnons de la femme بقيادة الكاتب إيميل بارّو Emile Barrault سنة 1833 إلى إسطنبول. كما كان من أول الواصلين إلى مصر التي عمل فيها مدرساً بمدرسة المدفعية. أما في الجزائر فقد تزعّم الشقّ الاشتراكي داخل المدرسة السان سيمونية الداعي لإحلال السلام المناقض للشقّ الرأسمالي بقيادة الأب أنفانتان.
[41] Gustave d› Eichthal, Ismayl Urbain, Lettres sur la race noire et la race blanche, Paris, Bibliothèque royale, 1839, pp. 40 - 49.
[42] Le Globe, 12 février 1832.
[43] كان محمد علي باشا يعتقد أن مشروع القناطر الخيرية سيعود بالفائدة على مصر، أما مشروعي السكك الحديدية ومشروع قناة السويس فإن الدول الأوروبية تسعى إليها من أجل فائدتها وتدعيم مركزها في الشرق، إذ تعارض أنجلترا فرنسا بمشروع السكة الحديدية وتعارض فرنسا أنجلترا بمشروع القناة. ولذلك أيقن محمد علي باشا أنه لو فضل أحد المشروعين على الآخر فإنه لا بد أن يغضب إحدى الدولتين. كما يمكن تفسير تردّد هذا الأخير في قبول مشروع القناة بالأحداث التي دارت على الساحة العالمية آنذاك، ورغبته في الحفاظ على استقلالية مصر والتخلص من التبعية التقنية والعلمية لأوروبا عامة ولفرنسا خاصة.
[44] عندما انتهى العمل في قناة السويس، بدأت مصر تستعد لحفلات افتتاح القناة، وقد تمت دعوة ستة آلاف من شخصيات العالم على نفقة الخزانة المصرية التي كانت ترزح تحت طائلة الديون الأجنبية. وقد حضر حفل الافتتاح، في 16 نوفمبر 1869، إضافة إلى ساسة أوروبا، شخصيات دولية عديدة، كما حضره عدد من الشيوخ المصريين مثل الشيخ مصطفى العروسي، والشيخ إبراهيم السقا، والأمير محمد توفيق ولي العهد، والأمير طوسون نجل محمد سعيد باشا، وشريف باشا، ونوبار باشا، والأمير عبد القادر الجزائري. وكان الوفد الفرنسي الحاضر في افتتاح القناة الأكثر عدداً، حيث ضمّ 275 شخصاً، وكانت جميع المؤسسات الفرنسية ممثلة في هذا الوفد، مثل المعهد الفرنسي الكوليج دي فرانس Collège de France، الهيئة القضائية الفرنسية والجيش الفرنسي، وكذلك بعض المدارس مثل كلية سان سير العسكرية ونادي الفروسية، وحوالي اثنتي عشر صحيفة ومجلة فرنسية. ولكن الملاحظ أنّ السان سيمونيين لم يدعوا إلى حفل الافتتاح.
[45] Le Globe, 15 février 1832.
[46] Pierre Musso, Saint et le Saint simonisme…op.cit, p. 109.
[47] الملاحظ أنّ أفكار ميشال شوفالييه Michel Chevalier حول الاقتصاد السياسي تنسجم مع مسيرته، بدءاً من التكوين الأكاديمي الذي تلقاه في المدرسة الهندسية بباريس، مروراً بالتحاقه بـالمنتج واشتراكه في أفكاره الاقتصادية الهادفة إلى التحوّل من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الصناعي، وصولاً إلى مقالاته بصحيفة الجلوب Le Globe، وخاصة نظام المتوسط Le Système de la Méditerrané، ومدّ شبكات اتصالية كونية، وما لها من نتائج اقتصادية وسياسية متصلة بتوحيد اقتصاديات العالم ومن ثمّة سياسته. كما كانت إقامة ميشال شوفالييه في أمريكا بين سنوات 1833 و1835 فرصة جديدة لتأكيد مقولاته حول دور هذه الشبكات في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية في أوروبا.
[48] Charles Roux, L’Isthme et le canal de Suez, Paris, Hachette, 1901, p.198
[49] Michel Chevalier, Le Globe, 12 février 1832
[50] Michel Chevalier, Le Globe, 12 février 1832
[51] الواقع أنّه بالرجوع إلى بلورة الاتحاد الأوروبي وأسس سياسته في حوض البحر الأبيض المتوسط، نلاحظ أنه تم دائماً في ظل مبادرة فرنسية ارتبطت في العصر الحديث تاريخيًّا بالمنطقة المغاربية ولبنان وسوريا، ونذكر كيف تم تحديد ما عرف في أدبيات الدبلوماسية الأوروبية بـ«السياسة المتوسطية الشاملة» التي صاغها كلود شيسون وزير خارجية فرنسا سنة 1972، ثم ما تلاها من إطلاق «الشراكة الأورومتوسطية» سنة 1995، وبعدها ما سمى بـ«سياسة الجوار الأوروبية» سنة 2005، قبل الإعلان مؤخراً عن «مشروع الاتحاد من أجل المتوسط» سنة 2007.
[52] Armand Mattelart, L’invention de la communication, Paris, La Découverte, 1997, p. 103.
[53] Michel Chevalier, Le Globe, 12 février 1832.
[54] Armand Mattelart, L’invention de la communication, op.cit., p. 127
[55] Emmanuel Kant, Projet de paix perpétuelle Esquisse philosophiques 1795, traduction Jean Gibelin, Paris, Vrin, 1999.
[56] Philippe Régnier, Les saints simoniens en Egypte…op.cit, p.7.
[57] Ibid, p. 10.
[58] Philippe Régnier, Les saints simoniens en Egypte (1833 - 1851), Le Caire, Amin Abdelnour, 1989, p. 123.
[59] Auguste Colin, Revue de deux mondes, 1 Janvier 1839.
[60] Sébastien Charlety, op.cit, p.219.
[61] Henri René D’Allemagne, op.cit, p.119.
[62] Ibid, p. 121.
[63] Le Globe, 16 janvier 1832.
[64] Claude Henri de Saint sinon et Prosper Enfantin, op.cit, t. XXI, p.108.
[65] Jacques Lajard De Puyjalon, op.cit, p.89.
[66] Charles Roux, op.cit, p.356.
[67] محمود صالح منسي، مرجع سابق، ص. 72.
[68] Lettre d’Enfantin à Barrault, le 08 Août 1833, citée dans, Claude Henri de Saint Simon et Prosper Enfantin, Ibid, t. XXI, p.357.
[69] Jean Walch, « Les Saint-simoniens et les voies de communication », in Culture technique, n° 19, 1989, pp. 285 - 294.
[70] Lettre d’Enfantin à Barrault, le 08 Août 1833, citée dans, Claude Henri de Saint Simon et Prosper Enfantin, Ibid, t. XXI, p.357.
[71] Le Globe, le 16 janvier 1832.
[72] Pierre Musso, Télécommunications et philosophie des réseaux, La postérité paradoxale de Saint-Simon, op.cit, p. 98.
[73] قادري أحمد حيدر، «العولمة ومسألة الهوية، قراءة فكرية ثقافية»، قضايا فكرية، العدد الحادي والعشرون، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2005، ص. 413.
[74] نادية الرياحي، جذور العولمة في الفكر الحديث من خلال السان سيمونية، أطروحة دكتوراه في العلوم الثقافية، المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، جامعة تونس، 2010.
[75] أحمد جاب الله، «الخصوصية الثقافية وموقعها في الحوار بين الحضارات»، مجلة الإحياء، العدد 6، باتنة، الجزائر، 2002، ص. 157.
[76] مجدي فارح، «استقلالية الهويات الثقافية في زمن العولمة»، نشر وحدة البحث الحداثة والأنوار، تونس، الدار العربية للكتاب، 2011.