مدخل إلى الفينومينولوجيا[1]
فرانسواز داستور
ترجمة وتعليق: محمد شوقي الزين*
* كاتب وباحث من الجزائر.
تمثّل الفينومينولوجيا أحد التيّارات الرئيسية في الفلسفة المعاصرة، تأسّست في ألمانيا بداية القرن العشرين مع إدموند هسيرل وتطوّرت مع مارتن هايدغر في إطار الفلسفة الوجودية، وواصلت التأثير في المفكّرين الأوروبيين (أوجين فينك، يان باتوكا)، والأمريكيين (هربرت ماركوز، حنه أرندت، هانس يوناس)، وفي غير الأوروبيين (مدرسة كيوتو في اليابان) طيلة القرن، وخصوصاً في الفلاسفة الفرنسيين، حيث كان الأبرز منهم ينتمي إلى «الحركة الفينومينولوجية»: سارتر، ميرولوبونتي، لفيناس، ريكور، دريدا، إذا ذكرنا الأشهر منهم.
أوّلاً: مؤسّسا الحركة الفينومينولوجية: هسيرل وهايدغر
لقد ظهرت الفينومينولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر، وهو قرن شهد من وجهة نظر فلسفية انهيار النسق الفلسفي الأكثر طموحاً، وهو نسق هيغل (1770-1831)، فيلسوف ألماني توفي سنة 1831، والذي كان يتميّز بإرادة الكشف عن شمولية التاريخ البشري انطلاقاً من مفهوم الروح.
طال هذا الانهيار التصوّر المثالي للعالم حيث ابتدأت نقطة الانطلاق مع بداية القرن الرابع قبل المسيح من طرف أفلاطون (427-347 ق. م) الذي كان يعتبر أنّ العالم الحقيقي ليس هو العالم الحسّي الذي ندركه بالحواس، ولكن عالم الأفكار الذي لا يدركه سوى الفكر.
كان هيغل أيضاً ممثّل تصوّر جديد حول الإنسان ظهر في نهاية القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية التي أحدث قطيعة أساسية في التاريخ. المفكّر الكبير في هذه الفترة كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي كان معجباً بروسو وبالثورة الفرنسية، والذي حدّد تلك الفترة المسمّاة بـ«الأنوار» على أنّها الفترة التي يرتقي فيها الإنسان بالفعل إلى رشده [العقلي]. بينما كان في السابق تحت وصاية الأمراء والكنيسة، فإنّه على ما يشرح كانط وبفضل الثورة الفرنسية استرجع حريته واستطاع أن يفرض حقوقه بشكل عالمي. لقد كانت فرنسا في قلب الثورة السارية آنذاك والتي ساهمت في ميلاد صورة جديدة للإنسان. قبل ذلك، في القرن السادس عشر، وضدّ الرؤية الوسيطية [العصر الوسيط] للإنسان الذي كانت تعتبره كائناً خاضعاً للتراث ويحدّده الاعتقاد الديني، أثبت الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت بمقولته الشهيرة «أنا أفكّر إذن أنا موجود» أنّ الوعي الفردي هو الأساس الوحيد لكل يقين ولكل حقيقة.
بعدما استرجع حريته الجوّانية، فإنّ الإنسان سينطلق نحو استرجاع حريته السياسية بمساعدة الفلاسفة الفرنسيين الذين، على غرار فولتير أو روسو أو ديدرو، كانوا الملهمين الحقيقيين للثوّار.
إنّ الشيء الذين كان ساري المفعول من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر هو عملية تحرّر الإنسان بشكل نهائي ولا رجعة فيه. لكن معكوس هذا التطوّر، وكما يمكن توقّع ذلك، هو التمركز المفرط للإنسان على ذاته، والذي قاده بعد ذلك إلى أن يتصوّر نفسه سيّد الأحداث بلا منازع، وأنّه يريد السيطرة التامّة على الطبيعة.
ففي القرن التاسع عشر تطوّرت قوى الإنسان الغربي عبر التوسّعات الاستعمارية وتقدّم العلوم والتصنيع وتوسّع الديمقراطية. لكن خلال القرن نفسه تمّ إعادة النظر بشكل جذري في الفكرة المثلى التي كان يحوكها الإنسان الحديث حول ذاته. هناك ثلاثة مفكّرين على وجه الخصوص قاموا بإرساء قواعد التفكير المعاصر بنقدهم للصورة المثالية التي كان ينسجها الإنسان حول ذاته، والتي وجدت تعبيرها الأقصى عند هيغل: يتعلّق الأمر بماركس ونيتشه وفرويد. ففي ألمانيا وليس فرنسا تواصل في القرن التاسع عشر تطوّر الصورة الحديثة للإنسان.
لقد أخذ ماركس (1818-1883) على عاتقه، في «الأيديولوجيا الألمانية» الذي كتبه مع إنجلز سنة 1845-46، مهمّة تبيان أنّه خلافاً لما يثبته الفلاسفة المثاليون، ليس الوعي أو الروح هي التي تحدّد كائن الإنسان، ولكن على العكس إنّها الشروط المادّية لحياته التي تحدّد وعيه. يَنتُج عن هذه الرؤية المادّية للعالم التشديد على الشروط الاقتصادية وليس فقط السياسية لحياة البشر، وتهدف إلى التحرّر الكامل، وليس فقط التحرّر الروحي للإنسان الذي يجد نفسه بفعل تطوّر الثورة الصناعية خاضعاً كعاملٍ إلى العبودية الجديدة. لكن يفترض التحرّر الكامل للإنسان أن يتوصّل إلى أن يتخلّص من الأوهام التي يرعاها حول ذاته، وأن يغادر الاغتراب، بمعنى أن يتوقّف عن كونه غريباً عن ذاته، على ما هو عليه في الواقع. بالنسبة لماركس، الاغتراب الخطير الواجب مكافحته هو الاغتراب الديني الذي من خلاله يخضع الإنسان إلى قوّة عليا هي مجرّد فبركة من دماغه.
في العقود القليلة اللاحقة، سيستعيد نيتشه (1844-1900) مشعل النقد بإعلانه بصوت عالٍ موت الإله. سيهاجم هو الآخر بشكل حاسم الفلسفة المثالية ويشدّد على ما يميّز الإنسان في العمق حسب نظره، ليس الروح ولكن ما يسمّيه «إرادة القوّة».
مع نيتشه، ومع ماركس قبله، ستتقلّص المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان. لا ينبغي نسيان التأثير على الأذهان الذي مارسته اكتشافات داروين (1809-1882) الذي بيّن في «أصل الأنواع» (كتاب نشره سنة 1859) أنّ التطوّر البيولوجي للكائنات الحيّة هو سليل الانتقاء الطبيعي الناتج عن «الصراع من أجل الحياة» الذي يجعل كل الكائنات الحيّة في تنافس بينها، بما في ذلك الإنسان نفسه. لا يكتفي نيتشه بإعلان إلحاده، بل يباشر أيضاً في تقويض أسس الأخلاق ذاتها. في «جنيالوجيا الأخلاق» (كتاب نشره سنة 1887)، يُبرز أنّ الأخلاق هي من ابتكار نمط معيّن من الإنسان، إنسان مريض ومُذعن، الذي تخيّل وهم الذات المسؤولة والوعي البائس ليضفي المعنى على آلامه. إنّ الأخلاق التي تدعو إلى نكران الذات والتضحية بحبّ الذات ليست سوى اختلاق تاريخي، «مثالية ملائمة» تكمن بالنسبة للضعفاء في الفضيلة الضرورية وفي تحويل عجزهم الحقيقي إلى تصرّف متسامي. خلافاً لما هو شائع، لم يكن غرض نيتشه هو انتقاص الإنسان إلى مستوى البهيمة-الفريسة، بل يطمح هو الآخر إلى تحرير الإنسان، ويعني بذلك قلب جدول القيم القديم وتأسيس قيم جديدة تتيح تطوّر إنسانية فائقة، قادرة على التصالح مع شرطها المتناهي وإيجاد «معنى الأرض».
يمثّل فرويد (1856-1939) في بداية القرن العشرين الذروة المتقدّمة لهذا النقد في الصورة المثالية للإنسان التي كانت نتيجة التراث الفلسفي الغربي في رمّته. يفسّر فرويد أنّه كانت هنالك ثلاثة جروح كبرى أصابت في الصميم أنانية الإنسان الغربي: اكتشاف كوبرنيكوس أنّ الأرض ليست مركز الكون؛ اكتشاف داروين أنّ الإنسان ينحدر عن القرد؛ وأخيراً اكتشاف اللاشعور من طرف فرويد نفسه. ما يقدّمه التحليل النفسي كشيء مقلق في العمق، هو الفكرة القائلة بأنّ الإنسان ليس سيّد نفسه، بل تحكمه خُفيةً عنه نزوات لا يسيطر عليها ومن بينها ما يتباهى بها أكثر، وعنيتُ قدرته التفكيرية وحريته في الاختيار، التي هي في الحقيقة مجرّد أوهام. لم يكن فرويد عدميًّا، ليس أكثر من نيتشه، وعلى غرار هذا الأخير، كان يحاول كمعالج شفاء الإنسان من أوهامه. يهدف العلاج في التحليل النفسي إلى أن يعيد للوعي، للأنا، السيطرة على القوى غير العقلانية التي تحكُم الأفعال البشرية.
1- مفهوم الظاهرة
سيرث الفلاسفة في القرن العشرين هذا النقد الثلاثي للأوهام التي يحملها الإنسان بشأنه: المادّية، الإلحاد، نظرية اللاشعور، تلكم هي المذاهب التي ستطغى على تأمّلات المفكّرين البارزين من القرن العشرين، والذين سيحدّدون بعمق الصورة التي يشكّلها الإنسان عن ذاته خلال هذا القرن حيث سيعرف هيجان النزوات المهدّمة للإنسان الذروة.
لكن في سياق بداية القرن العشرين الذي هيمنت عليه الوضعية ورفض الميتافيزيقا، سيظهر تيّار فكري وهو الفينومينولوجيا. مفردة الفينومينولوجيا كانت ظهرت في القرن الثامن عشر في كتابات الفيلسوف الألماني، يوهان هاينريش لامبير (1728-1777)، أحد مراسلي كانط؛ لكن لم تظهر المفردة سوى بشكل عابر عند لامبير، ولا تظهر من جديد ككلمة فلسفية سوى في «فينومينولوجيا الروح» مع هيغل سنة 1807، أي أربعون سنة لاحقاً، لتختفي من جديد وتظهر ثانيةً بقوّة عند هسيرل كما سنرى ذلك.
تتشكّل هذه المفردة من كلمتين إغريقيتين «فاينومينون» (phainomenon) و«لوغوس» (logos). «فاينومينون»، وبالجمع «تا فاينومينا» (ta phainomena)، تنحدر من الفعل «فاينو» (phainô) ويعني أنار، ألمع، أظهر، أرى، حيث الكلمة «فاوس-فوس» (phaos-phôs)، النور، تأتي من الجذر نفسه: الظرف «فاينومينوس» (phainomenôs) معناه: بوضوح أو بجلاء. فالظاهرة هي إذن ما يتبدّى، ما يتجلّى، ما يظهر. بَيْد أنّ «الفعل» التأسيسي لما يسمّيه أفلاطون «فيلوسوفيا» (philosophia) هو التمييز الموجود سلفاً عند بارمنيدس بين ما هو موجود على الدوام، الوجود، الذي لا يتبدّى للعيان؛ وبين ما يتجلّى بشكل متعدّد، وهو الظواهر.
إنّ البحث الفلسفي هو قبل كل شيء مسألة الوجود، أي حول الحقيقة، كما يُبرزه «سيناريو» قصيدة بارمنيدس يحكي فيها سفر المفكّر الذي لا يمكنه اختيار السبيل القويم، وهو الوجود، وعزل طُرُق التيه في العدم وفي المظاهر سوى بمعونة إلهة يكون اسمها صامتاً، والتي يمكن أن تكون الإلهة أليثيا، الحقيقة. التفكير هو إذن التخلّص من المظاهر وتجاوزها نحو ما يؤسّسها ويظل مختفياً.
لقد ورث أفلاطون هذا التمييز البارمنيدي بين الوجود والمظهر، بين ما هو ثابت وما هو متغيّر على الدوام، ومتعدّد بالتالي. ها نحن أمام الأفلاطونية، أي المذهب الذي يُنتسَب إلى أفلاطون، والذي لا يمكن خلطه مع الفكر الحقيقي لهذا الأخير، وهو فكر دقيق، وإلى نظرية التمييز بين عالمين، العالم الحسّي والعالم العقلي، التي ستكون بمثابة الإطار العام للفكر الميتافيزيقي كما تعيّن انطلاقاً من العصر الوسيط، لأنّه يهدف إلى معرفة ما وراء الطبيعي وما لا تُدركه الحواس. سنجد هذا التمييز عند إيمانويل كانط الذي يقابل بشكل أفلاطوني بين الظاهرة، أي الشيء كما هو بالنسبة إلينا ككائنات متناهية وتتمتّع بجسم وبحواس، و«الشيء في ذاته»، الشيء كما هو بالنسبة لكائن لا متناهٍ، وهو الله. ويميّز كانط أيضاً بين الظاهرة والمظهر. الظواهر هي الموضوعات كما تتبدّى للحواس، الأشياء كما هي بالنسبة إلينا، والتي توجد بالفعل. بينما المظاهر لا حقيقة لها، فهي نتاج الخيال ولا تمتلك أيّة حقيقة وليست سوى أوهام تصدُر عن الفكر البشري.
ينبغي فهم أنّ ما يعنيه كانط بالظاهرة هو الشيء كما يُدركه البشر، خلافاً للشيء كما هو بالنسبة لرؤية غير بشرية، مثل الرؤية الإلهية. فالشيء في ذاته بالنسبة إلينا كبشر لا سبيل لنا إليه ولا يمكن التعبير عنه.
كردّ فعل على هذه الثنائية بين نظام الظواهر ونظام الشيء في ذاته التي احتفظ بها كانط، ظهرت عند هيغل فكرة أنّ الكائن الذي لا يظهر هو مجرّد عبث. لقد كان [هيغل] الأوّل من خرج على الأفلاطونية ليبيّن أنّه يمكن خلال تطوّر الوعي البشري إدراك الحقيقة ومعرفة الكائن. لهذا السبب يعطي لكلمة الفينومينولوجيا دلالة إيجابية وهي القسم الأوّل من الفلسفة. باستناده إلى المسيحية وإلى مذهبها في التجسيد الذي يعتبر أنّ الله يتحوّل إلى إنسان ويفقد بالتالي من تعاليه، يعتقد هيغل أنّ «الشيء في ذاته» ينبغي أن يظهر ويتجلّى للبشر إذا أراد أن يكون شيئاً آخر غير الوهم. نجد عنده، وقبل نيتشه، نقد نظرية العالمين.
عمد نيتشه، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى «قلب الأفلاطونية»، أي إعادة الاعتبار إلى عالم الحواس والمظاهر، وتبيان أنّ العالم العقلي هو اختلاق من الفكر البشري. حسب نظره، لا شيء وراء المظاهر، ولا وجود لعالم خلفي هو بمثابة الحقيقة.
هسيرل، الذي كان رياضيًّا، لم يقرأ نيتشه ولا هيغل، ولكن يقع في الوجهة نفسها التي تَعتبر أنّ ما يُدركه الإنسان بحواسه لا يخلو من حقيقة. لهذا السبب سيختار هو الآخر مصطلح «الفينومينولوجيا» ليشير إلى ما يقصده بالفلسفة. يتعلّق الأمر بالنسبة إليه بدراسة ما يتبدّى للوعي والذي يبقى الشيء الوحيد الذي نحن منه على يقين. فهو يرفض أيضاً التمييز الكانطي بين الظاهرة والشيء في ذاته. لا يُدرك الإله الأشياء أفضل منّا، إذ لو كان الأمر كذلك لكنّا نتعامل مع صور ناقصة للأشياء وأنّ إدراكنا لها يفتقر إلى الحقيقة. لكن هذا مجرّد عبث في نظر هسيرل، لأنّ كل ما هو موجود لا بدّ أن يظهر، وكل ما يظهر لا يُبرز الشيء بأكمله، ولكن تدريجيًّا عبر سلسلة من الوجوه أو الجوانب المختلفة.
ينجرّ عن ذلك نتائج هامّة بالنسبة لمفهوم الفينومينولوجيا ذاته كما يوضّح ذلك هايدغر. لا يتعلّق الأمر بأنّ هذا الفرع الفلسفي لا يعالج سوى «المظاهر»، ولا الظواهر بالمعنى الكانطي، والتي تتميّز عن الشيء في ذاته. لا تحيل ظواهر الفينومينولوجيا إلى أيّ كائن من شأنه أن يكون في جوهره خفيًّا ومجهولاً. لكن بوجود فرع معرفي يسمّى الفينومينولوجيا، أي خطاب حول الظواهر أو علم الظواهر، فهذا يقتضي ألَّا نزعم أنّ كل واحد منّا، تبعاً لتجربته العادية، يعرف الظواهر مسبقاً. إنّنا في غالب الأحيان مستغرقون في شؤوننا اليومية بحيث لا نرى الأشياء ولا ندرك منها سوى كونها نافعة لنا. لكي ندرك جيّداً المظهر الخالص للشيء، ينبغي أن نتجاهل فائدته المباشرة، وهو ما يفعله بالضبط الفنّان أو الشاعر أو الفينومينولوجي.
لقد شدّد هسيرل على التماثل بين مواقفهم تجاه العالم، وذلك بـ«وضع بين قوسين» علاقتنا المعتادة بالعالم لنترك الأشياء تتعرّض بذاتها. لكي تكون فينومينولوجيًّا لا يكفي فتح الأعين، ولكن يجب ممارسة نوع من الزُّهد، وهو كلمة تعني في الإغريقية «التدريب». ينبغي أن ندرّب نظرنا، أن نجعله حادًّا أو بصيراً، أن نجعل بين قوسين انشغالاتنا الراهنة لكي نُبرز الأشياء في حقيقتها القصوى. هذا ما يقوم به الرسّام والشاعر والموسيقار الذين يرون ويسمعون ويدركون ما لا يسمعه أو يراه الإنسان العادي.
نفهم لماذا قال أحد كبار الفينومينولوجيين في فرنسا، وهو ميرولوبونتي، الذي اهتمّ كثيراً بالفنّ، بأنّك إذا أردت أن تكون فينومينولوجيًّا، عليك أن «تتعلّم كيف ترى العالم». ليس الفينومينولوجي هو الميتافيزيقي، بمعنى الشخص الذي يفترض وجود كائن مجهول يختفي وراء المظاهر. على العكس، هو [الشخص] الذي يثق في حواسه ويعتقد بأنّ الكائن أو الوجود هو معروف بالضرورة. لكنه يعترف بالمقابل أنّ الظواهر التي لا تتميّز عن الأشياء ذاتها يمكنها أن تكون متعذّرة الإدراك بشكل مباشر، وأنّه يتوجّب اتّخاذ طريقة أو منهج، أي إجراء في الوصول، أو درب[2].
وهو ما سمّاه هسيرل بمنهج «الإرجاع»، والذي يدلّ على تعليق اهتمامنا بالأشياء لندعها تتجلّى كما هي. ينبغي أخذ مصطلح الإرجاع بالمعنى الحقيقي: «رو-دوكيري» (re-ducere)، لا يعني في اللاتينية فقط «اختزال» بمعنى الطرح، ولكن يدلّ أيضاً على «إعادة القيادة» (re-conduire). وهنا يتبدّى طموح الفينومينولوجيا: فهي تريد أن تقودنا من جديد نحو حقيقة الأشياء، وتريد إرجاعنا إلى هذا العالم الذي نحيا فيه، وليس الفرار نحو عالم آخر، متعالي.
2- هسيرل: تصوّر جديد للوعي وللعلاقة بالآخر
وُلد إدموند هسيرل في الثامن من أبريل سنة 1859 في مورافيا (Moravie)[3]، وهي منطقة كانت تشكّل تشيكوسلوفاكيا وكانت وقتئذٍ نمساوية، في عائلة يهودية بورجوازية. درس علم الفلك والرياضيات والفيزياء، ثم الفلسفة، واعتنق سنة 1886 الديانة البروتستانتية، خصّص أول أعماله لفلسفة الرياضيات، وفي سنة 1900 و1901 ظهرت «أبحاث منطقية» حيث يرد فيها مصطلح «الفينومينولوجيا» ليميّز الفرع الفلسفي الذي ينوي الترويج له.
لقد بدأ تأثير فكر هسيرل في الانتشار، وشهدت بداية القرن ميلاد «الحركة الفينومينولوجية» التي كانت تجمع فلاسفة شباب ينتمون إليه. عُيّن سنة 1916 كأستاذ في جامعة فريبورغ. في العشرينيات من القرن العشرين، كان هسيرل يُعدّ من بين أشهر الفلاسفة في ألمانيا: كان الطلبة من كل الأصول يتسارعون لحضور دروسه، ومن بينهم ليس فقط الألمان، ولكن أيضاً اليابانيين والأمريكيين. أحد أهمّ معاونيه هو مارتن هايدغر الذي أصبح مساعده سنة 1919. إنّ التعاون بين هسيرل ومساعديه كان حاسماً لمواصلة أبحاثه، لأنّهم كانوا يعيدون تسجيل مخطوطاته المكتوبة على طريقة الخط المجموع[4] ويهيّئونها للنشر.
اقترح هسيرل اسم هايدغر ليخلفه بعد تقاعده سنة 1928. وقدّم آخر محاضراته سنة 1929، ومن بين آخر طلبته نجد هربرت ماركوز وإيمانويل لفيناس. خلال العشر سنوات الأخيرة، تفرّغ هسيرل كليةً لأبحاثه. لكن بعد سنة 1933، ستتكثّف عزلته. إذا كان مشهوراً ومكرَّماً في الخارج، ففي بلده تمّت «إحالته على الإجازة» ثمّ منعه من التدريس بسبب أصوله اليهودية. توفي وهو مستغرق في العمل يوم 27 أبريل 1938 في السنّ 79. شهور قليلة بعد وفاته، قام الشابّ الفرانسيسكاني[5] البلجيكي، هرمان ليو فان بريدا، بنقل سريًّا معظم مخطوطات هسيرل (حوالي 45000 صفحة مكتوبة بالخط المجموع) إلى جامعة لوفان حيث قام بتأسيس «أرشيفات هسيرل». لم ينشر هسيرل في حياته سوى النزر اليسير، لكن ابتداءً من سنة 1950 قامت أرشيفات هسيرل في لوفان برقن مخطوطاته ونشرها بمساعدة اليونيسكو والـ«هسيرليات» (Husserliana) وهي الأعمال الكاملة لهسيرل التي لا تزال تظهر والتي تشتمل على أكثر من أربعين مجلّداً، ولكن لم تَنشُر سوى ثُلث مخطوطات هسيرل. لأنّ هسيرل لم يتوصّل إلى إعطاء صورة نهائية ومنسجمة لفكره [الفلسفي]. والدليل على ذلك ما كتبه وعمره 71 سنة في نص مخصَّص للنشرة الإنجليزية لـ«أفكار رئيسية من أجل الفينومينولوجيا». لقد أعلن باستحضاره للمثال الفلسفي الذي كان يحرّكه دائماً، وهو العلم بدون افتراض: «لقد تأكّدَت قناعات الكاتب باستمرار خلال إعداد أعماله، أمام بداهة النتائج التي تتأسّس تدريجيًّا الواحدة على الأخرى. إذا كان عليه إرجاع جلال طموحاته الفلسفية إلى أن يكون المبتدئ الحقيقي، فلقد توصّل في سنّ النُّضج، على الأقل بالنسبة لما يخصّه، إلى القناعة الكاملة بأنّه يستحقّ اسم المبتدئ الحقيقي. إذا مُنح له عُمر ماتوشالح[6]، فلا يتردّد في أن يستشفّ إمكانية أن يكون فيلسوفاً [... ] يرى الكاتب أنّ إقليم الفلسفة الحقيقية يتمدّد أمامه، «الأرض الموعودة» التي لا يشهد في حياته عملية حرثها».
نرى إذاً أنّ هسيرل لم يسعَ إلى فرض مذهبه، ولكن فتح سبيلاً في التساؤل. ينبغي الإشارة إلى أنّه لم يكن زعيم مدرسة فكرية، ولم يلقّن أيّ مبدأ يلتزم به تابعوه، لكن كان مصدر الحركة التي كان يمكن (بل ويجب) أن يشارك فيها الآخرون غيره؛ وبحُكم أنّه كان علميًّا، كان يَعتبر أنّ العمل الفلسفي هو عمل جماعي. إنّ الدافع نحو الدرب الذي افتتحه هو التصوّر الجديد للوعي الذي ينفصل عن الطابع العقلاني المحض والمجرّد للفلسفة الكلاسيكية. يمكن تعريف الفينومينولوجيا انطلاقاً من القول المأثور حول العودة إلى الأشياء ذاتها الذي نعت به هسيرل أبحاثه، لكن شريطة أن نشير إلى أنّ تلك الأشياء المعنية ليست هي الحقائق الخارجة عن الذات، ولكن معيش هذه الذات (les vécus) الذي ينبغي دراسته قبل كل شيء.
ما يعيب عليه هسيرل في النمط الكلاسيكي للفكر هو أنّه يكتفي بالكلمات دون الأخذ بعين الاعتبار المعيش الذي تنطبق عليه تلك الكلمات. يلحّ هسيرل بقوّة إلى صعوبة التحليل الفينومينولوجي الذي يستدعي من الفينومينولوجي أن يتبنّى الموقف غير الطبيعي للتفكير الذي به يحوّل المعيش إلى موضوعات للبحث. لكن إذا كانت العودة إلى الأشياء ذاتها هي في الواقع عودة انعكاسية [تأمّلية] نحو المعيش، فمن الضروري إيضاح مفهوم المعيش. وينبغي التمييز بين ما ينتمي إلى المعيش وما ينتمي إلى الموضوع نفسه.
لنأخذ مثال اللون: غالباً ما نخلط بين إحساس اللون الذي هو معيش الوعي واللون الخاص بالشيء الموضوعي. ليس الموضوع في حدّ ذاته «داخل» الوعي، ولكن ينطبق في المعيش مع لونه الموضوعي جزء من هذا الأخير وهو الإحساس باللون.
يلحّ هسيرل على أنّ هذا الاختلاف بين مضمون الوعي والموضوع الخارجي ليس مجرّد اختلاف في وجهة النظر التي تَعتبر أنّ الظاهرة عينها تُدرَك تارةً في صيغتها الذاتية (كما يُدركها الأنا) وتارةً في صيغتها الموضوعية (بالمقارنة مع الشيء نفسه). يتعلّق الأمر بالأحرى بغموض في استعمال مصطلح الظاهرة الذي يدلّ تارةً على معيش البادي من الشيء، وتارةً أخرى الموضوع كما يتبدّى على ما هو عليه.
يقوم التحليل الفينومينولوجي بتبديد هذا الغموض بإرسائه لاختلاف في الجوهر بين ما ينتمي إلى الوعي وما ينتمي إلى العالم الخارجي، بين المحايث والمتعالي. ليست الظاهرة بالمعنى الهسيرلي هي الظاهرة بالمعنى الشائع، أي الشيء المتعالي الموضوعي، ولا الظاهرة بالمعنى الفلسفي التقليدي، أي المظهر في تميّزه عن الكائن الخفيّ للشيء، ولكنها البادي الخالص من الشيء للوعي، معيش الموضوع.
إنّ هذا الإيضاح في دلالة المعيش يؤول إلى تصوّر جديد للوعي لا يرى في هذا الأخير الحاوي، بمثابة علبة تأوي إليها الأشياء المنمنمة، ولكن ينطوي على فعل الوعي بوصفه قصدية (intentionnalité). يأخذ هسيرل هذا المصطلح عن أستاذه الفيلسوف برنتانو من فيينا، الذي بدوره يعتمد في «السيكولوجيا من وجهة نظر تجريبية» على أرسطو، ولكن بتعديل المعنى. يتعلّق الأمر بالنسبة إليه في التفكير في معيش الوعي كقصد، استهداف الموضوع الذي يبقى متعالياً على الوعي، وهو ما لم تتوصّل الفلسفة الحديثة إلى القيام به. لا يوجد بالتالي شيئان، أحدهما متعالٍ (الموضوع الواقعي)، والآخر محايث للوعي (الموضوع «الذهني»)، ولكن الشيء نفسه، أي الموضوع كما يقصده الوعي. فمن الضروري إذن تطهير اللغة المستعمَلة لحدّ الآن: لا نتحدّث عن موضوع ذهني أو عقلي، ولكن عن موضوع قصدي، لأنّ هذه العبارة الأخيرة لها الفضل في القطع مع ما يسمّيه سارتر «وهم المحايثة»، بمعنى التصوّر الذي يَعتبر أنّنا نتمثّل الوعي كما لو كان مكاناً تقطُنه الأطياف الوهمية للأشياء[7].
بهذا التصوّر للوعي، يكون هسيرل قد أفلح في تحديد المبحث الخاصّ بالفينومينولوجيا وهو التضايف بين الذات والموضوع، أو أيضاً وحسب مصطلح رئيسي في فكر هسيرل، تأسيس (constitution) الموضوع في الذات.
لكن لا يمكن لهذا التصوّر في الوعي أن يكون مخصَّصاً للذات في فرادتها، بل يقتضي الإحالة إلى تعدّدية في الذوات، وهو ما يسمّيه هسيرل «التذاوُت» (intersubjectivité). غالباً ما كان لدينا الانطباع في فرنسا، حيث النصّ الأول المترجَم لهسيرل هو «تأمّلات ديكارتية»، وهو مجموعة من المحاضرات ألقاها هسيرل في باريس سنة 1929، بأنّ الفينومينولوجيا هي ذات إلهام ديكارتي فحسب، وأنّها لا تأتي سوى في شكل «الإيغولوجيا» (égologie) أي خطاب حول الأنا أو الذات، حيث يضحى مشكل تأسيس الغير هو مشكل حاسم وغير قابل للحل.
لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار المسار الحقيقي لهسيرل، وليس فقط ما ترسمه سلسلة أعماله المنشورة في حياته، فإنّنا نكتشف أنّ مشكل تأسيس الغير يُطرح في الوقت الذي تصوّر فيه هسيرل فكرة المنهج الفينومينولوجي، أي في اللحظة التي تخلّى فيها سنة 1905 عن الأبحاث الرياضية والمنطقية ليؤسّس الفينومينولوجيا كفلسفة قائمة بذاتها.
في «التأمّلات الديكارتية»، كان يتعلّق الأمر بالنسبة لهسيرل الانطلاق، على غرار ديكارت، من الطابع البديهي لـ«أنا أفكّر، إذن أنا موجود»، ولكن كان من الضروري تجذير الديكارتية. حسب هسيرل، لقد خان ديكارت المنطلق الخاص الذي اعتمد عليه عندما جعل من الكوجيتو الحلقة الأولى لسلسلة استنباطية تذهب من اكتشاف الذات كشيء مفكّر إلى اكتشاف وجود الله والحقيقة الإلهية، ليصل إلى إعادة التوكيد على ما قام التشكيك فيه منذ البداية، عنيتُ وجود العالم الخارجي.
لا يحتفظ هسيرل من ديكارت سوى بعنصر من التفكير ألا وهو الكوجيتو، ويدع جانباً العنصر الآخر وهو الله. حسب هسيرل، لا يدرك الإله أشياء العالم أفضل منّا. لا يمكننا أبداً أن ندركها في كليّتها، ولكن دائماً بشكل جزئي. يأخذ هسيرل مثال المكعّب الذي لا ندرك منه سوى ثلاث جهات دفعةً واحدة. إذا افترضنا أنّ الإله يدرك الأوجه الستّة للمكعّب، هذا يعني أنّ إدراكنا البشري لا يتيح لنا الوصول إلى حقيقة ما هو موجود. فلم ندرك بالتالي سوى مظاهر خالصة، والإله وحده هو القادر على إدراك «الشيء في ذاته».
يؤكّد هسيرل بالعكس أنّ إدراك الأشياء يستلزم مبدئيًّا عدم الملاءمة، وأنّه «لا يمكن للإله أن يغيّر أي شيء من ذلك، ولا يمكنه أن يمنع كون 1+2 لا تساوي 3، أو أنّ أيّ حقيقة جوهرية أخرى لا يمكنها أن تدوم»[8]. بالنسبة إليه، ليس الإله أساس الحقيقة، ولكن مجمل البشر الذين يحملون بأنفسهم مسؤولية تشكيل العالم. كما يشير بول ريكور بحقّ «بينما عمل ديكارت على تسامي الكوجيتو بالإله، قام هسيرل بتسامي الأنا (ego) بالأنا الآخر (alter ego): كان يبحث في فلسفة التذاوُت عن الأساس الأعلى للموضوعية التي كان ديكارت يبحث عنها في الصدق الإلهي»[9].
نقدّر في الوقت نفسه الصعوبة التي واجهها هسيرل في هذا المضمار: كيف التحقّق من غيرية الآخر انطلاقاً من الأنا، وكيف تشكيل أنا آخر في الأنا؟
يتعلّق الأمر إذن بإيجاد في الأنا الحوافز التي بها يتجاوز نطاقه الخاص نحو الغير. كان هسيرل يسعى بالأحرى إلى تبيان أنّ «الإيغولوجيا» [علم الأنا، علم الذات] هي جوهريًّا منفتحة على الغيرية، وأنّ هذا الفائض، الغير، ينخرط كإمكان في تشكيل القصدية ذاتها. يتعلّق الأمر في تحليل تجربة الغيرية بتبيان أنّ بنية الأنا تفتحه أصليًّا على الغيرية. لأنّه إذا كانت القصدية في حدّ ذاتها بنية تفتح الوعي على ما هو خارج عنه، يمكن فهم أنّ الإيغولوجيا لا تتعارض مع الاعتراف بغيرية الغير. في تجربة الغير، يتبدّى «بلحمه وعظمه» للأنا، دون أن أخلطه بأيّ شيء من العالم. بَيْد أنّ ما يشكّل كينونته الخاصّة غير معطى لي في الأصل، وإلاّ أمكنني أن أحيا معيش الغير، وأن تمتدّ حياتي الخاصّة، ويكون هو بالتالي أنا بالذات.
إنّ هذه القصدية غير المباشرة للغير يسمّيها هسيرل «الحضور غير المباشر» (apprésentation)، ولكي يوضّح ما يعنيه بذلك، فهو يقوم بالموازاة بين تجربة الموضوع وتجربة الغير. هناك أيضاً في التجربة الموضوعية نوع من الحضور غير المباشر، بمعنى الحضور غير المباشر للخفيّ من طرف الجليّ، مثلاً الوجه الباطن للمكعّب من طرف الوجه الظاهر. يمكن لهذا الحضور غير المباشر أن يتحوّل إلى حضور [مباشر]، وللباطن أن يصبح الظاهر عندما أقوم مثلاً بتكوير المكعّب؛ بينما في حالة الغير، فنحن إزاء باطن مبدئي لا يمكنه أبداً أن يتحوّل إلى ظاهر. لكن لكي يصبح الحضور غير المباشر للآخر ممكناً، ينبغي أن يَحضُر أمامي شيء منه: مثال جسد الغير الذي يمكن إدراكه مباشرة كبنية عضوية مشابهة لبنيتي. إنّ الأمر الذي يؤسّس العلاقة بالغير هو التماثل الجسدي بيني وبينه على قاعدته يمكنني التعرّف إلى الغير كأنا آخر. إنّ الإيغولوجيا، شريطة عدم فصلها كليّةً عن التجربة الحياتية ومن بينها تجربة التجسيد، ليست إذن العائق في إنشاء عالم مشترك بحُكم أنّ القصدية هي قادرة على تجاوز ما هو خاصّ بي وبلوغ الشيء ذاته، الوجود الحقيقي، الذي هو بالتعريف لا يكون فقط بالنسبة إليّ، لأنّ ما يخصّني بالذات هو ذو بنية غير واقعية أو خيالية أو مظهرية. بما أنه يمكنني أن أشكّل في ذاتي أنا آخر، يمكنني أيضاً أن آخذ بعين الاعتبار العالم في رمّته والمعطى لتجربتي الخاصّة كعالم موضوعي يصلُح لكل الذوات. فلا وجود لموضوع حقيقي إلاّ بوجود أنا متعدّد، ومعنى ذلك أنّ التعدّدية في الذوات تشكّل القاعدة لفلسفة واقعية حقيقية.
3- هايدغر: تصوّر جديد للإنسان وللوجدانية
ولد مارتن هايدغر في 26 سبتمبر 1889 بميسكيرش، بلدة كاثوليكية تقع شمال بحيرة كونستانس، في عائلة متواضعة الدخل (كان أبوه صانع البراميل وخادم الكنيسة). لقد كان تلميذاً موهوباً وواصل دراساته الثانوية في كونستانس ثم في فريبورغ -أن- بريسغو بفضل الحصول على مِنح عديدة. درس أوّلاً علم اللاهوت (الثيولوجيا) ثم الرياضيات والفيزياء، وقرّر أخيراً التفرّغ لدراسة الفلسفة.
من 1915 إلى 1923، كان هايدغر أستاذاً مساعداً في جامعة فريبورغ. وخلال هذه الفترة، سنة 1917، تزوّج من إلفريدي بيتري من أصل بروتستانتي، ولم يكن هذا الزواج غريباً عن ابتعاده التدريجي عن الكاثوليكية. عُيّن سنة 1922 كأستاذ غير رسمي في جامعة ماربورغ. في هذه الفترة بدأ هايدغر كتابة «الوجود والزمان»، وكتبه في معظمه في تودنوبيرغ، قرية من الغابة السوداء حيث قام هايدغر ببناء بيت خشبي الذي أصبح المكان المفضّل للعمل. صدر الكتاب الذي أهداه لهسيرل في فبراير 1927، وفي السنة الموالية شغل كرسي في جامعة فريبورغ خلفاً لهسيرل. إنّها بداية شهرة كبيرة لهايدغر الذي ظهر وقتها كشخصية نافذة في الفلسفة الألمانية، لكن علاقته بهسيرل أصبحت شائكة، وبالإضافة إلى الاختلاف الفلسفي جاء الخلاف السياسي عندما قَبِل هايدغر بتولّي عمادة جامعة فريبورغ في أبريل 1933.
إنّ فترة الالتزام السياسي لهايدغر في النازية كانت قصيرة، لأنّه سيستقيل من منصبه كعميد الجامعة في نهاية فبراير 1934، لكنه لم يكن قراراً انتهازيًّا، كما تشهد على ذلك النصوص السياسية لفترة 1933-1934.
خلال حكم هتلر، كرّس هايدغر كامل وقته للتدريس. في سنة 1945، أصدرت سلطات الاحتلال الفرنسية ضدّه مرسوماً يعلّق وظيفته كأستاذ بسبب التزامه السابق. وهي الفترة التي بدأ تأثيره يتنامى في فرنسا حيث سادت الفلسفة الوجودية. في سنة 1946 التقى بجون بوفريه وأهدى له سنة 1947 «رسالة في الإنسانية». تمّ أعيد إدماجه سنة 1951 إلى وظيفته كأستاذ وسيُدرّس إلى غاية 1957 كأستاذ شرفي. في ندوة سيريزي[10] سنة 1955 التي ألقى فيها محاضرته الشهيرة «ما هي الفلسفة؟»، التقى بالعديد من الفلاسفة الفرنسيين، وفي مروره عبر باريس تعرّف إلى الشاعر رونيه شار الذي دعاه إلى الفوكلوز[11] حيث سيقيم فيه لعدّة مرّات وينظّم محاضرات مع أصدقائه الفرنسيين. دفعه السجال حول ماضيه السياسي[12] إلى الإدلاء بحوار مع [صحيفة] «شبيغل» (Spiegel) في سبتمبر 1966، لكن شريطة أن يُنشَر الحوار بعد موته.
لقد خصّص السنوات الأخيرة من حياته في إعداد الطبعة الكاملة لأعماله حيث سيشهد صدور الأعداد الأولى منها قبل وفاته في فريبورغ في 26 مايو 1976. تشتمل الطبعة الكاملة لأعمال هايدغر التي سيدوم صدورها العشرات من السنوات على أكثر من 80 مجلّداً، حيث 45 منها هي عبارة عن محاضرات. أيام قليلة قبل وفاته، أبرز هايدغر في الطبعة الكاملة لأعماله القول المأثور التالي: «مسارات، لا أعمال». كان يشير بذلك إلى قرّائه في المستقبل أنّ فكره لا يُختزَل في مجموعة من الأطروحات، وأنّه كان يحتفظ في بُعده التساؤلي على طابعه كمسار غير مكتمل.
لقد كان هايدغر أستاذاً قبل أن يكون صاحب كتاب أساسي، «الوجود والزمان»، المنشور سنة 1927، والذي نعته إيمانويل لفيناس، الذي كان طالباً في ستراسبورغ منذ 1923 وشهد محاضراته في سنة 1928-1929 في فريبورغ، على أنّه أهمّ كتاب إلى جانب «فينومينولوجيا الروح» لهيغل. لقد طوّر هايدغر في دروسه في ماربورغ التي حضرتها حنه أرندت تصوّره حول كائن الإنسان. لقد رفض بذلك أن يستعمل اللغة السارية المفعول في الفلسفة الحديثة ومصطلحات الذات أو الوعي التي بدت له غير ملائمة لوصف الإنسان وانتقد فيها أيضاً التعريف التقليدي للإنسان كحيوان ناطق. تعيين الإنسان كـ«ذات» هو افتراض وجود قوام ثابت أو نواة صلبة، بينما ما يميّز الإنسان عند هايدغر هو بالضبط أنّه زماني من جانب إلى جانب. التفكير في الإنسان انطلاقاً من الوعي هو إدراك فقط القُدرات العقلية وعدم الأخذ بعين الاعتبار ما يسمّيه هايدغر «الوجود المحايث» (facticité) والذي لا ينطوي فقط على الجسدية (corporéité) ولكن أيضاً التحديدات التاريخية والجغرافية.
وتعريف الإنسان على أنّه حيوان ناطق، معناه تقسيمه إلى جزأين حيث نتساءل كيف يمكنهما ألَّا يجتمعا على الإطلاق. ينبغي استحضار الصعوبات التي واجهها ديكارت الذي انطلق من تصوّر ثنائي للإنسان وتخيّل أنّه يمكن تفسير كيف أنّ الجسم يتأثّر بالعواطف مثله مثل النفس، وأنّ مقرّ النفس هو الغدّة الصنوبرية التي توجد في الدماغ. أراد هايدغر القطع مع هذه التعريفات التقليدية وإعداد تصوّر للإنسان في رمّته. لهذا السبب يدع جانباً مفاهيم الجسم والنفس لصالح الوجود، والمسمّى في الألمانية «إكسيستنز» (Existenz). لكن يأخذ هذه المفردة في اشتقاقها اللغوي بمعنى الخروج (ex) من العطالة ومن الفعل (sistere) الذي يعني أوْقَف، قَبَض؛ والفعل (exsistere) في اللاتينية معناه برز، خَرَج من الأرض، ظَهَر، قبل أن يكتسب دلالة وَجَدَ.
ما يوسّعه في «الوجود والزمان» هو تحليل الوجود حيث المعنى العميق هو الزمانية (temporalité). ما يميّز الموجود ليس تمركزه حول ذاته، ولكن بالعكس انفتاحه على العالم، على الآخرين وعلى ذاته. لهذا السبب يحدّده هايدغر ككائن في العالم بالمعنى الذي لا ينفكّ فيه عن علاقته بالعالم المجاور (Umwelt) تماماً مثل الكائنات الحيّة. لكن خلافاً للحيوان الذي يمتلك طبيعة ثابتة نسبيًّا وسلوك تقوده الغريزة، فإنّ الإنسان هو كائنٌ مجرّد من الطبيعة، ومعنى ذلك أنّه كائنٌ حرّ.
إنّ نقد فكرة «الطبيعة البشرية» حظي بشعبية في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية مع سارتر الذي أشاع في كتابه «الوجود والعدم» المنشور سنة 1943 أفكار هايدغر المعروضة سنة 1927 تحت اسم «الوجودية»، وهي مفردة لم يخترعها سارتر نفسه، وإنّما استحدثها الصحافيون الحريصون على إعطاء شعار لنمط جديد من التفكير.
قَبِل سارتر باستعادة هذه المقولة لصالحه من أجل نعت فلسفته. ليست مفردة الوجود بالنسبة إليه كما بالنسبة لهايدغر مفهوماً عامًّا يمكن تطبيقه على أيّ شيء للدلالة على أنّه موجود وحيث يكون المقابل هو مفهوم الجوهر ليدل على ما هو الشيء بطبعه؛ ولكن على العكس، المفردة هي اسم يدلّ على نمط وجود الإنسان. بهذا المعنى، فقط الإنسان يوجد، ولا توجد الأحجار والأشجار، فهي هي فقط، لأنّ الوجود معناه عقد علاقة بالآخر غير الذات، والقدرة على الخروج -من- الذات، الظهور (ex-istere) بالمعنى الحرفي.
يستعمل سارتر مصطلح الوجود بالدلالة نفسها التي استعملها هايدغر، ولكن يسعى فضلاً عن ذلك إلى الكشف بشكل دقيق عن موقفه الفلسفي كوجودي. ما يقصده بالوجودية هو موقف فلسفي يتعارض مع موقف الفلسفة الكلاسيكية، العريقة والحديثة، التي يمكن نعتها بأنّها فلسفة جوهرانية أو ماهوية (essentialisme). بالنسبة للفيلسوف الماهوي، الماهية سابقة على الوجود، وتحديد الشيء يسبق الشيء ذاته. بالنسبة إليه، كل شيء يمكن تشبيهه بالمنتوج المنجَز، بما في ذلك الإنسان نفسه. إذا تبنّينا التصوّر التقني للعالم، إذا اعتبرنا كل ما هو كائن كنتيجة لسيرورة الإنتاج، ينبغي أن نعترف أنّ هذه السيرورة غير ممكنة سوى على أساس نموذج وحُسن-الأداء وفكرة معيّنة عن الغائية التي نسير وُفقها. كل هذا يدخل في إطار ما يسمّى على نحو تقليدي «الماهية». بالنسبة لطاولة أو كرسي، لا بدّ للماهية أن تسبق الوجود، وأنّ فكرة ما ينبغي إنتاجُه تسبق الإنتاج ذاته. الأمر نفسه يتعلّق بالكائنات البشرية حسب الماهويين. فهم يعتبرون الإنسان كخليقة، أي أنّه مخلوق من طرف هذا التقني الأكبر وهو الله.
الماهويون هم ألوهيون (théistes) على غرار ديكارت الذي يعتبر أنّ وجود الله وحده يمكنه أن يدرك كينونة الإنسان. مفهوم الطبيعة البشرية غير صالح سوى في إطار نظرية الخلق. إذا رفضنا هذه النظرية في خلق العالم من طرف الله، فإنّه يتوجّب علينا أيضاً رفض فكرة الطبيعة البشرية. وهو ما يفعله الملحد الوجودي، موقف فلسفي تبنّاه سارتر لذاته. حسب نظره، يوجد الإنسان قبل تحديده التصوّري. فهو الكائن الوحيد الخالي من الطبيعة، لأنّه ذاتية محضة، بمعنى مشروع خالص في الذات أو لأجل الذات تبعاً للمصطلح الذي يستعمله في «الوجود والزمان»: «فهو ليس شيئاً آخر سوى ما يفعله بنفسه». ذلكم هو المبدأ الأوّل للوجودية حسب سارتر: يمكننا انطلاقاً من العدم أن نخلق وجودنا الخاص، وأن نبتكر كل يوم في حياتنا.
فلسفة سارتر هي إذن فلسفة في الحرية، مثلها مثل فلسفة هايدغر. لكن بالنسبة لهايدغر، لا يكفي أن تعلن أنك «وجودي»، وهو ما سيرفضه في الوقت الذي أصبح فيه سارتر مشهوراً؛ بل ينبغي تبيان بشكل واقعي ما هي البنيات الأساسية للوجود.
تأتي هذه البنيات حسب هايدغر من الطابع الزمني للوجود البشري الذي هو منفتح مبدئيًّا على المستقبل وعلى الإبداع، عكس الحياة الحيوانية التي هي تكرار. الإنسان هو، من هذه الوجهة في النظر، عبارة عن كائن غير مكتمل هيكليًّا، بينما يتوصّل الحيوان إلى إنجاز كينونته بحكم أنّه يخضع إلى صوت الطبيعة. لكن، من جانب آخر، إذا كان [الإنسان] يفتقر إلى «الطبيعة» التي تظل نفسها أيًّا كان المجتمع أو العصر الذي يحيا فيه، فهو يرث فضلاً عن ذلك بعض التحديدات التي لا يختارها. إنّ هذه التحديدات، الجنس، الصفات الجسدية، الثقافية، التاريخية، هي التي يصطلح عليها هايدغر اسم «الوجود المحايث» والذي يحيل إلى ماضٍ يتوجّب الاضطلاع به، حتى وإن كان بغرض الثوران عليه أو الانفصال عنه. فالكائن البشري هو، في الوقت نفسه، مفتوح على المستقبل وفي صيرورة دائمة بوصفه كائنَ مشروعٍ يرتبط بماضٍ يتحمّله وبصفته «ملقى في العالم».
يتعلّق الأمر بالنسبة لهايدغر بإنتاج تأويل أصلي للإنسان يختلف عن التأويل الفلسفي التقليدي الذي يرى فيه مركّب من مادة جسمية ومن صورة روحية. ينبغي تحديد كائن الإنسان باسم واحد وهو «الهمّ» (souci)، ليس بالمعنى الاعتيادي لهذه المفردة، ولكن بمعنى أنّ الشيء الذي يميّز الإنسان بشكل أساسي هو العلاقة غير العقلية في الانشغال والعناية التي يرعاها مع ذاته ومع الآخرين ومع الأشياء.
لم يكن هذا الخيار المعجمي اعتباطيًّا، لأنّ هايدغر يستند هنا إلى المعنى المزدوج للمفردة اللاتينية «كورا» (cura) التي تعني في الوقت نفسه العناية والهمّ (لاحظ ذلك في الإنجليزية: care) تماماً مثل الألمانية (Sorge). يستند هايدغر في ذلك إلى حكاية لشاعر لاتيني من القرن الأول، هايغن (Hygin)، أثارت انتباه غوته (Goethe) والتي تشهد قبل كل تحليل فلسفي على وجود تصوّر قبل-فلسفي حول الإنسان بوصفه كائناً يمكن تحديده كهمّ.
يبقى فقط أن نحدّد إلى أيّ مدى يمكن لهذا التعريف للإنسان أن يكون واقعيًّا. يرفض هايدغر أن يحدّد الإنسان تبعاً لقُدُراته العقلية، بل يفضّل تبيان أنّ الإنسان يقع على المستوى العملي.
هذه الأهمية التي كان يوليها للممارسة شدّت انتباه معاصريه إلى درجة أنّ هربرت ماركوز، الذي كان طالبه والذي سيصبح بعد هجرته إلى أمريكا مفكّر الستينيات [من القرن العشرين] بفضل كتابه «الإنسان الأحادي البُعد»[13]، اعتبر أنّه بالإمكان جعل «الوجود والزمن» في علاقة مع فكر ماركس، وعلى الخصوص ماركس الشاب حيث سيتمّ اكتشاف المخطوطات الباريسية سنة 1844 ونشرها عام 1932 من طرف لاندسهوت، أحد طلبة هايدغر. علاوة على ردّ الاعتبار إلى الممارسة، هناك أيضاً ردّ الاعتبار للوجدانية (affectivité) عند هايدغر. لقد اتُّفِق في إطار العقلانية الحديثة أن يظل الموقف النظري خالصاً من كل اختلاط بمجال العواطف. لم يكن الأمر كذلك في زمن ميلاد الفلسفة التي ظلّت تحت تبعية هذا الإجراء العاطفي في شكل الـ«توماتزاين» (thaumazein) أي الدهشة التي أشار إليها هايدغر في محاضرته بسوريزي تحت عنوان «ما هي الفلسفة؟» واعتبرها [الدهشة] الـ«أركي» (arkhè) أي في الوقت نفسه أصل التفلسف والمبدأ الذي يدبّره في رمّته.
يبقى مع ذلك أنّ تعريف الإنسان كحيوان عاقل أساس التصوّر العريق والحديث لكينونة الإنسان بوصفه كائناً مركّباً من جزأين مختلفين، أحدهما يتقاسمه مع الحيوان، والآخر ينفرد به، يدفع إلى وضع المجال العاطفي برمّته في جهة ما ينتمي إلى حيوانية الإنسان.
الجديد في التصوّر الهايدغري للإنسان هو الدور الذي يوليه إلى مجال النبرات والاستعدادات العاطفية، وعنيتُ بذلك الكشف الأصلي للعالم بحُكم أنّ اكتشاف أيّ شيء لا يتأسّس على الحساسية الخالصة ولا على المشاهدة المحضة، ولكن في القُدرة على الوعي بأنّه [الإنسان] معنيٌّ بما يَمثُل أمامه. فنحن نقع في العالم ومشاعرنا هي انعكاس لهذه الوضعية. فليست هذه المشاعر شيئاً جوّانيًّا وخاصًّا بالذاتية، ولكن يمكنها أن تنتشر نحو الخارج كبيئة أو كنبرة. فالنبرات العاطفية هي تواصلية كما نعرف: كل شيء يصبح مبتهجاً حول المرِح، وحول كل كئيب هناك الكآبة. بفضل الإحساس أتواصل بالعالم الذي أعيش فيه ويشكّل جوهريًّا هذه العلاقة التي لا يمكن تعليقها.
لقد افترضنا بأنّ تبنّي موقف نظري خالص، عند الفيلسوف أو العالم، يقتضي كبت كل إحساس عاطفي. في الواقع، يتعلّق الأمر بتفضيل حالة معيّنة من الإحساس في شكل اللامبالاة غير الكاملة التي تأتي من كون أنّنا عندما نفكّر لا يمكننا أن ننشغل بالضروريات المباشرة للحياة، ولا يعني هذا الأمر أنّنا نقمع كل شعور في أعماقنا.
ينبغي التذكير في هذا الصدد أنّ الفلسفة نشأت عن الـ«سكوليه» (scholè) أي الترفيه الذي أجازته الوضعية التي كانت تجعل من العبيد في المدينة الإغريقية يتفرّغون للنشاطات الحيوية، تاركين للمواطنين الوقت للنقاش في الـ«الأغورا» (agora) أي السوق. بدلاً من التمييز بين المظهر العقلي والمظهر الحسّي للعلاقة بالأشياء وعوض منح لأحدهما أو للآخر دوراً تأسيسيًّا بتبنّي وجهة النظر الواقعية أو وجهة النظر المثالية، يتعلّق الأمر بالنسبة لهايدغر بالتفكير في أصليتهما المشتركة (co-originarité) وتشابكهما بحيث لا تكون هنالك نظرية (theôria) تنفك عن العاطفة ولا العاطفة الفظّة خالية من التفكير. ما يهدف إليه هايدغر هو تقديم تعريف للإنسان لا يتأسّس على تأويل ثنائي لكينونته.
ثانياً: تطوّر الفينومينولوجيا في فرنسا
لقد رأينا أنّ الواقعة الأساسية للحداثة هي تحرير الإنسان، وهو الحدث الذي كان أصل «الأنوار» التي ميّزت نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا. بدلاً من أن يعتمد الإنسان على الآخرين، على الأمراء أو الإله، في تدبير وجوده، فهو يتحكّم في مصيره ويرتقي إلى الشعور بكرامته الشخصية، في الوقت الذي تختفي فيه، على الأقل في الأنظمة الديمقراطية، العلاقات التراتبية التي كانت تنظّم في السابق الروابط بين البشر، وكانت المصدر في التصوّر الذي كان الفرد يصوغه حول ذاته، كفرد «أعلى» أو «أدنى».
الحرية والمساواة -بوصفها عبارات جمهورية- هي أساس الصورة الحديثة للإنسان الذي يتشيّد باستمرار بفضل تطوّر العلم بوصفه «سيّد الطبيعة ومالكها» تبعاً لمقولة ديكارت. يختفي البُعد الترنسندنتالي تدريجيًّا بمقدار ما تنحسر المعتقدات الدينية ويتقدّم الإلحاد، ويتوجّه إنسان القرن العشرين نحو التمركز حول ذاته. هكذا منذ نهاية القرن التاسع عشر، تزايد الاهتمام بعلوم الإنسان وعلم النفس على وجه التحديد. إذ تأخذ الحياة الباطنية للإنسان وعلاقة الفرد بذاته قدراً كبيراً من الأهمية وتتفوّق على ما عداها من الاعتبارات. لقد اتّجه التفكير الفلسفي نحو التركيز على الإنسان وحده وأصبحت الفلسفة خطاباً حول الإنسان وحول الثقافة الإنسانية. وبالتالي فإنّ البُعد المسمّى «الميتافيزيقا»، الذي كان يرتبط بالأسئلة الجوهرية حول أصل الإنسان ومصيره، فَقَد من قيمته.
وكردّ فعل على هذا التوجّه النفساني الذي تعزّز بالأهمية التي اكتسبها التحليل النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين، قام الفلاسفة المشهورون في القرن العشرين، مثل سارتر وميرلوبونتي في فرنسا، بتطوير فلسفة في الحرية التي اصطُلح عليها، مباشرة بعد الحرب، باسم «الوجودية». إذ، في نظر الوجودية، لا يكتفي الإنسان بالعيش كما تفعله الحيوانات، بل هو يوجد بالمعنى الذي يصبح فيه مفتوحاً على العالم، بوصفه كائناً -في- العالم، وليس بوصفه ذات تُحدّدها حياته الباطنية، بمجرّد تفكيره كما أراد ديكارت.
في محاضرة شهيرة ألقاها سارتر سنة 1946، عمد إلى تبيان أنّ الوجودية ليست مجرّد فلسفة رهينة الموضة، تمجّد الفردانية وتحرير كامل لكل المحظورات ولكل الممنوعات الاجتماعية والدينية، بل هي أيضاً نزعة إنسانية (humanisme) تشدّد على الحرية البشرية وقدرة الإنسان على الاختيار بالمقارنة مع الكائنات الأخرى.
يَعتبر الفكر الكلاسيكي أنّ الإنسان مخلوق من طرف هذا الصانع الأكبر للكون وهو الإله. يذهب سارتر عكس هذا الجزم: لا وجود للإله، ويخرج بنتائج أهمّها: لا وجود لطبيعة بشرية خاصّة. لا يمكن تحديد الإنسان بفكرة مسبقة لأنّه لا وجود لإله يمكن أن يفكّر فيه قبل أن يخلقه. ليس الإنسان «سوى ما يحدث». ذلكم هو المبدأ الأوّل للوجودية: الإنسان هو صانع وجوده وليس الإله. وهو ما يشكّل كرامته. ليس الإنسان سوى المشروع الحرّ الذي يشكّله حول ذاته، فلا وجود لأزل: «لا شيء مكتوب في سماء العقل». إذا اختار الإنسان بمحض إرادته نمط حياته، فمعناه أنّه المسؤول الوحيد عن ذاته ولا يمكنه أن يتّهم الإله أو القدر حول المآسي التي تصيبه.
يذهب سارتر إلى أبعد من ذلك: فهو يؤكّد أنّ الإنسان مسؤول ليس على ذاته فحسب، بل وعلى جميع البشر. كل إنسان يلتزم بقراراته [إشراك] البشر جميعهم، لأنّني إذا أثبتُّ لذاتي هذا الشيء أو ذاك، فإنّني أقرّر ما هو جيّد في المطلق وليس فقط بالنسبة إليّ: «باختيار ذاتي أختار الإنسان. وكأنّ البشرية كلها ترصد ما يفعله كل إنسان وتنتظم حسب ما يفعله».
سارتر الذي يعترض بقوّة على التحليل الفرويدي، يذهب إلى حدّ التوكيد على أنّنا مسؤولون عن عواطفنا الخاصّة، لأنّ استحضار العاطفة كظرف مخفّف معناه إيجاد ذريعة كاذبة. يقوم سارتر بتطوير تصوّر حول الإنسان يطال نتائجه القصوى، مفاده أنّ الإنسان هو كائن حرّ. في المقابل، قاد نجاح التحليل النفسي إلى صورة مغايرة للإنسان ككائن منقسم بين العقل واللاعقل، بين الوعي واللاوعي. فالأحداث التراجيدية التي ميّزت تاريخ القرن العشرين من حروب وإبادة وعنف يبدو أنّها تعطي الحقّ لأولئك الذين يعترفون في الإنسان عن جانب معتم من اللامعقول والإيديولوجيات التي تسيّره (النازية، الفاشية، الشيوعية) تُبرز حدود فلسفةٍ في الحرية.
1- سارتر (1905-1980): سؤال الخيال والفنّ
عندما شرعتُ في دراسة الفلسفة في بداية الستينيات [من القرن العشرين]، كان سارتر في أوجّ شهرته. إذ في تلك الفترة، سنة 1964 بالضبط، مُنحت له جائزة نوبل في الأدب. لكنه رفض الجائزة كما تعلمون. لم يكن يبحث عن اعتراف رسمي، لقد كان مشهوراً في العالم كلّه. بحُكم أنّه كان يعارض مبدئيًّا كل مكافأة شعبية، فهو رفض تلك الجائزة. كان يرغب دائماً في أن يكون حرًّا كفرد. إذا كان مشهوراً وقتئذ، ليس فقط لكونه فيلسوفاً، ولكن لأنّه كان أيضاً كاتباً، روائيًّا، أديباً دراميًّا، وكاتب مقالات. غالباً ما كان يُقارَن في فرنسا بفولتير، أكبر فيلسوف في عصر الأنوار، والذي كان أيضاً فيلسوفاً وأديباً دراميًّا وكاتب مقالات شهير. لا شكّ في أنّ البعض منكم قرأ الرواية التي عرّفت الجمهور بسارتر، وعنيتُ بها «الغثيان» (La nausée)، الصادرة سنة 1938؛ أو سمع بمسرحياته: «أبواب مغلقة» (1944) أو «الأيادي القذرة» (1948) أو أيضاً «الذباب» (1943). رغم ذلك، كان في الأصل فيلسوفاً ولم يختر وسيط الأدب سوى لإيصال أفكاره الفلسفية لأكبر عدد ممكن من الأشخاص، وأودّ الإشارة إلى أنّـه مسعى فرنسي نموذجي، بالمعنى الذي تكون فيه الأفكار في فرنسا أهمّ في الأدب من الأحاسيس، وأنّه من السهل ربّما الجمع بين الفلسفة والأدب أكثر من أيّ مكان آخر. لقد كان سارتر تجسيداً لما سمّيناه نحن الفرنسيون بالمثقف.
ولد [سارتر] سنة 1905 وتوفي في 15 أبريل 1980 عن عمر يناهز الخامسة والسبعين. دُفن في أكبر مقبرة في باريس، مقبرة مونبارناس، ليس بعيداً عن المكان الذي كان يسكن فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في نهاية حياته، كان مريضاً وضريراً بشكل شبه كامل وانقطع عن الكتابة. آخر كتاباته «فلوبير، أبله العائلة»، وهو مشروع ضخم في شكل سيرة حياة «كاملة» للروائي الفرنسي الشهير، حيث صدرت الأجزاء الثلاثة (حوالي ثلاثة آلاف صفحة) سنة 1971 و1972 وبقيت غير مكتملة. اعترف بأنّه لا يمكنه تدوين الجزء الرابع. في إحدى مقابلاته الأخيرة، سنة 1975، أعلن سارتر بأنّه يشعر نفسه «قد فاته الزمن»[14].
صحيح أنّ بعد مايو 1968، عندما قرّر أن يساند نوعاً ما اليساريين، بدأ يفقد تدريجيًّا من شعبيته في الرأي العام للجيل الشاب الجديد الذي توجّه وقتها نحو الاهتمام بمفكّرين آخرين أمثال ليفي ستروس، لاكان، فوكو، دلوز، بارت، دريدا، إذا استشهدتُ بالأسماء الرائجة آنذاك. لكن منذ وفاته، تغيّرت الأمور في فرنسا وكانت الحاجة لإعادة قراءة سارتر، ربّما لأنّ بعد فترة طويلة شهدت هيمنة الإيديولوجيات المتعدّدة: الماركسية، البنيوية، النفسانية التحليلية؛ جاء الوقت لإعادة اكتشاف فلسفة هي فلسفة في الحرية بامتياز.
أعلن سارتر سنة 1968 في الوقت الذي نعيد فيه قراءة مؤلّفاته، فإننا نكتشف أنّه لم يتغيّر بتاتاً وأنّه ظل فوضويًّا على الدوام. فوضويٌّ نعم، لكن ليس بالمعنى السياسي للكلمة (لم يكن لسارتر من اتّصال بالحركة الفوضوية)، بل بالمعنى الحرفي للمقولة (تعني الفوضوية غياب السلطة)، بحُكم أنّه عارض دائماً كل أشكال الهيمنة والسلطة، سواء تعلّق الأمر بهيمنة الإله على البشر (سارتر هو ملحد مجاهر)، أو هيمنة الطبيعة على الكائنات البشرية (يعرّف سارتر نفسه على أنّه وجودي، ويقتضي ذلك نفي «طبيعة» ثابتة عند الإنسان)، أو هيمنة الإنسان على الإنسان (كان سارتر على يقين بأنّ الماركسية ونظريتها في صراع الطبقات كانت تشكّل «الأفق الذي يتعذّر مجاوزته في زمننا الراهن»، رغم أنّه لم ينخرط أبداً في الحزب الشيوعي الفرنسي وأصبح بعد 1968 ناقداً لاذعاً للماركسية السوفييتية).
يمكننا أن نجد هذه الفلسفة في الحرية في المؤلّفات الأولى لسارتر والتي سأعطي عنها الآن لمحة مقتضبة. درس سارتر الفلسفة في مدرسة الأساتذة العليا[15] المرموقة في شارع أولم (rued’ Ulm) في باريس، وتحصّل على إجازة في تدريس الفلسفة سنة 1929. التقى سيمون دي بوفوار في تلك الفترة، والتي أصبحت رفيقته حتى وفاته (وعاشت حتى سنة 1987)، كما أنّه التقى العديد من الفلاسفة الشباب الذين سيصبحون مشهورين أمثال ريمون آرون، وموريس ميرلوبونتي، وكلود ليفي ستروس (الوحيد من بينهم الذي لا يزال على قيد الحياة)[16].
يمكن تشكيل فكرة دقيقة حول ما كانت عليه الأجواء الفكرية في تلك الفترة وذلك بقراءة مذكّرات سيمون دي بوفوار، خصوصاً «مذكّرات فتاة مهذَّبة» و«قوّة العُمر». بعد الإجازة، درّس سارتر الفلسفة في ثانوية في [مدينة] هافر (Le Havre) وفي سنة 1933-1934 قضى سنة في برلين لدراسة الفلسفة الألمانية. كان سارتر يتكلّم بطلاقة اللغة الألمانية؛ لأنّه عندما فَقَد والده في الصِغَر، كان تحت رعاية عائلة والدته من أصل ألزاسي[17]. كان عمّه كارل شفايتزر متخصّصاً جرمانيًّا معروفاً، أستاذ الألمانية في السوربون، وألبير شفايتزر، موسيقار وطبيب في إفريقيا شهير، كان العمّ الأكبر لسارتر. يحكي سارتر هذه الطفولة في كتاب هو تحفته الشهيرة، «الكلمات»، قصّة طفل دميم يحوّل عينيه، والذي كان يكتب القصص في «الكلمات» بالذات، لابتغاء حبّ الآخرين. سنة 1934، كان من بين أوائل المثقفين الفرنسيين في اكتشاف أعمال هسيرل وهايدغر في ألمانيا.
صحيح أنّ هسيرل كان معروفاً في فرنسا حيث ألقى سنة 1929 سلسلة من المحاضرات في السوربون وفي جامعة ستراسبورغ، والمجموعة في الـ«تأمّلات ديكارتية» التي ترجمها إلى الفرنسية في العام الموالي فيلسوف شابّ وهو إيمانويل لفيناس. لكن لم تكن أعماله السابقة معروفة ولا شيء منها مترجماً.
أما هايدغر، الذي كان مشهوراً في ألمانيا انطلاقاً من 1927 بفضل كتابه «الوجود والزمان»، لم يكن في هذه الفترة معروفاً في فرنسا. قضى سارتر السنة كلها في ألمانيا في قراءة هسيرل وهايدغر، وغير عابئ بالأحداث السياسية الحاسمة التي وقعت في ألمانيا – لا هامّة منها سوى وصول هتلر إلى سدّة الحُكم – وهو ما جعل منه أوّل فينومينولوجي فرنسي.
كما رأينا سابقاً، المفهوم الرئيسي في الفينومينولوجيا هو القصدية. أن نقول: إنّ الوعي هو قصدي، وإنّه وعي بشيء ما، معناه أنّه يتوجّه نحو الخارج ولا ينفك عنه كدائرة باطنية مغلقة، وأنّه يتعالى، أي يتجاوز الحدود الباطنية للانفتاح على العالم الخارجي.
لهذا السبب كان أوّل كتاب أصدره سارتر سنة 1934 هو «تعالي الأنا» (La transcendance de l’ego). الكتابان المواليان اللذان قام بكتابتهما وهما «الخيال» (L’imagination) الصادر سنة 1936، و«المخيال» (L’imaginaire) الصادر عام 1940؛ هما كتابان من إيحاء هسيرلي بوصفهما تطويراً لنظرية هسيرل في الخيال. يقع سارتر الشاب –الذي كان عمره 34 سنة عام 1939- داخل حركة الفينومينولوجيا الهسيرلية وإذا كان اهتمامه قد انصبّ خصوصاً على الخيال، فلأنّ هسيرل منح لهذه الملَكة أهمية بالغة. يُعلن هسيرل في كتابه الأول «أفكار توجيهية من أجل الفينومينولوجيا» الصادر سنة 1913 (نص سيقرؤه سارتر باهتمام في برلين) من حيث إنّ «الخيال هو عُنصر جوهري في الفينومينولوجيا». لأنّ في الوعي الخيالي تتبدّى لنا بشكل جليّ البنية القصدية للوعي. فالموضوع المتخيَّل (كان هسيرل يأخذ في الغالب مثال القنطور)[18] ليس حاضراً مثل الموضوع المدرَك، وليس ماضياً على غرار الموضوع الذي نستذكره، فهو ببساطة غير موجود، «مخترَع». ففي الخيال يتجلّى أنّ الوعي يتوجّه نحو شيء لا يوجد في أيّ مكان آخر، شيءٌ هو عبارة عن عدم، غير واقعي بالمرّة. نفهم إذن لماذا اهتمّ سارتر بظاهرة الخيال؟ ولا يغيب عن بالنا الطفل الصغير في «الكلمات» الذي توصّل إلى التخلُّص من الواقع القاسي، من قباحته [الجسدية]، باعتزاله نحو عالم خياله.
لقد رأى سارتر في سلطة الخيال البرهان الأوّل على حرية الإنسان: فالكائن القادر على التخيُّل، أي خلقُ شيءٍ انطلاقاً من لا شيء، هو كائن لا يخضع للواقع، وليس مجبراً على البقاء تحت سيطرة ما هو معطى له في الإدراك. الخيال هو ما يسمّيه سارتر «الوظيفة اللاواقعية للوعي»، الوظيفة التي تتيح للوعي الانشقاق عن الواقع. فالإنسان بالنسبة إليه هو الكائن الذي له القُدرة على نفي الواقع ورفضه لحل شيء آخر محلّه، ذلك الشيء غير الموجود الذي نسمّيه «الصورة». الكائن القادر على الخيال هو كائن حُرّ، ومتحرّر من إكراهات الواقع التي يظل الحيوان أسيراً فيها، ولا يعرف سوى الحاضر، لا يمكنه استحضار الماضي البعيد، ولا سَبْق المستقبل غير المباشر.
إذا كان الخيال يُبرهن على حرية الإنسان، فهو يتيح أيضاً فهم أنّ الفنّ هو نشاط بشري أساسي. لأنّ الأثر الفنّي ليس شيئاً واقعيًّا، ولكنه شيءٌ لا واقعي، صورةٌ لها فقط الدعامة المادّية، مثلاً نسيج الكتّان فيما يخصّ التصوير الزيتي، الورقة المطبوعة بشأن الأدب والأنغام كما هو الحال مع الموسيقى. عندما نتأمّل لوحة أو نقرأ رواية أو نسمع لحناً موسيقيًّا فإننا نتواصل مباشرة مع الذاتية الأخرى بواسطة الدعامة المادّية. إذا بقيت اللوحة بمعزل عن تأمّل شخص يتعرّف فيها على دلالة معيّنة، فهي تضحى مجرّد شيء مادّي وليس أثراً فنيًّا. فالمشاهد أو السامع أو القارئ، حسب سارتر، له أهمية كبيرة في تشكيل الأثر الفنّي مثله مثل الفنّان. يتساوى حسّه الجمالي في الخلق والتلقّي [مع حسّ الفنّان].
هذه الفكرة في مشاركة القارئ في [خلق] أثر الأديب طرحها سارتر في محاولته الشهيرة «ما الأدب؟» التي تعالج ضرورة أن يلتزم الكاتب من خلال أثره. لأنّ الأثر الأدبي هو دعوة إلى حرية القارئ و«التزام» ومسؤولية من لدن الكاتب، لأنّ الكاتب يعرف أنّ كتابته تنتج مفعولاً في ذوات أخرى غير ذاتيته. كما أشرتُ من قبل، كان سارتر، وأيضاً كامو الذي كان صديقه، في الوقت نفسه كاتباً وفيلسوفاً. لقد فكّر كثيراً في الأدب، وكتب العديد من النصوص حول بعض الأثار الأدبية وحول بعض الأدباء الذين كان معجباً بهم، على غرار جون جونيه، كاتب مرموق في فرنسا كان يعرفه، بسبب موهبته الشعرية والأدبية والمسرحية وبسبب شخصيته: كان [جونيه] طفلاً مهملاً، تمّ تبنّيه من طرف عائلات عدّة؛ أصبح سارقاً في مراهقته، وفي السجن كتب بعض أعماله. خصّص سارتر كتاباً كبيراً لهذا الكاتب «سان جونيه، كوميديًّا وشهيداً» (1952). وأشرتُ إلى أنّه كتب في القسم الأول من حياته أكثر من ثلاثة آلاف صفحة حول غوستاف فلوبير بإعادة بناء عالمه الخاص قصد فهم أثره [الأدبي].
ففي 1963 وعمره 58 سنة، بدأ سارتر كتابة مذكّراته «الكلمات»، ودراسة عنوانها «ما الأدب؟». كتب سارتر هذا النص ليجيب أولئك الذين اتهموه بقتل الأدب بحُكم أنّه كان كاتباً ملتزماً. أراد سارتر إجابة منتقديه بإعادة طرح الأسئلة: «ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن؟ يبدو أنّه لا أحد تساءل عن ذلك». بعدما دافع عن فكرة أدب ملتزم، أي فكرة أدب مؤسَّس على الأفكار، أدبٌ له رسالة يقدّمها وليس مجرّد تمرين أسلوبي، حاول سارتر الإجابة عن السؤال «لماذا نكتب؟». يذهب من الملاحظة التي مفادها أنّ الكائن البشري له القُدرة على الكشف عن الأشياء: «الإنسان هو الوسيلة التي تتجلّى عبره الأشياء». يستخلص من ذلك أنّ أحد البواعث في الابتكار الفنّي هو الحاجة في أن نشعر ذواتنا جوهريين. عندما أبتكر فإنّني أخلق نظاماً أو دلالة فيما أصفه بالكلمات أو الألوان. إنني «أنتجها» بالمعنى الذي أكشف عنها بقوّة لا تتمتّع بها في الواقع. لكن الشيء المبتكَر يفلت منّي: يبدو أنّه يمكن تحسينه ولا يكتمل سوى عندما يكون لديّ الانطباع بأنّ شخصاً آخر صنعه، وهو ما لا يحدث كما ينبّه سارتر. كلما كان لنا الوعي بأننا مبتكرون أو منتجون، كلما كان الشيء منتجاً تحت سيطرتنا. عندما نصنع أشياء نستعملها، مثل الفخار أو الهياكل، فإنها لا تتحدّث عنّا، لأنها مصنوعة حسب قواعد ليست لنا، ولكن هي مِلك للجميع. لكن عندما ننتج أثراً فنيًّا وليس شيئاً يدويًّا، نجد دائماً أنفسنا في الأثر الذي ابتكرناه ولا يتّخذ هذا الأثر بالنسبة إلينا صيغة شيء، فلا يمكننا إدراكه، لأنّه بمثابة جزء منّا. ننسى أنفسنا في الإدراك، ونحن مستغرقون في الأشياء التي نراها. فالذات ليست أساسية في الإدراك، بل الشيء المدرَك. أما في الخلق أو الابتكار، فالذات هي أساسية، ويصبح الشيء غير أساسي.
انطلاقاً من هذه الأفكار، حاول سارتر إفهامنا دلالة الأثر الأدبي. فهو يُثبت أنّ هذا الأثر لا يوجد بشكل موضوعي [أو شيئي] على غرار الرسم الزيتي. فهو لا يوجد سوى بالقراءة ولا يدوم سوى بزمن القراءة. يتجلّى هنا الاختلاف الجوهري بين الكاتب والحِرفيين، الإسكافي أو المهندس المعماري، الذين يقومون بآثار نافعة. لا يمكن للكاتب أن يقرأ، لا يمكنه أن يقرأ ذاته، حسب سارتر. لماذا؟ لأنّ القراءة تقتضي التوجّه نحو المستقبل، السَّبْق. إنه شيء يشابه الإدراك: لإدراك الشيء ينبغي الاستباق أو التوقّع واستحضار كل أشكاله التي هي غير معطاة مباشرة في الإدراك.
بينما الشخص الذي يكتب لا يمكنه الاستباق عندما يقرأ، لأنّه صاحب النص ويعرف جيّداً ما سيحصُل. هناك إذن اختلاف كبير بين سَبْق القارئ ومشروع الكاتب. يقال: إنّ الكاتب ينتظر الإلهام، لكن لا يأتيه هذا الإلهام من الخارج: فهو ينتظره في ذاته. فالمستقبل هو بالنسبة إليه عبارة عن صفحة بيضاء، بينما عند قارئه، المستقبل هو الصفحات المتبقّية التي سيقرؤها. لا يخرج الكاتب من ذاته، من الذاتية، ولا يمكنه الذهاب إلى الموضوع الأدبي. فلا يمكنه أن يشعر بما يكتبه. لا يمكنه ذلك سوى إذا نسي لحظة بأنّه صاحب النص الذي كتبه. فالنتيجة هي واضحة بالنسبة لسارتر: لا نكتب أبداً لذواتنا. إذا كان الكاتب وحيداً في العالم، لا يمكن لأثره أن يكون موضوعيًّا. ينبغي لذلك أن يُقرأ من طرف شخص آخر. فعملية الكتابة هي في حدّ ذاتها غير كاملة: فهي تقتضي متضايفها أو ما يكمّلها وهو القراءة. يتطلّب الأدب إذن كاتباً وقارئاً. ويشكّل هذا الأخير الأثر مثله مثل الكاتب. يستنتج سارتر: «لا فنّ سوى بالآخر ومن أجله».
2- ميرلوبونتي: سؤال الإدراك والجسد
ولد موريس ميرلوبونتي سنة 1908، وهو أصغر سنًّا من سارتر بثلاث سنوات، ودرس مثله في مدرسة الأساتذة العليا في شارع أولم، وأسّس بصُحبته مجلّة «الأزمنة الحديثة» (Les temps modernes) سنة 1945. في السنة نفسها، قام بنشر أطروحته [في الدكتوراه] تحت عنوان «فينومينولوجيا الإدراك». أصبح بعدها أستاذاً في علم النفس في جامعة ليون، ثم في السوربون، وتمّ انتخابُه أستاذاً في الكوليج دو فرانس (Collège de France) سنة 1952. قطع صلته بالماركسية سنة 1955 بعد اكتشاف الجولاج[19]. وتزامن ذلك مع قطيعته مع سارتر الذي كان يعتقد دائماً بأنّ «الماركسية هي الأفق الذي يتعذّر مجاوزته في زمننا الراهن»؛ ولم يبتعد عن الحزب الشيوعي الفرنسي سوى عام 1956 بعد أحداث هنغاريا.
توفي موريس ميرلوبونتي بغتة سنة 1951 وعمره 53 سنة، حيث ترك عملاً هامًّا غير مكتمل عنوانه «المرئي والخفيّ». سارتر الذي توفي عام 1980، عاش بعده قرابة العشرين سنة. تعرّض بعد وفاته للنسيان مع جيل الستينيات وهو جيل «البنيوية»، حركة فكرية كان لها دور هام في إرجاع الكائن الإنساني إلى مجموعة من العلامات الاجتماعية التي تركّب الثقافات في مجملها، وهي حركة انخرط فيها كل من لاكان وفوكو وبارت وليفي ستروس. لكن أصبحت أعماله محطّ اهتمام مع الأجيال الجديدة منذ التسعينيات [من القرن العشرين].
لقد اهتمّ ميرلوبونتي بفكر هسيرل انطلاقاً من 1929، عندما حل هذا الأخير ضيفاً على باريس ليدلي بمحاضراته «تأمّلات ديكارتية». لقد قرأها بعُمق أفضل مما فعله سارتر وحاول تطويرها ببقائه على منوال «فينومينولوجيا الإدراك». لماذا الاهتمام بالإدراك؟ لأنّ الإدراك بالنسبة لميرلوبونتي هو التجربة الأساسية التي بموجبها يرتبط الإنسان بالعالم.
كانت الفلسفة التقليدية تَعتبر أنّ الإدراك هو عملية ذهنية تجمع بين الإحساسات البصرية واللمسية والسمعية وأيضاً الشمّية. وهو ما فسّره ديكارت في فقرة شهيرة من «تأمّلاته» (التأمّل الثاني) عندما أخذ بمثال الشمع الذي تمّ استخلاصه من خلية النحل ويتبدّى كجسم صلب له لون وشكل خاص. لكن عندما نُقرّبه من النار، فإنّه يذوب، وتختفي رائحته ويتغيّر لونه. فما هو الأمر الذي يدفعني إلى القول بأنّه الشمع نفسه في كلتا الحالتين، يتساءل ديكارت؟ فالأمر المشترك في كلتا الحالتين، هو أنني إزاء جسم ممتدّ في المكان وأنّه يتّخذ أشكالاً مختلفة إذا تعرّض للتسخين أو لا. لكن فقط عقلي في ذاتي هو الذي يسمح لي بالتفكير في ذلك، لأنّ لا شيء في تجربتي الحسّية يمكنه إقناعي بأنني أمام الجسم نفسه. والنتيجة بالتالي هي: الإدراك هو الحُكم أو العملية الذهنية للفكر الذي يمكنه التمييز بين الوحدة والكثرة في المظاهر.
أمام هذا التعريف الكلاسيكي للإدراك، يُبيّن ميرلوبونتي أنني لا أدرك فقط بفكري، ولكن بكينونتي في رمّتها، وبجسدي أيضاً. لكي أدرك، لا بدّ قبل كل شيء أن أقع في العالم وأكون في علاقة مع مجموعة من الأشياء المعطاة أمامي حسب منظورات مختلفة بالمقارنة مع وضعيتي. فلستُ فكراً خالصاً له رؤية شاملة وفوقية على العالم، كوضعية الطائر، لكنني بالأحرى وسط الأشياء وأقع في العالم بجسدي الذي هو كما يشير هسيرل شيء خاص لا يفارقني أبداً ولا يمكنني الابتعاد عنه أو الإحاطة به. على العكس من أشياء العالم، ليس جسدي معطى للملاحظة الكاملة: لا أرى وجهي الذي هو المنطقة العارية من جسدي والذي أعرضه على رؤية الآخرين ولا أتحكّم في إيماءاته أو تعبيراته، ولا أرى أيضاً قفا عنقي ولا ظهري. فينبغي الاعتراف، كما يقول ميرلوبونتي، بأنّ «وجودي كذاتية هو متوحّد بوجودي كجسد»[20].
يجد ميرلوبونتي عند هسيرل مبادئ تحليله الخاص لجسدية الإنسان والتي ستشكّل لبّ إسهاماته في الفلسفة المعاصرة. ما يُبرزه هسيرل هو أنّ مجمل عالم الثقافة هو نتيجة كل تأسيس يعتمل في التجربة المعيشة التي هي دوماً الوعي المتجسّد. لكي يكون هنالك شيء أمام الأنا، شيء يتعارض مع الذات، فلا بدّ أن يكون قبالة ذاتية متجسّدة وأمام جسد قادر بأن يحسّ بذاته، دون أن نكون مجبرين على تحديد هذه الملَكة في الإحساس في مبدأ نفسي محايد كما فعل التراث [الفلسفي]. لتبيان هذه العلاقة بين الإحساس والجسد، يستحضر هسيرل التجربة الشهيرة حول الإحساس المزدوج عندما تقوم اليدّ اليمنى بمسّ اليدّ اليُسرى، وهي تجربة تُفيد بأنّنا على وعي بأنّ جسدنا هو «موضوعي» و«ذاتي»، لأنّ الملموس الذي يصطدم باللامس وينقلب إليه، معناه أنّ الجسد يحسّ «ذاته» بذاته. بهذه التجربة البسيطة، يتبدّى أنّ الجسد هو في الوقت نفسه اللامس والملموس، أي ذات وموضوع، ولهذا السبب يُشكّل كما يُثبت هسيرل الدرجة الصفر للتوجيه، الـ«هنا» المطلق الذي تتوزّع بالمقارنة معه كل الأمكنة الأخرى، رغم كونه جزء من المكان ويأخذ مساحة في هذا المكان.
يقوم ميرلوبونتي بتطوير هذا التحليل في الجسد الخاص باعتماده على التحديد الجديد لكينونة الإنسان الذي يقترحه هايدغر ومفاده أنّ الإنسان ليس وعياً خالصاً على طريقة ديكارت، ولكنه «كائن في العالم»، أي «وجود». بَيْد أنّ تجربة جسدي ليست هي التجربة التي يمنحها لي العلم أو علم التشريح أو الفيزيولوجيا. ليس جسدي تركيبة من الأعضاء المتجاورة في المكان، لكن أمتلكه كمجموعة ممكنة من الوضعيات التي يمكن أن أتبنّاها في الظروف المختلفة. يسمّي النفسانيون هذا الأمر «المخطّط الجسدي» ويعنون بذلك الصورة الدينامية التي لكل شخص حول جسده. المثال الذي يورده ميرلوبونتي بهذا الشأن هو حاسم: «إذا كنت واقفاً وماسكاً على غليوني، فإنّ وضعية يدي ليست محدّدة بالزاوية التي تجعلها مع ساعدي، وساعدي مع ذراعي، وذراعي مع ساقي، وساقي مع سطح الأرض. أعرف جيّداً أين يوجد غليوني معرفة مطلقة، ومن هنا أعرف أين هي يديّ وأين هو جسدي، على غرار البدائي في الصحراء الذي يتوجّه في كل لحظة دون أن يتذكّر في الجمع بين المسافات المقطوعة وزوايا العروج منذ نقطة الانطلاق»[21].
إذا كان الجسد مخطّطاً ديناميًّا وليس جزءاً من الفضاء، فلأنّه مستقطَب بالمهامّ التي يؤدّيها، وبالتالي ليس المخطّط الجسدي سوى طريقة في التعبير عن كينونة الجسد في العالم. يشدّد ميرلوبونتي على أنّنا نتواجد في فضاء أو مكان موجَّه، له أعلى وأسفل، ويمين ويسار. يتمّ التواصل بالمكان عبر الجسد ويستلزم هذا الأمر أنّ «جسدي ليس مجرّد جزء من المكان، ولا وجود لمكان إذا لم يكن لديّ جسد»[22]. يمكن فهم العلاقة بين الجسد والمكان بالنظر إلى الجسد في الحركة.
لقد اهتمّ ميرلوبونتي بمشكلة الأمراض النفسية وخصوصاً الاضطراب المسمّى «العمى النفسي»، مفاده أنّ المريض الذي تعرّض إلى نوبة عصبية لا يمكنه إجراء بعض الحركات بشكل واعٍ أو تسمية الأشياء للاستعمال اليومي. ليس باستطاعته التحرّك بقيادة ذراعيه وساقيه، ولا يمكنه نعت جهة من جسده بأصبعه، مثلاً أنفه أو أذنيه. لكن لديه القدرة على تنفيذ الحركات الضرورية للحياة، مثل أخذ المنديل من الجيب ليتمخّط، ويمكنه أن يواصل إجراء عمله اليدوي بشكل معتاد. يُبرز ميرلوبونتي أنّ هذا لأمر يأتي من كون أنّ هذه العمليات لا تتمّ سوى في المكان العملي للحياة الجارية وليس في المكان الموضوعي، ويتواقت هذا الأمر مع شعور المريض الذي يؤكّد أنّه يحسّ بالحركات التي ينفّذها نتيجة للحالة [التي يتواجد فيها]، وله شبه وعي بمبادرته الإرادية. تضحى مهمّة التنفيذ في هذا السياق حاسمة وتمارس «جاذبية عن بُعد» على الجسد الذي هو مجرّد عُنصر في منظومة تُشكّلها الذات وعالمها[23]. لكن عندما نطلب منه، بمعزل عن كل نشاط عملي، بأن يدلّ على أذنيه، فإنّ الذات [المريض] تخفق في ذلك، رغم أنّها تفهم الأمر الذي أُعطي لها. تأتي هذه المسألة من كون أنّ الأمر الذي يُعطى لها له بالنسبة إليها دلالة ذهنية وليس دلالة حركية. نفهم إذن الاختلاف بين النمطين من الحركة. تتمّ الحركة التجريدية في فضاء اعتباري أو افتراضي يتركّب مع الفضاء الحسّي، وفي هذا الفضاء الافتراضي تتّخذ علامة اليدّ دلالة في الصداقة مثلاً. يتعلّق الأمر بفضاء تتبادل فيه العلامات وهذا الفضاء هو خلاء تبسطه الذات، بينما الحركة الواقعية تتوسّع في الفضاء الحسّي أو الفيزيائي. الأمر السويّ هو القدرة على التعاطي مع الافتراضي بينما المريض هو مسجون في الواقعي. هكذا يتمّ خلق منظومة من الدلالات تعبّر في الخارج عن نشاط الذات القادرة على إبراز الحدود وخطوط القوى والعلامات المتعدّدة في العالم والتي تقود الفعل «مثل اللافتات في المتحف التي توجّه الزائر» كما يقول ميرلوبونتي[24].
لا يوجد العالم بالنسبة للمرضى المصابين بالعمى النفسي سوى كعالم معطى دُفعةً أو ثابت، بينما بالنسبة للذات السويّة هو عبارة عن فضاء تنخرط فيه المشاريع. نرى بوضوح كيف أنّ الجسد هو العُضو الذي يتمدّد عبره الوجود. لكن في تجربة الجسد بوصفه جسداً مجنَّساً (sexué) يمكن اكتشاف بسهولة التداخل بين الجسد والوجود. إذ على المستوى الوجداني والغرامي لوجود يتّخذ معناه وحقيقته عند كائن مفرد يعيشه، يمكننا تجريب نمط من الوعي لا يمكن اختزاله إلى مجرّد تمثّل ذهني، ولكن يمرّ عبر الجسد. لا تشكّل الجنسانية شيئاً متميّزاً عن باقي الوجود ولا تحيل إلى وظائف جسدية محضة، وهذا ما يوحي باستحالة تفسير الإنسان بالبنيات الجنسية التحتية التي قادت التحليل النفسي إلى وضعها في صُلب الوصف الخاص بالدوافع السيكولوجية.
يذكّر ميرلوبونتي بأنّ فرويد نفسه ميّز بوضوح بين الجنسي والتناسلي، وبين الشهواني والغريزي وأنّه عرّف الجنسانية بشكل واسع للغاية بوصفها مصدر السلوكيات البشرية كلّها. يسعى ميرلوبونتي جاهداً لمنح تأويل «وجودي» للفرويدية ويَعتبر أنّ الجنسانية ليست طبقة سُفلى من الوجود يمكن تجاوزها أو «تهذيبها» كما يقول فرويد أو أنّها تشكّل مركز هذا الوجود، لكن هناك بالأحرى «تناضُح» بين الجنسانية والوجود، ومعنى ذلك استحالة الاطّلاع على الدافع الجنساني من أجل قرار أو فعل مُعطى وعلى كل الدوافع الأخرى. نرى بوضوح كيف أنّ ميرلوبونتي أراد، عبر تحليله للجسد الخاص، تبيان أنّ القصدية، بتعبير هسيرل، ليست مسألة نفسانية أو وعي، ولكن مسألة الوجود الجسدي في رمّته، جاعلاً من الفينومينولوجيا فلسفة في منتهى الواقعية.
3- ريكور: سؤال الذات والتاريخ
وُلد بول ريكور سنة 1913 وكان يتيماً من والديه. زاول الدراسة في [مدينة] رين (Rennes) ثم في السوربون، وليس في مدرسة الأساتذة العُليا في شارع أولم. كان أسير حرب من 1940 إلى 1945 واغتنم الفرصة لقراءة هسيرل وترجمته. درّس بعد ذلك في جامعة ستراسبورغ ثمّ في السوربون ثم في نانتير حيث شغل وظيفة عميد الكلية بعد أحداث 1968. استقال من منصبه سنة بعد تقلّده المنصب بسبب خلافه مع اليساريين؛ ثم درّس بعدها في لوفان في بلجيكا، ثم في شيكاغو مع الاحتفاظ على منصبه في نانتير بنصف الوقت. توفي في مايو 2005 وعمره 92 سنة. كان من معتقد بروتستانتي ولكنه حاول دائماً الفصل بين الفلسفة والدين وبين الكتابات التي خصّصها للتفسير الإنجيلي والأعمال الفلسفية. نشر العديد من الكتب، لكن سأركّز هنا على اثنين منها «الزمان والسرد»[25]، مؤلَّف هائل في ثلاثة أجزاء نشره عام 1983 و1985، ويحلّل فيه موقع الإنسان في التاريخ بوصفه سرداً. باستلهامه من فينومينولوجيا هسيرل وفكر ميرلوبونتي، اقترح ريكور في بداية عمله تطوير نظرية واقعية حول الذات يكون فيها للجسدية مكاناً. لهذا السبب كان عمله الأوّل مخصَّصاً لـ«فلسفة الإرادة» (1950-1960)، لأنّ الإرادة تقتضي الانتقال إلى الفعل أي تدخّل الجسد. وفي كتاب آخر، «الذات بوصفها الآخر»[26]، الصادر سنة 1990، يعود ريكور إلى مسألة الذات ويوسّع فكرة أنّ الذات الإنسانية، خلافاً لما ذهب إليه ديكارت وأيضاً سارتر بشكل خاص، ليست ناصعة لذاتها ولا تتحكّم بشكل كامل في ملكاتها، ولكن هناك شيء آخر يقبع فيها، جسدُها أو الآخر، بدونه لا يمكنها أن تتشكّل كذات مستقلّة. انطلاقاً من هذا التفكير في وضعية الذات، قام ريكور بتطوير الفكرة التي تَعتبر أنّ هوية الأنا ليست معطاة، ولكن ينبغي تشكيلها، ولا يتأتّى ذلك إلا بالسرد الذي يؤسّسه كائن حول تاريخه الخاص؛ ويخلُص إلى فكرة «الهوية السردية».
في «الزمان والسرد»، أكّد ريكور أنّ الإجابة عن سؤال «من أنا؟» يقتضي حكاية تاريخ حياته. فعل السرد هو الفعل الذي بمقتضاه تتشكّل معرفتنا حول الماضي، وكما يوضّح ريكور، يتعلّق الأمر أساساً بـ«وضع الحبكة أو الدسيسة» (mise en intrigue) التي تُدمج الأحداث المبعثرة في الوحدة المتوافقة للتاريخ. والسرد الناتج عن ذلك له مفعول على الذات نفسها بسبب تلقّيه من طرف الآخرين ويشارك هكذا في تأسيس تلك الذات. نجد على هذا المستوى مشكل السيرة الذاتية، ليس كجنس أدبي، ولكن كنمط وجود، بحُكم أنّ الوجود بالنسبة للكائن البشري هو أن يبحث عن اتّساق أو أن يتّخذ معنى للحياة. فلا وجود ممكن بالمعنى القوّي للكلمة دون ذاكرة شاملة حول الذات. لا يقتضي العيش بالنسبة للكائن البشري أن يمنح لما يقع له سيرورة تاريخية، ولكن يتطلّب ذلك أن يفهم ذاته في كل مرحلة بشكل مغاير وأن يعطي لوجوده شكلاً مختلفاً. لا يعني هذا التصوّر في السرد كتأسيس ذاتي أنّ الذات تخلق نفسها انطلاقاً من عدم، لأنّها ليست لها السيطرة الكلية على تاريخها الخاص الذي يضحى متشابكاً لا محالة بتواريخ الذوات الأخرى.
ينبغي كما يفعل ريكور الاعتراف بالطابع المتقلّب للهوية السردية المهدَّدة بالتصدّع. لقد اهتمّ الأطباء النفسانيون بهذا المفهوم حول الهوية السردية لأنّ عبر هذا المفهوم يمكن فهم الذُّهان أو الهواس الذي يبدو كاستحالة في الوجود حسب نمط سردي. فلا عجب إذاً إذا كانت أفكار ريكور وجدت تطبيقاً لها في الأمراض النفسية، لأنّه اهتمّ هو الآخر بالعلوم الإنسانية وبعلم النفس، ونشر عام 1965 كتاباً أصبح حدثاً تاريخيًّا آنذاك عنوانه «في التأويل: محاولة حول فرويد»[27]، عمل فيه على إعطاء تأويل فينومينولوجي للتحليل النفسي.
أن تكون الهوية في أزمة، لا يشكّل ذلك حالة شاذّة، ولكن تشكّل بالأولى نظاماً عاديًّا للذات التي لا تضحى هويتها جوهراً ثابتاً يدوم عبر التحوّل ومعطى بالكامل دُفعةً واحدة، ولكن كوفاء للذات. وكما أشار إليه ريكور، يميّز هذا الوفاء للذات الشخص ويتيح استمرار الوعد أو النظام أو القانون عبر الزمن كما تتّخذه الذات وتخضع إليه رغم الإكراهات الممكنة. إنّ جوهر هذا الدوام أن يكون مهدّداً بالانحلال، ويمكن القول بأنّ النظام السويّ للذات يكمن في تدعيم هذا الخطر. الثبات عبر الأحداث الطارئة في شكل هذا الوفاء للذات والذي هو أيضاً ذاكرة الذات، ذلكم هو النشاط الذي تفرضه الذات على نفسها بانفتاحها على ما يأتي نحوها بدلاً من أن تنغلق في وحدة جوهرية مقفلة. فلا يمكن صيانة الذات أو الوفاء للذات سوى بقبول هشاشتها بحُكم أنّ الكائن هو معرَّض لمصادفات الدهر والمصير، أي الحدث. وبهذا المفهوم الأساسي للحدث نتوصّل إلى فكرة الهوية السردية. فما يطرأ على صعيد الوجود يقتضي وضع الحبكة أو التشكّل بالسرد الذي يُدمج التنافر في وحدة تاريخ معيّن. بوجود هذا الطارئ يصبح من الضروري بعد ذلك تشكيله في نمط سردي. الحدث هو شرط إمكان وشرط استحالة السرد وهذا الأمر يستلزمه ويهدّده. فلا يمكن أن يكون هنالك رواية، أي تشكيل سردي، إذا تمّ البقاء تحت صدمة الحدث الطارئ، كما هو الحال مع العُصاب الجريح، لأنّ السرد يهدف إلى جمع الشتات ويُمكّن الذات من التعرّف إلى نفسها في ما يقع لها. ولا يمكن إجراء تشكيل سردي في السُويداء أو الميلانكوليا إذا كان المراد من هذا التشكيل السردي هو انطواء استراتيجي للذات على هوية من نمط جوهري أمام ما لا تحتمله من مخاطر الحوادث التي تمسّها.
إذا كانت العوارض غير المقبولة في العُصاب الجريح تتكرّر باستمرار، فإنّ تلك العوارض في الشكوى السويدائية يتمّ تفاديها، وأحياناً، كما هو الحال مع الانتحار السويدائي، رفضها بقوّة. ما يبدو مستحيلاً، في كلتا الحالتين، هو تلك السردية القادرة على إدراك الحدث والتي لا يمكن التعبير بها إلا بعد زوال الباعث وفي صيغة «لقد وقع لي»، حيث تشهد بأنّ الذات ليست في وضعية السيطرة ولكن يقع لها هذا الأمر أو ذاك. إنّ التشكيل السردي الذي يتيح استيعاب الطارئ لا يمكن الحديث به سوى في صيغة الماضي ويقتضي بالنسبة للذات المضاف إليه المنصوب (datif) ليُبرز تحويل الهوية على نمط الأنا المغلق على نفسه إلى ذاتية بوصفها بنية وقدرة على الاستقبال. بهذا التحوّل الذي ينقل الذات من المرفوع إلى المنصوب يمكن فهم ما يسمّيه «الهوية السردية» التي تُبيّن أنّ هوية التاريخ تصنع هوية من يعيش فيه. إذا كانت هذه الهوية في العيش وفي الرواية عُرضة للمنع أو النفي في العُصاب الجريح وفي السويداء، فيبدو أنّها عُرضة للتشكيك في الفصام وفي فقدان البداهة الطبيعية وفقدان العالم المجرَّب. ففي الفصام تبلغ استحالة الوجود في الصيغة السردية أوجها، لأنّ غياب التشكيل عبر الرواية يتواقت مع استحالة إعادة تشكيل الذات عبر الوقائع، أي توقّف التأسيس الذاتي. نعرف منذ السابق أنّ المرحلة النهائية في الفصام هي الجامود، بمعنى جمود كامل في الجسد يُظهر انهيار في إرادة الذات وسقوطها في وضعية الشيء المحض. لهذه الفكرة نتائج حول الحالة الممكن إيعازها للتاريخ كعلم إنساني. لا يمكن اعتبار الزمن كطاقة في النسيان، طاقة في التهديم، على غرار ما فكّرت فيه الميثولوجيا عندما صوّرته في شكل كرونوس يلتهم أبناءه. يمكن أن نرى فيه كمبدأ في الاستمرارية هو أصل الذاكرة وكل ما يمنح شكلاً متوحّداً لمختلف الأحداث المتميّزة. لأنّ ما يميّز التاريخ، على الخلاف من الشكل المتكرّر للطبيعة، هو أنّه يتيح المحافظة والمجاوزة لكل ما يُحتفَظ به ولا يُكرَّر بشكل آلي. كما يشير إليه ريكور، لا ينبغي الخلط بين الزمن الفيزيائي الذي يعتبر أنّ كل لحظة هي مستقلّة عن سابقاتها وعن لاحقتها في الزمن البشري، والذي يُقحم الانفصال في الأحداث في نسيج واحد. ثمة في التاريخ لحظة في الإبداع تقطع صلتها بالماضي ولكن أيضاً لحظة في الاحتفاظ بالماضي الذي يضمن الاتّصال في مجمل تاريخ شعب أو أمّة من الأمم.
[1] محاضرة ألقيت في إطار «آرتي فيلوسوفيا» (Artefilosofia)، مدينة كان (Cannes)، أبريل 2007.
[2] نحبّذ استعمال الدرب (chemin) لنبقى في الشبكة المفهومية نفسها للتدريب أو التمرين بالمعنى الذي تطرحه داستور. وهناك مصطلح آخر لا يختلف في الإجراء حتى وإن اختلف في الدرجة، ونقصد به مفهوم «الرياضة» في المذهب العرفاني (الصوفي)، الذي هو مذهب فينومينولوجي بامتياز (المترجم).
[3] مورافيا هي اليوم الجمهورية التشيكية (المترجم).
[4] الخط المجموع (sténographie)، يدل على الخط المركّب من عدّة علامات يُستخدم للكتابة بسرعة وقت التلقين الشفهي (المترجم).
[5] الفرانسيسكان (Franciscains) هم من المذهب الكاثوليكي الذي ظهر في إيطاليا في القرن الثالث عشر حيث المؤسّس هو فرانسوا داسيز (François d’Assise)، ومعظم الفلاسفة في العصر الوسيط ألهموا هذا المذهب على غرار دانس سكوت وغيوم أوكام وروجيه بيكون (المترجم).
[6] ماتوشالح (Mathusalem héb. Matushela’h) كلمة عبرية وتعني الشخص الأكثر إعماراً في العهد القديم (التوراة)؛ ويقول النص المقدّس بأنّ عمره بلغ 969 سنة. ويقال في اللغة «شائخ مثل ماتوشالح» للدلالة على الشخص الهرم والمتقدّم في السنّ (المترجم).
[7] جون بول سارتر، المخيال، باريس، غاليمار، 1940، ص. 15.
[8] إدموند هسيرل، أفكار رئيسية من أجل الفينومينولوجيا، باريس، غاليمار، 1950، فقرة 44، ص. 142.
[9] بول ريكور، في مدرسة الفينومينولوجيا، باريس، فران، 1987، ص. 163.
[10] سيريزي (Cerisy) هو قصر عريق فيه المركز الثقافي النورمندي (مقاطعة شمال فرنسا)، وتقام فيه الندوات الدولية في الفلسفة والعلوم الإنسانية (المترجم).
[11] الفوكلوز (Vaucluse) هي مقاطعة إدارية في جنوب فرنسا، في منطقة بروفونس (المترجم).
[12] طالع بهذا الشأن نصي: «حول الالتزام السياسي لمارتن هايدغر»، في: هايدغر بالدلائل القويّة، باريس، فايار، 2006، ص. 441-458.
[13] الترجمة العربية من إعداد جورج طرابيشي تحت عنوان «الإنسان ذو البُعد الواحد»، بيروت، منشورات دار الآداب، ط3، 1988 (المترجم).
[14] الصيغة هي بالإنجليزية: «لقد كان» (has been)، وتقال في اللغة الشائعة عن شخص تجاوزه الزمن؛ وخصوصاً شخصية مشهورة منسية أو خطت عتبة الابتعاد عن الأضواء والشهرة ولم يصبح لها صيت ذائع (المترجم).
[15] «مدرسة الأساتذة العليا» (École Normale Supérieure) هي مؤسسة الدولة الفرنسية في التعليم العالي وتخرّجت منها خيرة النخبة في فرنسا في شتّى العلوم والفنون والآداب، لأنّ نظامها مبني على مسابقة الدخول لامتحان معارف المترشّحين في تخصّصهم ومزاولتهم الدراسة لمدة أربع سنوات (المترجم).
[16] في الوقت الذي ألقت فيه فرانسواز داستور هذه المحاضرة سنة 2007، كان ليفي ستروس حيًّا. توفي في باريس في 30 أكتوبر 2009 (المترجم).
[17] «الألزاس» (Alsace) هي منطقة إدارية في أقصى شمال شرق فرنسا، وعاصمتها ستراسبورغ، ولها روابط بالجرمانية لغويًّا وثقافيًّا (المترجم).
[18] كان هسيرل يهوى كثيراً لوحات أرنولد بوكلين (1827-1901) التي استحسنها في متحف بال، حيث يصوّر فيها مشاهد أسطورية ومنها لوحات تمثّل القناطير.
[19] «الجولاج» (Goulag) هو أكبر معتقل في روسيا ما بعد الثورة البلشفية بقيادة لينين. أصبح في عهد ستالين عبارة عن معسكرات للعمل الإجباري يتعرّض فيه المقيمون من بين المعارضين وغيرهم إلى القمع والتعذيب. راح ضحيته الملايين من البشر خلال فترة تواجده (المترجم).
[20] ميرلوبونتي، فينومينولوجيا الإدراك، باريس، غاليمار، 1945، ص. 467
[21] المرجع نفسه، 116-177.
[22] المرجع نفسه، ص. 119.
[23] المرجع نفسه، ص. 124.
[24] المرجع نفسه، ص. 130.
[25] صدرت الترجمة العربية: «الزمان والسرد (1): الحبكة والسرد التاريخي»، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، مراجعة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، 2006؛ «الزمان والسرد (2): التصوير في السرد القصصي»، ترجمة فلاح رحيم، مراجعة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، 2006 (المترجم).
[26] الترجمة العربية تحت عنوان «الذات عينها كآخر»، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، 2005 (المترجم).
[27] الترجمة العربية تحت عنوان «في التفسير: محاولة في فرويد»، ترجمة وجيه أسعد، دمشق، أطلس للنشر والتوزيع، 2003 (المترجم).