شعار الموقع

مذكرات شاهد للقرن 20 ( الطالب ) لمالك بن نبي

جيلالي بوبكر 2019-05-26
عدد القراءات « 918 »

مذكرات شاهد للقرن 20 (الطالب) لمالك بن نبي

بين السيرة الشخصية والتاريخ وفلسفة الحضارة

الدكتور جيلالي بوبكر*

* جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف - الجزائر.

 

 

مقدمة

مذكرات شاهد للقرن كتاب أخرجه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي عام 1966 باللّغة الفرنسية، وترجم الدكتور (عبد المجيد النعنعي) القسم الأول منه المُسمّى «الطفل» الذي يروي مذكراته في الفترة بين 1905 و1930، وأخرج المؤلف القسم الثاني من الكتاب باللّغة العربية مباشرة، تحت اسم «الطالب» الذي يروي مذكراته في الفترة بين 1930 و1939.

المذكرات في قسميها «الطفل» و«الطالب» تُعبّر عن صياغة تاريخ فرد في ارتباطه بتاريخ بيئة ومجتمع وأمة وإنسانية في حقبة زمنية محددة، كما تُعبّر عن رؤية شاهد بصر وبصيرة للإنسان والتاريخ والحضارة من معايشته لأحداث وظروف كثيرة ومتداخلة وصعبة في الجزائر وفي العالم العربي والإسلامي بوصفه جزءاً من العالم ككل، يشهد على وجود اتجاهين في الفكر والواقع لعالمين مختلفين، عالم يقوده اتجاهه صوب التقدّم العلمي والتكنولوجي والرفاهية المادية والهيمنة واستعمار الشعوب واحتلال الأوطان، وعالم الضعفاء يقوده اتجاهه نحو التحرر، يتطلّع إلى النهضة، يحفظ الفطرة ويتمسك بالتراث ويُحيي قيّم الماضي.

المذكرات يجد فيها كل من المؤرخ والمفكر وعالم الاجتماع وعالم النفس والسياسي والأديب والفنّان وغيرهم ضالته، أهميتها تكمن في أنّها مرآة تعكس حقبة تاريخية ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وتعرض صورة العلاقة بين الأنا العربي الإسلامي الجزائري وغيره مما يتقاطع معه في الدين والعروبة والتخلّف والتهيّب من قهر الاستعمار واستبداد الأنظمة وبين الآخر وعملائه كونه استعماراً وثقافةً وحضارةً وتاريخاً.

الهدف من المذكرات ليس الاستمتاع والفخر والاعتزاز وتمجيد الذات كما يفعل البعض، وليس للتاريخ فحسب، بل كشف لتكوين صاحب المذكرات ومكوّنات فكره وفلسفته في التاريخ ونظريته في الحضارة، وكشف للهمّ الكبير الذي رافقه طيلة حياته وللمطلب الأعظم الذي عاش لأجله، البحث عن حلول لمشكلات الحضارة بغرض التأصيل والتأسيس للنهوض الحضاري في عالم توزع بين قوّي متسلط ومهيمن وضعيف متخلف ومتهيّب.

موضوع دراستنا القسم الثاني من مذكرات شاهد للقرن (الطالب)، تبحث الدراسة في الشهادات التي أدلى بها الطالب على الحوادث والظروف التي عرفتها الفترة بين 1930 و1939 في ارتباطها المباشر بصاحب المذكرات باعتباره إنساناً عاديًّا، وبكونه جزائريًّا عربيًّا مسلماً، وصاحب قضية وفكر يجتهد طلبة العلم في دراسته وفهمه. تتبنّى الدراسة الخطة التالية:

1- مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»، سيرة شخصية.

2- مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»، للتاريخ.

3- مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»، لفلسفة الحضارة.

4- مميزات مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب».

-1-
مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»، سيرة شخصية

يمثل كتاب «مالك بن نبي» مذكرات شاهد للقرن العشرين الذي يتألف من قسمين: القسم الأول «الطفل» يروي فيه مذكرات طفولته من سنة 1905 إلى سنة 1930، والقسم الثاني «الطالب» يروي فيه مذكراته وهو طالب في فرنسا من سنة 1930 إلى سنة 1939، فالكتاب سيرة حياة طفل وسيرة حياة طالب، يظهر الفرق جليًّا بين مذكرات الفترة الأولى ومذكرات الفترة الثانية، ففي مرحلة الطفولة سرد الراوي نشأته الأولى وتكوينه داخل أسرة جزائرية مسلمة ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، أما في المرحلة الثانية فسرد الراوي سيرته داخل حياة جديدة عليه وهو دخيل عليها، فيها تتجسد الحرية وسائر القيّم الإنسانية والحضارة للفرنسيين، في مقابل التخلّف والجهل والانحطاط والقهر والاستبداد الذي طبع الحياة في الجزائر بسبب الاستعمار.

يسرد الراوي قصصاً كثيرة عن حياته في فرنسا، فرنسا الحرية والعدالة والمساواة، فرنسا حقوق الإنسان، فرنسا العلم والحضارة، إلا على الأهالي في مستعمراتها في الجزائر منها تبسة وقسنطينة وأفلو وغيرها من مدن وقرى وأرياف الجزائر، فكل الحقوق مهدورة، الجوع والجهل والمرض، الاستبداد في الفكر والرأي والتعبير، امتهان الكرامة والمسخ الديني والأخلاقي، إفساد حياة الجزائري المسلم بضرب مقومات دينه ووطنه وتاريخه وثقافته.

أثناء الفترة الثانية ومن خلال معاشرته للباريسيين، وتنقله بين مدن وقرى فرنسا، وتنقّله إلى الجزائر خلال العطل الصيفية وزياراته لأسرته بمدينة تبسة، يتعمّق اكتشافه للاستعمار وتتوسع مداركه، فيطّلع على نواياه وحقيقته، يحيا الاستعمار بوجهين مختلفين، وجه ظاهري ترتسم عليه قسمات الطيبة والخلق الرفيع والذوق السليم والسلوك المهذب وعلامات التحضر، ووجه باطني مخفي تخفيه صورة الوجه الخارجية خصّ به أبناء مستعمراته طُبع على الكراهية والظلم والاستبداد ولا يرضى عن غير هذا بديلاً.

وبما أنّ الفترة الثانية تخص حياة الراوي الدراسية والسياسية بباريس وبمدن وقرى أخرى في فرنسا ما بين 1930 و 1939 أي تسع سنوات، وهو من بلد مستعمر سافر للدراسة، استطاع أن يطلع على ما كان يجري في العالم من أحداث سياسية وتطورات اقتصادية وتحولات اجتماعية وثقافية وتقلّبات عسكرية، خاصة وأن الفترة كانت حسّاسة وخطيرة باعتبارها جاءت قبيل الحرب العالمية الثانية ودولة فرنسا كانت من ضحاياها ومن المستفيدين منها في النهاية، وكان الرّاوي من أشدّ الناس تتبعاً للأحداث والأحاديث علّه يجد في حديث أو حادث ما يبث في نفسه الأمل في نهاية عمر الاستعمار الفرنسي في الجزائر العربية المسلمة وفي سائر مستعمرات فرنسا.

الجدير بالذكر أنّ الراوي لم يجد أيّة صعوبة في التكيّف مع الوجه الظاهري للإدارة الاستعمارية، ولا مع زملائه في الدراسة، ولا مع زوجه الفرنسية التي دخلت الإسلام، ذلك لرزانته ونباهته وحدّة ذكائه وطيبته وأخلاقه الرفيعة وتحكّمه في اللّغة الفرنسية، لكنّه وجد صعوبة كبيرة مع الوجه الخفي للاستعمار، فلا يضرّ من جرؤ وكان صريحاً وأظهر السوء، لكنّ الخطر فيمن أظهر الرضا وأبطن الشرّ على سبيل النفاق، ولكون سجية الطالب لا ترضى سوى الذوق السليم والمنطق السليم والفكر السليم، ولا تقبل سوى الحياة السليمة بشروطها جميعاً، المادية والروحية، الذاتية والموضوعية، الفردية والاجتماعية، الدينية والدنيوية، الأخلاقية والسياسية، فإنّ الوجود الاستعماري على أرض الجزائر مخالف للحياة السليمة، وهو مظهر من مظاهر التوحّش لا التحضّر، ولا سبيل لتحضر الشعوب المستعمرة إلاّ إذا تخلّصت من الاستعمار، ولا يمكنها ذلك إلاّ بالتخلّص من القابلية للاستعمار، وهي ظاهرة أخطر من الاستعمار.

يروي «الطالب» الجزائري المسلم من مدينة تبسة في شرق الجزائر المستعمرة، المغترب بفرنسا لطلب العلم والمعرفة، سيرة حياته بالتفصيل في هذه الفترة «1930- 1939»، منذ نزل بباريس لا يعرف عنها شيئاً إلاّ ما سمع وقرأ، كان ذلك في صبيحة أحد أيام شهر سبتمبر من عام 1930 إلى يوم 22 سبتمبر من عام 1939، حيث تسلّق سلّم الباخرة بميناء عنابة بصحبة زوجته خديجة وهرّتها «لويزه» بعدما قرّر العودة إلى فرنسا وسلحفاة أهدتها له أم أحمد عند التوديع، وكان معهم صديقه «خالدي» في طريق عودته إلى جامعة «تولوز»، يقول الصدّيق: «وعندما بدأت الأرض الجزائرية تغيب في الأفق، وجدت نفسي أقول وأنا متكئ على حافة الباخرة: يا أرضاً عقوقاً!.. تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرّة!..بينما بدأ ظلام الليل يسدل ستاره رويداً رويداً على بحر هائج تتراكم أمواجه بعضها فوق بعض».[1]

سرد الصدّيق قصة نزوله بمحطة ليون بباريس بعدما ترك الوطن والوالدين والإخوة والخلاّن والجيران وتبسة والشرق الجزائري والجزائر، ترك كلّ ذلك تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، وسرد قصصه الكثيرة والمثيرة، مع شوارع باريس ومع الفندق ومع بنات باريس الطائشات ومع بزّته الخارجة عن الذوق المألوف بلونها المشرق، يقول: «هكذا استقبلتني باريس، بوجه بناتها الطائشات الكاسيات العاريات العارضات لزينتهن وعرضهن دون أي شعور بالإثم. ولكنّ لباريس وجوه أخرى لا يكتشفها المرء عند نزوله. وقد كانت تجولاتي الأولى مجرد محاولات غير جريئة للتعرّف عليها في العالم الجديد الذي أصبحت فيه...»[2].

وضع جديد لم يألفه في بلده حيث عفّة الرجال وحياء النساء، حيث حفظة القرآن ودروس الوعظ والإرشاد، حيث يعيش الإنسان على الطبيعة والفطرة. لكنّه لم يكن ينظر إلى وضعه الجديد بعين الإنسان العادي بل بعين ثاقبة؛ لأنّ باريس ليست فقط طيش وفسق وخمر بل لها وجهها الروحي المسيحي والحضاري والعلمي التكنولوجي، الوجه الذي أهّل فرنسا لتحتل الصدارة في القوّة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية بين أمم وشعوب ودول العالم، قوّة حوّلتها الإدارة الفرنسية العليا في اتجاه ممارسة الاستعمار والهيمنة والتسلط وقهر الشعوب المستضعفة.

يروي الصدّيق قصته مع «الوحدة المسيحية للشبّان الباريسيين» التي أصبح عضواً فيها رغم أنّه مسلم، انضم إليها لحاجته إلى ضرورات العيش في مدينة باريس، التنظيم الذي شدّ اهتمامه وانتباهه لما يوليه من عناية بالجانب الإنساني من منطلق ديني مسيحي، الأمر الذي نمّى فيه جانبه الروحي كشخصية مسلمة، ولما ينطوي عليه الإسلام من قيّم ودلالات في اتجاه حفظ الإنسان في حياته وكرامته وعقله ودينه وماله، الأمر المعهود في التنظيم الوحدوي الشباني الباريسي، والمفقود تماماً في مستعمرات فرنسا، إذ تجد حياة حيوانات المُعمرين في أفضل مما هي عليه حياة الأهالي التي تفتقد إلى أدنى شروط الحياة الإنسانية الكريمة، لدى فرنسا حقوق الإنسان والعدالة والحرية والمساواة والتقدم الحضاري.

حال الاستعمار بوجه باطني خفي أنيابه حادّة شديدة القّوّة تفترس وتلتهم الأخضر واليابس، وبوجه ظاهري أبيض ناعم كريم متسامح، هذا التناقض الذي قد يغيب عن الكثير ويتجاهله الكثير من فرنسيين ومن أبناء المستعمرات؛ كان يزيد في احتقان «الطالب» وشدّة غضبه وحزنه، كما يشتد حرصه على ربط كل ما يقع عليه فكره وما تقع عليه عينه -خلال صولاته وجولاته في مدينة باريس وخارجها، وعند عودته إلى الجزائر في العطلة الصيفية، وفي كل تحرّكاته داخل المدرسة وفي الأماكن العمومية، وفي اتصالاته ومع علاقاته وبسائر الأماكن التي كان ينزل بها- بوجهي الاستعمار الظاهري والخفي، ويعمل على التفكير والتأمل في الظاهرتين اللتين تتسع لهما حقيقة الاستعمار تحليلاً وتفسيراً، فهو الضحية وفرنسا الاستعمارية هي الجلاد، والمشكلة مشكلة قابلية للاستعمار في الأصل والجوهر.

يروي الصدّيق «الطالب» قصّة رسوبه في امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس، ويسرد مذكراته في اليوميات التي عاشها منتظراً الامتحان، فيصف تلك الحوادث التي مرّت عليه بحلوها وبمرّها، يصف الشوارع والمباني وأحوال الناس ويصف معارفه الجديدة وكل ما هو باريسي تقع عليه عينه، رغبة منه في التأقلم مع الوضع الجديد، والحصول على مقعد دراسي بمؤسسة تعليم عالي، والحصول على منصب عمل يقتات منه حتى يُحرر والده من أسر الإنفاق عليه.

جاء خبر رسوبه في الامتحان على لسان مدير معهد الدراسات الشرقية الذي أشعره بعدم الجدوى من الإصرار على الدخول إلى المعهد، فبانت له بكل وضوح الحقيقة التالية: «إنّ الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع -بالنسبة لمسلم جزائري- لمقياس علمي وإنّما لمقياس سياسي... لقد أدركت في تلك الّلحظة نفسها ما سيتبع عبارات المدير من نتائج عملية دون أن أحللها، إذ لم أكن بعد قد اكتسبت خبرة هذا التحليل، الذي يريني اليوم بكل وضوح درجة القرابة بين هذه العبارات، وما قاله لي قبل سنة مدير شؤون الطرق بمدينة تبسة، عندما سألته عن شروط الإسهام في المزايدة التي تجري كل سنة تحت إشرافه لإصلاح الطرق، أو لفتح طرقات جديدة في الناحية، وقد اهتممت حينئذ باستغلال وسيلة نقل كانت لدي أستطيع بها نقل مواد الطرق من أحجار وغيرها. ولكن عوض أن يدلي إليَّ بالمعلومات المطلوبة، أدلى إليَّ سيادته بنصيحة: «الأفضل أن تبيع ما عندك من وسائل نقل إلى مسيو «كانبون» أو مسيو «سبيتري» فإنّ المزايدة بين أيديهما. واليوم بعد أربعين سنة، أرى بكل وضوح أنّ الرجلين، المدير المتواضع لشؤون الطرق بتبسة والمدير المحترم لمعهد الدراسات الشرقية، إنما يتكلّمان لغة واحدة «لغة الاستعمار»: فهذا حرمني من أن أصبح مقاولاً في مصلحة الطرق، وذلك حرمني من فتح مكتب محاماة بتبسة بعد سنوات الدراسة بباريس»[3]. هذه الحادثة وغيرها كثير تركت في نفسه أثراً بالغاً زاده إصراراً على تمسكه بقضاياه العادلة وحقوقه المشروعة في التعلّم، وفي الحرية، وفي الاستقلال لوطنه، وفي الحضارة لشعبه مثل بقية الشعوب المتقدّمة.

ويروي الطالب قصّته مع المعهد اللاّسلكي الذي حقق فيه حلمه في تحصيل العلم من غير اكتراث بمنصب سياسي عالٍ، أو بمركز اجتماعي مرموق، أو بجمع المال للثراء، وهي غايات الكثير من الشبان الجزائريين المغتربين في مختلف أنحاء فرنسا، غايات فرّقتهم وحوّلتهم إلى شتات فكري وإيديولوجي دعّمه الاستعمار وأسست له إدارته، فكان ذلك على حساب تكوينهم العلمي والتقني والفكري والثقافي عامة، في الوقت الذي كانت فيه الجزائر في أمس الحاجة إلى نخبة قويّة تفكر في الأوضاع وتحسن تقديرها لها، لتمتلك السبل والوسائل وسائر الإمكانات الروحية والمادية لتخلع عنها ربقة الاستعمار وقيوده الحديدية التي تعاني منها منذ عام 1830.

كانت الأحداث اليومية الباريسية والأحداث في الجزائر والتطورات الدولية تؤثر فيه باستمرار، تؤثر في تكوينه الفكري والسياسي والثقافي عامة، يوميات الحي اللاتيني والصراع بين الاستعمار وعملائه والانشقاق من جهة، وبين الوحدة والإسلام والعروبة والحرية والوطنية والعدالة من جهة أخرى، وقصّته مع معرض المستعمرات الذي ينتقص من المستعمر ويهينه ويقلل من قيّمه الدينية والتاريخية والثقافية، وكان لعلاقته من صديقه «حمودة بن ساعي» تأثيرها الإيجابي الكبير في حياته، في نظره، فكان يرى في «حمودة بن ساعي» الرجل المثقف الواعي المؤمن بقضيته والمخلص لها. ومن المحطات التي أثّرت فيه وفي حياته معاقبة الإدارة الفرنسية الاستعمارية والده بنقله من طرف رئيسه، فاضطر الوالد إلى طلب إجازة ولم يعد إلى عمله حتى وافته المنية، فضاعت حقوقه كلّها بوصفه موظفاً، وكان ذلك بسبب مواقف الصديق السياسية والإيديولوجية من الاستعمار.

يعبّر الصديق عن محنته في والده وأسرته بقوله: «كنت أتأثر من هذه المحن التي بدأت تنصب على أهلي بسببي، دون أن أغيّر سلوكي بسببها، بل كانت الأحداث نفسها تزيدني تصلّباً وتحدّياً في نظر الإدارة الاستعمارية، التي بدأت في ذلك الشهر بالذات شهر شباط «فبراير» عام 1932 تولي اهتمامها في الأوساط الطلابية بصدى حدث وقع بعاصمة الجزائر، حيث أمر الحاكم بمنع أي نشاط لجمعية العلماء في مساجد الوطن»[4]. وفي هذا الوقت بالذات كان الصراع على أشدّه بين مكونات الحركة الوطنية الجزائرية في الجزائر وفي فرنسا، والتي كان لها بعد عربي إسلامي كما كان لها بعد إقليمي مغاربي، الصراع الذي كان يتابعه الصدّيق عن كثب، كما كان يتابع التطورات الدولية والحركات التحررية في العالم والحركات الداعية إلى السلام أو تلك الدّاعية إلى الحرب.

أسّس في هذا الوقت الصدّيق برفقة نخبة من المثقفين العرب في باريس «جمعية الوحدة العربية»، يصفها بما يلي: «وكأنّما كانت هذه الدعوة -كما يتبيّن للقارئ- مقدمة للجامعة العربية الحالية... وفي نهاية المطاف أصبح «محمد الفاسي وبلفريج والطوريس» يمثلون مراكش في الوحدة و«بن ميلاد» مع بعض مواطنيه يمثلون تونس، وأصبحت أنا أمثل الجزائر. وكانت سوريا مع لبنان، ممثلة في شخص فريد زين الدين وبعض مواطنيه ممن يقرضون الشعر. فكانوا عند افتتاح أو ختام كل جلسة، يشنفون مسامعنا بآخر قصيدة لهم في تمجيد العرب»[5].

يسرد الصدّيق ذكرياته مع مدرسة الكهرباء والميكانيكا بباريس، ومع سفره إلى الجزائر في العطل الصيفية أو عندما تدعوه الحاجة، فيصف الحياة في الجزائر وفي عنابة وفي قسنطينة ويضع يده على أدق التفاصيل، يصف الجغرافيا من دون أن ينسى التاريخ والثقافة بمختلف مظاهرها وغيرها، لارتباطه بموطنه جسداً وروحاً، ويعرض ذكرياته مع زوجته خديجة معلقاً عليها. ومما جاء في سرده لمذكراته مع شريكة حياته التي قاسمته الأفراح والأحزان، وفتحت له آفاق الاطلاع على الحياة الأوروبية الغربية الحياة في القرى والأرياف وفي المدن التي عايشها وكثيراً ما وصفها، وهكذا يصفها: «إنني أذكر هذه التفاصيل لأنني أعدّها دالة على التطور النفسي الذي سيجعلني أشد الناس نفوراً لكل ما يسيء لذوق الجمال، ولأنّها تفسر ثورتي على بعض جوانب تخلّفنا التي تصبح موضوع السخرية في بعض المجالات، بإيعاز تلك الأوساط التي تتدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لإبقاء الوضع على ما هو عليه، باسم الوفاء للتقاليد، عندما نحاول نحن، تحت أي راية تقدمية، أن نغيّره، غير أنّ الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي، لم أكتسبها اكتساباً بدأت معه تغيير بعض مظاهري منذ وجودي بمدرسة قسنطينة، وإنّما وجودي بفرنسا ومعايشتي لزوجي طوّر هذه الاستعدادات الوراثية إلى أفكار اجتماعية واضحة»[6].

ومن الذكريات التي استرجعها ووقف عليها وأثرت فيه كثيراً ذكرى وفاة والدته وما تركه فقدانها على الأسرة من تصدع واهتزاز، وفي معرض عودته إلى «تبسة» وبلغه خبر وفاة أمّه، يعبّر عن ذلك قائلاً: «فوقفت كأنما نزلت على رأسي صاعقة، وكأنما الأرض تزلزلت تحت أقدامي، وفي لمحة بصر تحولت عواطفي من السعادة القصوى إلى المصيبة الدهماء... كانت الضربة قاسية ولكنني لم أشعر بعد بكل ألمها لأنها جديدة، كنت تلك الليلة أولي اهتمامي لمواساة والدي الذي كان يبكي خلف منديل يخفي وجهه، وكان خالي «أحمد شاوش» الطبيب التقليدي المشهور والمحبوب في المدينة، يصرف كل جهد لمواساتنا جميعاً، بذكر نبذ من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام»[7].

سرد الصديق ذكريات حياته بعد وفاة والدته متتالية وعودته إلى فرنسا، وكانت تصاحبه دوماً صورة الحياة المزرية في الجزائر وصورة الحياة في الغرب الأوروبي، وقصصه مع السفارة المصرية والإيطالية والأفغانية والألبانية وغيرها، قصصه مع البوليس الفرنسي الذي كان يراقب نشاطه واتصالاته بأصدقائه، وشعوره بخيبة أمله في الحراك الوطني الجزائري آنذاك، إخفاقاته في الامتحانات وفي طلبه العمل وفي محاولات سفره خارج فرنسا خاصة إلى أرض الحجاز، بؤسه إلى درجة طلبه الموت، هذه الحال يقول فيها الراوي: «إنّ إيطاليا الفاشية لم تعطني الفرصة، و«سودرية» ومدرسة الميكانيكا والكهرباء خيّبا رجائي، والأمين العمودي لم ينشر مقالي في صحيفته، والمؤتمر الجزائري تبخّر، وخاب ظني في الإصلاح والعلماء المصلحين، وأصبحت أتساءل ماذا أفعل؟ بدأ هذا السؤال الذي طالما تردّد في نفسي بعد خروجي من مدرسة قسنطينة، يتردّد على ذهني من دون جواب. وبدأت أشتم في نفسي رائحة الغرق... تنبأ بعض علماء الفلك بكارثة اصطدام ممكنة بين الأرض وأحد الأجرام في السماء. وأتذكر أني قرأت هذا النبأ في صحيفة مسائية بمقهى الهجار، بعد أيام قلائل من عودتي من رحلتي، فتقبلته بكثير من الرجاء. إن المرء يعيش هذه الحالات النفسية عندما لا يبقى أمامه إلاّ رجاء الفناء»[8].

سرد الصدّيق ذكرياته مع إحدى المحطات الرئيسية في حياته، وهي محطة المؤتمر الجزائري الإسلامي الذي أشرف على إدارته بمرسيليا، المؤتمر الذي أسّسه عدد من المثقفين الجزائريين لأجل تعليم وتثقيف العمال الجزائريين، فتعلّموا حساب اللانهاية والجغرافيا، ودروس في السياسة والأخلاق، سرعان ما أقفل الاستعمار مركز المؤتمر الجزائري الإسلامي وعاد هو وزوجه إلى تبسة، وتعاون مع الشيخ «العربي التبسي»، واختلف معه في طريقة التفكير وفي أسلوب تحليل القضايا والأحداث والحكم عليها واتخاذ القرارات، وكان يتابع التطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يعرفها العالم العربي والإسلامي وتشهدها أوروبا الغربية، خاصة الحرب العالمية الثانية التي كانت على وشك الاندلاع، وكان الصدّيق ممن يطمعون في تحريرها للشعوب والأوطان من الاستعمار الفرنسي الغاشم، كالغريق الذي يمسك بالقشة على سطح الماء.

سرد الصدّيق بالتفاصيل ذكرياته قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية وهو بتبسة عن حياته وعن حياة زوجه معه، وعن هرّة زوجته «لويزة»، وعن أسرته وجيرانه وأبناء المدينة وحاكمها والحراك الاستعماري فيها، وعن اتصالاته بزعماء الإصلاح وبالمعممين والمطربشين وبغيرهم، وعن متابعته للأحداث والوقائع المحلية والدولية، وعن حراكه عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية مع الخطوة الجزائرية في آخر شهر يونيو «حزيران» 1939، ومقاله «لا مع الفاشية ولا مع الشيطانية»، واندلعت الحرب الشاملة وقرّر السفر إلى فرنسا تاركاً وراءه أرض الآباء والأجداد، الأرض التي أبت إلاّ أن تجوّع أبناءها وتطعم الأجانب، معاهداً إيّاها باللاّعودة إلاّ بعدما تصبح حرّة.

إنّ في قراءة مذكرات الصدّيق «الطالب» على مدى تسع سنوات حفر في حياة فردية جزائرية عربية إسلامية، على المستويات النفسانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وفيها ينكشف مدى التواصل التاريخي والحضاري بين بني البشر، وحاجته الملحة إلى ذلك لتستقيم الحياة، ويستقر الوضع، وتهدأ الأمور، فيخلو الجو للعطاء وللفعالية وللمبادرة الفعّالة، وفيها تتبلور حقيقة الحياة في جزائر الاستعمار والقهر والاستبداد، وفي فرنسا الحضارة والحرية وحقوق الإنسان. وفيها نكتشف الكثير من جوانب الصراع الفكري والإيديولوجي الذي ميّز الكثير من جوانب الحراك الوطني الإصلاحي وغيره في القيادة وفي القاعدة، كما تتضح الكثير من الأحداث التي عرفتها الإنسانية في هذه الفترة، وتنكشف باستمرار عند القراءة الحقائق، وتستنبط المعاني والعبر. فالمذكرات هي بحق شهادات قيّمة لشاهد ليس كغيره، هذه الحقيقة تتأكد كلّما قرأنا المذكرات بتأمل وتوئده.

-2-
مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»، للتاريخ

حرص الإنسان منذ وُجد أوّل مرّة على تخليد ما يحدث له وما يُحدثه هو، فيُدوّن ما ينتجه عقله وما تصنعه يده، من خلال وسائل شتى، وبأسلوب مباشر أو بأسلوب غير مباشر، وتطور التسجيل المخلّد بتطور وسائله وأساليبه في المكان وعبر الزمان، وبفعل تطور البناء الحضاري وتراكم المنتجات الحضارية عبر تاريخ الإنسانية الطويل، حيث سجّل الإنسان أفكاره وسائر أعماله خاصة تلك التي تتمتع بالأصالة والإبداع، في حال الحرب وفي السلم، عند القوّة وفي حال الضعف، في كل الأحوال وفي جميع مجالات الحياة من غير استثناء، سجّل انتصاراته وانكساراته، سجّل ثقافاته وسائر مظاهر هذه الثقافات، من تفكير متنوع وعلوم مختلفة وعقائد متعددة وألوان كثيرة من الفنون والسياسات، وكذلك التقنيات والصناعات.

خلّد الإنسان ما أبدعه على الحجر والشجر والمعادن وعلى كل ما صنعته وأخرجته يده بهدى العقل من الحجر والشجر والمعادن ومما تدّخره الطبيعة، طبيعة البشر والطبيعة الخارجية الموضوعية، وكان الهدف من التدوين تخليد مآثر البشر وتكريمه، لتستمر الحياة الإنسانية في اتجاه العطاء والتفوق والتألّق حضاريًّا في الجانبين النظري والعملي، الروحي والمادي.

جاء الدور في ميدان تخليد أعمال البشر على التاريخ أو التأريخ وعلى أهله في حفظ الماضي الذي كان بالأمس حاضراً ينعم بالحياة، وفي صون المواد التاريخية على اختلاف أنواعها ومجالاتها، التي هي مآثر وأمجاد وبطولات البشر، وكذلك مطبّاتهم وهناتهم وسقطاتهم، وصار التاريخ ذاكرة الإنسان، تاريخ الشعوب والأمم والأوطان، وتاريخ الأفراد من تاريخ الجماعات، وتاريخ أمة يعني ذاكرتها التي تحدد ماضيها، وأمة دون ماضٍ فهي دون جذور ومن غير روح وليس لها هوية، فالتاريخ سجل الماضي وذاكرة الشعوب وروح الأمم وهوياتها، وأمة من غير تاريخ لا ذاكرة لها ولا روح، فهي أمة في سبات بل ميتة، من هنا سجّل الإنسان ولازال يسجل ما يصدر عنه في حياته الفردية والجماعية.

صار التاريخ يلازم جميع جوانب حياة البشر، فُرادى وجماعات، تاريخ العلماء وتاريخ الفلاسفة وتاريخ الفنانين وتاريخ الساسة وتاريخ المخترعين والمبدعين وتاريخ الرحلات وغيرهم كثير، وكذلك تاريخ العشائر وتاريخ القبائل وتاريخ الأمم والشعوب وتاريخ الدول وغيرها كثير، كل ما يقع في ميدان حياة الإنسان الفرد أو الجماعة يشمله التاريخ، ومن أهمية التاريخ في حياة الإنسان وحاجته الملحّة إليه، ودوره في حفظ الماضي في الحاضر وبناء المستقبل، وضمان حاجة الإنسان للإنسان من خلال وصل السابق بالراهن وربطه باللاحق، لهذه الأهمية نما فعل التأريخ وتطوّر لكون الإنسان أولاه بعنايته واهتمامه منذ القديم، فنمت مع ذلك حياة الإنسان وتطوّرت.

ومن نتائج العناية الخاصة التي أولى بها الإنسان التاريخ أن أوجد فنوناً فكرية وأدبية وفنية كثير ومتعددة طابعها روحي ومادي تصب في التاريخ، فهي تمثل مرجعياته ومستنداته، تعينه ويستند إليها عند الحاجة باعتبارها مصادر مباشرة وغير مباشرة، لا يمكنه الاستغناء عنها في حصر وضبط وتحديد الحوادث الماضية والذكريات زمنيًّا ومكانيًّا، من أجل دراستها وتحليلها وتفسيرها واستثمارها في الحاضر ولبناء المستقبل، من هذه الفنون الفكرية والأدبية والفنية الشعر بجميع فنونه وأغراضه، والنثر بكافة ألوانه وميادينه، وسائر الفنون الأخرى التي عرفتها حياة الإنسان.

لعلّ أبرز الفنون الفكرية والأدبية وأقربها للتاريخ، التي يجد فيها المؤرخ ضالته فن التراجم والسيّر باعتبارها لوناً فكريًّا وأدبيًّا يتناول التعريف والإحاطة بحياة رجل أو أكثر، إحاطة قد تطول وقد تقصر، تكون عميقة أو سطحية، دقيقة واضحة أو عامة غامضة، كافية أو ناقصة، معيبة بالأخطاء أو صحيحة تنسجم مع العقل والذوق السليمين، بنت الواقع والمألوف أم من الخيال والوهم، وتكون التراجم ذاتية أو غيرية، ذاتية ما يكتبه الكاتب عن ذاته عرضاً لمذكراته وسرداً للأحداث التي عاشها وعرفتها حياته، مثل ترجمة عباس محمود العقاد لحياته في كتابه «أنا»، وترجمة أحمد أمين لحياته في كتاب «حياتي»، وترجمة لويس عوض لحياته في كتاب «مذكرات طالب بعثة»، أما الترجمة الغيرية فهي ما يكتبه الكاتب عن غيره سرداً للأحداث التي عاشوها وعرفتها حياتهم، مثل تراجم عباس محمود العقاد لحياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولحياة صحابته في «العبقريات».

ولا يوجد فرق لغوي بين السيرة والترجمة ولا في الحال والعمل والغاية، ففي الحالتين يكتب الكاتب مذكراته الشخصية أو مذكرات غيره، على طريقته وبأسلوبه وبحسب عصره وإمكاناته وحسب رغبته، وإذا كان كل من الاستعمال التاريخي والاصطلاح الفكري والعلمي يقرن السرد المعمّق والطويل بالسيّر ويربط العرض القصير والمختصر بالتراجم، فهذا لا يفصل بين الاثنين في الجوهر والدور والهدف، فكلاهما فعل تاريخي يربط الماضي بالحاضر ويقف في وجه نسيان الإنسان لماضيه المُشرق أو المشؤوم، لبناء الحاضر وللاستعداد للمستقبل.

استهلّ الراوي كتابة مذكراته شاهد للقرن بتقديم شاذّ عن المألوف لدى الكتّاب، هو عبارة عن قصة خيالية مفادها أنّ القدر ساق له الكتاب فوجده جاهزاً بجنبه وهو يصلي بالمسجد ليكون مرجعاً تاريخيًّا لأبناء الجزائر في الحقبة بين 1905 سنة مولده و1935 سنة انقطاعه عن الدراسة، ويظهر ذلك في مقدمة القسم الأول «الطفل» وفي مقدمة القسم الثاني «الطالب»، فيقول: «ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب للقارئ، كما هو مألوف، إنّما أردت أن أكشف الظروف المثيرة التي ألقت إليّ بهذه المخطوطة فاتجهت لنشر قسم منها في هذا الكتاب»[9].

نشر الجزء الأول من مخطوطه الذي أهداه له القدر ليهديه من جهته إلى كل جزائري يهمّه تاريخ الجزائر على أن ينشر الجزء الثاني فيما بعد، وفعلاً نشر الجزء الثاني بالمقدمة نفسها، وتمّ جمع القسمين معاً في كتاب واحد، ولعلّه يؤكد من خلال هذه المقدمة الخيالية الهادفة ضرورة إسهامه في التأريخ من خلال مرحلة طفولته ومرحلته الدراسية بأوروبا، نظراً لأهمية هذه المرحلة من التاريخ وخطورتها على الجزائر وعلى العالم الإسلامي وعلى الإنسانية جمعاء.

تميّزت المرحلة بالاستعمار الفرنسي الذي غرس أنيابه وجذوره في مستعمراته ينهش خيراتها ويقلع مقوماتها ويدفع بها نحو خراب العقول ودمار الحقول، وعالم عربي وإسلامي ممزق الأوصال ومشتت القوى ومفكك العلاقات الأسرية والدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وعالم تدفعه التقلبات السياسية والعسكرية والاقتصادية بحثاً عن السيطرة والنفوذ في اتجاه حرب شاملة مدمرة.

وجاءت مذكرات شاهد للقرن بقسميها «الطفل» و«الطالب» تصور لنا الحياة في صورة بحر هائج أمواجه عالية عاتية تتلاطم، والعالم فيها سفينة ترفعها الأمواج إلى أعلى عليين ثم تنزلها بعدما كانت في أعلى عليين إلى أسفل السافلين، والإنسان في العالم بين قويّ مستبد متسلط وضعيف مقهور متهيّب، وكانت فعلاً الحقبة الزمنية منعرجاً كبيراً وحساساً وخطيراً في تاريخ الإنسانية، انقسم العالم إلى معسكرين شرقي وغربي، واستفاد عدد من الدول من الحرب فأصبح يقود العالم في اتجاه العولمة باسم هيئة الأمم المتحدة بدل عصبة الأمم، وتحقق وعد بلفور المشؤوم وانغرس الخنجر اليهودي الصهيوني في الجسم العربي الإسلامي، وصار الإسلام متهماً انتقاماً للحروب الصليبية، ومازالت آثار وتداعيات تلك الحقبة التاريخية تتوالى حتى الآن.

يعدّ القسم الأول من المذكرات «الطفل» فعلاً كتاب تأريخ ليوميات الجزائري في الشرق الجزائري تحت الاستعمار، ففيه التاريخ ببعده الثقافي والأنثروبولوجي الذي تحول فيما بعد إلى ثورة عارمة شاملة مسلّحة خطط لها ونفذها أبناء نوفمبر المجيد، فمن ملامح تاريخنا ببعده الأنثروبولوجي والثقافي توظيف الأسطورة التي تتحول إلى واقع.

ومثل القسم الأول نجد القسم الثاني من المذكرات «الطالب» يؤرخ بحقّ لفترة على مدى تسع سنوات سبقت الحرب العالمية الثانية وكانت حافلة هي الأخرى بالأحداث والتحولات غيّرت وجه الحياة في العالم بعد ذلك، وكان صاحب المذكرات يهدف من وراء هذا العمل التأريخ إذ يقول: «وربما يعجب هنا أولئك المثقفون الذين أصبحوا لا يدركون لغة الشعب الجزائري المسلم، إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجلهم، ولكن للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقصي تلك الخرافات التي تعرض أحياناً أفلاماً كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلّفات العهد الاستعماري»[10].

يصف الصدّيق «الطفل» أسطورة البطل التي تحوّل إلى «مصطفى بن بولعيد» وإلى «العربي بن مهيدي» وإلى «أحمد زبانة» بقوله: «كنا نختلط بتلك الجماعة المؤلفة من مزارعين فقدوا صنعتهم، فلم يكن لهم مكان في حقولهم بعد أن طردهم الاستعمار واستولى على أراضيهم، ثم إنّ المدينة لم تُؤوهم بعد فيها... أما قسنطينة المدينة فكانت تقدم صوراً أخرى، فمع عمي تابعت الاتصال بذلك الجانب الفاتن: العيسوية العلية والموسيقى، وأيضاً جانبها البطولي. ففي ذلك العصر كان الحديث كثيراً عن مآثر شاب خارج عن القانون ولجأ إلى أودية وممرات، وادي الرمل. كان يدعى «بوشلوح»، لقد كان بطلاً يملأ خيال المراهقين قبل نومهم. لقد جندت له الإدارة أفضل رجالها خشية أن تملأ المدينة أسطورته البطولية، غير أن «بوشلوح» كان دائماً يحبط خططهم، إذ حوصر مرة في فندق فتسلل هارباً من نافذته عبر مجرى للماء يأخذ مياه المدينة إلى أسفل وادي الرمل، ومن هناك اختفى بأعجوبة. كانت هذه الأسطورة تذكي خيالي وتغذيه... وفي يوم تلقينا بأسى أنّ «بوشلوح» وقع جريحاً في يد الإدارة، إنما الذي كان يعزينا أنّ المفتش «بوناب» الذي جرحه قد دفع ثمناً لذلك حياته، لقد أثارت محاكمة «بوشلوح» الشعور في قسنطينة حين انتشرت كلمته إلى رئيس المحكمة الذي نطق بحكم الإعدام: إنكم تحكمون على المقعد الذي أجلس عليه، أما أنا فإنكم لا تستعطون أن تحكموا عليَّ»[11].

وفي السياق نفسه، لكن هذه المرة مع الحياة السياسية والاجتماعية، يروي الصدّيق: «ففي يوم كان أحد المنتخبين الأوروبيين يقدم تقريراً للمجلس حول سرقة بقرة تخص أحد المستعمرين الفرنسيين، ويختم تقريره بقوله: بالطبع فإنّ السارق أحد سكان البلاد الأصليين (Indigene)، فانبرى له خطّاب الطالب في السنة الرابعة، وكان يجلس في مقاعد المستمعين في المجلس وصرخ: ولم لا يكون السارق فرنسيا؟»[12]. كان للحادثة تأثيرها الفعلي في نفوس أبناء قسنطينة وأبناء الجزائر عامة، وتحوّل كل من يسمع كلام «خطّاب» في الجزائر إلى «خطاب» بداخله، فجواب الطالب العفوي يحمل دلالة كبيرة ومغزى بعيداً، تجسّد خطاب «خطّاب» بعد سنين إلى رصاصات مدوية في جبال الأوراس في الساعة الصفر من أول نوفمبر المجيد سنة 1954.

وأرّخت المذكرات في فصلها الثاني «الطالب» للعقد الذي سبق الحرب العالمية الثانية، بتناولها أحداث سياسية وعسكرية وغيرها مثل وصف بدء محور برلين روما والحرب الإسبانية، وسجّل مواقف الطلبة الجزائريين من ذلك ومواقفه مما يحدث في الجزائر وفي فرنسا وفي العالم ككل، وسجّل بوصف دقيق كل مظاهر الحياة في مدينة تبسة جغرافيًّا، تغيّر المناخ، وسياسيًّا مع تطور الأحداث في العالم وقربه من الحرب الشاملة، واجتماعيًّا ازدياد درجة الفاقة، وثقافيًّا. «لم تبق في المدينة أسرة تستطيع أن ترتب لطالب «جواني» وجبات الطعام، لأنّ الحرائق الكبرى في الغابات حول تبسة قبل الحرب العالمية الأولى، تسببت في تغيير المناخ الذي تطور إلى جفاف أفقر -بسنين كسنّي يوسف- كل العائلات التي تعيش من الفلاحة، ثم لم يعد التطور الذي ألغى العادة المألوفة إلى أن يعوضها بعادة جديدة»[13].

ويدافع صاحب المذكرات عن الأفكار التي يؤمن بها في هذا الجو الإيديولوجي والفكري والديني المشحون، الذي اختط بمآرب الاستعمار وبالمصالح الخاصة لدى القائمين بالإصلاح وممثلي الحركة الوطنية، مثل المركز الاجتماعي المرموق والمنصب السياسي العالي والمال والشهرة وغيرها، «أما الأفكار التي كنت أحاول نشرها فكانت في تعويض فلاحة القمح والشعير بفلاحات أخرى، مثل التين الشوكي وشجر الصبّار التي تتمشى مع تغير المناخ، لكنني ما كنت أجد لها أذناً صاغية غير أذن «حشيشي مختار» ربما لأنه -مع التزامه الإصلاحي- بقي واعياً لنوعية المشكلات في البلاد»[14].

ويصف الراوي طبيعة الإصلاح والأفكار التي يقول بها دعاة الإصلاح، ويصف ما كان يجري من محاضرات ومناقشات وحوارات في المؤتمرات والندوات حول النهوض بالأمة، نجده في كل مرّة يوجه نقداً لذلك ويقلل من شأن الحراك الإصلاحي ومن دعوات السياسيين والمناضلين في الأحزاب والمنظمات والجمعيات للنهوض بالجزائر لتتحرر من وضعها المشؤوم، ويؤكد ذلك بقوله: «ويجب أن نقول الحقيقة للتاريخ: إنّ الوطن لم يكن يبحث عن أفكار تقنية، ربما كنت الجزائري الوحيد الذي لا ينام من أجلها، وربما كانت الجزائر حينئذ في منعطف سيبعدها حتى عن الأفكار التي ولدت على أرضها، فتراها في تلك الفترة بالذات تولي ظهرها للأفكار الإصلاحية حتى في تلك اللحظة التي يتوجها المؤتمر الجزائري الإسلامي»[15].

وتؤرخ المذكرات في جزئها الثاني «الطالب» لكل الأحداث التي تحدث بباريس مثل التظاهرات التي كان ينظمها اليهود بقيادة «برنارد لوكاش» زعيم التنظيم اليهودي العالمي «ليكا» «التي تجمع تحت رايتها اليهود لمواجهة الخطر الهتلري والخطر العنصري، الذي بدأ يظهر أثره في جانب من الرأي العام الفرنسي، على أبواب الحرب العالمية الثانية»[16].

وتؤرخ المذكرات لمشاركات صاحبها ونضاله في الحركة الوطنية بفرنسا، خاصة عندما تتاح له الفرصة للتعبير عن مطالب الجزائريين في الحياة الحرة والعيش الكريم وفي تقرير المصير والحق في الاستقلال، ومن مشاركاته تلك التي أسهم بها عندما كان مديراً للمركز الجزائري الإسلامي، ففي الوقت الذي كان فيه المناضلون الجزائريون في الجزائر وخارج الجزائر منقسمين إلى وحدويين ومنشقين، وفي الوقت الذي دوّى فيه صوت «هتلر» و«موسيليني» في العالم ينذر بانفجار الحرب مع أزمة تشيكوسلوفاكيا؛ يصف الراوي في مذكراته الأوضاع العامة والخاصة بالجزائر وبفرنسا وحتى في العالم.

ففي خضم التحولات الجارية، وفي وصفها يقول: «وبلغت الأزمة أوجها يوم 27 أيلول «سبتمبر»، فنظمت ذلك اليوم الحركات اليسارية تظاهرة دعي إليها النادي فكنت ممثله، وبدأت في القاعة المكتظة الخطب حسب التقليد المألوف، فأتى دوري فتلخص خطابي في اقتراح: يجب على هذا المؤتمر للقوى التقدمية أن يوجه اليوم برقية إلى الحكومة يطالبها بمنح شعوب الشمال الإفريقي حقوقها، حتى تدخل المعركة من أجل الديمقراطية شاعرة بكرامتها لا بوصفها مرتزقة. في آخر الجلسة قرأت على الحاضرين لائحة التوصيات، فلم أجد فيها اقتراحي ولا مجرد التلميح إليه، اقتحمت المنصة لألفت النظر إلى هذا النسيان، ولم أصرح بأنّه تناسٍ، فهاجت القاعة وخصوصاً السيدات تهتف لي»[17].

ووصفت المذكرات الأحداث الدولية ومدى تأثيرها في الشعوب المستعمرة، مثل ما وقع في الجزائر قبيل وبعد اندلاع الحرب العامية الثانية، على الرغم من أنه كان يعلّق عليها آمالاً كثيرة وكبيرة لتخرج الجزائر من الوحل، وفي هذا يقول الراوي: «ودقت ساعة الحرب، فأتاني «خالدي» بخبرها في الصباح: إنّ الجيش الألماني عبر حدود بولونيا في الساعة الخامسة من صباح اليوم. لم أكد أصدّق لطول انتظاري ولكن شرع البوليس في التفتيش ذلك اليوم، فسلّمت محفظة تضم كل أوراقي لأم الدكتور خالدي، وذهبت مع زوجي تلك العشية بمنشور عن قضية فلسطين، فدفنّاه في علبة معدنية خلف البيت على وادي الناقوس، حتى يبقى للتاريخ... ومنذ الغد بدأت الأسعار في السوق والبضاعة تختفي، ودخل هكذا العالم في الحرب العالمية الثانية»[18].

يمكن القول: إنّ مذكرات شاهد للقرن «الطفل» و«الطالب» معاً هي شهادات للتاريخ، اختلط فيها السياسي بالديني بالأخلاقي بالاجتماعي بالاقتصادي بالتربوي بالحضاري، شهادات لحقبة هامة وحساسة وخطيرة وإن كانت قصيرة في عمر الجزائر والأمة الإسلامية والعالم، فهي سبقت الحرب العالمية الثانية وأعقبتها تحولات جذرية صاغت العالم سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وفكريًّا صياغة جديدة، شهادات حول الاستعمار الفرنسي ومخططاته وجرائمه في الجزائر وفي مدن فرنسا مع كل جزائري يريد الانتفاضة في وجهه الخفي، وشهادات حول الحركة الوطنية وانقساماتها، وشهادات حول الحركة الإصلاحية ودعاتها، وعلى رأسهم جمعية العلماء المسلمين التي كان يهمّه أمرها، وشهادات حول الأحداث التي شهدها العالم قبيل الحرب العالمية الثانية، فالكتاب بحق وثيقة تاريخية ذات أسلوب تميّز بالدقة والوضوح والتسلسل، وذات بعد محلي جزائري وإقليمي عربي إسلامي وعالمي إنساني، يُقرأ من خلالها تاريخ الجزائر وتاريخ العالم العربي والإسلامي وتاريخ أوروبا الحديثة وتاريخ العالم أجمع.

-3-
مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»، لفلسفة الحضارة

لم يكن مالك بن نبي الطالب في مرحلته الدراسية في الطفولة بالجزائر وفي مرحلة الشباب بفرنسا بحسب مذكراته طالباً عاديًّا، بل كان صاحب فكر ورسالة وكلمة وموقف، صاحب مشروع فكري نهضوي حضاري، بانت إرهاصاته في طفولته وفي شبابه، مشروع تجاوز به أترابه في الجزائر وتفوّق حتى على النخبة من أقرانه في المدارس الفرنسية ومعاهدها، تكوّن فيه بالعناية الإلهية التي هيّأت أسبابه، فكان إعداده الأولي الإسلامي العربي الجزائري الأصيل المتين، وجاءت سفرياته العديدة من تبسة الجزائر إلى باريس ذهاباً وإياباً، ثم جاء تكوينه العلمي الرياضي، ثم تكوينه التقني العملي، بالإضافة إلى تكوينه الفلسفي وتنوع ثقافته، بفعل ذلك كلّه تشكّل لديه منهج خاص محكم في التفكير، ومنطق دقيق في التعامل، وأسلوب مزج فيه بين بعد النظر والدّقة العلمية والعمق الفلسفي.

استطاع أن يجمع بين الحكمة العلمية والحكمة الفلسفية في تتبع أحوال الظواهر والأشياء، وفي تحليل الحوادث والقضايا والمشكلات، وفي اتخاذ المواقف، أسلوبه يقوم على مراعاة طبيعة البشر وفطرته، ويستخدم العقل والمنطق والبراغماتية، ويستفيد من العلم والتاريخ وخبرات وتجارب الآخرين في الماضي والحاضر إلى أبعد الحدود، فكان بحقّ منهجه في التفكير والدراسة والتحليل لا يستقيم وجوده وحاله إلاّ لدى مفكر أو فيلسوف، وبان ذلك بوضوح في سائر كتاباته التي نشرها تحت عنوان كبير «مشكلات الحضارة»، من منطلق أنّ مشكلة الإنسان المعاصر في تخلّفه وانحطاطه في أصلها مشكلة تحضر.

جسّدت مذكرات شاهد للقرن العشرين «الطالب» فعلاً رؤية فكرية وفلسفية إلى الحضارة والمدنية، انطلاقاً من وضع استعماري فاسد متعفّن مختل متدهور باستمرار في الجزائر وفي سائر البلاد المستعمرة، ووضع حضاري علمي وتكنولوجي متطور باستمرار في فرنسا وفي العالم المتقدم، ومن منطلق أفول نجم حضارة إسلامية عريقة وراقية كانت قمّة في العطاء وبلغت أوجها في الازدهار، ولم تتَّجه صوب استعمار الشعوب والأوطان والعقول وعلاقاتها بغيرها من الأمم والأقوام لا تكون إلاّ بالرضا والاختيار، فالعناية الإلهية شدّتها نحو الحرية والعدل والمساواة في الدين والدنيا، حضارة زحفت على العالم لإرساء مفاهيمها ولنشر ثقافتها وسائر منتجاتها المادية والروحية، وخاصة العالم الإسلامي الذي داسته أقدام جنود الاستعمار وداست معه كرامة المسلمين ودينهم وثقافتهم وتاريخهم الذي اشتمل على حضارة راقية في النظر وفي العمل، حضارة كانت حقًّا وفعلاً فتحاً مبيناً على أوروبا في العصور الوسطى المظلمة، فأخرجتها من ظلمات الجهل وفاجعات الاقتتال والتناحر ومعاناة الظلم والجور إلى نور العلم ومتعة الأمن وراحة العدل.

نال الاستعمار الفرنسي من أبناء الجزائر كرامةً وثقافةً وديناً ولغةً، كما نهب خيراتهم وثرواتهم الطبيعية، وبدّد طاقتهم البشرية الفكرية والروحية، وسفك دماءهم وذبحهم كالخراف، ومازال كذلك مع أبناء الجزائر المهاجرين عمالاً وطلبةً، بثّ في أوساط نخبتهم داخل الجزائر وفي مدن فرنسا الفرقة والشّقاق والانقسام فصاروا وحدويين ومنشقّين، وقبل ذلك كانوا على قلب رجل واحد، لا نزاع ولا فرقة، حتى بين يهود الجزائر ومسلميها، وانغمس معظمهم في ثقافة الغرب وفي مغرياتها المادية، ويرون في ذلك الحداثة والتحديث اللاّزمين، التقدّم المطلوب الذي هو شرط ازدهار أوروبا وتطوّرها وسبب خروجها من التخلّف والانحطاط، وتسابق الجميع على الدنيا من دون اهتمام بالموت والحياة الأخرى، ومن دون التفات لمآسي الشعب وهمومه ومعاناته، فكان الجميع ضد الجميع بسبب منصب سياسي أو مركز اجتماعي أو مقدار من المال، أو عمالة رخيصة من غير منطق عملي أو فعّالية في المبادرة والاتجاه.

في هذا الجو الجزائري المريض بالقابلية للاستعمار، وبكل ما جرّته هذه الظاهرة من مآسٍ منذ وطأ الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر على أبناء هذه الأرض الطيبة، تأكّد لدى الطالب الراوي أنّ الإصلاح الذي يدعو إليه الممالئون للاستعمار مشين، والذي يدعو إليه غيرُهم ناقص ينقصه عمق الرؤية ودقتها وسلامتها وكفايتها، وتأكّد له أنّ المشكلة الأصل في البلاد العربية والإسلامية المستعمرة وفي غيرها من البلاد المتخلّفة هي مشكلة حضارة لا غير، وانكشف الفرق بين الصدّيق «الطالب» في رؤيته للإنسان وللتاريخ وللمجتمع وللحضارة وللحياة عامة وبين أترابه، جزائريين وفرنسيين ومن جنسيات أخرى، وانكشفت هواجس «الطالب» العميقة في التحضّر وفي مشكلات التحضّر، يحلل وينقد ويقارن ويستنتج يبحث عن الحلول، ويقدم رؤى فلسفية وفكرية وروحية على درجة عالية من الدّقة والوضوح والعمق حول شروط التحضّر وأسباب أفوله وحقيقته وما إلى ذلك كثير.

اجتمع عدد من الأسباب والظروف عرفتها حياة «الطالب» في الجزائر طفلاً وفي فرنسا شاباً يطلب العلم، أثّرت في تكوينه النفسي والروحي والديني والسياسي والعلمي والتقني والحضاري عامة، جعلت منه الشاب الطموح إلى تحقيق حرية واستقلال وطنه وشعبه وأمته، وإلى التأسيس لمشروع فكري نهضوي إصلاحي حضاري إنساني بطابع عالمي. مشروع مبني على أسس علمية، ووفق استراتيجية محكمة ودقيقة، ورؤية فلسفية عميقة وواضحة ذات أبعاد تجمع بين الجانب الروحي والمادي، بين العلم في موضوعيته ودقته وكميته، وبين بعد النظر الفلسفي وعمقه ورحابة أفقه، وبين ظروف الإنسان الفردية والاجتماعية وسائر طاقاته والإمكانات المتاحة له، وبأسلوب براغماتي واقعي يضمن للجميع مصالحهم ويضمن مقاصد الشرع في الدين الإسلامي، يأخذ المشروع بهذه الصورة طريقه في اتجاه التحقق، إذا تخلّصت الشعوب من الاستعمار ومن القابلية للاستعمار أولاً، وأخذت بأسباب وشروط النهضة والحضارة التي تعود في الأصل إلى ما هو روحي بالدرجة الأولى، وأحاطتها بسياج مكارم الأخلاق وتعاليم الشرع الحنيف.

اجتمعت مواهب الطالب العقلية ونمت وتفتقت بفعل تكوينه الروحي والديني والأخلاقي الذي تلقّاه في أسرته الجزائرية المسلمة المحافظة، وكان تكوينه الأولي قويًّا ومتيناً، وتبلورت هذه المواهب أكثر بعد سفره إلى باريس، وانخراطه في المجتمع الفرنسي الجديد عليه، وتفتحه على الثقافة الغربية والحياة الأوروبية واطلاعه على الصراع الفكري والإيديولوجي في الغرب الأوروبي وفي البلاد المستعمرة، من خلال الاتجاهات الفكرية والفلسفية والسياسية والدينية وغيرها، وما زاده إلماماً بهذا الصراع مشاركاته وإسهاماته الفكرية والصحفية بالخطب والمحاضرات والمقالات الفكرية في الكثير من الندوات والمؤتمرات، وكان لتكوينه العلمي والتقني في المعهد اللاّسلكي وفي مدرسة الكهرباء والميكانيكا الأثر البارز في تكوين رؤيته في الإصلاح والتغيير لا على أساس العاطفة الدينية أو العاطفة الوطنية، ولا بالطرق الصوفية ولا بممالأة الطغاة والتعاون معهم؛ لأنّ ذلك كمن ينتظر من سجّانه وجلاده يُسلّمه مفتاح باب السجن ليتحرر منه، فالتغيير يبدأ من الذات ويجري في الواقع وفق منهج علمي في إطار استراتيجيه وفلسفة واضحة تحدد المبادئ والأصول والمناهج والوسائل والأهداف، وأي مشروع خارج هذا السياق مصيره الفشل.

اتضحت معالم مشروع «مالك بن نبي» الحضاري وبانت إرهاصات منهجه في التفكير وفي التحليل، وتبلورت بوادر فلسفته في الحياة في المذكرات، من خلال العديد من المشاهد والحوادث والمواقف، وهو طفل في الجزائر وشاب طالب يتنقل بين الجزائر وفرنسا، ويروي لنا بعد نظره في الربط بين ما هو اجتماعي وما هو تقني في سياق يقوم على الوحدة والتكامل، فيقول: «... وإنّما كنت أتناول بكل اغتباط تلك الأدوات التي صنعتها الحضارة التي استخدمت النار والحديد، وأتذوق أثناء عملي كل ما في اللّحظة من عذوبة بسيطة. أما الوحدة فلأنّها كانت تغذّي في نفسي الجانب الروحي، وتعرض على فكري اهتمامات وموضوعات أخرى: كنت في جوّها الخاص أعقد الصلة تلقائيًّا بين القيّم الاجتماعية والتقنية، التي أشاهدها وأتذوقها في الشارع وفي المدرسة، والقيّم التي أراها في هذا الجو، الذي يجد فيه الشباب الوحدوي روحه المسيحية في دقيقة التهجّد عندما يقيمها «هنري نازيل»[19]، وكنت بدويًّا اكتشفت خلال تلك الدقيقة ما تنطوي عليه الروح المسيحية من حرارة في عقيدتها، ومن طاقة على الإشعاع، وربما كشفت لي هذه الملاحظات عن جوانب في روحي المسلمة لم أكن أشعر بها قبل بالحدة نفسها؛ إذ لم تكن روحي الموحّدة للمفاهيم الثالوثية التي يحملها إخواني الوحدويون، وبدأت تدور بيني وبينهم محاورات تدخل موضوعات جديدة في جو الوحدة وتساؤلات جديدة عند رفاقي»[20].

ويقول في تكوينه الفكري بصحبة صديقه «حمودة بن الساعي»: «ولكنّه مع ذلك كان الوحيد من جيلي الجزائري، الذي أستطيع العمل الفكري معه؛ لأنّ شيطان المعرفة قد استولى عليه منذ صباه، حتى أنني اعتقدت، تلك الليلة، أننا سوف نقوم بعمل سيبقى أثره في المجتمع الجزائري... ولكن بعد أربعين سنة عندما تعود لي اليوم بعض ذكريات تلك الفترة، أدرك أنّني على أية حال، أدين لـ«حمودة بن الساعي» باتجاهي كاتباً متخصصاً في شؤون العالم الإسلامي حتى لو أنّني لم أنجز معه أي عمل بعيد المدى... ومن ناحية أخرى يجب أن أقول: إنّ تحولي عن دراستي خاصة أيام المعرض قد زاد بصحبته منذ أصبحت مهتمًّا بالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، أكثر من اهتمامي بمواد مدرسة اللاسلكي... لم يبقَ للأفق البعيد أي تأثير في توجيهي، لكنني بدأت أشعر بآفاق جديدة لازالت غامضة، ولم أكن أستطيع التعبير عنها بكلمات ولكنّها تؤثر بوخزها في نفسي على توجيهي العام»[21].

يروي «مالك بن نبي» قصة اختلافه مع صهره حول منطق الإصلاح، ليعرض التباين بين منهجه في الإصلاح المستمد من وعيه العلمي ونظرته الفلسفية وإيمانه بالقيمة الاجتماعية للتقنية، وهو منهج تكوّن لديه في فرنسا، والمنهج الصوفي المعروف في الجزائر وفي البلاد العربية والإسلامية، فيقول: «استطاع صهري، بعد نكبتنا الاقتصادية سنة 1930، أن يؤمّن قوت أطفاله في شغل مع شركة تصدير للحلفاء مقرها بالمدينة، ولعلّه أراد مزيداً من الضمان لمصير أسرته، فتعلّق ببركة شيخه «سيدي التيجاني» أكثر ممَّا كان عليه تعلّقاً بالفكرة الإصلاحية المغايرة تماماً للطرق الصوفية، فقد شعرت ببرودة وفتور بيننا، سيكون لها أثر في علاقتنا الفكرية، ولكن علاقتنا العائلية ستبقى على أيّة حال كما هي»[22].

يصف «مالك بن نبي» في عرض مذكراته في تواصله الثقافي والحضاري مع أقرانه من الطلبة الجزائريين والفرنسيين وغيرهم من الجنسيات الأخرى، وهو يعيب على إحدى الظواهر الثقافية والحضارية التي يتصف بها المثقفون في العالم الإسلامي، يقول: «وفي الحقيقة كان صديقي «حمودة» قد أتقن اللغة العربية في محاضرته «السياسة والقرآن» كما علمت ذلك من بعض المحاضرين من الشبان الذين تعرفت عليهم بالنادي، غير أنّ صدمة صغيرة عكّرت سروري عندما سألت الشيخ العقبي ففاجأني برأي غريب: إنني لا أعتقد أنّ هذه المحاضرة من تحرير «حمودة بن الساعي» ولا من بنات فكره، فبعض جملها تكرر على مسمعي كأنني طالعتها في إحدى المجلات الشرقية»[23].

ويضيف الراوي أنّ الحالة المرضية تنمّ عن مركب نقص وشعور بالضعف أمام الثقافة الشرقية من جهة والثقافة الغربية من جهة أخرى، الأمر الذي جعل من يعاني هذا المرض الثقافي والفكري والأدبي في تبعية دائمة لغيره، لا يعتمد على نفسه لتغيير حياته وتطويرها، فيقول: «لم أكن قد عرفت بعد أنّها حالة مرضية تعتري غالبية حاملي الثقافة عندنا، فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى في الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم في فرنسا. وبالأحرى لم أكن أعرف أنّ هذه الحالة المرضية تعتري كل مثقفي العالم الإسلامي، إذ تراهم يعانون مركب نقص نحو الثقافة الغربية، وإنّما تتخذ هذه الحالة ازدواجية بسبب ما يعاني الشباب الجزائري تجاه «طه حسين» من ناحية، وتجاه «فرانسوا فانون»من ناحية أخرى؛ لأنّ التكوين غالباً ما يكون أدبيًّا. وهي بالتالي ظاهرة عامة: إنّ كل مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كل أصالة في التفكير، أو في السلوك أمام الآخرين»[24]. والإقلاع الحضاري من جديد أو لأول مرّة يقتضي التوازن في البناء الحضاري، وهذا الأخير يشترط الأصالة والإبداع في الفكر والسلوك.

ينعت الراوي الحضارة من خلال التمييز بين مظاهرها المادية وأوضاعها المضطربة وما حققته من تطور كبير في مجال تحديث الحياة اليومية بالاختراعات المذهلة المبهرة وبين وجهها الأصيل الثابت، ونموذجه في ذلك فرنسا، يقول: «إنّ هذه الحياة المضطربة المصطنعة لا تعطي صورة صحيحة عن الحضارة الفرنسية، وإنّما توجد هذه الصورة بنماذجها الأصيلة وأصولها البعيدة في الريف في الطبيعة، حيث تكونت صلة الإنسان بالتراب على مدى القرون... لم يكن ممكناً بباريس التعرف على هذا الوجه الحقيقي للحياة الفرنسية، وهذه هي المرّة الأولى التي أتعرف فيها عليه، بقدر سيزيد اكتشافي، أرى الملامح التي أوحت إلى «سولي» وزير هنري الرابع في أوائل القرن السابع عشر، ذلك الشعار الذي وضعه أساساً لسياسته: الحراثة والمرعى هما الضرعان اللذان تحتلبهما فرنسا. واليوم أدرك تمام الإدراك، أنّهما الضرعان اللذان رضعهما عصر النهضة، وأنّ النهضة الفرنسية بالذات هي بنت هذا الإرضاع»[25].

يحكي الراوي عن انتسابه إلى الإصلاحيين ويعبّر عن اتجاهه الفكري والثقافي المستمد من تربيته ومن تكوينه وهو طفل في الجزائر، وهو اتجاه نما وتطور بفعل التواصل الثقافي والاجتماعي والفكري والسياسي بين ثقافتين مختلفتين وحضارتين متباينتين، هما الثقافة والحضارة الإسلاميتان من ناحية، والثقافة الغربية الحديثة من ناحية أخرى، ويصف الفترة وانتسابه الثقافي والفكري والسياسي بما يلي: «وهكذا بدأت تلك الفترة تنشأ صورة القومية الجزائرية بجناحيها: الجناح الكادح الطامح إلى البرجوازية في ذات قيادته المتواطئة مع الحركة اليسارية الفرنسية، والجناح المتواطئ مع الاستعمار... لم يكن «حمودة بن الساعي» وأخوه منتسبين لأحد هذه الأطراف، بينما كنت أنتسب للطرف الإصلاحي، لأنّه كان يمثّل في نظري الصورة الجزائرية للفكرة الوهابية التي كنت أرى فيها منقذ العالم الإسلامي»[26].

كان «الطالب» في مرحلة الدراسة بباريس يتواصل مع أقرانه من جنسيات وأديان وتيارات فكرية كثيرة، وكان يختلف معهم في طرح المشكلات وفي معالجتها، المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة مشكلات البلاد المستعمرة، وكان يرى أنّ أصل المشكلات التي يعاني منها الإنسان المعاصر خاصة الإنسان المتخلّف حضارية بالدّرجة الأولى، يقول في ذلك: «كنت مع صديقي «صالح بن الساعي» وجماعة من طلبة جزائريين نتناجى بغرفة نزل في القاهرة حول مسيرة الثورة الجزائرية، إذ قام صديقي ليغلق علينا باب الغرفة، فتذكرت فجأة كم كان صديق الصيني أقرب لمنطق الحذر، فصرخت لصالح: «أرجوك أن تترك الباب مفتوحاً، وإن استطعت أن تزيل الجدران من حولنا فافعل، لأن الجدران قد تكون وراءها آذاناً صاغية.».. ومهما يكن فاليوم بعد أربعين سنة أرى بصورة أوضح جوهر اختلافي مع صديقي الصيني، إذ كان يطرح قضية البلاد المستعمرة بتعبير السياسة، وكنت أطرحها من الوجهة الحضارية»[27].

بانت ملامح المنهج الفكري الفلسفي الحضاري لدى «مالك بن نبي» في طفولته وفي شبابه وفي أيام دراسته، وهو الأمر الذي تؤكده مذكراته، فكثيراً ما دعا في تبسة بعد اندثار أشجار غابتها وقفرت أراضيها إلى تعويض زراعة الحبوب بزراعة الصبّار والتين الهندي، وكثيراً ما انتقد مواقف الزعماء السياسيين والتيارات الفكرية والفلسفية والدعوات الإصلاحية بفقدانها الفعّالية، كما تعلّق اهتمامه بالفلسفة والفلاسفة وبعلم الاجتماع وبالتاريخ، وبسائر النتائج العلمية في الفيزياء والطب والرياضيات وبالاكتشافات والاختراعات، وبجميع التحوّلات التي عرفتها أحوال العالم في مرحلته الدراسية، ومن صور اهتماماته صورة تعلّقه بالتجارب العلمية والتقنية، ومنها تجارب «جورج كلود» التي يقول فيها: «ولم يتعلق اهتمامي كما تعلّق بتجارب «جورج كلود» يستخدم الحرارة البحرية، لماذا لا نستخدم الحرارة الصحراوية؟ كان هذا السؤال يتردد في ذهني في تلك الفترة، لأنّ المجال العربي صحراوي على العموم، وأصبحت أُولي شطراً من وقتي لدراسة «الترموديناميك» خاصة. وهكذا عاش جيلي دون أن يتصور أنّه يعيش تحوّلاً كبيراً في جميع اتجاهات التاريخ»[28].

إنّ القارئ لمذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب» مثلما يكتشف «مالك بن نبي» الإنسان يكتشفه من خلال تكوينه الديني والسياسي والاجتماعي والفكري، خلال الدراسة وأثناء تنقله بين الجزائر وفرنسا، ويجد أنّ تفرّده في منهج التفكير في الطرح والبحث والمعالجة والنقد والاستنتاج، وفي قدرته على الحوار والإقناع والجمع بين الأدلة والأسباب وسرعة استخلاص النتائج من المقدمات، زاده تكوينه العلمي والتقني الدقة والوضوح في تحليلاته في أفكاره، وهكذا ظهرت بوادر منهجه العلمي والفلسفي المتقدم كما برزت إرهاصات مشروعه الفكري والثقافي والحضاري الذي تجاوز به من سبقه وسبق عصره، المنهج الذي جعل منه مفكر العصر وأستاذ الجيل، والمشروع الذي حوّله إلى فيلسوف الحضارة في عصرنا. ويقول عنه الأستاذ أنور الجندي: «مالك بن نبي يختلف كثيراً عن الدعاة والمفكرين والكتّاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنّة والفلسفة والتراث العربي الإسلامي الضّخم وبين علم الغرب وفكرهم المستمد من تراث اليونان، والرومان والمسيحية»[29].

-4-
مميزات مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب»

بعدما قرأت مذكرات شاهد للقرن 20 في قسمها الثاني «الطالب» اكتشفتُ شخصية «مالك بن نبي» الإنسان، الذي نشأ وترعرع في أسرة جزائرية محافظة على تراث آبائها في اللّغة والتديّن وسائر العادات والتقاليد، على الرغم من تعرّضها للاستعمار الفرنسي، وما فعله هذا الأخير من محاولات متكررة لطمس معالم هذا التراث ومحو آثاره من حياة الجزائريين، اكتشفت الإنسان بمشاعره الجيّاشة في العطف والحنان والحب تجاه أفراد أسرته وخاصة والدته وكذلك زوجته «خديجة» التي عاش معها حياته في ودّ ووئام، وتجاه كل إنسان تعرّض للظلم، خاصة ذلك الإنسان الذي هو «مالك بن نبي» الذي تعرّض لظلم كبير هو وشعبه وأمته من طرف الاستعمار، فنمت في المقابل في نفسه مشاعر الغلّ والحقد والضغينة تجاه الاستعمار الفرنسي البغيض وتجاه أي استعمار خبيث لا يجلب لمستعمراته سوى الهلاك والخراب ويكون دوماً نقمة عليها.

واكتشفتُ شخصية «مالك بن نبي» الإنسان في صلته بالاستعمار وفي مواقفه منه وممَّا يصنعه في الجزائر وفي مستعمراته الأخرى، اكتشفت الإنسان الذي عاش طفولته في الشرق الجزائري، حيث الاستبداد والقهر والفاقة والحرمان والتخلّف في الفكر وفي الحياة عامة، وعاش شبابه ومرحلته الدراسية في باريس ومدن أخرى داخل فرنسا، فعاش ذلك التناقض في ثقافة الاستعمار النظرية والعملية وفي سائر ممارساته، تناقض يكشف عنه وجهان، وجه ظاهري كريم متسامح ووجه أسود بغيض، كان يربط كل ما يحدث له وما تقع عليه عينه في الأماكن الرسمية والهيئات الإدارية وما يصدر عن القائمين عليها بالاستعمار وبممارساته العنصرية البغيضة في الجزائر ومع أبنائها في فرنسا.

اكتشفت أنّ «مالك بن نبي» الإنسان الذي كانت حياته حافلة بالأحداث في طفولته وفي شبابه، خاصة بعد سفره إلى فرنسا بغرض الدراسة، وما تميّزت به الأوضاع الجديدة التي وجد نفسه مضطراً للتعاطي معها على سبيل التوافق والتكيف، هذه الظروف المغايرة تماماً لظروف نشأته وترعرعه وتكوينه في الشرق الجزائري، لم يلن أمامها ولم تحوّله عن دينه وإيمانه وعن أخلاقه لينخرط كلّيًّا في المجتمع الجديد مثلما فعل غيره، بل زادته تمسكاً بمقومات أمته وبقضية وطنه وحقوق شعبه، وكلّما تعمّق انخراطه في الأوضاع الجديدة وهو يتنقل بين الجزائر وفرنسا ازداد ارتباطاً بعروبته وإسلامه ووطنه وأمته، فكان فعلاً مثالاً في الوطنية وفي وعيه بمطالب الشعوب المقهورة من طرف الاستعمار الغربي الحديث.

اكتشفت في صاحب المذكرات الرجل السياسي الحقوقي الذي لم ينقطع طيلة وجوده بفرنسا عن النضال السياسي، ناضل في السرّ والعلن، على المستوى المحلي الجزائري، وعلى المستوى الإقليمي العربي الإسلامي، وعلى المستوى الإنساني العالمي، منطلقاً من إيمانه الراسخ والعميق بحقوق الناس جميعاً في الحياة الكريمة وفي الحرية وفي العدل والمساواة، وهو إيمان تغذّى بتكوينه الأخلاقي وبتربيته الإسلامية، فكان ينبذ التمييز العنصري وهو طبع الاستعمار، ويدعو الإدارة الاستعمارية في الجزائر وفي داخل فرنسا إلى ضمان المساواة بين أبناء الجزائر وأبناء فرنسا، وكان يدفع الظلم عن المظلومين من دون هوادة في حواراته ومناقشاته وكتاباته وفي أرائه ومواقفه من القضايا والأحداث التي كانت تعج بها حياته.

لقد بان بجلاء توجّه صاحب المذكرات من هذه الأخيرة في الحياة، وأنّه لم يكن ذلك الشخص العادي في مرحلة دراسته، ولم يكن مثل أقرانه من الجزائريين أو الفرنسيين، لما تميّزت به شخصيته من ذكاء وقوّة البداهة والقدرة على التحليل والنقد والتنبؤ بالنتائج من السرعة في إدراك الظروف والأسباب، فكان يختلف تماماً عن غيره في شغفه بالعلم وحبه للعلماء وباهتمامه بالفكر والفلسفة والتقنية، ولم يكن من أصحاب فكرة نقل الحضارة والتحضر بمنتجاتها وباستيرادها، بل الحضارة الحقّة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس، وليس المشكلة في الاستعمار بل المشكلة الأصل في «القابلية للاستعمار»، وللحضارة بداية وأوج ونهاية، كل هذا وغيره كثير أثبت أنّ «مالك بن نبي» كان صاحب قدرة فائقة في التفكير ومنهج متميز وفكر فلسفي قويّ ومشروع نهضوي حضاري طابعه عالمي إنساني لحل مشكلات الحضارة، حوّله فيما بعد إلى مفكر العصر وفيلسوف الحضارة تفوّق على من سبقه وتألّق نجمه في سماء العلم والفكر والفلسفة.

يمكن عرض أهم وأبرز المميّزات التي تميّزت بها مذكرات شاهد للقرن 20 في القسم الثاني منها «الطالب» تلخيصاً وتخليصاً لا بالتفصيل:

1- تمثل مذكرات شاهد للقرن 20 في القسم الثاني منها «الطالب» مرآة عاكسة قدّمت لنا صورة واضحة ودقيقة عن السيرة الشخصية لصاحبها، وصورة واضحة ودقيقة عن تاريخ الفترة ما بين 1930 و1939 في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وصورة عن الإصلاح والحركة الوطنية ونشاط جمعية العلماء المسلمين في الجزائر وفي فرنسا، وصورة عن إرهاصات المشروع الفكري والحضاري لدى صاحبه وهو شاب في مرحلته الدراسية بفرنسا.

2- تنصب المذكرات من بدايتها إلى نهايتها على الوصف الدقيق تلميحاً وتصريحاً للوجه الازدواجي الذي يملكه الاستعمار الفرنسي، ثنائية الصورة الاستعمارية، وجه ظاهري أبيض متسامح وكريم، ووجه خفي بغيض حقود وإجرامي، الوجه الثاني لا يبديه إلاّ مع أبناء مستعمراته في الجزائر وفي غيرها، خاصة خلال حرب التحرير الجزائرية، ومازال التاريخ وسيبقى يروي ذكريات جرائم الاستعمار الفرنسي النكراء في الجزائر، مثلما يرويها في بلدان أخرى من العالم تعرّضت للاستعمار الغربي الأوروبي الحديث.

3- تكشف المذكرات عن نضال صاحبها السياسي وفي ميدان الحركة الوطنية، كما تكشف عن مواقفه من الاستعمار ومن الأحداث والتطورات التي عرفتها المرحلة المحلية الجزائرية والإقليمية العربية الإسلامية والدولية، كما تكشف عن رؤاه النقدية في المنهج الإصلاحي السائد وفي مواقف التيارات الفكرية والسياسية الجزائرية التي نشطت في الجزائر وفي فرنسا، وفي مواقف زعماء هذه التيارات، وفي مواقف جمعية العلماء المسلمين التي كانت مواقفه أقرب إلى خطها من غيرها، كما تصدّى بفكره النيّر العلمي والفلسفي النقدي لبعض النزعات الصوفية التسكينية الأخطر على الدين والأمة من عملاء الاستعمار.

4- قدّمت المذكرات المحطّات الرئيسية التي عرفتها حياة صاحبها في مرحلة وجوده بفرنسا للدراسة، والتي شكّلت نقاط تحوّل هامة في شخصية، وهو يتدرّج من أسفل نحو أعلى ليصبح مفكر العصر وفيلسوف الحضارة وأستاذ الجيل كما يسميه البعض. أهمّ المحطات هي:

- سفره إلى فرنسا وانخراطه في الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين.

- إخفاقه في امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس.

- انضمامه لمدرسة اللاّسلكي بباريس.

- اطلاعه على ما يجري في الحيّ اللاتيني ونادي الطلبة المغاربة بباريس من صراعات بين مكونات الطبقة السياسية في الجزائر.

- معاقبة والده بنقله من طرف رئيسه حاكم تبسة بسببه.

- قصته مع مدرسة الكهرباء والميكانيكا بباريس.

- حياته مع زوجته الفرنسية المسلمة «خديجة».

- تركيزه على شخصيات بعينها مثل اليهودي «جورج لوكاش» زعيم المنظمة العالمية للدفاع عن اليهود آنذاك، ومثل «باهي» صاحب المقهى بتبسة الذي يمثّل الإصلاح بالتصوف والشعوذة والتخلّف، والسيدة «دوننسان»[30] التي تمثل المعمرين في الجزائر، فهي تلاحظ كل الأحداث والتطورات الجارية في مدينة تبسة لكن لا تفهمها ولا تفسرها، وبعض الشخصيات لديه هي قدوة في الوطنية والفكر النيّر، مثل «حمودة بن الساعي» الذي يمثل الفكر والمعرفة، وبعض هذه الشخصيات يمثل الاستعمار في ثقافته ولدى كباره مثل «ماسينيون» المستشرق الفرنسي وغيره كثير.

- مصاحبته «حمودة بن الساعي» الرجل الوحيد الذي وجد فيه ما يعينه على بلورة أفكاره ومواقفه.

- فشله في الحصول على منصب شغل في فرنسا وفشله في السفر إلى الحجاز.

- قصته مع نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي الذي أشرف عليه بمرسيليا.

- مغادرته الجزائر في اتجاه فرنسا مع زوجته مباشرة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.

5- أما بالنسبة للمذكرات وفي قسمها الثاني «الطالب»، فمن حيث العرض واللّغة والشكل عموماً وغيره تميّزت المذكرات وميّزت صاحبها بما يلي:

- العرض المستفيض والمسلسل.

- وضوح اللّغة وبساطتها وسهولة وصولها إلى الأفهام.

- الوصف الوافي والمفصّل.

- التحليل الدقيق للأحداث والوقائع.

- عمق الأفكار ووضوحها وسلاستها.

- النقد الموضوعي والمنهجي لرؤى وأفكار غيره.

- بعد النظر في العرض والتحليل والتعقيب والاستنتاج.

- التنبؤ بالنتائج وسرعة إدراك الأسباب والشروط والظروف.

- أسلوب التشويق في العرض مما يشد القارئ إليه.

- التفاعل مع الأحداث والتحمّس لها.

- استخلاص العبر والدروس من مدرسة الحياة.

- قوّة الشعور بالمسؤولية وحضورها في سائر أعماله وعلاقاته وفي حياته ككل.

خاتمة

بعدما أتممت قراءة مذكرات شاهد للقرن 20 «الطالب» وارتسمت خطة دراستي لسيرة صاحب هذه المذكرات كما رواها هو، وبعد دراسة كل جانب من جوانب الخطّة، اتضحت لي الكثير من الحقائق، تخصّ سيرة الراوي بجميع أبعادها الإنسانية، النفسية والعقلية والتربوية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية والعلمية والثقافية والحضارية وغيرها، ولعلّ أبرز هذه الحقائق وأهمها تفرّد شخصية صاحب المذكرات عن غيرها في النظر والعمل، على المستوى المحلي الجزائري، وعلى المستوى الإقليمي العربي الإسلامي، وعلى المستوى العالمي الأممي، فهو يشترك مع الكثير في الجانب الإنساني والأخلاقي والديني والوطني، لكنّه يختلف عن غيره في منهج تفكيره وفي المشروع الفكري الحضاري الذي قضى حياته يعمل لأجله، فهو صاحب قلم وكلمة وموقف ورسالة، كلّ ذلك ترجمته كتاباته المتميّزة التي جعلت منه المفكر والفيلسوف ونادرة زمانه.

 

 

 

 



[1] مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، «الطالب»، دمشق، سوريا، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، الطبعة الثانية، سنة 1984، ص 428.

[2] المصدر نفسه: ص 204.

[3] المصدر نفسه: ص 216-217.

[4] المصدر نفسه: ص 242.

[5] المصدر نفسه: ص 250.

[6] المصدر نفسه: ص 273-274.

[7] المصدر نفسه: ص 312-313.

[8] المصدر نفسه: ص 369- 374.

[9] مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، «الطفل»، ص 13.

[10] مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، «الطالب»، ص 288.

[11] مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، «الطفل»، ص 54-55.

[12] المصدر نفسه: ص 63.

[13] مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن، «الطالب»، ص 344-345.

[14] المصدر نفسه: ص 345.

[15] المصدر نفسه: ص 364.

[16] المصدر نفسه: ص 401.

[17] المصدر نفسه: ص 415.

[18] المصدر نفسه: ص 427-428.

[19] المصدر نفسه: ص 222.

[20] المصدر نفسه: ص 235-236.

[21] المصدر نفسه: ص 257-258.

[22] المصدر نفسه: ص 257-258.

[23] المصدر نفسه: ص 267.

[24] المصدر نفسه: الصفحة نفسها.

[25] المصدر نفسه: ص 267.

[26] المصدر نفسه: ص 276-277.

[27] المصدر نفسه: ص 279.

[28] المصدر نفسه: ص 279.

[29] محمد عبد السلام الجفائري: مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي، ليبيا، تونس، الدار العربية للكتاب، سنة 1984، ص 48.

[30] سيّدة من المعمرين الفرنسيين تسكن بجوار مقهى «باهي» بمدينة تبسة.