شعار الموقع

حوارات في الدين واللغة

العربي ميلود 2019-05-26
عدد القراءات « 964 »

حوارات في الدين واللغة

جامعة مستغانم (الجزائر)، عقد في الفترة 15 ــ 16 أبريل 2013م

الدكتور العربي ميلود*

* كاتب وباحث من الجزائر.

 

نُظمت بجامعة عبدالحميد بن باديس بمستغانم (الجزائر)، فعاليات الملتقى الدولي الثاني حول (حوارات في الدين واللغة) أيام 15/16 أبريل 2013م، وقد عرف هذا اللقاء المعرفي حوارات مترامية الأبعاد واللغات، تنزاح أحياناً صوب فعالية الدين في ضبط وتحديد طبيعة الوجود الإنساني، وتحاول الاقتراب أحيان أخرى صوب اللغة لما تمتلكه من مخزون تواصلي يمكن للبشرية من خلالها أن تتعايش وفق أي من المبادئ التي تلائم وجودها سواء كان حواراً أو مشاركةً أو عيشاً مشتركاً أو تعارفاً حضاريًّا.

ابتدأت فعاليات هذا الملتقى بكلمة لرئيس قسم الفلسفة بجامعة مستغانم الدكتور إبراهيم أحمد، استعرض فيها الغرض من هكذا ملتقى وبهكذا إشكالية، التي حققت جزءاً مهمًّا من فحوى طرحها قبل بدء عرض الأفكار والتصورات للمتدخلين، فبمجرد أن تجتمع هذه العقول المعرفية برغم اختلاف تخصصاتها، وحتى توجهاتها الفكرية يمثل نجاح فكرة الحوار وقابلية طرحها والتشبث بها، كخلاص من المأزق الذي تعانيه مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

وتحدث كذلك الدكتور شعلال أحمد رئيس الملتقى مبرزاً دور اللغة مهمًّا اختلف اللسان في تفعيل خاصية التواصل بين البشر مجتمعين، باعتبار أن لا فضاء آخر يجمع الناس سوى هذه الأرض، وبحكم كرويتها تفترض علينا أن نتواصل ونتعايش معاً.

أما كلمة رئيس الجامعة فجاءت مرحبة بالحضور، وبالحوار الذي يود أن يسهم في إرساء قواعد متينة له، ومعلناً بداية أشغال الملتقى.

أعمال الجلسة الأولى

الجلسة الأولى ترأسها الدكتور عبدالله بن عيسى الأحمدي -السعودية-، ابتدأها الدكتور مختار لزعر (أستاذ بكلية الآداب والفنون واللغات الأجنبية، جامعة مستغانم، الجزائر)، بمداخلة موسومة بـ(حوار في اللغة.. بين مبدأ الفطرة والوجود الإنساني - مقاربة تأويلية)، تطرق فيها إلى موضوع التلازم الكوني بين عالم الفطرة وواقع اللغة؛ حيث إنّ كلًّا منهما يحوي في باطنه على إطلاقية تتماشى وعالم المطلق؛ الشيء الذي جعل من هذا التلازم الكوني أن راح الوجود الإنساني يتمتع بشرعية معرفية ومنهجية؛ هذه الشرعية هي التي جعلت من الفعل التأويلي أن يقتحم عالم الخطابات والنصوص محاولاً الوصول إلى البعد الحواري الذي يحقق بحق البعد التواصلي الإبلاغي بين اللغة والفطرة والوجود الإنساني -الاستعمال في مفهومه الواسع- كل هذا وذاك لم يستطع الوجود الإنساني الابتعاد عن واقع الخطاب القرآني الذي يمثل بحق الحجر الأساس لمفهوم الحوار القائم في الخطاب الديني.

ثاني مداخلة في هذه الجلسة كانت للأستاذ زكي الميلاد من السعودية موسومة بـ(حفريات معرفية في معنى الآخر)، وبالفعل حاول الأستاذ أن يبحث في العمق الدفين لعلاقة الذات بالآخر، في محاولة لتجديد النظر المعرفي لمفهوم الآخر، بطريقة تتخذ من التواصل والتعارف نهجاً وسبيلاً، التواصل لنبذ القطيعة، والتعارف لنفي الجهل، في النظر والعلاقة مع الآخر. وذلك بالتركيز على ثلاثة جوانب أساسية ومتكاملة، هي: الجانب الأخلاقي، والجانب الفكري، والجانب النهضوي. في الجانب الأخلاقي: جرى الحديث عن ضرورة التأكيد على تلك الأبعاد الإنسانية المشتركة بين البشر التي تلغي كل أشكال التمايز والتفاضل والتعالي في النظر والعلاقة بين الناس، وذلك على قاعدة أن الذات في منزلة الآخر، والآخر في منزلة الذات.

وفي الجانب الفكري: جرى الحديث عن أن مفهوم الآخر، إنما يتحدد وبصورة رئيسية في تلك الاختلافات الفكرية التي تحدث بين المجموعات البشرية، وهي اختلافات لا ينبغي أن تفرق بين البشر، وتؤدي إلى الحروب والنزاعات.

وفي الجانب النهضوي: جرى الحديث عن أن العلاقة مع الآخر، ينبغي أن تتصل بالمحددات النهضوية، باعتبار أن الآخر يمثل معرفةً وتقدماً وتمدناً. ولعل هذه الأفكار المطروحة في هذه المداخلة تمثل جزءاً من مشروع حضاري كبير للأستاذ زكي الميلاد ألا وهو التعارف الحضاري.

ثالث مداخلة كانت للدكتور بن جدية محمد (أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية، جامعة مستغانم، الجزائر)، موسومة بـ(مقومات الحوار والاختلاف في المورث الديني)، تحدث فيها عن أن التيارات الإسلامية وفي سياق اختلافها في رسم خريطة المشروع الإسلامي كانت تمارس حواراً، والحوار مباشراً كان أم غير مباشر لا بد له من مقومات من شأنها كانت تمارس الإيمان بحرية الاختلاف، وعزز الوعي باستراتيجية الحوار سبيلاً للفهم المتبادل، ذلك أن الاختلاف في ثقافتنا الإسلامية، وخلافاً لما يقع في الغرب ليس مقبولاً لذاته، إلا بقدر ما يمهد لعملية بناء الوحدة، وفي هذا السياق نحن معنيون بتقصي الشروط الحضارية التي تمثلها القيم والأفكار والاتجاهات والمفاهيم، التي تؤسس مضامينها أساسيات للوعي الوحدوي وسلوكياته النفسية والفكرية، وكذا توضيح الشروط المنهجية التي من شأنها أن تكون النظرة الصحيحة نحو المسلم، الذي يحمل اجتهاداً آخر، كمنطلق للتفاهم ومنتهى للقبول المتبادل.

ومن الضروري في ظل واقع الاختلاف وحقيقته وحدوده المشروعة، أن نتابع شروط الاختلاف ومقوماته فيما بين ذوي الرأي والاجتهاد المتعدد، الذين يجدون أنفسهم على مائدة البحث أو المقارنة أو الجدل أو غيرها من الاتصالات الفكرية والسلوكية، وذلك في ضوء ما يمكن بلورته من أسس ومبادئ وأخلاقيات وضوابط علمية من شأنها تيسير التقريب وتحقيق الأخوة والوحدة والعيش المشترك، غير أنه ثمة مقومات ينهض عليها الاختلاف.

آخر مداخلة في هذه الجلسة للدكتور مجدي عز الدين حسن (أستاذ بكلية الآداب، قسم الفلسفة، جامعة النيلين، السودان)، تمحورت حول (إشكالية فهم النص الديني الإسلامي)، وقد سعى في مداخلته إلى مناقشة الكيفية التي (نفهم) بها أو (نقرأ) بها النص الديني الإسلامي، وواضح أن مثل هذا التساؤل -التساؤل عن كيفية الفهم- يرتد بنا إلى حقول معرفية حديثة من بينها اللسانيات Linguistic والسيمولوجيا Semiologyوالتحليل النفسي Psychoanalysis، وعلى وجه الخصوص الهرمنيوطيقا Hermeneutics بوصفها الحقل المعرفي المُعنى بفن تأويل وفهم النصوص. على ذلك فإن التساؤل عن الكيفية التي نفهم بها النصوص يرمي بنا في الفضاء اللا محدود للتأويل وآلياته. ولذلك نهدف هنا في هذه الورقة البحثية إلى الإجابة عن تساؤل أساسي (سيكون لنا بمثابة المحرك الرئيسي في مقاربتنا هذه) هو: إلى أي مدى يمكن لنا النجاح في استثمار الرأسمال الرمزي لهذه الحقول المعرفية -وخصوصا الهرمنيوطيقا- في فهم النص القرآني؟.

وواضح أن اهتمامنا في هذه الورقة البحثية إنما هو موجه بالدرجة الأولى إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(إشكالية فهم الفهم)، على ذلك فإن جزءاً من انشغالنا النظري في هذا البحث سيكون موجهاً إلى تبيان الأسس النظرية، والمبادئ الأولية، ومنهجيات التناول التي قام الفكر الإسلامي طوال تاريخه بتطبيقها وبتوظيفها في عملية إنتاج المعنى والدلالة بخصوص النص الديني الإسلامي في شقيه القرآني والنبوي.

والباحث هنا بصدد طرح التساؤلات وإبداء النقد من منصة الحاضر الهرمنيوطيقي بصدد آليات تأويل النص الديني الإسلامي كما وظفها وطبقها العقل الإسلامي وكيفية اشتغالها والطريقة التي تعمل بها، وذلك بغرض توسيع آفاق النظرية التأويلية الإسلامية وتطوير مقولاتها إلى أقصى مدى يمكن أن تصله، سواء تم ذلك بالاتفاق معها أو بالاختلاف عنها، مستندين في ذلك ومسلحين بكل أدوات الكشف والمقاربة، والعدة المنهجية والأدوات المعرفية التي يمكن أن تمدنا بها الهرمنيوطيقا واللسانيات والمنهجيات المعاصرة.

أعمال الجلسة الثانية

ترأس هذه الجلسة الدكتور نابي بوعلي من الجزائر، وكان أول المتدخلين في هذه الجلسة الدكتور سليمان بن صالح الغصن (أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية)، بمداخلة موسومة بـ(مكانة العقل في تأسيس الاتجاه التأويلي للنص الديني)، تعرض فيها إلى مسألة التعارض بين العقل والنقل باعتبارها مسألة قديمة، ولا زال كثير من الفرق والاتجاهات والشخصيات تثيرها بأساليب متنوعة وفي قضايا مختلفة، فالمسألة قديمة متجددة؛ لأنها متعلقة بعقل الإنسان المتجدد المتغير بتغير الظروف والأحوال.

ولمعالجة ومقاربة هذه الثنائية وتشخيص منطلقاتها، اختار الدكتور المحطات التالية:

التعارض الوهمي - التعارض الحقيقي، منطلق منهج تقديم العقل على النقل وأسلوبه وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: العقل أصل النقل، المبحث الثاني: الرد للنص بالإبطال، المبحث الثالث: الرد للنص بالتأويل، المبحث الرابع: الرد للنص بالتفويض. منطلق منهج تقديم النقل على العقل وفيه مبحثان: المبحث الأول: عدم وجود تعارض بين العقل والنقل في حقيقة الأمر. المبحث الثاني: فساد العقل المعارض للشرع، مفاسد إطلاق القول بتقديم العقل على النقل.

المداخلة الثانية كانت للدكتور موفق طيب شريف (أستاذ بجامعة سطيف، الجزائر)، موسومة بـ(حوار في النص القرآني بين التأويل الشرعي والهرمنيوطيقا الفلسفية)، تحدث فيها بداية عن الهرمنيوطيقا بوصفه اتجاهاً فلسفيًّا وجوديًّا نشأ في أحضان اللاهوت، وقد عرف هذا المصطلح تطوراً في الدلالات رافقته منذ تشكّله إلى الآن، ليتحول من علم الإدراك اللغوي المرتبط بالنص إلى فن الفهم على يد شلايرماخر، ثم المنهج المعرفي للعلوم الإنسانية على يد دلتاي، ليرتبط في آخر مراحل دلالاته بفلسفة الوجود على يد مارتن هيدغر.

ومقاربة مع ذلك فإنه ومنذ أن نزل الوحي على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يأمر الإنسان بإعمال طاقاته العقلية في استجلاء مقررات الوحي الإلهي المرتبطة بحركة الفرد والمجتمع، كما أن الوحي هو الذي أمر العقل بتنزيل هذه النصوص على الواقع والتبصر بمآلاتها.

انطلاقاً من كل ذلك وباعتبار القرآن نصًّا دينيًّا، ونظراً للترادف اللفظي بين الهرمنيوطيقا والتأويل فقد ساعد ذلك بعض دعاة التجديد في مجال التفسير على تبني المنهج الهرمنيوطيقي، ليصل إلى طرح مجموعة من التساؤلات شكلت محور مداخلته وهي: إلى أي حد يمكن قبول هذا الاتجاه وتطبيقه على النص القرآني؟، وما هي الفوائد والمآخذ؟ والحدود والضوابط في إعمال هذا الاتجاه؟ وما درجة ارتباط القبول أو الرفض بالآخر؟.

ثالث المتدخلين في هذه الجلسة كانت الأستاذة صليحة بن عاشور (جامعة باتنة، الجزائر)، وعنوان مداخلتها: (التأويل في المذاهب الإسلامية والقانون الإسلامي في فلسفته)، تحدثت فيها عن الهرمنيوطيقا في مفهومها الفلسفي والتأويل في الثقافة العربية الإسلامية، فإذا كانت الهرمنيوطيقا هي الانبعاث المتطور للتأويل، أو هي الطور المغالي لعلم التأويل الذي عرفته الحضارة الغربية في قراءة النصوص منذ العصر اليوناني، وإذا كانت الهرمنيوطيقا الدينية -في تأويل النص الديني- قد أحلت ما يوحيه عالم القارئ والمتلقي محل الوحي الإلهي، فإن مسيرة التأويل في الحضارة الإسلامية بدأت بالقرآن الكريم والسنة النبوية مصدراً الوحي والدين، ومعياراً القيم والأخلاق، وضابطاً اللغة... فما المراد بالتأويل في القرآن الكريم؟ وما المراد به في السنة النبوية؟ وما المراد به في اللغة؟ وما موقف المفسرين من التأويل؟ وما هي القواعد والضوابط والمعايير التي وضعها أصحاب المذاهب الإسلامية للتأويل لجعله معياراً من معايير النظر الفكري؟.

آخر المتدخلين في هذه الجلسة كان الدكتور قواسمي مراد (جامعة مستغانم، الجزائر)، عنوان مداخلته: (تجربة الدين من الحدس إلى الحياة الترانساندانتالية)، جاء فيها لقد تأخرت تأويلات وانتقادات فلسفة الدين خصوصاً بصدد مفهوم الدين الذي قدّمه شلايرماخر (Schleiermacher)، إن تحديد مفهوم التقوى (Piété) بما هو «الشعور المطلق بالتبعية» يؤسس، لا فقط الصيغة المعروفة التي كثيراً ما تمت مناقشتها، والتي واجهها شلايرماخر، بل يشكّل أحد التحديدات الشهيرة للدين.

ولأجل تحصيل المعنى الدقيق لهذه الصيغة، فإن الوسيلة الوحيدة، بلا شكّ، هي متابعة تطور التصوّر الشلايرماخري عن الشعور الديني، ولهذا قارب الدكتور على التوالي، كتاباته:

1- خطاب عن الدين Reden.

2- دياليكتيك Dialektik.

3- الإيمان. Glaubenslehre.

ليتعرض في الأخير إلى النتائج الممكن بلوغها بالمتابعة والتخلي عن العديد من التأويلات الخاطئة، على غرار سخرية هيغل في مواجهة تصوّر أنياب الدين عند شلايرماخر، ومحاولة الاستدراك الإلحادي لهذا الأخير الذي أنجزه فيورباخ.

أعمال الجلسة الثالثة

ثالث جلسات هذا الملتقى ترأسها الدكتور مجدي عز الدين من السودان، وأول مداخلة فيها كانت للدكتور نور الدين الشابي من تونس موسومة بـ(إيتيقا اللقاء بالآخر، ليفيناس نموذجاً)، يتعلق الأمر في هذه المداخلة بمحاولة الإجابة عن السؤالين التاليين: ما هي شروط إمكان اللقاء بالآخر؟ ومن هو الآخر؟

قد نعتقد للوهلة الأولى أن المعرفة بالآخر كافية لملاقاته، ولكن لو عمقنا النظر لوجدنا أن المعرفة هي رد الآخر إلى «الهوهو» بمقتضى فكر التطابق. إنها تعمل على نزع غيرية الآخر باستيعابه داخل بنية الأنا. ولذلك فإن ملاقاة الآخر حقًّا تقتضي استبعاد كل فلسفة قوامها مفهوماً «الكينونة» و«الجوهر» وتغييرها بفلسفة قوامها تجربة إيتيقية تنبني على الحركة نحو الآخر كوجه، حيث ندرك أن «الإنسان هو الكائن الذي لا يكون لقاؤه متاحاً إلا من جهة ما هو قريب أي من حيث هو وجه»، إن الوجه هو أكثر الأشياء عرياً في الآخر، ويعني عريه عوزه وهشاشته القصوى، حيث «يعرض الوجه في عريه عوز الفقير والغريب»، وهو أيضاً عوز «الأرمل واليتيم»، إننا إزاء «غيرية جذرية» تكشف لنا الآخر في علاقته بالألم والموت، إن رؤية الآخر تعني رؤية الموت المحدق به والانتباه في عيني الآخر إلى قابلية الانسان للفناء. إن ما ينكشف من خلال تجربة الوجه هو نداء الآخر الذي يطلب مني ألا أتركه وحيداً. وبمقتضى الإنصات لهذا النداء تتغير دلالة الذاتية: لا تعني الذاتية تطابق الأنا مع نفسه بل هي « الآخر داخل الأنا».

تغدو الذاتية مطابقة للمسؤولية إذ إن قوام الأنا أن يضع نفسه موضع الآخر، أي أن يضطلع بتحمل آلامه. وما انفتاح الأنا على الآخر إلا الشعور بالمسؤولية عنه لأن «المسؤولية هي البنية الأساسية للذاتية».

نحن إذاً إزاء تجربة إيتيقية تكون فيها الذات مسؤولة عن الآخر وحارسة له وقابلة للتضحية من أجله، وذاك هو معنى «الإنساني»: «الإنساني هو محبة الآخر والمسؤولية عن الغريب وإمكانية الموت من أجل الآخر، التضحية التي تبلغ هوس التفكير في أن أخشى موت الآخر أكثر من خشيتي موتي».

والحاصل من ذلك أننا إزاء معقولية جديدة تحكم العلاقة بين الأنا والآخر، وهي ليست معقولية المعرفة بل «معقولية الطيبة»، تلك التي تجد قوامها في فكرة «اللامتناهي». ذلك أن ما ينكشف من خلال تجربة الوجه هو نداء اللامتناهي: «أليس حريًّا بنا أن نسمي هذا النداء إلى المسؤولية نداء إلهيًّا؟».

المداخلة الثانية كانت للدكتور أحمد رنيمة (جامعة الشلف، الجزائر)، بعنوان: (الجدال الديني المسيحي وأدبيات الحوار مع الإسلام في العصور الوسطى)، جاء فيها: يعتبر يوحنا الدمشقي من أبرز المجادلين المسيحيين الذين كتبوا حول الإسلام، ولعل أبرز أعماله، إضافة إلى كتاب البدع (HeirisibusLiber) كان الحوار بين المسلم والمسيحي (Dialexis)، وقد انتشر هذا الشكل من الأدبيات في الأوساط المسيحية الشرقية، فهو يتكرر في رسالة عبدالمسيح الكندي وغيره، لينتقل إلى الكتابات البيزنطية واللاتينية فيما بعد، وأفضل أنموذج لذلك هو رامون لول الذي كتب كتاب الكافر والعارفون الثلاثة (libergentilisetlostressaves)، وهو حوار بين ممثلي الديانات السماوية الثلاث، ثم انتقل هذا الشكل من الأدبيات الحوارية إلى شكل غلب عليه الطابع الفلسفي والحجج العقلية مع روجر بيكون وجون ويكلف، وكذا نيكولاس كوسانس، هذا الكردينال الذي ألّف أهم الأعمال المتعلقة بمحاورة المسلمين ومجادلتهم، وقد طبعت أعماله في مدونة كبرى بعنوان TheologischeundphilosophischeSchriften. وبعد نهاية العصر الوسيط وتراجع هيمنة الكنيسة، تحولت مسألة مجادلة الإسلام إلى مسألة علمية تناقش داخل الأوساط الجامعية المتخصصة، وهذا ما عرف بالحركة الاستشراقية.

في هذا السياق نفسه تحدث الدكتور معزي مروان (جامعة قسنطينة، الجزائر)، عن (الآخر في الكتب المقدسة.. الديانة اليهودية أنموذجاً)، جاء فيها: في ظل ظهور الدعوات المختلفة تحت مبادئ البحث عن القيم المشتركة الجامعة للجنس البشري، تصطدم هذه الدعوات بالمثبطات الحوارية، والتي يقصد بها: الدعوة إلى فكرة الصراع الحضاري (تصادم الحضارات)، وطفوح القيم الحضارية والثقافية والدينية الخاصة بكل مجموعة بشرية للواجهة، والتي أصبحت معوقاً أساسيًّا لكل محاولة للمّ الشمل البشري.

كل هذه الأسباب جعلت الباحثين يبحثون في أهمية الحوار مع الآخر، ومحاولة إيجاد النسق الجامع لكل الحضارات كالرغبة في العيش المشترك، والاعتراف بالآخر وبخصوصياته، وفي مسألة الاعتراف بالآخر، اصطدمت هذه الدعوات كذلك من جديد، ووجدت من العوائق الحقيقية التي لا نستطيع في ظلها إقامة عملية حوارية متينة على أساس أنها تمثل القاعدة الأساسية في بناء المنظومة العقائدية والسلوك الفردي، ونقصد بها الدين.

ليحمل الدكتور معزي في مداخلته التساؤلات التالية: كيف نظرت اليهودية بوصفها ديناً مستقلاً له منظومته ونسقه الخاص به، لمن حوله من المجموعات البشرية المتعددة الأجناس واللغات والأديان والثقافة وغيرها من الخصوصيات المختلفة؟ هل اعترفت النصوص الدينية بالآخر؟

رابع المتدخلين في هذه الجلسة كان الدكتور اليزيد بوعروري (جامعة سطيف، الجزائر)، بمداخلة موسومة بـ(نبهاني كريبع والحوار مع الآخر من خلال مفهوم الإنسان الشامل)، جاء فيها: للمفكر الجزائري «نبهاني كريبع» نظرة متميزة تجاه الآخر، فبعض الآراء تصنع جدران فولاذية بين الثقافات لتعزل الشعوب عن بعضها، لكن النظر إلى هذه الشعوب من زاوية إنسانية (مع ما لهذا المصطلح من معنى عميق لدى نبهاني) يجعل من السهل تجاوز الاختلافات بين البشر.

ومن خلال تجربته التي يعرض بعض صورها في كتابه «Lhumainuniversel» يبين لنا كيف يحاور القارئ الأدب والتاريخ، الشخصيات بطريقة تتجاوز كل الاعتبارات الدينية والعرقية، حتى وإن كان مسلماً فمن خلال هذه القراءات أعاد اكتشاف كل شيء من جديد حتى الإسلام نفسه- وأعاد بناء جسور روحية مع الكل.

والحوار يمتدّ إلى شعوب أخرى مغرقة في الحضارات القديمة كالعبرانيين، الآشوريين، المصريين، الفرس والإغريق، ويبين كيف عايش روحيًّا حياة الإغريق الليبرالية وأساطيرهم العجيبة، وفردياتهم المتألقة كالأبطال: أخيل، هكتور، ورجال الدولة: كبركليس، وألسبياد، والفلاسفة: كسقراط، أفلاطون، والشعراء التراجيديين: كهومير، بندار وسوفوكل...

والإنسان الشامل موجود في كل فرد مهما كان موقعه الجغرافي، ودينه الذي يعتنقه، ومستواه الحضاري، والعرق الذي ينتمي إليه، وما علينا إلاّ تخليص نفوسنا من كل الأوهام والامتثالات لتحقيق هذه الدرجة من الإنسانية.

خامس المتدخلين الدكتور عبد الكريم عنيات (جامعة سطيف، الجزائر)، عنون مداخلته: (الهوية والاختلاف في الخطاب الديني الإسلامي.. قراءة تحليلية نقدية في تجربة أركون الفكرية)، بدأ مداخلته بهذه التساؤلات: هل يحق لنا دراسة الخطاب الديني القرآني من الخارج، لماذا لا يمدح الباحث الذي أنجز هذه المهمة المحفوفة؟ وبالتالي تُطور الدراسات الإسلامية العلمية التطبيقية، كيف لنا أن ندرس الخطاب الديني دراسة علمية فيما وراء التحريم والتكفير؟ مع العلم أن حراس العقائد والنوايا والضمائر يُهللون بالعقل والمعقولية مثلما يتغنون بالعلم والعلمية.

أوَليس كتاب القرآن الكريم خطاباً إلهيًّا كاملاً لا يتعالى عليه أي ذكاء إنساني؟ مما يدل على ضرورة توجيه آلة الدرس والنقد والتشكك إلى ما هو دون المقدس، ولئن كان الغيب كحقيقة علمية وفلسفية، كان قد أقر بها الخطاب القرآني، فلماذا السعي لإجراء دراسات علمية تدقيقية أو فيلولوجية اشتقاقية على كتاب محفوظ ومُصان مطلقاً، إذ يجب أن نعترف أن النوايا والمرامي أهم بكثير من المسالك والمناهج؟

بالأُذن اليمنى سمعنا المشاريع التجديدية التي تحملها الفقرة الأولى، وبالأُذن اليسرى سمعنا ولا نزال نسمع المشاريع المضادة الدفاعية التي تحملها الفقرة الثانية. يمكن أن نرى بالعين اليمنى ما للتجديديين من روح علمية ملتزمة ومستكشفة، وبجارتها اليسرى يمكن أن نلاحظ مدى قوة ورسوخ خطاب التتريثيين، مرتكزاً على مناصرة جماهيرية تدك الأرض دكًّا. ما للأذن اليسرى لا تحسن السمع أو تخافه أو تسمع غير ما تسمعه الموازية لها، وكيف تشك العين اليمنى فيما تراه بوضوح اليسرى!؟ هل بلغنا دون دراية نقائض العقل الكانطي المسدودة؟

لا خوف ولا وجل؛ فالدفاع عن القوي (الذات الإلهية، النص القرآني، المقدس والمطلق... إلخ) ضد هجمات الضعفاء المارقين أكذوبة ما بعدها أي أكذوبة أخرى في زيفها وتعجرفها. والعقل الإنساني حدوده كامنة في قدراته فقط، هكذا قال الحداثيون الفائقون، والدكتور محمد أركون هو أحدهم. كان مشروعه «علميًّا خالصاً في علميته»، لا يهدف إلى الارتزاق أو الاعتلاء أو الاستقواء أو الإقصاء... إلخ بل تجربته كانت غير معلومة النتائج على وجه الدقة. لذا الأسئلة التي احتفظت بها هذه المداخلة هي:

- كيف صور الخطاب القرآني مسألة الهوية والاختلاف أو المؤمن والكافر؟

- ما هي صورة الهوية والاختلاف في الفلسفات الغربية؟

- ما هي حدود المنهج الأركوني في دراسة «الأغيار» في الخطاب القرآني؟.

آخر المتدخلين في هذه الجلسة كان الدكتور مرقومة منصور (جامعة مستغانم، الجزائر)، اختار لمداخلته عنوان: (أنثروبولوجيا الاختلاف والتشابه، تأملات في فهم الآخر.. الغرب والعرب والمسلمون)، جاء فيها: أضحت الآخرية «الغيرية» من المفاهيم الهامة في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية لما تمثله من دور في خلق فضاءات متعددة للتواصل والتفاهم والتعاون مع الآخر (أي معرفة الغير والاعتراف به في آن)، وقبوله كشريك أولاً في صفة الإنسانية، وثانياً كمشابه ومختلف أيضاً في الثقافة (العادات، التقاليد، العقائد...). وأصبح الخطاب السائد في الوقت الراهن يأخذ أبعاداً متعددة في الاهتمام بالآخر يتأرجح بين القبول والتواصل والتفاهم، ليصل إلى الرفض ومحاولة الاستيعاب، وفي أحيان كثيرة إلى السيطرة وحب التملك واستعباد الآخر. أصبح الآخر يهزأ بالآخر، ويسخر منه، وينتقص من قيمته ويحط من ثقافته وينعتها في كثير من الأحيان بالثقافة «المتدنية».

لقد جاءت هذه المداخلة كمحاولة لتحديد الآخر وفهمه، أو على الأقل محاولة فهمه من خلال ثقافته المشابهة والمختلفة في الوقت نفسه، ومحاولة فهم هذا التشدد والحقد الذي يمارسه البعض (الغرب) ضد الآخر (العرب والمسلمون)، والاستعلاء العنصري غير المبرر، رغم ما وصل إليه العالم من معارف وعلوم في شتى الميادين، ورغم الثقافات المتبادلة والمنفتحة بعضها على بعض في ظل التواصل العالمي (العولمة) الذي كرسته وسائل الاتصال الحديثة.

أعمال الجلسة الرابعة

الجلسة الرابعة ترأسها الأستاذ زكي الميلاد جرت أشغالها في يوم 16 أبريل وهو اليوم المصادف ليوم العلم بالجزائر، وأول المتدخلين في هذه الجلسة الدكتور عبدالله بن عيسى الأحمدي (أستاذ بكلية العلوم والآداب برابغ، رئيس قسم الثقافة الإسلامية جامعة الملك عبد العزيز، السعودية)، وعنوان مداخلته (الصلة الإلهية بين الله والعالم في نظر الفلاسفة المتقدمين وأثرها في تعظيم الله جلَّ جلاله.. عرض ونقد)، أبرز فيها مسألة توحيد الربوبية لدى المسلمين، إذ يعد عقيدة راسخة لديهم، ويقتضي الإيمان بربوبية الله عندهم، وهو معنى ربوبية الله على خلقه (إفرادُ الله -سبحانه وتعالى- بالخلق، والملك، والتدبير)، أو يقال فيه: إنه إفراد الله بمعاني الربوبية. والتوحيد إن تعلق بأفعال الله -سبحانه وتعالى- فإنه توحيد الربوبية، والقرآنُ دلَّ على أن جماع أفعال الله -سبحانه وتعالى- هي الأفعال التالية: الخلق، والملك، والتدبير، فكل فعل له -سبحانه وتعالى- فإنه يرجع إلى هذه المعانِي، أما تفاصيل أفعاله: فأعظم من أن تدرك، وأجل من أن تحصر أو تعرف، والنصوص التي دلت على هذه الأفعال هي: أما الخلق: فمن النصوص التي دلت عليه: قولُه سبحانه وتعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وغيرها من النصوص التي تدل على أن الله -سبحانه وتعالى- هو الخالق وحده. وإفرادُ الله تعالى بالخلق يراد به: الإقرار والاعتراف بأن الله تعالى وحده هو الخالق لكل شيء لا شريك له في ذلك.

وأما الملك: فمن النصوص التي دلت عليه قولُه -سبحانه وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وغيرها من النصوص التي تدل على أن الله -سبحانه وتعالى- هو المالك وحده -سبحانه وتعالى-. وإفرادُ الله تعالى بالملك يراد به: الإقرار والاعتراف بأن الله تعالى وحده هو المالك لكل شيء لا شريك له في ذلك.

وأما التدبير: فمن النصوص التي دلت عليه قولُه سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}، وغيرها من النصوص التي تدل على أن الله -سبحانه وتعالى- هو المدبر وحده -سبحانه وتعالى-.

وإفرادُ الله -سبحانه وتعالى- بالتدبير يراد به: الإقرار والاعتراف بأن الله -سبحانه وتعالى- وحده هو المدبر لكل شيء لا شريك له في ذلك.

وهذه الأفعالُ الثلاثةُ التلازم بينها واضح، فالخالقُ هو المالك، وهو المدبر، ومَنْ له الملك المطلق فهو المدبر، ومَنْ له الملك المطلق فهو الخالق، فلا يكون ذو ملك مطلق إلا هو الخالق، وأما الملك القاصر فلا يلزم منه الخلق أو التدبير، والله تعالى أعلم.

وإذا كانت هذه هي عقيدة المسلمين، تساءل الدكتور عن عقيدة الفلاسفة المتقدمين، هل توافقوا مع عقيدة المسلمين أم كانت لهم نظرة مخالفة.

ثاني المتدخلين في هذه الجلسة الأستاذ كريم بن يمينه (جامعة سعيدة، الجزائر)، تقدم بمداخلة عنوانها: (اللغة والاعتقاد بين أدلوجة النص وإبيستيمية اليقين)، تحدث الأستاذ عن علاقة الفعل اللغوي بالاعتقاد وما يمارسه عليها من تحريك فعلي ووجداني لتنمية إرادة الاعتقاد.

جملت مداخلة الأستاذ مجموعة من التساؤلات تعبر بشكل كبير عن التداخل والتدافع الموجود بين اللغة والاعتقاد:

- هل تسبق اللغة الاعتقاد لتكون بذلك أداته؟

- أم أن الاعتقاد يسبق اللغة فيمنحها ألفاظه ويجبرها على الانسياق خلف معانيه ودلالاته؟.

- هل تمارس اللغة سلطة ما على الاعتقاد فتجرده من سلطانه الأنطولوجي، وتسلبه إيمانه وشكوكه الميتافزيقية؟.

- هل يمكن أن نعتقد بعيداً عن اللغة ونصوصها وتجلياتها ومجالاتها؟.

ثالث المتدخلين في هذه الجلسة الأستاذ جلول مقورة (جامعة المسيلة، الجزائر)، عنون مداخلته بـ(اللغة بين الوظيفة التداولية والضرورة التأثيلية.. هابرماس، طه عبدالرحمن، من التداولية الى التداولية المضاعفة)، جاء فيها أن الخروج برؤية واضحة ومنسجمة حول العلاقات المختلفة بين مضامين مصطلحات الملتقى، وهي الحوار، الدين، اللغة، إنما يأتي من التركيز على مدلول التواصل، والذي يفرض علينا تجاوز سطحية التناول إلى ضرورة الحديث عن تأسيس رؤية فلسفية لأجل تحويل الفعل الحضاري إلى كينونة إنسانية تختفي فيها كل أنواع تأجيج الصراع، وتظهر فيها مياسم التفاعل القائم على الحوار الجاد، الأخلاقي، العقلاني، والهادف.

ويطرح الحوار إشكاليات كثيرة تتعلق باختلاف في الروح الحضارية بين الأصلي والوافد، إن على مستوى الدين أو على مستوى اللغة، لذلك فإن تأسيس فلسفة للتواصل تصطدم بمجموعة من العوائق والحواجز، والتي هي بلغة الإبستمولوجيين مطية، وحوافز لإنتاج نظرية فلسفية تحاول الخروج من هذا المأزق، لذلك فان مداخلة الأستاذ جلول حاولت التركيز على أنموذجين لخلق التواصل، وهما المقارنة بين نظرية الفعل التواصلي لهابرماس في صورتها المرتبطة بفلسفة للغة ترتقي من المضامين الصورية للحوار إلى المحتويات التداولية الكونية، وبين فلسفة للتواصل التأثيلي لطه عبد الرحمن تشترط حواراً حضاريًّا لا يقوم على التبييء والتقليد، وإنما على التبييء والإبداع، وسيلته في ذلك إعادة إنتاج وقراءة المصطلح اللغوي الوافد بشكل لا تحصيلي ولا توصيلي وإنما تأصيلي، الغاية منه تحقيق التواصل الإبداعي.

ولذلك فإن إشكالية المداخلة جاءت كما يلي: إلى أي مدى يمكن لفلسفة التواصل أن توفق بين الإبعاد التداولية الكونية للغة، والمرامي التداولية القومية لها في ظل الاختلاف وضرورة الاتفاق.

رابع المتدخلين في هذه الجلسة الدكتور مالفي عبد القادر (جامعة مستغانم، الجزائر)، وحملت مداخلته عنوان: (الأسس اللغوية للتواصل والحوار الديني.. من أجل إرساء قواعد الديمقراطية عند هابرماس)، جاء فيها: يستقطب هابرماس عدة مفاهيم إجرائية لغوية تعود إلى فلسفة اللغة، بالاستناد على كل من همبولت، فنجشتين، سيرل واوستان من زاوية أن فعل اللغة في الأصل هو فعل اجتماعي، من التصور ذاته طرح هابرماس مفهوم الفعل التواصلي القائم على فعل اللغة، حدد لهذا الفعل أسس الحوار والتفاهم دون إلحاق الأذى بالأخر. من المحتمل أن يكون الآخر مختلف معي في عدة نقاط أهمها العرق كبعد إثني ويضاف إلى ذلك البعد الديني. الحوار بتقبل الآخر وفق مبدأ الاختلاف يعمل على إرساء قواعد الديمقراطية. تعالج المداخلة إشكالية أساسية في فكر هابرماس وتحاول أن تجيب عن السؤال التالي: ما علاقة اللغة بالفعل التواصلي عند هابرماس، وكيف يبنى الحوار بين الأديان وتحقيق التفاهم والاندماج؟.

خامس المتدخلين في هذا الجلسة الدكتور حمادي السايح (جامعة مستغانم، الجزائر)، وعنوان مداخلته: (الآخر في المشروع الإسلامي.. البيروني أنموذجاً)، أبرز فيها مسألة أن الإسلام بوصفه ديناً كونيًّا لا ينكر الاختلاف، فحتى إن كان يفرق بين العربي والعجمي مثلاً، فلا يكون ذلك على أساس عرقي أو ديني أو جغرافي إنما يكون على أساس الإيمان، ومن ثمة فلا وجود لإلغاء الآخر ولا إكراه له (لا إكراه في الدين)، وهو ما يعني أن المشروع العربي الإسلامي منذ الفعل النبوي التدشيني برهن على قابلية لا محدودة على استقبال الاختلاف واحتضان الآخر، وهذا مثلاً من خلال ما أضافه العجم للتجربة العربية الإسلامية من إسهامات متنوعة في العطاء والعلم والخيال وفي كل المجالات.

من جهة أخرى لا يقف المشروع الإسلامي عند حد قبول الآخر واحتضانه، إنما يتجاوز ذلك إلى مجالات أخرى كمحاولة معرفة هذا الآخر والتفاعل معه والاستفادة منه، ذلك هو الأمر الذي يمكن أن نجد له دليلاً عند العالم الموسوعي (البيروني) الذي استطاع نقل تاريخ وحضارة الهند إلى العالم أجمع بكل إجلال وإكبار وبروح شَكَّك البعض في نزاهتها وموضوعيتها.

فمثلاً حين تتأمل كتابه (الآثار الباقية) وحتى (تاريخ الهند) تتأكد أن البيروني فعلا يُجسِّد ويمثل علامة متميزة في الثقافة العربية الإسلامية في الحوار الديني والثقافي والحضاري بين مختلف الشعوب والأمم، مبرهناً بذلك على أن قيم التسامح والتكافل والإيمان بالاختلاف هي التي يجب أن تسود أو ربما قُلْ تمثل بداية تاريخ إنسان أفضل، لقد كان الإيمان بوجود الآخر والاعتراف بحقه في الحياة عقيدة لديه وتعبير صادق عن قيمة التسامح التي حاول نشرها.

سادس المتدخلين في هذه الجلسة الأستاذة سميرة زغبيب (جامعة قسنطينة، الجزائر). عنوان مداخلتها: (الوجود اللغوي من التأسيس إلى الخلق)، جاء فيها: اللغة قدر وجودي، يحتمل حدثه الذاتي التأملي، وبعثه التاريخي التكاملي في لحظته الرؤيوية الماورائية، هو مادة الحقيقة الوحيدة، وسرُّها الأنطولوجي القيمي والثيمي، يعاين الإنسان (الواحد المتعدد)، ويؤشر على كينونته وكونيته، ويمنحه معناه الكامل في عالمه الفاضل عبر صيرورة تحولاته الراهنة، المفتوحة على بلاغة «المطلق» نحو رفع الحجاب عن الغياب، وتحقيق الوحدة. وهذا هو كشف الأنطولوجيا البعدية، وفتحها «العلمي»، ودينها «العالمي» الذي أوقع العالم في أزمة الجنون التي تنبأ لها نيتشه. بعدما اكتشفت أن الحداثة حدث لم يكتمل، فانطلقت نحو خلق إله نيتشه الكامل الذي تكلم في ذاته زرادشت بعدما كفرت بمؤسسات العقل والجمال الكانطي، والسؤال المركزي في هذه المداخلة: فهل عاينت في الميتافيزيقيا الوجودية اللغوية خلاصها أم تخلّصها؟

أعمال الجلسة الخامسة

خامس وآخر جلسات هذا الملتقى ترأسها الدكتور سليمان بن صالح الغصن (السعودية)، وأول المتدخلين في هذه الجلسة الدكتور العربي ميلود (جامعة مستغانم. الجزائر)، عنوان مداخلته: (المقاربة التأويلية للنظرية التواصلية.. الغيرية عبر ممر التواصل)، استعرض فيها أهمية المنعطف الهرمنيوطيقي الذي أحدثه بول ريكور على النظرية النقدية لهابرماس في تعزيز مسألة الحوار الأفقي بين ذات وأخرى في الفضاء العمومي، لأن النظرية التواصلية بوصفها نظرية تستند إلى فكرة البينذاتية، لم تكتف بتناول العلاقة الحوارية بين الذات والموضوع، فالفهم لم يعد قائماً على العلاقة العمودية، بل أصبح يقتضي علاقة أفقية تمكن من انصهار أفق الذات مع ذات أخرى، فالمقاربة التأويلية كلما اهتمت بالحوار الأفقي بين الذوات ابتعدت عن فكرة الصراع، وتعزز الفعل التواصلي في المجتمع.

كما أن نظرية الفعل التواصلي، باستنادها إلى فلسفة التأويل، تكون قد عززت من آليات تحليلها لطبيعة العلاقات الاجتماعية، إذ تقدم لنا الوسائل التي تمكن الذوات المتحاورة فيما بينها، سواء أكانت أفراداً أم جماعات من كشف المعيقات التي تشوّه تواصلهم، وتعيق تحقيق التفاهم بينهم. فتأويلية ريكور بمفاهيمها النظرية حول الذات والغيرية، مع النظرية التواصلية لهابرماس بإجراءاتها المنهجية، بإمكانهما تحقيق مفهوم الغيرية الذي ننشده في مجتمع أصبحت تهيمن عليه لغة العنف واللاتواصل، بدل الحوار والتواصل.

وبحكم المشاكل المطروحة على الإنسانية في بعدها الكوني، لم تعد أية ذات فردية قادرة على حل هذه المشاكل لوحدها، لذا فالبينذاتية من خلال تصور عقلاني لأخلاقيات المناقشة يمكن أن تقدم لنا الآليات اللازم اتباعها من لدن جميع الذوات لبعث حوار عقلاني يحفز الجميع على المشاركة الفعالة والإيجابية في الفضاء العمومي.

المداخلة الثانية تقدم بها الدكتور محمد قادة (جامعة مستغانم - الجزائر)، موسومة بـ(طقوسية الحوار من خلال الكتابة المقدسة.. قراءة في الأصول الثقافية والأدبية المسيحية)، جاء فيها: يبدأ الحديث عن الكتابة المقدسة من تلك اللحظة التي حقق الأدب فيها نقلة نوعية فاتخذ من الكتاب المقدس منهلاً ومصدراً لموضوعاته الأخلاقية، سواء تعلق الأمر بالأسفار في العهد القديم، أو النسخ في العهد الجديد، وولج بها عالم الغيبيات والرموز والكنايات، وهو يرتبط ارتباطاً عضويًّا بالمجال الروحاني الديني المحض، وغالباً ما يطلق عليه -الأدب الكنسي- ولم تشكل الذهنية المسيحية في بداية الأمر سوى موقف عارض يحاول أن يبني كيانه على أنقاض ما ساد قبل المسيحية نفسها، وعليه بدأ التصلب في المواقف ومواجهة الزحف القادم من تلك الأبعاد الأسطورية القديمة، الأمر الذي سيغيّب مبدأ الحوار وإن كانت هذه الأخيرة مقننة علميًّا بتصورات مفاهيمية، فبدت في نظر رجالات الدين ثقافة وثنية بُنيت على أسس ميثولوجية متعارضة مع تعاليم الكنيسة من حيث المعتقد والرؤية نحو العالم والتاريخ.

المداخلة الثالثة في هذه الجلسة تقدم بها الدكتور عبد الرزاق حسين (أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن - السعودية)، حول: (الحوار وإشكالية الجدل في القرآن الكريم)، تتلخص مداخلته في أنه إذا كانت غاية الرسالة التي نزل بها القرآن الكريم توحيد الله عز وجل، فإنَّ أساليبها في العرض تقصد هذه الغاية قصدًا، وتسعى إليها سعيًا، وأسلوب الحوار من الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم لتأكيد هذه الغاية، وتثبيتها في النفوس.

ومن خلال استعراضنا للقطات الحوار في القرآن الكريم فإنَّنا نلحظ تنوّعًا في الحوار، واختلافًا في المتحاورين، والاعتماد على الأسلوب البياني المعجز من حيث التعبير، وعلى ضوابط من العقل والحكمة والدليل من حيث الإقناع، وعلى إتاحة الفرصة لعرض وجهات نظر المتحاورين للوصول إلى الغاية من نزول هذا القرآن الكريم ألا وهي هداية البشر، «فالقرآن الكريم بشموليته لم يترك لنا باباً إلاّ وقد تناوله بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي حاجَّ بها خصومه في صورة جلية واضحة يدركها الداني والقاصي، والجاهل والمتعلم، والعام والخاص، معطلاً كل شبهة، بأسلوب واضح وتركيب سليم لا يحتاج إلى إعمال الذهن في المسألة المطروحة، لأنه يذكر لنا الحقائق ويقررها بوضوح فيلمسها الإنسان بنفسه دون عناء».

واعتماد القرآن الكريم الحوار أسلوبًا دعويًّا قد وضع قاعدة من قواعد حرية التفكير والاختيار، وأساسًا من أسس الوصول إلى الحق عن طريق الإقناع المؤدي إلى ترسيخ وتثبيت الفكرة موضوع الحوار.

وقد سارت هذه المداخلة في مقدمة تعريفية للحوار والجدل في اللغة والمصطلح والإشكالية بينهما، ويعبُر من خلال ثماني نقاط ليبين عن: أنواع الحوار، وموضوعاته، ومستوياته، ودوافعه، وآدابه، ولغته، وسماته، ونماذج محدودة. ثم خاتمة تبيّن عن النتائج التي توصَّل إليها البحث.

رابع المتدخلين في الجلسة الأستاذ عبد النور شرقي (جامعة المسيلة - الجزائر)، عنوان مداخلته: (الجسد مبدأ تواصل مع الغير.. قراءة في فلسفة ميرلوبونتي)، تتلخص مداخلته في الدور الذي يؤديه الجسد في تحقيق التفاعل الاجتماعي والذي يتمثل في التواصل بين أفراد المجتمع؛ لأن كل منا لا يتكلم بلسانه وأعضاء النطق الأخرى فقط، ولكنه يتكلم بأعضاء جسمه فيومئ برأسه، ويغمز بعينه، ويشير بيده، بل إننا نجد الإشارة تنوب على الكلام، وهذا ما يجعل وجود تداخل بين ما هو جسدي وما هو لغوي، وهنا تكمن قصدية ميرلوبونتي في التواصل مع الآخرين، ليس هذا فقط بل كذلك في العملية الجنسية يكون هناك تواصل جسدي بين شخصين يختصر التواصل اللغوي.

المداخلة الخامسة تقدم بها الدكتور حموم لخضر (جامعة مستغانم. الجزائر)، موسومة بـ(اللغة والجذمور لدى جيل دولوز)، جاء فيها: لقد كان مشروع نيشته يتمثل في إدخال مفهومي القيمة والمعنى إلى الفلسفة كما يرى ذلك دولوز، المعنى باعتباره مقروناً بالقوة التي تقف وراءه، والأخلاق مقترنة بقيمتها المتوخاة منها، حيث لا يمكن معرفة معنى شيء ما، سواء كان ظاهرة إنسانية أو بيولوجية أو حتى فيزيائية حسب دولوز ما لم نعرف القوة التي تمتلك هذا الشيء وتستغله، أو تستولي عليه وتعبر عن نفسها فيه، فالظاهرة ليست مظهراً، بل هي علامة، تجد معناها في قوة حالية، فالفلسفة بكاملها علم أعراض (Symptomatologie) وسيميولوجيا (Sémiologie )، أي أن الظواهر هي العلامات والفلسفة هي سيميولوجيا. وإذا كان الشيء هو علامة على نفسه وإذا كانت العلامة لا تنفصل عن وجودها، هذا يعني أن الكل حياة، الكل علامات.

بل لا يكفي -حسب دولوز- بأن تكون الفلسفة تشخيص أعراض وعلامات فقط، بل إن العلامات نفسها تحيل على أنماط حياة وإمكانات وجود، فالحياة متدفقة ونابضة، ففي عمله حول رواية بروست «البحث عن الزمن الضائع» يولي دولوز أهمية للعلامة عوضاً عن الكلمة، فالنص مليء بالكلمات وما يغيب هو العلامات، لذا يجب البحث عنها بغية تأويلها وتفسيرها، فالعلامات هي أكثر مرونة من الكلمات وهي ما يُمكن من فتح النص على آفاق جديدة تظل الكلمات تعجز عن بلوغها، بل ينبغي التعلم من العلامات، لأنها هي مدار الإبداع، حيث لا يستطيع الإنسان حسب دولوز أن يكون نجاراً ما لم يكون له إحساس اتجاه علامات الخشب، ولا يستطيع أن يكون طبيباً ما لم يكن يملك إحساساً بعلامات المرض، إن الموهبة استعداد أولي اتجاه العلامات.

ليصل الملتقى في الأخير إلى نهاية تعد بالفعل بداية تأسيسية لفعل الحوار والتواصل بين ذواتنا أولاً وبيننا وبين الآخر مهما اختلف عنا، إلا أن الجامع الوحيد بيننا وبينه هو الإنسانية.