سلطة وسائل الإعلام في السياسة
الدكتور يامين بودهان*
* قسم علوم الإعلام والاتصال، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف 2 - الجزائر.
مقدمة
إن السلطة التواصلية لوسائط الإعلام الجديدة أبلغ من أي خطاب تواصلي آخر، إذ تسرّبت الصور والرسائل الإعلامية بمختلف أشكالها وأصنافها إلى جميع مفاصل الحياة، فلم يبقَ هناك فضاء حياتي إلا «وغوته»، حيث ينغمس الأفراد في علاقات تفاعلية مع الآخرين.
إن الأفراد مرتبطون أشد الارتباط بوسائط الاتصال، ولا نتصور في الوقت الراهن منزلًا دون تلفاز، ولا فردًا دون هاتف نقّال أو حساب أو صفحة شخصية على صفحات التواصل الاجتماعي، كالفيسبوك، تويتر، واتساب....
لقد غوت الرسائل والصور والفيديوهات حيوات الناس وغزتها، وأصبح الناس لا يقدرون على العيش بمعزل عن التكنولوجيات الحديثة التي تمكّنهم من تلقي آلاف الصور والرسائل والمنشورات والتغريدات ومشاهدتها من مصادرها المتعددة عبر أدوات الإعلام الجديد.
لقد أحدثت هذه الوسائط الجديدة انقلابًا أيضًا على المستوى المفاهيمي للإعلام، إذ أوجدت ممارسات اتصالية جديدة لم تكن موجودة من قبل، وأثرت معاجم وقواميس علم الإعلام بمصطلحات جديدة «كالافتراضية، المواطن الصحفي، المدونة، الصحيفة الإلكترونية، الجمهور المتفاعل النشط»، إذ اختفت بالفعل الحدود الفاصلة بين المرسل والمستقبل، وأصبح كل جمهور الإنترنت منتِجًا للمادة الإعلامية المقدَّمة، وهو ما أطلق عليه خبراء علماء الاتصال بـ«ظاهرة المواطن الصحفي»، أو «ظاهرة الإعلام التشاركي».
أيديولوجية الاتصال ضمن بيئة الإعلام الاجتماعي
بدا واضحًا أن وسائل الاتصال الحديثة تغلغلت بشدة داخل المجتمعات المعاصرة، إذ أدّت بالأفراد والجماعات إلى الانخراط بشدة في منظومة الاتصال الجديدة، لحد جعلهم يتشاركون في تكوين جماعات افتراضية تفاعلية جعلوها بديلًا وتعويضًا عن جماعات الأهل والأصدقاء، بل حدا الأمر بالكثير منهم إلى استخدام هذه الوسائل إلى درجة الإفراط والإدمان، فلم يعد بمقدورهم الاستغناء عنها أو العيش بعيدًا عنها.
هل غدت فعلًا وسائل الاتصال الجديدة أدوات لإقامة الديمقراطية الحديثة على حد وصف دينيس ماكويل؟
وهل عوّضت الأيديولوجية الاتصالية الأيديولوجيات السابقة التي عجزت عن إيجاد التوافق الاجتماعي؟
وهل تُعد هذه الوسائل بحق ملاذًا جديدًا حسب تعبير فيليب بروتون؟
وما مدى فاعلية هذه التكنولوجيات على إحداث التفاهم والتواصل بين الأفراد في ظل تعاظم ما يسمى بالاتصال ضمن الفضاء العمومي، وتسرب أيديولوجيته والقيم التي تحمّلها وتبشر بها إلى المؤسسات المجتمعية مهما كانت طبيعتها؟
هذه الأسئلة يثيرها الباحثون في الاتصال وكل المهتمين بقضاياه ومسائله، وبالطبع سيجيب هذا المقال عن بعض هذه التساؤلات محاولًا تلخيص وعرض بعض التحولات المهمة التي أفرزتها وسائل الإعلام والاتصال، وأحدثت ثورة وانقلابًا في المحيط السياسي للفرد المعاصر على حد تعبير مارشال ماكلوهان.
يستهدف هذا المقال إبراز الدور الذي تلعبه وسائل الاتصال الجديدة في الحياة السياسية للأفراد والمجتمعات، إذ يستعرض مختلف الأنماط الاتصالية السياسية الجديدة التي ظهرت، كما يحاول سبر أغوار كثير من قضايا وتحولات الاتصال السياسي المعاصر، التي تمسّ بشكل مباشر حياة الأفراد في العالم بصورة عامة وفي المنطقة العربية بشكل أخص.
وظيفة الاتصال داخل الأنساق السياسية
تعدّ وسائل الإعلام من صحافة مكتوبة ومسموعة ومرئية من أهم قنوات بثّ ونشر وتوصيل المعلومات والآراء والمواقف المتبادلة بين «الحكام والمحكومين» في إطار عملية الاتصال السياسي، ولها دور فاعل في تنشيط هذه العملية، إذ إن المناقشات والمواقف الخاصة حول المسائل السياسية تأخذ مؤشراتها من عرض وسائل الإعلام لهذه المسائل، فهي إلى جانب تأثيرها على الآراء السياسية للفرد تؤثر في الطريقة التي تدار بها السياسة، وعلى تنظيم نشاطاتها الرئيسية.
وانتقال الرسائل ذات المضامين السياسية يعدّ من أشد أنواع الاتصال حيوية وفاعلية في المجتمع، إذ يجمع بين طرفين هما أساس المجتمع وقاعدته الحاكم والمحكوم، أي المواطنين والسلطة السياسية الحاكمة، فيكون الاتصال بين هذين الطرفين تلاقيًا يحقق تبادلًا للرسائل بينهما مباشرة للتأثير في سلوك بعضهما، وموضوعه هو تحويل وتبديل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات سياسية.
أكد مارتن لينسكي (Martin Linsky) في دراسة أجراها برفقة مساعديه وتحت رعاية جامعة هارفرد للصحافة والعلوم السياسية والسياسة العامة، أن أجرى مقابلات مطولة مع عشرين من واضعي السياسة، وستة عشر صحفيًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، ممن أشار إليهم نظراؤهم بأنهم كانوا ناجحين على نحو متميز، بغرض اكتشاف آرائهم عن التفاعل بين الحكومة والصحافة فيما يتعلّق بوضع السياسة، «إن الممارسة الفعالة للحكم تتطلب من واضعي السياسة أن يفهموا كيف تعمل وسائط الإعلام ليتمكّنوا من استخدام نفوذها لتعزيز الأهداف العامة للسياسة، وإذا ما أخفقوا في أخذ الجوانب الاتصالية للسياسة بعين الاعتبار، أو إذا أساؤوا إدارتها تزيد احتمالات فشل السياسة»[1].
فليس غريبًا أن تقرن اليوم النظم الديموقراطية بإعلام المواطنين، وبالتالي فإنه من التناقض أن تكون المعارف التي لا يمكن إيصالها إلى المواطنين هي تلك التي يستحوذ عليها الحكام[2].
أما إذا حدث العكس، فإن النتيجة المحتملة هي غياب ثقة المواطن في الحاكم، وإصداره لأحكام عشوائية، وقيامه بتصرفات مرتجلة، نتيجة غياب المعلومات التي قد تنير له الطريق، وتساعده في تحديد مصيره بعد دراية تامة بالخلفيات.
والإعلام ليس مجرد إمكانية أو قدرة يتوفر عليها الحكام، وإنما هو أمانة وواجب في أعناقهم، لأنه ضمان للسير الحسن للآلة الحكومية، فعملية نقل المعلومات هي سلطة، واستئثار فئات معينة بحق الوصول إليها ، أو التعامل معها، يمثّل نوعًا خطيرًا من السلطة.
لهذا نرى كيف أن أكثر القرارات المتعلقة بحق الاتصال والإعلام أصبحت أكثر اصطباغًا بالطابع السياسي، خاصة وأن المعرفة والحصول على المعلومات كما يقول أحمد بدر تعتبر أحد أسباب الأمن ومن مقومات الحرية[3].
غير أنه ينبغي الإشارة إلى أن الاتصال ذا الاتجاهين بين النظام السياسي والمحكومين يتطلب تبادلًا يقوم على الأقل على تكافؤ تقريبي ونسبي في العلاقة بين طرفي الاتصال، وهذا ما يؤكده هربرت شيلر (Herbert Schiller) الذي يرى أن التدفق ذي الاتجاهين لا يمكن أن يحدث في حالة غياب توازن أساسي (اقتصادي، سياسي، عرقي، أو غير ذلك من الجانبين)، فإذا كانت هناك عوامل تضعف أو تقضي على التكافؤ في التبادل، فإن التدفق المتبادل ثنائي الاتجاه ينقلب في الحال إلى قناة تضليلية أو استغلالية أحادية التوجيه[4].
تقوم وسائل الإعلام بحركتين متعاكستي الاتجاه ومتكاملتين في الوقت نفسه في عملية الاتصال السياسي بين الحاكم والمحكوم، فهي من جهة تنقل المدخلات، عندما تجعل الحكام يستعلمون عن حالة المجتمع، وتحمل إليهم مختلف المواقف والمطالب والآراء والمظالم التي يعبّر عنها المجتمع والجماعات الاجتماعية التي يحتويها، كما أنها تقوم في الجهة المقابلة بنقل المخرجات إلى المواطنين، حيث تكون خير قناة يعتمد عليها الحكام في التعريف بنواياهم لدى المواطنين، وشرح سياساتهم وتبرير قراراتهم.
على هذا يمكن اعتبار الصحافة إما ضغطًا أو عونًا للسلطة، ففي الحركة ذات الاتجاه الصاعد، من القاعدة إلى القمة تكون الصحافة بمثابة أداة ضغط، وتتحرك كما لو أنها جماعة ضغط، على الرغم من أنها تعبر عن رأي الشعب في واقع الأمر، أما الحركة ذات الاتجاه النازل، من القمة إلى القاعدة، فتكون الصحافة فيها بمثابة عميل أو تكون للسلطة والتزامها بالمعلومات التي تفيد بها السلطة.
يقول هربرت شيلر في هذا السياق: «للحكومة سبب مشروع لنقل المعلومات إلى الجمهور حول نشاطاتها، كما أن الجمهور في أمس الحاجة لأن يتم إعلامه بكل ما يتعلق بهذه المسائل»[5].
عند الحديث عن هذه الحركية الاتصالية النازلة ينبغي أن نركز على قضية وجوب إعلام الحاكم للمحكوم قبل مطالبته بالطاعة، ولعل هذا التركيز يندرج ضمن السعي لتوفير أفضل ظروف للمشاركة في عملية صنع القرار، ذلك أن أصل المشاركة وجوهرها يتمثل في المعلومات، كما يسمح توفر المعلومات لدى الجميع بتوفير عنصر الجدل الذي أعطاه جون سوير نغن أهمية بالغة، إذ أكد أنه من دون الجدل لا يمكن أن يكون هناك نقاش.
لا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية، ومن أجل إجراء نقاش ذي معنى، لا يكفي للشعب أن يستيقظ، ولكن أن يعلم، ويمكن لهذا أن يحدث فقط عندما تطرح كافة الحقائق على مائدة البحث، ويتم بثّ وجهات النظر بالكامل، وأقر بأن هذه هي مسؤولية كافة الصحفيين القصوى[6].
يعطي كل من ألموند (Almond) وكوليمان (Coleman) مكانة خاصة للاتصال في النظام السياسي، إذ يفضلون وظيفة الاتصال على الوظائف الأخرى لهذا النظام، ويؤكدون على كونها وظيفة مستقلة وتسمح بتحديد طابع سير النسق السياسي، وهو (بمعنى الاتصال) العنصر السياسي الذي يسمح للنسق السياسي بتحقيق وإنجاز نفسه، ودون الاتصال فعلًا فإن الوظائف الأخرى للنسق لا تكتمل.
وتتوقف وظيفة الاتصال داخل الأنساق السياسية على بنيات الاتصال وأساليب استكمال وظيفة الاتصال، بحيث يمكن أن تكون أساليب الاتصال السياسي تستجيب للخصائص التالية: إذ يمكن أن تكون الرسالة بارزة أو ضمنية، ويمكن أن تكون خصوصية موجهة إلى جزء فقط من المحكومين، أو عامة موجهة إلى جميع المحكومين.
إن أسمى هدف يسعى النظام السياسي لتحقيقه هو تحقيق التوازن، إما بين المتطلبات الداخلية أو الخارجية، أو التوازن بين الأنظمة الفرعية، و التوازن المركزي الذي ينشده هو الاتفاق بين الحكام والمحكومين، وهذا الاتفاق يشرح لماذا الإجراءات المتبعة من طرف النظام السياسي هي واضحة ومقبولة من طرف المجتمع، أي يبرر شرعية هذا النظام، الذي يعتمد -وفي جانب كبير- على الاتصال.
وحين ينتج الاتفاق بين الحكام والمحكومين -كما يؤكد جون ماري كوتري- فإن الاتصال قد نجح، وفي حالة العكس إن وظيفة الاتصال قد فشلت لأنها لم تسمح للنظام السياسي بالتأقلم مع متطلبات المحكومين[7].
وإذا ما فرض الحكام أيضًا قراراتهم بالقوة، فإن الاتصال هنا لا يعمل جيدًا؛ لأنه لم يسمح بتقبُّل القرارات، وفي هذه الحالة تظهر الدعاية كوسيلة اتصالية.
وعلى كلٍّ فوجود قانون (Code) مشترك هو الذي يسمح بالاتصال بين الحكام والمحكومين، ودون قانون فإنه لن يكون هناك اتصال...
فهكذا يضمن الاتصال السياسي وظيفة التلاحم (Adéquation) بين طرفي الاتصال، وبعبارة أخرى فإن الحكام عليهم أن يكونوا هدف طلبات وتمنيات المحكومين، وهؤلاء عليهم تقبُّل القرارات المزعجة أو الإكراهية المتخذة من طرف الحكام، وهذا التقارب يتحقق بتبادل الرسائل من الحكام إلى المحكومين، ولكن أيضًا من المحكومين إلى الحكام[8].
وبالتأكيد فالمجتمعات الحديثة في حاجة حيوية لإروائها بالمعلومات، ليس فقط كما أشرنا لمجموع المحكومين، ولكن أيضًا بالنسبة للذين يحكمونهم.
انطلاقًا من وجهة النظر هذه يمكن اعتبار الصحافة ليس فقط عنصرًا بسيطًا وهامشيًّا للنظام، وليس فقط شريكًا حقيقيًّا ومستقرًا له كأحد الأجهزة الأيديولوجية كما يقول ألتوسير (Althusser)، ولكن كنظام مستقل ومعقد، «ألم تُدعى بالسلطة الرابعة؟» التي تغذي بالمعلومات النخبة الحاكمة، وكذا مجمل المواطنين[9].
النتيجة أن الاتصال السياسي يضمن انسجام العلاقة بين الحكام والمحكومين، وبالتالي تحقيق توازن النظام الاجتماعي ككل، وهذا ما سيبرر بالتأكيد شرعية النظام السياسي، ويجعل قراراته مقبولة ومطاعة من طرف الجميع[10].
أما في حالة عدم الانسجام بين الطرفين، أي لا يتوفر عنصر تبادل المعلومات بينهما، فإن الاتصال هنا لا يعمل جيدًا، لذلك سيسعى الحكام إلى فرض قراراتهم بالقوة، وفي هذه الحالة فإنهم سيلجؤون إلى طريقة الدعاية، أو إلى أسلوب الاتصال الإقناعي، أي توظيف الضغط والقوة، أو استخدام أسلوب الاستمالة والمراوغة[11].
حتمًا إذا ما شوهت الوظيفة الانسجامية للاتصال السياسي، وأصبحت المراوغة والضغط هي السائدة، فإن النظام السياسي بذلك يكون نظامًا استبداديًّا أو ديكتاتوريًّا لا يفتح المجال لحرية التعبير والرأي، على النقيض من النظام الديموقراطي الذي يرتكز على مبدأ أساسي ولا محيد عنه، وهو حرية الرأي والاتصال.
لهذا ينبغي على النظام السياسي أن يترك قنوات الاتصال مفتوحة بينه وبين المحكومين، «وذلك بضرورة التركيز على وسائل الإعلام، وأن ترفع الوصاية عن القارئ أو المستمع أو المشاهد، ولتترك له حرية الوصول إلى الرأي بنفسه، وأن تتَّجه الصحافة للتركيز على دائرة المشاركة السياسية، وأن تمنح لها استقلالية كاملة عن الحكومات (ملكية، إدارة، وتوجُّهًا)، بحيث تمارس دورها النقابي على السلطة لصالح الرأي العام»[12].
حينها سيكون للصحافة دورها الريادي في توطيد علاقات الاتصال بين الحكام والمحكومين، كوسيط ناقل للمعلومات، وسيحسب لهل حساب كوظيفة أساسية من وظائف النظام السياسي كما أكد ذلك غابرييل ألموند.
وفي السياق نفسه قال فرانك كاربنتر (Frank Carpanter) عن الصحافة: إنه يوجد في واشنطن في الولايات المتحـدة الأمريكية مجلسين (deux congrès)، أحدهما هي غرفة النواب، أو مجلس الشيوخ (Sénat)، والأخرى هي موجودة في أروقة المجلس، إنها كونغرس الصحافة[13].
فالصحافة إذن هي رهان سياسي (Enjeu politique) بالنسـبة للسياسيين، وهذا تبيّنه مساعي النظام السياسي لاحتوائها والسيطرة عليها، وتوجيهها وفق ما يخدم توجهات وأغراض هذا النظام، فهو مثلًا يسعى إلى احتكار مجال السمعي والبصري، ويجعله غير حر، إلا في الحالات التي يمنح فيها التراخيص[14].
وفي نظر السياسيين أن الخبر أو التعليق أو أي نوع صحفي آخر في التلفزيون، أو حتى في الإذاعة له تأثير واسع، ويمكن أن يهدّد كيان النظام السياسي، في الوقت الذي يمكن أن يدعمه ويثبت وجوده إذا وظف لصالحه، وهذا ما يقال عن مقال أو افتتاحية في جريدة، ولو أن تأثيره يأتي في درجة أقل من التلفزيون أو الإذاعة.
ومن ثم فوسائل الإعلام هي حاجة أساسية للنظام السياسي، ويمكننا أن نقول: إنه للنظام السياسي كسريان الدم بالنسبة لجسم الإنسان[15]. من جانب آخر فتبادل المعلومات والاتصال بين الحكام والمحكومين في إطار النظام السياسي يخدم الصالح العمومي، ويساعد على توثيق الرباط الاجتماعي (le Lien sociale) حسب فيلوم لورانس (Villoume Lourense)[16]، وليس فقط توطيد وجعل النظام السياسي متوازن ومستقر.
وكما يقول ولتر ليبمان (Walter Lippman): «فوسائل الإعلام هي وسائل للديموقراطية، وهي محكمة الرأي العام مفتوحة ليلًا ونهارًا... إلخ، وهي كشعاع النور الكشاف الذي لا يفتأ يتحرك هنا وهناك، كاشفًا للعيان حديثًا تلو الحديث من غياهب الظلام[17]... تسعى بذلك جاهدة لخدمة المصلحة العمومية.
دور الصحافة المكتوبة في الاتصال السياسي
إن الحكم الديموقراطي يستحيل بدون حرية التعبير والفكر، بحيث يستطيع الناس عن طريق المنافسة الحرة والاطلاع على الأخبار والأحداث، أن يمارسوا التأثير والرقابة على الحكومة، هذا الأمر هو الكفيل بإيجاد ديموقراطية فعّالة[18].
وقد برزت أهمية الصحافة المكتوبة في الشؤون السياسية، إثر تقدم الفن الصحفي، بعد الاتساع الكبير في استخدام آلات الطباعة الحديثة، واستعمال المعدات الإلكترونية الجديدة، وأن الصحف تؤدّي رسالة ضخمة، وتشكّل جزءًا أساسيًّا في عملية التكوين السياسي للمجتمعات[19]، لما لها من تأثير كبير في تكوين الرأي العام، وتنشئته سياسيًّا، وكذا دور مهم في ربط الفئة الحاكمة بالفئة المحكومة.
لهذا كان للصحافة المكتوبة فضل في التطورات السياسية في العصر الحديث، فقد لعبت دورًا هامًّا في نجاح الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، والحركات القومية في أوروبا والشرق، وهي غذاء الرأي العام، والمادة التي يعتمد عليها في تكوين معلوماته وآرائه سواء منها الداخلية أو الخارجية، فهي وسيلة للتعبير عن الرأي العام، ووسيلة للتأثير فيه وتوجيهه.
الصحافة الحرة هي القوة الضاغطة على الحكام، إذا ما أرادوا أن ينحرفوا عمَّا يريده الرأي العام، وهي لا تكون حرة إذا كانت بوقًا للحكام لا تعبيرًا عن الرأي العام، ومن خلال الصحافة الحرة يعبر الرأي العام عن نفسه، ويؤثر على الحاكمين ويوجههم، وينتقدهم، ويبقى ضمانًا من ضمانات عدم الانحراف بالسلطة وإساءتها، وأن الحرية ضرورية لتوفير مناخ الصحافة الحرة، والصحافة كما أشرنا في البداية تلعب دورًا حيويًّا في تكوين الرأي العام وتكوين مستواه السياسي في النظام الديموقراطي[20].
ويرى هارولد لاسويل (Harold Lasswell)، أن تطور الرأي العام المستنير، والذي له مصلحة بالسياسات العامة أمر يهم الصحفيين والمعلقين على الأخبار، والزعماء الذين يقودون الجماعات غير الحكومية، وممثلي الهيئات النيابية وموظفي الحكومة[21]. كل هذا يبين أنه لا غنى سواء للرأي العام أو السياسيين عن الصحافة المكتوبة، التي تعدّ بحق من أهم وأنجع أنظمة الاتصال السياسي.
الصحافة المكتوبة في معناها الاصطلاحي عادة ما تعرّف بأنها مطبوع دوري ينشر الأخبار في مختلف المجالات ويشرحها ويعلّق عليها، ويكون ذلك عن طريق الصحف والمجلات العامة منها والخاصة[22].
ويعرفها معجم المصطلحات الإعلامية لكرم شلبي: «بأن هذه الكلمة أطلقت على المطبوعات أولًا، باعتبار أن الشيء المطبوع يمرّ بعملية ضغط الصفحات داخل آلة الطباعة، أو «بالأحجار» كما كان الحال قبل اختراع الطباعة بالحروف المعدنية، غير أن التعبير شاع وأصبح يطلق على المطبوعات، كما يطلق على وسائل الإعلام الأخرى، من إذاعة وتلفزيون، وكذلك على العاملين بها من مذيعين ومندوبين، ومقدمي برامج»[23].
سميّت الصحيفة بالصحيفة أو الجريدة في اللغة العربية، إشارة إلى الدعم المادي الحامل للكلمات (Support) «الصفحة الورقية أو جرائد النخيل»، وذلك على غرار التعبير الإنجليزي (News paper)، وبخلاف التعبير الفرنسي (Journal)، الذي يُشير إلى اليومية، من حيث التوقيت الزمني للصدور، والثانية، أي المجلة المقابلة للكلمة الفرنسية (Revue)، والإنجليزية (Magazine)، فتشير الى إبراز قيمة مضمونها، فالكلمة مشتقة من الفعل «جلّى»، الذي يعني ظهر وعلا وسما[24].
هذا من حيث تحديد المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم الصحافة، أما من حيث درجة متابعتها والاطلاع عليها، فهي قد أصبحت من أهم وسائل الاتصال التي لا يمكن الاستغناء عنها في المجتمعات الحديثة، أي تعتبر من مقومات الحياة السياسية والفكرية، فمن الناحية السياسية كما أشرنا سابقًا فتوظفها الحكومات والسياسيين في جميع بلدان العالم كسلاح قوي للدفاع عن أفكارها[25]، خاصة في الدول النامية التي تفتقر لمبدأ أساسي من مبادئ العمل الصحفي، وهي حرية التعبير، أي تعتبر الصحافة كسلاح أيديولوجي في يد السلطة تستخدم لتجنيد المحكومين وتوجيههم للوجهة التي تشاء، ويعتبر الصحفي في الوقت نفسه مجرّد موظف في مؤسسة عمومية تابعة للحكومة، ويخضع نشاطه للسياسات الإخبارية التي تحددها السلطة.
قال الرئيس السوفييتي السابق خروتشوف في هذا السياق، «أن الصحافة هي سلاحنا الفكري الأيديولوجي الرئيسي، ونحن نوجب عليها أن تنكّل بخصوم الطبقة العاملة، وأعداء العاملين جميعًا في المجتمع الشيوعي»[26].
لكن تبقى الصحافة منبرًا مهمًّا للرأي العام، ومن أقدر الوسائل على بلورته، وتبقى أيضًا جزءًا مهمًّا في الجهاز السياسي لكل دولة، تستخدمها لتشكيل وتوعية هذا وتوعية هذا الرأي سياسيًّا، بحيث يشارك مشاركة سياسية فعالة وإيجابية، إذا أحسن حقًّا استعمالها، وفتح لها فضاء ديمقراطيًّا حرًّا لممارسة نشاطها، «فحرية الصحافة قبل كل شيء هي صورة من صور حرية الرأي والتفكير عمومًا، وهذه بدورها من الحريات العامة التي يقوم عليها النظام السياسي، وبالتالي فحرية الصحافة لا تنفصل عن الديمقراطية، بل هي من الحريات العامة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، واعتبرت في رأي البعض أساس جميع الحريات الأخرى»[27].
ففي إطار النظام الديمقراطي إذن حضور الصحف يعتبر مصيريًّا، فهي كانت ولا تزال تشكّل الأرضية الأساسية للتبادل بين عدد محدود من المحكومين والحكام. لذلك نجد تعدّد وتنوّع الصحف من حيث الملكية والتوجُّه، فهناك جرائد عمومية تصدرها أو تشرف عليها الحكومة، وتساير سياسات وتوجهات هذه الحكومة، ونجد كذلك جرائد ذات ملكية خاصة، مستقلة كانت أو حزبية قد تعارض توجهات هذه الحكومات، وهذه الظاهرة معروفة بالنظام الديمقراطي، وكل نوع من هذه الجرائد له أسلوب وتوجه معين في تسيير وتوجيه عمليات الاتصال بين الحكام والمحكومين.
فالصحافة الموالية أو المؤيدة لسياسة الحكام تعمل وتسعى لحشد وتجنيد المحكومين من أجل جعلهم يؤيدون هذه السياسة، ويتبنون مجمل المواقف والسلوكات الصادرة عنها، في المقابل فالصحافة المعارضة هدفها الأساسي هو توعية المحكومين وجعلهم قادرين على انتقاد سياسات الحكام، وإجبارهم على الإصغاء لاهتماماتهم وانشغالاتهم لغرض فحصها والاستجابة لها.
وكما يقول كوتري: « فإذا لم تتسبب افتتاحية صحيفة ما يوميًّا في إسقاط وزارة فإن الحكومات تضع في حسبانها هذا الأمر»[28].
تبرز أهمية الصحافة المكتوبة سواء الجرائد أو المجلات في مختلف الحالات والمواقف، ففي الحالات العادية، أي في غير فترة الانتخابات، فهي تلعب دور الوسيط بين الجهاز السياسي الحاكم بمختلف مؤسساته (رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، الوزارات، الولايات... إلخ، وحتى البلديات) وبين المحكومين أو مجمل جمهور وقراء الصحف.
هذا الوسيط الذي يفترض أن يكون وسيطًا تفاعليًّا، أي من جانب يعرف ويعلم المحكومين بنشاطات هذه الأجهزة السياسية، فيكون لديهم ثقافة سياسية حول مجمل القضايا التي تتعلّق بتحركات ونشاطات الحكام، ومن الجانب الآخر ينقل آراءهم وتوجهاتهم ومطالبهم إلى الحكام والتي تكون في العادة تورد في شكل تقارير وتعاليق وتحقيقات... يُعدها صحفيون وإعلاميون يشتغلون بالصحيفة ويؤدون دور الرابط والوسيط بين الطرفين السابقين.
وقد تورد كذلك هذه المطالب والآراء في شكل رسائل مفتوحة موجهة بصفة مباشرة إلى المسؤول الذي يرى فيه رافع الرسالة أنه الكفيل بأن يجيب عن مطالبه.
أما في فترة الانتخابات بمختلف صورها (الرئاسية، التشريعية، المحلية) فالصحافة المكتوبة تلعب دورًا كبيرًا خلال الحملات الانتخابية، وكل مرشح للانتخابات يسعى للحصول على أحسن تغطية لحملته الانتخابية، ويسخّر لذلك مجهودات مادية وبشرية معتبرة، من أجل كسب ودّها، لأن الصحف تقدم يوميًّا لقرائها عدة ملايين من الكلمات، وتعرض للناخب مختلف مواقف المترشحين، ولكنها قد تركز على مرشح دون آخر.
لذلك يقول الباحث نيهان دافيد (Nyhan David): إن الصحف التي تغطي الحملات هي التي تنظم العمل، وهي التي تضع الجدول للحملة السياسية[29].
لهذا عادة ما تلجأ الصحيفة في فترة الحملات الانتخابية إلى إجراء عمليات استطلاعات للرأي، وقد تظهر تقدم مترشح على آخر، مما يزيد من حظوظ ذلك المترشح وتزداد شعبيته على حساب الآخر أو المترشحين الآخرين، ولكن في بعض الأحيان قد تخطئ الصحافة في توقعاتها الأولية، أو كما يسميها دافيد نيهان «بسباق الانتخابات الأولية»[30]، حيث تكون النتائج الختامية غير تلك التي أظهرتها الاستطلاعات.
في كل الأحوال فعلى الرغم من أخطاء الصحافة مع ميلها لبعض الأطراف وتحيزها في أغلب الأحوال للأقوياء، فهي مثلًا تبجل الرؤساء الذين هم في مناصبهم أكثر مما ينبغي... إلا أن لها القدرة في أغلب الأحيان على التركيز على بعض المسائل، وإجبار السياسيين على الاستجابة لها، وباستطاعة الصحافة أن تضطرهم للجلوس ساعة ونصف الساعة، وإلى بحث السياسة الخارجية في قالب فكري شاق ودقيق، وان تجعلهم يعالجون الأمور بطريقة قد لا يفعلونها عن طريق خطبة صمّاء تُلقى على منبر سياسي[31].
[1] مارتن لينسكي، كيف يتعامل واضعو السياسة مع الصحافة، دوريس إيه جريبر، سلطة وسائل الإعلام في السياسة، عمان: دار البشير، 1999، ص 480.
[2] Bardeau Georges, Traité de science politique, Tome 3, La Dynamique politique, 2 eme, Paris: Librairie générale de droit et de jurisprudence, édition, 1968, p 249.
[3] أحمد بدر، الاتصال بالجماهير بين الإعلام والدعاية والتنمية، الكويت: وكالة المطبوعات، 1982، ص 245.
[4] هربرت شيلر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة: عبد السلام رضوان، ط 2، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والإعلام والفنون، 1999، ص154.
[5] نفس المرجع، ص 63.
[6] Jean-Marie Cotteret ,Gouvernants gouvernés: ou la communication politique. Paris, Puf, pp 99 - 100.
[7] IBID, p 112.
[8] IBID.
[9] Gérard Leclere, La Société de l’information: Une approche sociologique et critique (France:Puf, 1999), pp 175 - 176.
[10] Jean-Marie Cotteret, op.cit, p94.
[11] Jacques Gestlé, La communication politique. France: Presse universitaire de France, 1992, p 06.
[12] بسيوني حمادة إبراهيم، استخدام وسائل الإعلام في السياسة، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، 1995، ص48.
[13] Tom Bether, «La Diffusion de l’information», Mal Dettinger, Le rôle des médias. USA: Agence d’information des états unies, sans date d’édition, p12.
[14] Charles Debbache. Jean-Marie Pontier, L’introduction à la politique, 3 eme édition, Paris: Daloz, 1991, 213.
[15] Gérard Schzartzenberg, Sociologie politique. Paris: Montchrestien, 5 ed, 19987, p131.
[16] Dolham Nancy, «L’espace médiatique; La communication à l’épreuve de la démocratie», Le monde diplomatique, Juin 1996, p31.
[17] ولتر ليبمان، الصحف اليومية، دوريس إيه جريبر، مرجع سابق، ص 65.
[18] جاك مريتان، الفرد والدولة، ترجمة: عبد الله أمين، بيروت: دار مكتبة الحياة، 1951، ص84.
[19] عبد الغني بسيوني عبد الله، النظم السياسية أسس التنظيم السياسي، الإسكندرية: منشأة المعارف، 1991، ص376.
[20] كريم يوسف، احمد كشاكش، الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة، الإسكندرية: منشأة المعارف، 1987، ص78-79.
[21] John C. Walhlke & Alex N. Dragnich, Gouvernment and politics, 2 nd ed. New York: Random House, 1971, p 513.
[22] فضيل دليو، مقدمة في وسائل الاتصال الجماهيرية، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 1998، ص 91.
[23] كرم شلبي، معجم المصطلحات الإعلامية: إنجليزي- عربي، بيروت: دار الشروق، 1989، ص 458.
[24] فضيل دليو، مرجع سابق، ص 91.
[25] نفس المرجع، ص 94.
[26] نفس المرجع، ص 94.
[27] الطاهر بن خرف الله، الحريات العمومية حقوق الإنسان في الجزائر من خلال دستوري 1976 و 1989 - دراسة مقارنة، الأزمة الجزائرية الخلفيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996، ص 105.
[28] Jean-Marie Cotteret, op.cit.
[29] دافيد نيهان، الصحف اليومية في الحملات، دوريس إيه جريبر، مرجع سابق، ص 231.
[30] المرجع نفسه، ص 235.
[31] المرجع نفسه، ص 237.