الفارابي وفكرة المواطنة
الدكتور شريف الدين بن دوبه*
* الجزائر - جامعة سعيدة، البريد الإلكتروني: bendouba.philos@yahoo.fr
* المواطنة
يعتقد الكثير من المفكرين أن المواطنة كمفهوم أو وضعية قانونية معيشة إبداع حداثي غربي لا يمتُّ بصلة إلى المجتمعات الشرقية، فهذه الأخيرة تجمُّعات لرعايا، وليست لمواطنين، والغرب هو الفضاء الحقيقي لقيم الحرية والإبداع والديمقراطية، أما باقي المجتمعات فليست إلَّا تجمّعات عاجزة عن إدارة نفسها، فهي من الكائنات التي خلقت للانقياد كما يقول أرسطو في كتابه في السياسة، والحكم يحتاج إلى مراجعة نفسية قبل أن تكون اجتماعية، فنزعة التفوق لا زالت تحايث التفكير الغربي، وممارسة القيم السياسية تخضع لوضعية هاملتية في تاريخ جميع الممارسات السياسية.
وقبل التعرض لتصور الفارابي للمواطنة ينبغي الإشارة إلى دلالات المواطنة، فهي:
في اللغة: مصدرٌ لفعل رباعي مزيد على وزن فاعل وهو واطن، وكل رباعي على هذا الوزن يكون مصدره مفاعلة، مثل جالس مجالسة، قاتل مقاتلة، والمواطنة هي صفة المواطن الذي يتمتّع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى وطنه.
وفي الاصطلاح: «صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى وطن، وأهمها واجب الخدمة العسكرية، وواجب المشاركة المالية في موازنة الدولة»[1].
يتبين من هذا التعريف الوارد في الموسوعة أن المواطنة صفة أو قيمة شرطية يمكن توافرها ويمكن غيابها، فهي ليست صفة جوهرية ذاتية تكون بالوجود، بل هي صفة تترتّب عن مؤشّرات أهمها الانتماء إلى الوطن، فالوطن هو الحقل العام الذي تمارس فيه المواطنة، ولا وجود لمواطنة دون الوطن، وهناك أربع مؤشرات دالة على المواطنة وهي:
1- المؤشّر السياسي يتعلق بالحقوق التي يملكها المواطن في نظام سياسي معين، مثل حقّ الاقتراع، باعتباره عضواً في المجتمع السياسي الذي هو المدينة.
2- مؤشِّر الولادة فالمواطن هو ابنٌ لمواطن لم يحرم من حقوق المواطنة، وهو التعريف الأقدم إذ كان يسمح للمدن القديمة بمقابلة عدد ضئيل من المواطنين مع عدد كبير من ساكني المدينة.
3- المؤشر الحقوقي يعكس المواطن على مستوى القانون (المواطنة الرومانية نموذجاً).
4- المؤشر الاقتصادي (المالي) والذي به يتحدّد المواطن من خلال ما يتمتع به من ملكية محددة، حيث يساهم في موازنة الدولة ضمن شروط معينة، فهي إذن: «علاقة بين فرد ودولة كما حددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة»[2].
والمواطنة هي أكثر أشكال العضوية اكتمالاً في جماعة سياسيّة، فالمواطنة علاقة ولاء للسلطة السياسيّة وحماية للمواطن من هذه السلطة بما في ذلك الحماية الدبلوماسية للمواطن في غير وطنه، فالمواطنة إذن هي المشاركة في الحياة السياسيّة، وممارسة للحقوق المدنية والسياسيّة، فهو فرد ينخرط في سلطة الدولة وفي حمايتها، وبالتالي يتمتع بحقوق مدنية ويقوم بواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها، تحيل فكرة الانتماء إلى كون المواطنة ترتبط عموماً بهوية وطنية خاصة.
تقوم المواطنة على عناصر أهمها الانتماء والولاء للأرض في السلم والحرب، والتعاون مع المواطنين الآخرين لتحقيق الأمن الاجتماعي، وعلى قاعدة الرابطة القانونية بين الفرد والدولة، والتي يحدّدها الدستور وقوانين الدولة المتضمّنة للحقوق والواجبات مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة، وأيضاً علاقة أخلاقية تتأسس بين الفرد وغيره على قواعد الاحترام الأخلاقي المتبادل والقوانين الجزائية الرادعة لكل تعدٍّ، عبر الوسائل المتاحة سواء ما كان منها ضمن إطار القانون أو ضمن إطار الأعراف والتقاليد المعمول بها، والتي لا تخالف القانون المطبق في البلاد، كما أنها علاقة بين مؤسسات المجتمع المدني من خلال البرامج العلمية المكتوبة والتي تشكل خطة للأمن والسلم الاجتماعي في البلاد.
* الفارابي ودلالة المواطنة
ترتبط دلالة المواطنة في مشروع الفارابي الفلسفي والسياسي بمفهوم الدولة وبنيتها الهرمية، فتصوّره للدولة لا يندّ عن البنية السياسية للدولة في المجتمع الشرقي والفكر اليوناني الكلاسيكي، فهي الصورة الكلية، والمواطنين هم الأجزاء، فمن ذلك الكل يستمدّ المواطنون وجودهم الذي لا قوام لهم دونه، فالمواطنين في تلك الدولة لا يملكون الاستقلالية الفردية ضمن النسق الكلي للدولة، فهم تابع يلي تابعاً في مراتب البناء الاجتماعي وهرم السلطة، يدينون جميعاً للرئيس الأول بالولاء المطلق، ويتوحّدون في سلسلة التبعية، وفق خطة تنفذ تنفيذاً بيروقراطيًّا محكماً تقوم على التخصص الوظيفي، وتقسيم العمل المبني على الاختلاف في القدرات النفسية، وعلى عدم المساواة المبني على نوعية الدور والإسهام في تحقيق الخطة السلطانية، يقول الفارابي: «وكما أن العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه، وأتمِّها في نفسه وفيما يخصُّه، وله من كل ما يشارك فيه عضو آخر أفضله، ودونه أيضاً أعضاء أخرى رئيسة لما دونها، ورياستها دون رياسة الأول، وهي تحت رياسة الأول تَرأس وتُرأس، كذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله من كل ما شارك فيه غيره أفضله ودونه قوم مرؤوسون منه ويرأسون آخرين»[3].
كما يظهر البناء الهرمي للمواطنين في دولة الفارابي في المقاربة التي وضعها بين بنية الجسد وبنية الدولة التي تتميّز فيها المدينة بتراتبية تفاضلية بين طبقات المواطنين، والتي تتحدد تبعاً للوظائف غير المحددة خارج طاقات و قابليات المواطن، بل هي المرجعية الرئيسة في تحديد الوظيفة: «والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان (والمقصود بها الحياة)، وعلى حفظها عليه، وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس..»[4].
* المواطنة ومسألة التفاضل
يطرح الفارابي تصور المفاضلة في بناء المواطنة، حيث يظهر البعد الإيتيقي في التعاطي مع مسألة المواطنة، والذي اعتمده الكثير من الباحثين في نفي فكرة المواطنة داخل المجتمع العربي والإسلامي، فالمواطنة الغربية تؤسّس على الوحدة بين المواطنين، فلا يوجد تفاضل أمام القانون، وقد كانت هذه الرؤية التوحيدية بين المواطنين موقع إشكال بين الكثير من فلاسفة السياسة في الفكر الغربي، وتعدّد الأطروحات في الفكر الليبرالي، وبين الرؤية الماركسية، فالعدالة بين المواطنين لا تتأسّس على المساواة المطلقة بل على مبدأ التفاضل.
وينبغي الإشارة إلى الفرق بين مبدأ التفاضل ومبدأ المفاضلة، فالمبدأ الأول يقوم على قاعدة احترام القابليات والاستعدادات التي تعتمد في توزيع الخيرات بين المواطنين، وفي توزيع المسؤوليات، أما المرجعية التي يقوم عليها مبدأ المفاضلة قد تجانب الموضوعية، ومبدأ العدالة. والفارابي ورواد الفكر السياسي الإسلامي يمنحون المشروعية لمبدأ العدل في التفاضل، وليس الإثنية في المفاضلة. والممارسات السياسية في تاريخ الدولة العربية والإسلامية ليست قاعدة عامة لتعميم الأحكام، ومنها إقصاء مبدأ المواطنة من الفكر السياسي الإسلامي، فالممارسة ليست مقياساً لفشل النظرية السياسية، بل ينبغي دراسة النظرية في سياقها النظري، وليس في معيار الواقع.
الوحدة السياسية في نسق الفارابي وحدة عضوية تتجسّد في كيان الدولة الشخصية المجرّدة، الوحدة التي تصهر الوجود الإنطولوجي للمواطنين وللحاكم، وهذه التراتبية لمواطني المدينة عند الفارابي لا تحميها الإثنية أو الطائفية المذهبية، بل القدرة والقابلية والفعالية، فهي تقوم على منظومة معرفية وقيْمية، فالمعرفة أساس التفاوت بين المواطنين، وليس الإثنيات، فهناك «الحكماء الذين يعرفون طبيعة الأشياء بالأدلة البرهانية وعن طريق استبصاراتهم الخاصة، وأتباع هؤلاء الذين يعرفون عن طريق براهين الفلاسفة ويقبلون بها، وبقية المواطنين الذي يعرفون عن طريق التشبيهات اعتماداً على منزلتهم كمواطنين»[5].
تشكِّل المعرفة المعيار الرئيس في مبدأ التفاضل بين المواطنين في دولة الفارابي، فإمكانات الحكماء تمنحهم الأهلية لأداء المسؤوليات، ويليهم في مراتب المسؤولية أهل العلم. وأعتقد أن الدولة الغربية لا تنظر لهذا المبدأ بعين الاعتبار، فهي تؤسّس لمبدأ المشاركة بين المواطنين على أساس المال، وليس على قاعدة الكفاءات، إذ ارتبطت المشاركة السياسيّة بالتاريخ الاقتصادي للدولة القومية منذ نشأتها، والمبدأ المشهور (لا ضرائب دون تمثيل) يؤكد هذا الارتباط، فتسيير جباية الضرائب يستلزم وجود تمثيل نيابي لدافعي الضرائب يراقب سبل إنفاقها.
ولهذا السبب أرجع البعض من المفكرين السياسيين ظهور ظاهرة المشاركة السياسيّة مبكراً في دول الشمال الأوروبي الفقير نسبيًّا، كالدول الإسكندينافية، وبريطانيا نتيجة الحاجة المتزايدة لملوك هذه الدول في الاعتماد على شعوبهم في تحصيل الضرائب، وبالتالي تشجيعهم على الإنتاج، وزيادة قدراتهم الضريبية من خلال السماح بمزيد من المشاركة السياسيّة، وبإلحاح من الشعوب على التمتع بحقوقها.
وتحت ضغط الحاجة للموارد اللازمة لإدارة الاقتصاد الرأسمالي، حدث تطور في آليات الدولة القومية، فأصبحت السيادة للشعب أو لممثليه، فكانت الليبرالية برؤيتها وفلسفتها تأسيساً نظريًّا لهذه الرؤية بدعوتها إلى إعلاء شأن الفرد على حساب الجماعة، وحماية الملكية الفردية، ومنع تدخل الدولة، وبما أن رواد هذا الفكر كانوا ينطقون باسم الطبقة البورجوازية التجارية والصناعية، فإن تعميم الحقوق الديمقراطية على جميع أفراد الشعب يتناقض مع مصالحهم، ولذلك ظهرت احتجاجات شعبية تطالب بالمساواة في الاقتراع لجميع المواطنين، فنتيجة الضغوط التي مارستها حركة الحفارين[6] في الثورة الإنجليزية، وأصحاب النزعة اليعقوبية في الثورة الفرنسية، اضطر الليبراليون إلى القبول بمطالب الثوريين حفاظاً على مصالحهم. ومن هنا كانت البداية لفكرة المواطنة، أما تصور الفارابي لمبدأ المواطنة فهو قائم على مبدأ التفاضل المعرفي والأخلاقي، وليس المالي.
* الأيديولوجيا والمواطنة
التربية المواطنية عملية تربوية، تسعى فيها المؤسّسات الحكومية إلى تنشئة المواطنين وتربيتهم، وفقاً للاستراتيجية التي ترسمها الدولة للمواطنين، وتقوم التربية بشكل عام على فلسفة تربوية تحدد الأسس والآليات اللازمة للوصول إلى الأهداف المرسومة من قبل السلطة، وإن كانت المواطنة كتصور تتعارض مع آليات هذه التربية، لأن التطابق بين الحرية والمواطنة في التصور الغربي هو الأصل، رغم أن هذا التطابق بين القيمتين يفترض إعادة مراجعة فلسفية وقانونية، والفارابي في نسقه السياسي يدعو إلى ضبط المادة المعرفية أو السلطة المعرفية، والتي يصطلح عليها الكثير بأيديولوجية السلطة، فوحدة المحتوى المعرفي تساهم في توحيد التوجّه لدى جميع المواطنين، وهي من مهام الرئيس التربوية في المدينة.
يحدد الفارابي المحتوى المعرفي للأيديولوجية في مجموعة من المبادئ، أهمها الرؤية الأنطولوجية للكون، ثم الوعي السياسي بدستور الدولة المنظم لأنساقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنفيذية، والنص يبين ذلك: «فأما الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء، أوّلها معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به، ثم الرئيس الأول وكيف يكون الوحي، ثم الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفونه إذا لم يكن موجوداً في وقت من الأوقات، ثم المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير بها أنفسهم، والمدن المضادة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت..»[7].
القراءة القانونية للنص تشير إلى إمكانية تحوير النص إلى مواد قانونية، مرتبة ترتيباً قانونيًّا، تحدد أهم القواعد الدستورية في الدولة، وتداول السلطة، وتسيير السلطة في الحالات الاستثنائية، كما يحدّد الصفات اللازمة للحاكم أو النائب عنه، كما يؤكد الفارابي الأساس الأخلاقي للأيديولوجية التي ينبغي أن تكون واحدة موحِّدة، فيقول في كتاب السياسة المدنية: «ويحتاج في كل واحد من أهل المدينة الفاضلة إلى أن يعرف مبادئ الموجودات القصوى ومراتبها، والسعادة، والرئاسة الأولى التي للمدينة الفاضلة ومراتب رئاستها. ثم من بعد ذلك الأفعال المحدودة التي إذا فعلت نيلت بها السعادة، وألَّا يقتصر على أن تعلم هذه الأفعال دون أن تعمل، ويؤخذ أهل المدينة بفعلها».
يتبين أن الأيديولوجية التي يدعو الفارابي لتلقينها للمواطنين ليست أيديولوجية نمطية أو نسقية تفرض بالإكراه على المواطن، بل هي أيديولوجية مبنية على الحجة والبرهان لا على قول القائل الذي هو إنسان والمضروب في جبِلّته بضروب الخلل والنقصان.
المواطنة عند الفارابي ذات بعد إيتيقي وليس أخلاقي (الدلالة النظرية)، فهي ممارسة للقيم قبل أن تقوم ممارسة للسلطة، فالدولة عند الفارابي ذات بعد كلي شمولي متكامل، والكلية أو الشمولية بالحد الإسلامي مفارقة للكليانية التي نشأت في أحضان الفكر الغربي، فأداء واجب المواطنية ينتج قيماً على الصعيد الفردي وعلى الصعيد الجماعي، فسمّو الرئيس الأخلاقي، وأداؤه لواجباته المدنية والأخلاقية، يمنح السمة الأخلاقية للمواطنين، يقول الفارابي: «والناس الذين يدبرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار والسعداء»[8].
العلاقة بين المواطن والحاكم تحكمها الإيتيقا، فهي سعي بالمواطن إلى الرقي الأخلاقي، أي مساعدة المواطن على تحقيق الغايات العليا من الأخلاق مثل سمو الروح، وصفاء النفس، فالناس معادن، ومسؤولية الحاكم الارتقاء بالمواطنين ومساعدتهم على بلوغ المرتبة الإنسانية، فالإنسان في التصنيف الأرسطي، إنسان بالقوة، وإنسان بالفعل، وبلوغ المرتبة الأخيرة تحتاج إلى تضافر الكثير من الجهود أهمها تهيئة المحيط الذي هو من مهام الحاكم، وليس من مسؤوليات المواطن، ولذا فإن البعد ألخلاقي في الحاكم لازم وضروري لتحقيق هذه الغايات، كما أن ممارسة الوظائف والمهام لا تترك آثاراً عرضيًّا على مستوى شخصية المواطن فقط بل تتعداه إلى التأثير في القابليات والهيئات النفسية، يقول الفارابي: «فإذا فعل كل واحد من أهل المدينة ما سبيله أن يكون مفوّضاً إليه، وذلك إما أن يكون علم ذلك من تلقاء نفسه، أو يكون الرئيس أرشده إليه وحمله عليه، أكسبته أفعاله تلك هيئات نفسانية جيدة. كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة...»[9].
ممارسة المواطن وأداؤه لمهامه بشكل جيد يكسبه قابليات أفضل واستعدادات لتأدية مهام أفضل وأكبر، فالمواطنة الكاملة والفاضلة توجد في المدينة الفاضلة، والتي من أهمّ قيمها التعاون على بلوغ الفضيلة، والأداء النبيل للمهام والوظائف، فالسعادة كقيمة عليا تكون نهاية للممارسات الفاضلة، كما أن المعرفة النظرية والعملية تظهر في القدرة على التمييز بين النبيل والخسيس، والفضيلة والرذيلة.
الارتباط إذن بين الأخلاق والسياسة حقيقة دفعت الفارابي إلى توحيدهما ضمن علم واحد هو العلم المدني الذي يهتم بأخلاق الفرد، وإصلاح الجماعة، وهذا الانتقال من سعادة الفرد إلى سعادة المجتمع، ومن الإنسان الفاضل إلى المدينة الفاضلة، هو انتقال من الأخلاق إلى السياسة[10].
ويظهر أيضاً الجانب الإيتيقي للمواطنة عند الفارابي من خلال إجراء مقارنة بين المدينة الفاضلة والمدن غير الفاضلة، «والمدينة الفاضلة تضادها المدينة الجاهلية، والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة، و يُضادها أيضاً من أفراد الناس نوائب المدن»[11].
والقراءة البسيطة لتصنيف المدن المقابلة للمدينة الفاضلة عند الفارابي يشير للطبيعة القيمية والإيتيقية لمبدأ المواطنة القائم في كل مدينة، فمنظومة القيم التي يعتقد في صحّتها المواطن، والتي يجسِّدها في سلوكه هي المعيار والمقياس المعتمد في التصنيف.
أول نموذج سلبي للمواطنة هو المتعلق بالحياة ضمن المدينة الجاهلة، وهي تظهر في عجز المواطن عن معرفة السعادة الحقيقية والمطلوبة منه والتي تشكِّل جزءاً رئيساً في حياته، وتأكيد هذا القصور بعد عملية التعلم المنظمة من قبل السلطة، «.. فأهل المدينة الجاهلة لا يعرفون السعادة بهذا المعنى ولا يخطر ببالهم، وحتى إن أرشدوا إليها لا يستطيعون سبيلاً إلى استيفاء مقوماتها ومزاولتها، ولا تقوى عقولهم على فهمها واعتقادها»[12].
فالمعرفة هي أساس القيم في مدينة الفارابي الفاضلة، فهي الصفة الغائبة في المدينة الجاهلة بكل أصنافها، والمعرفة الصحيحة توجِّه المواطن نحو تجسيد الفضيلة، وغيابها يدرج المواطن ضمن مصاديق المدينة الجاهلة، والنموذج الأول من المواطنة الجاهلة يظهر في مواطن المدينة الضرورية الذي يعتقد أن سعادته تكمن في تحقيق الضروري أو الحياة البهيمية التي تقوم على حاجيات الجسد فهي على حد تعبير الفارابي: المدينة «التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتعاون على استفادتها..»[13].
المواطن الذي يجعل من رغباته هدفاً وغاية، ويحصر همّه واهتمامه في ذاته، ولا يقيم اعتباراً لمصلحة الغير، لا يمكن أن يكون مواطناً داخل دولة أو مدينة، فالمواطن في هذه المدينة أدنى من الحيوان، والقيم العامة أو المصلحة العامة ليست قيماً جسدية، فهذا النموذج غير قادر على بلوغها.
النموذج الثاني من المواطن وهو الذي يعيش في المدينة البدّالة، وهي التي «قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيء آخر، لكن على أن اليسار هو الغاية في الحياة..»[14]، فهي مدينة الأوليغاركية أو مدينة الرأسماليين وأصحاب الأموال، فالسعي والتفاني في تحقيق الأموال كغاية يكشف عن غياب معرفة بمكانة الأموال ووظيفتها في الحياة الفردية والاجتماعية، إذ إنها في واقع الأمر ليست إلَّا وسيلة لتحقيق المنفعة وسد حاجات الإنسان. وسبب تسميتها بالبدّالة كما يقول الأستاذ عبد الواحد وافي: «لأنها تبدِّل الأمور فتجعل الوسيلة غاية والأداة مقصداً»[15].
فالمال ضروري في قوة المدينة ولكن تقديسه يمنح المواطن القابلية على الرذيلة.
والنموذج الثالث في المرتبة والدونية من المواطنة هو الذي يكون همّ المواطن فيها المتعة الحسّية التي تظهر في حالات السكر وما شاكلها من المأكولات والمشروبات واللذائذ الجنسية، وإيثار اللعب والهزل، وهي المعروفة بمدينة الخسّة والسقوط، فالمواطن الذي يعيش راغباً فقط في المتعة الحسية هو مواطن قادر على بيع الوطن مقابل تحقيق هذه الرغبات، فهو يفتقد لقيمة أو حسّ المسؤولية التي تشكل سمة ماهوية للمواطن الصالح.
و النموذج الرابع مواطن مدينة الكرامة أو مدينة حكم العزة الذي يكرّس حياته في البحث عن الكرامة أو الجاه والشهرة، فهو يفتقد إلى الإخلاص في العمل، وهو يبحث عن الرضا والخيلاء ليس إلَّا، واستحسان الناس للعمل جميل ومقبول، ولكن تحويله إلى غاية من العمل يفقد البعد الأخلاقي للفعل.
ويقترب منها النموذج الخامس الذي يسعى نحو الاستعلاء، ويصطلح عليها الفارابي بمدينة التغلب (أو الطغيان)، أي المدينة التي تفتقد إلى الأساس الأخلاقي في الممارسة السياسية، فالمواطن في ظل هذا الحكم لا يأمن السلطة على نفسه ولا على ممتلكاته.
أما النموذج الأخير في المدن الجاهلة هو المدينة الجماعية أو المدينة الديمقراطية التي يكون الهدف الرئيس لمواطنيه هو أن يكونوا أحراراً في أن يفعلوا حسب مشيئتهم، ومبدؤها الأساس في الديمقراطية هو الحرية، وهي علة التسمية الأفلاطونية للنظام الديمقراطي بنظام الحكم الحر، وتعني الحرية وقدرة كل شخص على أن يسير وراء أي شيء يريده، ويجب أن يترك وحده لأن يفعل أي شيء يختاره في تعقب رغباته، والمبدأ الثاني في هذه المدينة هو المساواة التي تعني أنه لا أحد يفوق الآخر في أي شيء على الإطلاق، فعلة الرفض للنظام الديمقراطي مبررة ومشروعة، إذ لا يعقل التسوية المطلقة بين الجميع، بل ينبغي الإنصاف، والسعي نحو تحقيق الرغبات دون قيد أو وازع يحوّل المجتمع إلى فوضى.
المدن المتبقية تؤكد الأساس الأخلاقي للمواطنة في المدينة، ففساد المعرفة أو الاعتقاد (الأيديولوجيا) يفقد البعد الأخلاقي للمواطنة، ومن بين القيم الأخلاقية التي حدّد فيها الفارابي الآداب التعاملية التي يلتزم بها المواطن في رسالته المعنونة (رسالة في السياسة)، وهي مجموعة نصائح تهم كل إنسان وتنطبق على كل فرد وكل طبقة أو أهل كل طائفة، يسميها الفارابي بالقوانين السياسية، إذ نجده يقول: «قصدنا في هذا القول ذكر قوانين سياسية يعم نفعها جميع من استعملها من طبقات الناس في متصرّفاته مع كل طائفة من أهل طبقته ومن فوقه ومن دونه على سبيل الإيجاز والاختصار»[16].
ومن بين هذه القيم التفاني في الأداء الوظيفي للمهام فيقول: «فواجب على المرء أن يستعمل مع من هو متصد لخدمته ما نقوله، وهو أن يكون ملازماً لما هو بصدده، مواظباً على ما فوض إليه..»[17].
ثم يتوجه الفارابي إلى تحديد آداب المعاملة بين المواطن والحاكم، فينصح الوزير -وهو مواطن يساهم في تسيير المدينة بتعيين من الرئيس، فالرئيس بمثابة القلب أو الرأس في المدينة- بتجنب الملل من الملوك، ويضبط الفارابي مفهوم الملال، فيقول: «لأن موضع الملال إنما يكون عند كثرة غشيان الناس المواضع التي ليس لهم فيها عمل..»[18].
وطريقة التعامل مع الحاكم ليست هينة، وينبغي أن تقنّن -كما رأى الفارابي- في قواعد ينبغي تدريسها لطالب السياسة، فملاحظة الحالة النفسية على الحاكم تنبئ بعدم الرضا من طرف الحاكم، أما القاعدة الثانية فهي مدح الملك أو الحاكم، فالنفس تميل إلى من يحسن إليها كما يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمدح لا يعني التملق بل هو مقدمة ضرورية لتقديم المشورة والنصح، والقاعدة الثالثة اجتناب العنف مع الحاكم، بحكم لا أخلاقيته، ويشبهه الفارابي بالسيل إذ يقول: «.. فليعلم أن الرئيس كالسيل المنحدر من الربوة إن أراد المرء أن يصرفه إلى ناحية من النواحي وواجهه أهلكَ نفسه وأتى عليه السيل فأغرقه».
والقاعدة الرابعة يحدد فيها الفارابي بنية الخطاب التعاملي مع الحاكم، ويفضل (سبيل الحكايات). أما القاعدة الخامسة فهي كتمان السر، واهم قاعدة وهي: «لا تطلب شيئاً لنفسك من الرئيس».
والقراءة البسيطة لهذه القواعد تكشف عن العمق الفلسفي والقانوني للفيلسوف الفارابي، فهو خبير وعالم بأحوال المواطنين (المرؤوسين) النفسية، وبأحوال الرؤساء، وبوحدة الطبيعة البشرية، فما قدّمه الفارابي في هذا الصدد سابق لجل التفسيرات البسيكولوجية للتاريخ السياسي للشعوب.
تستبطن المقاربة التي طرحها الفيلسوف الفارابي لعلاقة الفلسفة بالسياسة، والدين، الكثير من المفاهيم والقيم الفلسفية والسياسية، وأهمها قيمة المواطنة التي كانت دافعاً وغاية لمنطوق الكتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة)، ومحاولة فلسفية تأسيسية لقيم المواطنة، ومحاولته ليست إلَّا غيضاً من فيض، إذ شهدت الحضارة العربية الإسلامية جدلاً ونقاشاً واسعين حول علاقة الفلسفة بالدين وبالسياسة، وانبثقت مقاربات فلسفية مختلفة للدين والسياسة، كما شهدت حواراً غنيًّا حول مختلف مسائل العالم والإنسان والأشياء، إلى جانب سجالات ومماحكات في الفكر السياسي أثارها العديد من الفلاسفة، كابن سينا وابن باجة، والماوردي والغزالي وابن رشد، وسواهم من الفلاسفة الذين أسهموا بنتاجاتهم في الحقل السياسي الإسلامي.
[1] عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، المجلد الخامس، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 1996، ص 373.
[2] The New Encyclopedia Britannica. Volume 3 micropaedia Library of congress, 15th édition, U.S.A. 2003, p332.
[3] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تعليق ألبير نصري نادر، بيروت: دار المشرق، الطبعة الثانية 1968، ص 120.
[4] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، المصدر السابق، ص 118.
[5] ليو شتراوس، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الأول، ترجمة محمود سيد أحمد، مصر: المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى 2005، ص 310.
[6] من الحركات الثورية التي عرفتها بلاد إنجلترا وهي على مشارف مرحلة الرأسمالية الكبرى، وقد تبلورت حركات الحفارين The Diggers وشقيقتها حركة (أهل الطبقات) The Levellers من إرث احتجاجي وانتفاضي وثوري طويل في تلك البلاد، أبرزه ما كان ممتداً ما بين سنوات 1066 و1715، وهي سنوات نهاية الاستعباد الداخلي وتبلور الإقطاع بشكله العسكري الديني داخل إنجلترا، ثم أفوله وبداية تبلور رأسمالية إيلاف المال والتجارة مع توسعات حرف وأعمال الصناعة والتمويل.
[7] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 146.
[8] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، تعليق: فوزي متري نجار، بيروت: المطبعة الكاثوليكية.د.ط. 1964، ص 80.
[9] المرجع السابق، ص 81.
[10] عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط. 1993، ص 248.
[11] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 131.
[12] وافي علي عبد الواحد، المدينة الفاضلة للفارابي، مصر: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ط.ت)، ص: 79.
[13] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 131.
[14] المرجع نفسه، ص132.
[15] وافي علي عبد الواحد، المدينة الفاضلة للفارابي، ص 82.
[16] شيخو لويس، مقالات فلسفية قديمة، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، الطبعة الثانية 1911، ص 18.
[17] نفس المرجع، ص 23.
[18] نفس المرجع، ص 23-24.