الخطاب الإعلامي..
السلطة والعدالة
الدكتور الناصر عمارة*
* أستاذ وباحث، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة مستغانم - الجزائر.
ﷺ مدخل
إن «السلطة» مفهومٌ يتمُّ تصوره، في سياقات أيديولوجية مختلفة، بوصفه طفرة اجتماعية مَرَضية عندما يُنظر إليها كونها وسيلة للإخضاع والهيمنة باستعمال القوة المشروعة لها. بينما تنظر السلطة إلى طبيعة وجودها بوصفها إفرازاً طبيعيًّا لحركة التنظيم الاجتماعي، ومنه فإنه وجودٌ «عادل» بالمعنى الأخلاقي والمعنى القانوني، وكل الممارسات الصادرة عن السلطة هي تعبيرات طبيعية عن تجليّ النظام الاجتماعي وحركية بنياته.
وعليه ظهر الجدل في فكرة نشوء السلطة مع تبلور مفهوم الدولة بشكله الحديث، فقد لاحظ برتراند راسل أنه «ومنذ القرن الخامس عشر وحتى اليوم استمرت سلطة الدولة على الفرد تتزايد، كنتيجة لاختراع ملح البارود في الدرجة الأولى.
وكما قدّس معظم رجال القانون، في أزمنة الفوضى الأولى، فكذلك كان ينمو هنالك ميل لتقديس الحرية في فترة تزايد سلطة الدولة. لقد كان للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر حظ لا بأس به من النجاح في زيادة سلطة الدولة إلى الحد الضروري لحفظ النظام، وترك مقدار كبير من الحرية»[1].
ممّا يعني إخضاع مفهوم السلطة لمساءلة عقلانية تُحدِّد شكل وجوده بالقياس إلى جدارة فكرة السلطة في أن تؤسس منظومة اجتماعية عادلة.
إن عقلنة مفهوم السلطة لا يعني تبرير الخضوع الأعمى، بل يعني تحويل منظورها الأيديولوجي إلى منظور عقلاني وعملي، لأنه «بالتأكيد أن السلطة تكون في البدء من نصيب بعض الأشخاص، لكن سلطة الأشخاص لا تجد علَّتها في الخضوع والتخلي عن العقل، إنما في الاعتراف والمعرفة -معرفة أن الآخر متفوق في إطلاق الحكم- وبُعد النظر، ولهذا فإن حكمه يكون سبّاقاً ومتقدماً، ذلك يعني أن له الأولوية قبل الحكم الشخصي، فهي إذن تقوم على الاعتراف، ومن هذه الناحية فهي عمل من أعمال العقل الذي يعرف حدوده فيثق بإدراك الآخر وفطنته. إن السلطة لا علاقة مباشرة لها بالطاعة، إنما بالمعرفة»[2]، ولذلك يجب أن توضع فكرة السلطة في سياقها العقلاني والمعرفي حتى يتم فهم ارتباطها ببنيات المجتمع من جهة واستخدامها للقوة (الطبيعية والقانونية) من جهة أخرى.
ومن خلال ما تقدّم فإن السؤال حول شرعية السلطة (السياسية) في الدولة الحديثة يتَّخذ أشكالاً أيديولوجية متعددة تتقاطع في محور تحقيق العدالة كمحكّ لكل سلطة تريد شرعنة وجودها عقلانيًّا وسياسيًّا[3].
ولكن البحث في الأصل يقود إلى «أن السلطة لا تنشئ الخضوع، بل إن الهدف الاجتماعي الذي تمثِّله السلطة هو الذي يدعم هذا الخضوع ويؤيده، والسلطة، وإن كانت تجد بذرتها في القوة باعتبارها امتدادا للقوة الطبيعية الجسدية والعقلية التي تسمح بإخضاع الغير لصاحب هذه القوة فإنها بذلك تقوم على القهر، غير أنه ثبت أنها لا تكون إلا إذا قامت على الرضا»[4].
فالسلطة تشتمل على مبدأ الاعتراف الضمني بالقوة والتفوق السياسي وفق منظور عقلاني وهو ما ندعوه بالرضا الذي يكون مصدر شرعيتها ويضمن حريتها في التصرف في مواجهة الآخرين. وعندما يتم فهم مبدأ اشتغال السلطة وفق هذه الأسس العقلانية، فإن مناقشة الإشكاليات المرتبطة بها (الشرعية، العدالة، القانون، العنف...) تتَّجه إلى حلّ المعضلات الاجتماعية في منظور عملي وواقعي.
إذا كانت السلطة (السياسية) تستند إلى القانون –بوصفه عقداً واتِّفاقاً مع المجتمع- لتستمد منه شرعيتها، فإنها تواجه مشكلة العدالة التي تنخر جوهر السلطة أخلاقيًّا وعقلانيًّا، حينما يُنظر إلى الإخضاع للأوامر على أنها قمع وظلم واستعمال غير معقول للقوة. ويقوم الإعلام –بوصفه ناطقاً باسم الرأي العام والجمهور- بتوجيه هذا النقد إلى السلطة، غير أننا سنعالج علاقة السلطة بالإعلام من خلال فكرة العدالة نفسها، أي بالبحث عن قيمة العدالة في ادِّعاء الخطاب الإعلامي بلا عدالة السلطة وقهرها وتعسفها اللاعقلاني واللاقانوني.
إن العلاقة بين الإعلام والسلطة علاقة مشحونة بقيم غير ثابتة، بحيث يمكن رؤية وجود أحدهما من خلال منظور الآخر بوصفه وجوداً أيديولوجيًّا، وهذا ما يقود إلى حالات الصراع والجدل واستخدام أدوات الضغط للتطويع (سنّ السلطة للقوانين والعقوبات التي تحاصر العمل الإعلامي) واستخدام أدوات الضغط (التحقيقات السياسية والاقتصادية..).
إذا كانت الدراسات النقدية في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية قد خصصت جانباً كبيراً من البحث لدراسة السلطة وممارساتها التعسفية ضد الإعلام، فإن الزاوية الأخرى للنقد -الخطاب الإعلامي- تبقى بعيدة عن المجهر النقدي - النظري بفضل الحصانة الأيديولوجية التي توفرها القدرات الاتصالية والإمكانات الإعلامية وهي الزاوية المحتمية في الأزواج الإعلامية (التضليل/ الصدق)، (التعتيم/ التحقيق)، (التلاعب/ المصداقية)... بالإضافة إلى الآليات الإعلامية المرنة كسبر الآراء، قياس الرأي العام، الصورة الصحفية...
هل يمكن أن نعتبر مقولات الخطاب الإعلامي حول «رقابة السلطة وقمعها»، «حرية الصحافة»، «حرية التعبير»...، رسائل أيديولوجية تعبّر عن الإفلاس القيمي للخطاب الإعلامي[5]، أم أنها تعبير عن لا عدالة السلطة وتجليات تعسفها؟
أليست هذه الأشكال هي محاولات تجاوز إخفاق الخطاب الإعلامي في تجديد نفسه، وتحقيق أبعاده التي يفترض أنها تبرر مشروعية وجوده؟ وهل فَقَدَ الخطاب الإعلامي مصادر الإقناع وكسب ثقة المتلقي، فاخترع صراعاً وهميًّا دونكيشوتيًّا بينه وبين السلطة؟ وشكّل سلطة موازية واحتمى خلف مفهوم العدالة ليبرر سلوكه السلطوي بوصفه مصدراً للأوامر وإخضاع الجمهور بأشكال مختلفة عن السلطة السياسية؟
ﷺ تجليات العدالة في علاقة السلطة بالخطاب الإعلامي
لقد دفعت تحديات البقاء والمنافسة الإعلامية بالخطاب الإعلامي إلى إنتاج آليات للمقاومة من بينها اللعب[6] كنشاط استعاري للانفلات من قبضة السلطة السياسية وسلطة القوانين والتشريعات التي تحدّ من العمل الإعلامي (كقوانين عقوبات القذف في التشريعات الدولية) أو للتلميح لمعارضة سياسية تختبئ وراء التحقيقات الاقتصادية (كقضايا الفساد وغيرها..) والسجالات الثقافية والفكرية التي تقوّض الأطروحات السياسية الكبرى للسلطة. لذلك تتكرر العبارة الشهيرة «الكرة في مرمى السلطة»، أو يضع هذا الخطاب نفسه في مقام السلطة عندما يسمي نفسه باسم «السلطة الرابعة» في محاولة الحصول على مكان في الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتراب من مصادر القرار وبؤر الريع والثروة.
ومنه تكون الأيديولوجيا التي توجّه الخطاب الإعلامي، هي تلك التي تحاول تمويل وجوده معنويًّا من خلال تحويل الرأي العام[7] إلى مناصرين في نشاط اللعب مع الأشكال المختلفة للسلطة، متخذة من جمهور وسائل الإعلام درعاً بشريًّا معنويًّا للتصدّي لضربات السلطة السياسية. وعندها تتحول هذه الأيديولوجيا إلى سلطة داخلية لا يمكن الإفلات من هيمنتها، لأنها فعلٌ محايثٌ immanent لشكل الوجود للخطاب الإعلامي وجوهرٌ في بنيته وتكوينه، لأن الملاحظ لطرق نشوء وتكوين وسائل الإعلام في العالم يرى بوضوح، من خلال ظهورها المفاجئ، أن معظم هذه الوسائل هي وليدة لحظة أيديولوجية –بالمعنى السلبي للكلمة- إمّا كردّة فعل سياسية على قرارات ما، أو مرافقة لظروف اجتماعية واقتصادية بغرض انتهاز فرص التحول السياسي للسلطة وما تقدمه من تسهيل واسترضاء للخصوم السياسيين بغرض صناعة شرعية مبدئية، أو للضغط الإعلامي بهدف اقتسام الحصص الانتخابية أو الريعية.
وعليه تتحول الرقابة على هذا الخطاب إلى فعل مشاغب يحاول العبث بالنظام الدفاعي للأيديولوجية المحتمية داخل أسوار وسائل الإعلام والتي توصف أهمها بأنها ثقيلة (كالتلفزيون)[8]. مما جعل الخطاب الإعلامي يستغل مسألة الرقابة والتقييد في صناعة مخيال بطولي وشعبوي منتج للتعبئة الجماهرية من جهة، ومنتجٍ لأوراق الضغط لدى الهيئات الدولية لحقوق الإنسان وحماية الصحفيين.
ﷺ الخطاب الإعلامي وبنيات السلطة المضادة
إن أهم البنيات المشكِّلة للسلطة المضادة في الخطاب الإعلامي هي تلك التي تدخل في صميم تكوين القوة التي يستمد منها هذا الخطاب قدرته على المناورة والتفاوض مع السلطة السياسية، والكشف عن هذه البنيات إنما يقود بالأساس إلى الكشف عن حقيقة العدالة في الحوار والجدل الدائر بين السلطة السياسية في الدولة الحديثة والخطاب الإعلامي، ومن بين هذه البنيات:
أ- البنية الحكائية المخيالية من خلال تصوير الصحافة تصويراً بطوليًّا مقدساً وهذا يدخل في صميم الصناعة الإعلامية، إذ وضمن مخياله الإعلامي يجعل من الصحفي بطلاً فوق العادة، مجرِّداً إياه من خصائصه الشخصية والمهنية[9]، وواسماً إيَّاه بعبارات «جنود الخفاء»، «مهنة المتاعب»، «مهنة الموت»، «صحافيون شهداء»...، وبذلك تستمد أيديولوجيا الخطاب الإعلامي شرعيتها من تاريخ الصحفيين بوصفهم شهداء، وهو ما جعلهم يتحوّلون عن طابع عملهم الحقيقي ليصبح عملاً بطوليًّا بلا حدود كفضاء مفتوح ومقدس، حيث تعتبر الحوادث والعقوبات التي يتعرضون لها أثناء أداء مهامهم –في أدبيات هذا الخطاب- أشكالاً من القهر والقمع والتعسف، بينما هي في مهن أخرى -كالطب مثلاً- أخطاء مهنية لها درجاتها وعقوباتها وأطرها القانونية والأخلاقية.
ب- البنية الدونكيشوتية التوهمية من خلال توهم الصراع وصناعة السلطات المعادية، وهذا يدخل في صميم الوظيفة التاريخية للإعلام المبدئية كتسيير للدعاية الحربية وإيهام العدو والتضليل، ومنه يكون الإعلام قائداً لمعركة توهمية وخلفه جمهور الرأي العام لمصارعة طواحين القيم السياسية التي تتقلب على محاور المصالح والبرامج الأيديولوجية الخرافية.
ج- البنية اللعبية من خلال التمثيل اللعبي لأشكال الصراع مع السلطة ومنه القدرة على إعادة بناء قواعد لعبة الصراع بما يخدم مصالح الإعلام التي تنبني أساساً –وخلافاً للإعلام الغربي- على قاعدة البقاء وتجنب المسح السلطوي لوجود وسائل الإعلام أو تقزيم دورها.
د- البنية التقديسية الأسطورية في تصوير المهام والوظائف الإعلامية في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي ونقل المعلومة... تصويراً يقفز على الوقائع والأحداث ويعطي للحقائق هوامش غير حقيقية بما يسمح بالمناورة والتحرك والانقلاب على الحقائق المنقولة نفسها.
وتجتمع هذه البنيات في رسم ملامح أيديولوجية مكثفة تقوم بتصوير السلطة الرقابية بصورة المستبد الذي يجانب الصواب دائماً ويخطئ العقل كثيراً، «وعلى هذا النحو، فإن الاعتراف بالسلطة مرتبط دائماً بفكرة أن ما تقوله السلطة ليس تعسفاً لا عقلانيًّا، إنما يمكن أن يعترف من حيث المبدأ ويُفهم. وجوهر السلطة، التي يطالب بها المربّي والمسؤول والمختص على هذا الفهم بالتحديد، والأحكام التي يطلقونها تكون في الواقع مشروعة من خلال الشخص نفسه، وتنفيذها يتطلب تحيّزاً للشخص الذي يطلقها»[10].
وعليه فإن النشاط الرقابي الممارس على الصحافة هو امتداد لرقابة الأب على أبنائه والأستاذ على طلبته والمدير على عماله..، أي أنها بنية أصيلة في المجتمع وليست ظاهرة مَرَضية تستوجب الدفاع والمعارضة وافتراض الصراع.
إن الكثافة الأيديولوجية التي تفصل بين السلطة الخارجية، التي يعتبرها الخطاب الإعلامي طرفاً في الصراع، والسلطة الداخلية التي تهيمن على اللغة والرمز والصورة..في هذا الخطاب، هذه الكثافة تحجب وتغطي الحقيقة الإعلامية، إنها تمارس التعتيم على مصادرها وتطالب بحرية الكشف عن مصادر الظواهر والأحداث التي تتخذها مادة لها.
إن مفهوم الحرية كما قدمه الخطاب الأنواري (عصر الأنوار الأوروبي)، قد خضع لمراجعة نقدية شاملة –خصوصاً مع مدرسة فرنكفورت والتأويلية المعاصرة- وكشفت هذه المراجعة عن جوهر السلطة وحقيقتها وارتباطها بمعنى الحرية، إذ «ليس الحطّ من شأن السلطة برمتها هو الحكم المسبق الذي رسّخه عصر التنوير الأوروبي، بل إنه أدَّى كذلك إلى تشويه مفهوم السلطة نفسه، فعلى أساس المفهوم التنويري للعقل والحرية تحوّل مفهوم السلطة إلى النقيض المطلق للحرية والعقل، أي إلى الطاعة العمياء، وهذا هو المعنى الذي نعرفه من خلال لغة النقد المتداولة الموجهة ضد الدكتاتوريات الحديثة»[11].
وعليه فإن اعتبار السلطة طرفاً في الصراع ضد الحرية الصحافية هو اعتبار وهمي لا يخدم الحقيقة التي يطالب بها الرأي العام، بل يدفع بالخطاب الإعلامي إلى التآكل والاتجاه نحو العدمية.
وبناء على ذلك، فإن الإعلام ما يزال يتغذى على حياة السلطة نفسها ويعيش على المادة الإخبارية التي تولّدها التفاعلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للسلطة، وبذلك فإن الضعف والوهن الاستراتيجي لبنية السلطة يتسرب عبر المادة الإعلامية إلى الخطاب الإعلامي ويتلوَّن بلون الأخبار والتحقيقات والصور الصحفية و يقزّم الأبعاد الحقيقية للحقائق الإعلامية، مما يؤكد أنه لا حياة لهذا الخطاب خارج السلطة، حيث يصبح الصراع معها جزءاً من تغذيته واستمراره واستمالة الرأي العام.
ﷺ نهاية الدولة الفاضلة
قد يقول معترضٌ: إن إعادة الاعتبار للسلطة، بهذا المعنى، هو تكريس للقمع والاستبداد الناتج عن هيمنة القانون والتعسف في استخدامه وتبرير ذلك عقلانيًّا[12]. وأن الصراع السلطوي الإعلامي هو صراع حقيقي في مرحلة التأسيس للدولة الفاضلة. ولكن هل هذا الحكم عادلٌ حتى لكأنما يصبح مرادفا للفظ السلطة؟؟ وعلى هذا فالافتراض مبنيٌّ على التوسل بما يفرزه الخطاب الإعلامي ضمن الفضاء الإيديولوجي للدعاية والتضليل..
ويكون الاعتراض على اعتبارنا للإفلاس القيمي للخطاب الإعلامي أمرا ممكنا، ويكون من جهة أن هذا الخطاب لا يملك قيماً خاصة به بل إنه قناة فقط لحمل القيم التي ينتجها رأي الجمهور والمجتمع والسلطة.. لكن ذلك لا يثبت لأوجه هي:
أن الخط السياسي الإعلامي يتحول إلى معيار قيمي خاضع للرهانات والتحديات السياسية والصراعات الإيديولوجية مع السلطة. والانفصال التدريجي الظاهر بين الخطاب الإعلامي والرأي العام، يجعل من القيم- التي يفترض أن يكون هذا الخطاب حاملا لها- قيماً مستقلة وثابتة في بنياته الأساسية وملازمة لتوجهاته الإيديولوجية.
إن دور الضحية الذي يلعبه الإعلام يبرهن على أن الخطاب الإعلامي لا يعكس ولا يعبر عن قاعدته الجماهيرية التي تشكل روافده المادية (الإشهار) وروافده المعنوية (رأي عام معبأ)، وإلاّ كيف يدّعي هذا الخطاب وقوعه تحت القهر والقمع والرقابة...؟ ومعه الرأي العام الذي يستمد منه رأسماله الخطابي؟؟
وبرفع هذه الاعتراضات ودحضها فإننا نكون أمام نهاية الدولة الفاضلة كتصور طوباوي يؤطر مفهوم العدالة في علاقة السلطة السياسية بمختلف التجليات الاجتماعية والخطابات المختلفة التي يفرزها.
إن الهدف من هذا التحليل هو فتح النقد المعرفي لعلاقة السلطة بالخطاب الإعلامي على زواياه المختلفة للخروج من الرؤية الدفاعية لمختلف الخطابات الإيديولوجية التي تخفي تحتها الإمكانات والحلول التي بإمكانها تعرية الحقائق وكشف المستورات والاقتراب من الواقع وتلمّس شروخه وتصدعاته الثاوية في مقولاته وخطاباته، منطق تشرذمه ومبررات وحدته...، وكلّ رؤية من زاوية واحدة هي قفزٌ فوق كل ذلك كله أو هي حالة من حالات اللاعدالة.
[1] برتراند راسل، «السلطة والفرد»، تعريب: شاهر الحمود، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، 1961، ص49.
[2] Gadamer,Hans George, « Vérité et Méthode, les grandes lignes d’une herméneutique philosophique » ; trad. .Pierre Fruchon et autres, Seuil, 1996, P : 300.
[3] ينظر في هذا الإطار الحوار الشهير بين ميشال فوكو ونعوم شومسكي حول «العدالة ضد السلطة» من خلال المقاربات الفلسفية التي أفرزها هذا الحوار حول التحولات الأساسية لهذين المفهومين بالنسبة لنمو المجتمع المعاصر. ينظر:
- Michel Foucault et Noam Chomsky, «De la nature humaine: justice contre pouvoir », L’Herne, coll. « Les Cahiers de l’Herne », Paris, 2007.
[4] حسن الحسن، «الدولة الحديثة، إعلام واستعلام»، بيروت: دار العلم للملايين، ط1، 1986، ص16.
[5] المقصود بالخطاب الإعلامي مجموعة الأطروحات الكبرى التي تشترك فيها جميع وسائل الإعلام وتدفع بها إلى واجهة الصراع السياسي والأيديولوجي، ومنه يستقل بخصائصه الخطابية كأي خطاب آخر معرفي، سياسي، ديني...
[6] اللعب بمعناه الفلسفي أي كنشاط لغوي في تمثيل المعاني.
[7] من المهم الإحالة هنا إلى كتاب هابرماس «الميدان العام» الذي هو دراسة للدعاية والإعلام كوسيلة فعالة من وسائل هيمنة الدولة ومؤسساتها البيروقراطية بحيث تسهم في تكون رأي عام يوازي أهدافها على الدوام ولا تسمح لهذا الرأي بأن يتعارض مع برنامجها العام في السيطرة، ومنه يكون تعبير «الرأي العام» من الموضوعات الغامضة التي يحدد لها هابرماس أبعاداً جديدةً في اللغة بين جمهور الرأي ورأي الجمهور ومدى شرعية هذا الرأي أو مصداقية الجمهور الذي يكونه ويقدمه على أنه ذات فعال. انظر في هذا المجال:
- (Jürgen Habermas, « l’Espace publique : archéologie de la publicité comme constitutive de la société bourgeoise » ; traduit par Marc B.de Launa., Payot ; Paris, 1978.)
[8] إنه مما يزيد الخطاب الإعلامي عتامة على أيديولوجيته هو احتماؤه وراء أسوار وسائل الإعلام التي تشكل حصانة سياسية واجتماعية لما يقوله هذا الخطاب، ليس لقوة الطرح في عرضها للأفكار والقضايا، ولكن لما تمارسه من تهديد إعلامي بفضل قدراتها على التضليل والدعاية والتعبئة، إضافة إلى الحصانة القانونية من خلال المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في «الحق في التماس المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين من خلال أيّ من وسائط الإعلام».
[9] جاء في رسالة الأمين العام للأمم المتحدة سنة 2005 بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، العبارات التالية: «يعمل الصحفيون دوماً في الخطوط الأمامية لرصد الأحداث التاريخية وتحليلها يمنحونها شكلاً، ويقدمون لنا مادة حية عن حياتنا ، وأدواتهم الكلمات والصور وعقيدتهم حرية التعبير ، وتمدنا جهودهم جميعا بالقوة، أفراداً ومجتمعات على حد سواء».
[10] Gadamer, « Vérité et Méthode », op.cit, PP : 102 - 105.
[11] Gadamer, op.cit, P : 105.
[12] لقد وضح بول ريكور في كتابه «العادل، العدالة وفشلها» تصور مسألة الاختلال العقلاني (الاختراق والتجاوز) الذي يتأسس عليه القانون المعاصر والمنظومة السياسية عموماً، والذي أدّى إلى تفاقم الجريمة والتفكك الاجتماعي والفقر الروحي للنظام الاجتماعي المعاصر، وهذا ببناء قاعدة عقاب المجرم على تصور عقلاني مغلق، كثيف قانونيًّا لكنه فارغ روحيًّا وظالم واقعيًّا، وهنا سيكون فشل العدالة (كممارسة) نتيجة لفشل العقلانية (كتجريد).وهنا يعمل ريكور على تصحيح التصور العقلاني للعدالة الموروث عن المنطق الديالكتيكي الهيغلي والمنطق الترنسندنتالي الكانطي اللذين يعتمدان على «منطق البشر في التعادل والتساوي بين العقاب والخطأ أو المخالفة وهو قانون يسميه ريكور بـ: «قانون البشر البربري»، والذي يختلف عن منطق الإله الذي هو منطق زيادة excès و فيض surabondance، ففي منطق البشر خطيئة، قانون وموت، وفي منطق الإله، منطق الزيادة والفيض، عذر، عفو وحياة.. أما السؤال عن إمكانية العيش، اليوم، وفق منطق الزيادة والفيض -يقول ريكور- فإنه يمكننا إعطاؤه علامات محسوسة».
Paul Ricœur,« Le juste, la justice et son échec » ;Editions de L’Herne,Paris, 2005.
(يُرَاجع في هذا الصدد أيضاً مقال ريكور: «منطق التعادل ومنطق الفيض، Equivalence et surabondance : les deux logiques»، في مجلة Esprit، عدد خاص بفلسفة بول ريكور، عدد 323، مارس - أفريل، باريس، 2006، ص ص 163-169).