الدلالة الفينومينولوجية للمنهج
الدكتور عبدالقادر بودومة*
* أستاذ الفلسفة المعاصرة، شعبة الفلسفة، قسم العلوم الإنسانية جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان - الجزائر، البريد الإلكتروني: elkaderboudouma@yahoo. fr
ﷺ مدخل
يمتنع الحديث عن الفينومنولوجيا ما لم يتم إحالة خطابها على سؤال المنهج، إذ يظهر هذا الأخير قدرتها على التمكن من تأسيس حلمها الموعود، في أن تصير علماً صارماً. لكن إقامة هذا العلم لا يستقيم إلَّا إذا قمنا باكتشاف التعدُّد والاختلاف الموسومة بهما الفينومنولوجيا نفسها، لكونهما يسهمان في تفعيل سؤالنا حول إمكانية إحداث مطابقة جوهرية بين المنهج وموضوعه.
لقد شقَّت الفينومنولوجيا طريقها نحو التأسيس لهذا العلم في الفترة نفسها التي توفي فيها نيتشه Nietzsche أي في سنة 1900، السنة التي ظهر فيها ولأول مرة المشروع الفينومنولوجي إلى الوجود مع إتمام هوسرل عمله الفاتحة: œuvre percé «البحوث المنطقية» العمل الذي أعلن من خلاله عن ميلاد الفينومنولوجيا باعتبارها علماً كليًّا «mathesis universalis»، أي الفلسفة التي تحدث تطابقاً مع مضمون علمها.
من هذا المنطق يمكنني السير في الاتِّجاه الذي يؤكد من خلاله جون لوك ماريون J. L. Marion بأن بدء هوسرل هو منتهي نيتشه. فعمل الأول يقترب بكثير من الأطروحات التي انتهت إليه عدمية نيتشه، إن ما منحته الفلسفة «النيتشوية» لهوسرل لا يمكننا أبداً حصره. مثال ذلك: «قولها بعدم وجود فلسفة محضة، فالتراث الفلسفي ومنذ بدئه الإغريقي كان ولا يزال مليئاً بالتضايفات»[1].
إذ تأخذ الفينومنولوجيا على عاتقها الدور نفسه الذي سبق، وأن مثَّلته الفلسفة الأولى، فبعد «أن أتم نيتشه وأنجز كل إمكانات الميتافيزيقا التقليدية، تجد الفينومنولوجيا ذاتها أمام أساسات نظرية مغايرة تبشر ببدء جديد»[2].
ذلك لأن كل فينومنولوجيا بقول جاك دريدا J. Derrida: «إنما هي سير دائم نحو نقطة البدء، فالفينومنولوجيا تقليد عريق، عرف ميلاده بصورة سابقة، أي قبل التأسيس النسقي المنجز من طرف هوسرل، وتحديداً منذ إ. كانط E-Kant إذ كانت لحظتها تدل على ما للشيء من احترام (تحديد، ظهور الشيء) باسم الشيء نفسه، إن ظهور الشيء يمثل ما هو ظاهر وأن مفهوم الظهور apparaitre هو في آن معا بسيط، وملغز»[3].
هنا تكمن ضرورة تحقيق نوع من التبسيط من خلال الابتعاد عن الافتراضات والأطروحات المغرقة في التنظير، حيث سبق وأن أشار هوسرل بأن الفينومنولوجيا «سلوكاً إيجابيًّا» geste positif. أي السلوك الذي يعلم جيداً كيف يتحدى وينتصر على كل الأحكام المسبقة، قصد التمكن من الرجوع إلى الظاهرة عينها، والتي لا تدل على أنها مجرَّد حقيقة الشيء، وإنما تعنى بالإضافة إلى ذلك حقيقة الشيء بما يظهر عنه. قال فاينستاي phainesthai: «تعنى الظهور في بريقه ولمعانه في مرئية الشيء، فعندما أصف أي ظاهرة فإنني لا أقوم لحظتها بوصف الشيء نفسه أي ظهوره، وإنما ظهوره بالنسبة إليَّ بما هو يظهر لي، هنا تبدو صعوبة تكمن في إمكان فصل حقيقة الشيء عن ظهور الشيء ذاته»[4]. إن الشيء يظهر لنا وعليه فهو الشيء ظاهر.
وتقوم الفينومنولوجيا وعبر الإرجاع[5] la réduction بوصف هذه الطبقة من الظهور، أي ليس الشيء المدرك، وإنما الوجود المدرك للشيء، قال فينستاي عيار الظاهرة التي تظهر في الضوء، هكذا بالذات يظهر الشيء، لكن هذا لا يعنى أبدا القول: إن الفينومنولوجيا تمنح الامتياز المطلق للرؤية، ذلك لأنه بإمكاننا يقول دريدا: «عمل الشيء نفسه مع اللمس والسمع».
إذ باسم احترام ما يظهر مما يظهر نجد هوسرل يحترم في الوقت ذاته المعطيات اللامرئية، السمعية واللمسية للتجربة الحسية.
لهذا رأينا أن الفينومنولوجيا تحمل قدرة هائلة على إيجاد مواضيعها ولا تأبه بمجيئها نحوها، فهي دائماً تجد لنفسها مصادر إضافية تنمي وتغذي من خلالها الأسئلة التي نود التوجُّه إليها، فالفينومنولوجيا لم تقص ولم تكن أبداً ندًّا عنيداً لشكل معين من الميتافيزيقا، ولا للميتافيزيقا عموماً[6].
نحن نعلم أن هوسرل -وفي سعيه لإقامة مشروعه في أن تغدو الفينومنولوجيا العلم الكلي- كان يضع عمله باستمرار موضع النقد الجذري، وهذا ما كان منه عندما أقام نقداً ضد مبدئه الذي طالما أصر على نجاعته الإجرائية وخاصة داخل منهج القصدية، المبدأ الذي أقر ضرورة العودة إلى الأشياء نفسها، القانون الحدسي المجسد للانعطاء المطلق في ذاته، أي في حضوره.
ثمة أعمال يعترف من خلالها هوسرل عجز هذا المبدأ عن قدرته في الخوض في بعض القضايا سواء أتعلق الأمر بالزمان أو بالآخر.. إلخ. ومن هذا المنطق سنجد هوسرل يتحامى على منهجه الأول المتمثل في: منهج القصدية، منعطفاً نحو منهج الرَّد، ما جعلنا نركز انتباهنا بالبحث والدراسة على أحد أهم القضايا للمشروع الفينومنولوجي التي لا تزال مؤجلة الحسم.
ﷺ سؤال المنهج
يطرح سؤال المنهج بصورة واضحة وبحدة داخل الفينومنولوجيا أكثر من أي فلسفة أخرى، ولا يعكس السؤال نوع من التورط الفينومنولوجي في مأزق لا منفذ منه، وإنما هو سؤال تجد فيه هاجسها المحقق لبقائها الدائم، لكونه يرجئ باستمرار التعجيل بزوالها، وفي آن معاً يؤخر دائماً تحقُّقها وإنجازها النهائي. لأن في تحقيقها سقوط كما يشير بول ريكور P. Ricoeur في الـ«ism» أي في الـ«دوغمائية» المذهبية. فهي مشروع الـ«لا مشروع»، برنامج لا يعرف اكتمالاً، خلاف الأنساق المعرفية السابقة، والتي كانت في مجملها تُعجِّل بزوالها بإحداثها انغلاقاً لأفقها.
إن الفينومينولوجيا لا يمكنها: «أن تعرف تأسيسها المطلق والنهائي إلَّا من خلال ذلك الذي يحدها، لم لا»[7]. إذ عندما نتحدَّث عن إمكان وجود منهج يتطابق مع الفينومينولوجيا فإننا لا نقصد أبداً المنهج مثلما حدَّدته النظريات العلمية، والفلسفات الكلاسيكية، والتي رأت في المنهج مجرَّد أورغانون المعرفة، يتناول بالبحث والدراسة مواضيع خارجة وبعيدة عنه.
فالأمر لدى هوسرل يحدث بكيفية مخالفة جذريًّا، بحيث يسير في اتِّجاه التنقيب والحفر عن منهج محض يتماثل مع الفينومنولوجيا الترنسندنتالية. طبعاً حلم التأسيس لعلم كلي هو حلم هوسرل أولاً، وهو بالإضافة إلى ذلك حلم الفينومنولوجيا ككل ثانياً. إذ نجد كل الفينومينولوجيات تحاول التشبث بهذا الموضوع في أن تصير الفينومنولوجيا بديلاً عن نظرية المعرفة الكلاسيكية، وأن تغدو في ذاتها الفلسفة عينها.
لهذا نجد هوسرل يحرص دائماً على التذكير بضرورة طرح أسئلة الفينومنولوجيا في أوج يقظتنا، وانتباهنا لسؤال استئناف البدء، وذلك بدعوى التأسيس لبدء جديد. فهوسرل ينفي أن يكون للفلسفة بدؤها المطلق، إذ ومنذ الوهلة الأولى حدث تصدع عندما حاولت النظريات العلمية والفلسفية، إحداث تفريقاً بين ما لا يفرق التفريق بين العلم والفلسفة، إذ تم تعيينهما ومنذ اللحظة الإغريقية بأنهما شيئاً واحداً.
تجعل دراستنا من سؤال المنهج المنطلق الحقيقي لإنجاز طموح معاودة تتم مع ربط الفلسفة والعلم، لأننا رأينا بأنه سؤال يطرح وبصورة متكررة وعنيفة في كل الفينومينولوجيات، ولا نرى في جذريته نوعا من التورط في مأزق انسداد الأفق. بل رأينا فيه (أي سؤال المنهج) منفذاً نحو الجعل منه كما يقول بول ريكور: « مصدر المغذي، والذي يبقى على استمرارية الفينومينولوجية إلى ما لا نهاية»[8].
فالفينومنولوجيا كما يؤكد مؤسسها هوسرل لم تكن مذهباً فلسفيًّا، بل هي رؤية يختلط فيها المنهج بالموقف في رؤيتهما إلى العالم بصورة أخص، وهي رؤية جديدة تماماً، لهذا كانت تتواجد على الدوام حيث العتبة، فالفينومنولوجيا هي قبل كل شيء منهج، وموقف للفكر، موقف للفكر خاص بالفلسفة حاول هوسرل جاهداً تدمير الرؤية الموروثة عن الأفلاطونية حول المنهج والتي تم توريثها للديكارتية، وتظهر بصورة واضحة لدى هيغل Hegel وحتى هايدغر Heidegger، إذ حاول الكل جعل من سؤال المنهج مجرَّد تأسيس لرؤية أنطولوجية أي رؤية تتردد بين سؤال الكائن، وسؤال الكينونة.
إلَّا أن فينومنولوجية هوسرل تعلن عن نفسها باعتبارها فلسفة دون مطلق، لهذا يطلق عليها اسم: «الفينومنولوجيا المحايدة». لأن هوسرل يرفض كل أرثوذكسية، وهو بذلك يسير قدماً بالتفاعل مع المشروع النيتشوي، إذ كليهما رفضا أن تكون فلسفتهما وثناً فكريًّا، تفرض على ورثتها نمطاً معيناً من التفكير، عبر التزامهم بمنهج معطى سلفاً.
لهذا نجد هوسرل يرتبط بفكر الأساس Fondement اللحظة التي لم يحصل لها الإنجاز بعد، أي بقيت فكرةً مرجأة التحقيق. فسؤال الأساس يقيم حركة تحذير متقدم لسؤال الأصل نفسه. ولقد حاول هوسرل البحث عنه في بداية الأمر داخل الأعمال المرتبطة بالرياضيات والمنطق، حينما كان يتابع دراسته لدى أسماء رياضية، ومنطقية بارزة، والتي كان لها الأثر البالغ في توجهات هوسرل الفكرية. إذ نجد مثلاً: العالم الرياضي فيرستراس Weierstrass الذي كان له الإسهام الجليل في إقامة النظرية الحديثة للدوال، وطور بالإضافة إلى ذلك نظرية الحساب اللانهائي، وكان أول من اقترح إمكانية الجمع بين التحليل analyse والحساب calcul، واكتشف أن التحليل هو العلم المؤسس فقط على مفهوم العدد، لكن من الضروري إنجاز تحليل خاص لمفهوم العدد نفسه[9].
واهتم هوسرل بعد ذلك بأعمال أستاذه وصديقه فرانز برانتانو، منجزاً أعمالاً حول: «مفهوم العدد والتحليلات السيكولوجية»، وفي مدخل هذا العمل نجد هوسرل يذكر أهمية الرياضيات على الفلسفة، فالرياضيات حسب هوسرل: «تدخل في اتصال مع الفلسفة قصد التمكن من إيضاح مفاهيمه الخاصة»[10].
مع برنتانو سيكتشف الطريق المؤدي إلى الفينومنولوجيا الترسندنتالية حيث أمده بالمفاهيم المؤسسة لها، والتي على رأسها: مفهوم «القصدية»، مفهوم «الحدس المحض».
وبقي مشدوداً إلى أعمال برنتانو فيما يتعلق بالسيكولوجية الوصفية، ثم أخذ هوسرل أسس مشروعه عن ماينونغ Meinong، أبرز تلامذة برنتانو، إذ كانت كتاباته الأولى مجرَّد صدى لأعمال هذا الأخير، أما نظريته حول الموضوع فكانت بمثابة النظرية الوحيدة التي أُعجب بها هوسرل إلى درجة أنها مكَّنته من إحداث تغيير جذري في وجهة النظر التي كانت حقائقها الجوانية غير متناقضة فيما بينها. فالمربع الدائري غير ممكن لاستحالة الجمع بين المربعية والدائرية. إلَّا أن المتعذر علينا تفكيره لا يمكن التفكير في وجوده، وما لا يمكن أن يوجد لا يمكننا التفكير فيه. وكل ما هو قابل للمعرفة في ذاته ووجوده فيما يخص مضمونه هو وجود محدد، ففي الوجود في ذاته تتناسب الحقائق في ذاتها، وهذه الحقائق تتناسب بدورها مع منطوقاتها الثابتة[11].
وفي «البحوث المنطقية» وبالأخص النصوص المكرسة لسؤال التجريد، باعتباره المنهج الأكثر استعمالاً من قبل هوسرل، إنه ذلك الذي يفكر في اللاشيء rien قصد وضع القيمة الحقة للبداهة، التفكير حول العدم الملازم لبعض الدلالات، فعندما نقول: الدائرة المربعة، نجد هنا دلالة، لكنها دلالة دون مضمنون، ولا يمكن إلَّا أن تكون مختزلة إلى مجرد قصد فارغ intention vide محروم من امتلاء الحدس، ذلك لأن الدلالات الجزئية partielle لا يمكن أن تعرف وجودها في الحدس[12].
ﷺ من سؤال المنهج إلى ابتكار المنهج
إن أصالة الرهان الفينومنولوجي يكمن في مدى قدرته على ابتكار منهج جديد منهج مستحدث كل الاستحداث، مغاير تماماً عن المنهج القائم في العلوم الطبيعية، وهذه الدعوة هي تنبيه من طرف هوسرل إلى أن الفلسفة وإلى غاية فترته لا تزال أسيرة عدم التفريق بين منهج العلم، وبين منهج الفلسفة، إذ منذ القرن السابع عشر كان الفلاسفة يصرون على ضرورة أخذ الفلسفة بمنهج العلوم الطبيعية، كي تتمكن من إيجاد طريقها نحو الخلاص المطلق. فكان على الفلسفة كما يقول هوسرل: «السير على خطى العلوم الدقيقة فيما تتمكَّن بعد ذلك من صياغة هذه العلوم بمنهج جديد كل الجدة، وجذري الذي يمكنها من إخضاع جميع العلوم بمنهج جديد كل الجدة، وجذري الذي يمكنها من إخضاع جميع العلوم إليها، عودة مجد الفلسفة لن يكون إلَّا من خلال ابتكار المنهج الجديد، منهج جديد بالقوة، يعارض المنهج الطبيعي»[13].
ما حقيقة «المنهج» الذي سعت الفينومنولوجيا، وتحديداً فينومنولوجيا هوسرل إلى تحقيقه قصد التمكُّن من التأسيس لعلم كلي محض؟ طبعاً لقد عمل هوسرل على إتمام الفينومنولوجيا باعتبارها المنهج عينه، أي منهج إيبستيمولوجي يصف الكيفية التي من خلالها تنبثق المفاهيم، والمقولات المنطقية، وتأخذ دلالتها الأساسية.
لكن ما العلاقة التي يمكن رصدها بين أحكامنا وبين تجاربنا الإدراكية؟ إن الأحكام المنطقية وتجربة الوصف (الإدراك) تحمل لدى هوسرل مرادفها ضمن الصياغة المنهجية، التي يطلق عليها قصد الكشف عن الكيفية التي من خلالها يحصل إنتاج الحقائق الجوهرية. إن فينومنولوجيا هوسرل هي: «بالأساس معاودة منهجية للأصول نحو أصول المعرفة»[14]. الإسهام الجوهري لهذا النوع من الفينومنولوجيا يكمن تحديداً في محاولته الكشف المنهجي عن الكيفية التي تجعل المعنى يبرز ويظهر، وكيف ينبثق في وعينا بالعالم.
إن فينومنولوجيا المنهج تمنحنا فرصة الكشف عن المعنى في صلب تجربتنا المعيشة، إنها (رأي التجربة) بمثابة تجلي الوعي المحض، فالتجربة البشرية ليست ماهية لـ«شفافية- ذاتية» auto-transparente أو لأنا محض cogito pur، وإنما تمتد نحو شيء ما في العالم.
إن فينومنولوجيا المنهج تسمح للوعي فهم اهتماماته الخاصة، والتفكير في ذاته، ومنه اكتشاف الأفق المتواري، أو المهمل لقصديته، بالإضافة إلى ذلك تجعلنا الفينومنولوجيا نمتلك القدرة على الإحاطة بكلية معنى قصدية موضوع ما، الذي قد يكون مقدما كـ«كنه» entité مجرد، ومعزول، منفصل عن أفاقه القصدية.
من هذا المنطلق تعلمنا الفينومنولوجيا: «أن الوعي هو في آن معاً مرتبط كلية بموضوع تجربته، وعلى الرغم من كونه حرًّا في أن يتصل بهذا الموضوع أو ذاك لأجل إنجاز انعطاف نحو الذات نفسها، ولأجل التركيز على مقاصد القصدية، ومنها ينبثق الموضوع باعتباره مالكاً للمعنى»[15].
تمنح لنا فينومنولوجيا المنهج بالإضافة إلى كل هذا: «إمكان الكشف عن معنى تجربتنا المعيشة، فهي تظهر الوعي في أن يكون دائماً قصدية، وذلك في اتصاله بمواضيع خارج عنه، وبإمكاننا القول: إن وحدها فينومنولوجيا المنهج قادرة على جعلنا واعين بوجودنا في هذا العالم»[16].
فهي (أي الفينومنولوجيا) لا تكتفي بمساءلة الأشياء فقط، لكونها ليست مجرَّد أسئلة موجهة لمعرفة الشيء، وإنما هي أسئلة عن الكيفية التي يظهر من خلالها الشيء المتماثل أمامنا، بحث حول الـ«الكيف» comment خاص بتخيل الشيء والكشف عنه.
نجد هنا نموذجين أساسين وبفضلهما يحصل اكتمال لظهور ما يعطى إلينا: ظهور العالم، وظهور الحياة. ففيما يخص الأول فإن مجاله براني extériorité محض، الخارج عن الذات le hors-de-soi وهو كل ما نراه، وما يمكننا رؤيته.
انطلاقاً من هذه الرؤية سيتم ترسيخ الاختلاف في المبدأ بين ما يظهر في العالم بما هو ظهور للعالم عينه. أما فيما يخص ظهور الحياة فإنه يتعارض وظهور العالم. فإذا كان كل ما ينكشف هو براني، فإن الخط الفاصل الأول لظهور الحياة يكمن في أنها لا تظهر إلَّا لذاتها، فهي الظهور عينه، إنها الظهور بالذات auto-révélation، كشف ذاتي. وهذا الأخير يبرز أمرين مهمين: الحياة ليست تقدماً لا واعياً، ذلك لأنها وحدها القادرة على إتمام العمل الأصلي للظهور، ومن جهة أخرى فإن الذي ينكشف في هذا العمل الكشفي الذي يكتمل داخل الحياة هو طبعاً الحياة»[17].
لقد تعيَّن المنهج إذاً مشكلاً قائماً بذاته داخل الفينومنولوجيا الترسندنتالية الهوسرلية من الجهة التي تبيَّنت فيها الفلسفة إمكاناً للتفكير يتوسط معنى المنهج الذي تداول عليها التفلسف عموماً. فالمنهج الفينومنولوجي: «هو حركة النظر في إقباله على الأصول وقواعده، لأن تدبير معنى المنهج في الفينومنولوجيا أمر يخص الشأن الفلسفي عينه، وليس يخص انتظاماته الخارجية بالنسبة إلى موضوعات سابقة للنظر، وقائمة بذاتها، لقد صار إذا المنهج هو الفلسفة عينها»[18].
يطرح سؤال المنهج في الفينومينولوجيا فكرة البدء المتجدد أو البدء الجديد، إذ لا تُعير انتباهاً للمناهج المعتادة المطبقة داخل العلوم الوضعية سواء ما ارتبط منها بالعلوم الطبيعية، أو بعلوم الفكر، بل نجدها تقيم ضدها نقدًّا جذريًّا، بقدر ما تحاول التأسيس لمنهج محض، ولما كان الأمر كذلك رأينا أنه سيبقى سؤالاً مؤجلاً ومرجأ الإجابة بصورة دائمة.
لقد انتهت الفينومنولوجيا الترسندنتالية -وهذا ما يؤكده مصنف 1913 الذي يعتبر بمثابة بيان للمنهج داخل الفينومينولوجيا-: «إلى موقف أساسي يكمن في الجمع بين نظرية الماهية، والرؤية الطبيعية للعالم»[19]، إلا أن هوسرل ستعترضه بعض المشكلات الأساسية، أهمها: عدم وجود إحداثية ثابتة للمنهج. وهذه الصعوبة صادرة أصلاً عن صعوبة البدء في الفلسفة من حيث هي معرفة غير طبيعية، إذ لا يمكن الحديث عن تأسيس نهائي للمنهج داخل المنظومة الفينومينولوجية، إلَّا إذا تم التحديد والحسم في فكرة بدء الفلسفة، لهذا ارتبطت أسئلتنا بالكشف عن حقيقة العلاقة الموجودة بينهما، أي بالكيفية التي من خلالها يرتبط سؤال المنهج باعتباره من أبرز المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا بـ«بدء الفلسفة».
طبعاً الصعوبة هنا خاصة بالفلسفة لا غير، ذلك لأن المنهج في العلوم هو نتاج محصلة تعود وتراكم نتيجة التجربة التلقائية، «إن الاعتبارات المنهجية في الفينومينولوجيا الترسندنتالية تُفضي إلى الصعوبة الناجمة عن مسألة المنهج في الفلسفة عموماً، من حيث هي معرفة يتعيَّن عليها استكشاف حقول النظر الخاصة بها، وتجهيزها مفاهيميًّا، أي التشريع لموضوعاتها تشريعاً أصليًّا وأساسيًّا»[20].
فالفلسفة بحاجة إلى مقالة في المنهج وقواعده، إن فينومينولوجيا هوسرل بما أنها تريد أن تكون منظومة تأسيسية وأساسية للفكر تجد نفسها مخترقة من قبل جملة من التفاوتات، ليس من السهل ضبطها ما دامت تتخلل إيقاع الفكر نفسه، بين إقباله اللامتناهي على التجربة بشغف أصيل، وتعلقه الحميمي بالأصول وبالمنابع، وبين حاجته لميتافيزيقا تقيم التنسيق والانتظام.
فالفينومنيولوجيا هي ابتداء لميتافيزيقا محضة تخلَّصت من كل الرواسب الفكرية السالفة، التي أضرت بالفلسفة، إنه السير الدؤوب نحو التأسيس لميتافيزيقا كعلم محض، «فكانط على سبيل المثال لم يتمكَّن من تحقيق هذا الحلم لكونه بقي يلازم أرضية العلوم التجريبية والعقلية»[21].
يتبين لنا أن مفهوم المنهج ينمو بصورة محايثة مع مضمون العلم، بتعيين الفينومينولوجيا علماً بالظواهر، لا يقصد هنا من معنى الظاهرة ما هو مألوف، ومتداول الاستعمال في المعارف الموجودة، لذا فالعلم الفلسفي بالظاهرة غير علم النفس.
هنا يُبرز هوسرل فصلاً جذريًّا بين الفينومنولوجيا والسيكولوجيا، فصل بمثابة المبرر الأول الذي يؤكده هوسرل في عمله الأفكار الأساسية، حيث نجده يدحض الآراء التي تحاول إلحاق فينومنولوجيا البحوث المنطقية بالسكولوجية التجريبية باعتبارها تختص بالوصف المحايث للمعيش النفسي، أي بالتجربة الجوانية، من حيث إن علم النفس هو علم صادر عن التجربة، ومضمونه الوقائع النفسية، لن تكون الظواهر السيكولوجية إلا وقائع فعلية محايثة للوجود الحقيقي لذوات واقعية وفعلية هي أخرى تنتمي كلها إلى عالم من حيث هو جملة الوقائع الموجودة.
ومن هذا المنطلق بإمكاننا القول: إن المنهج يتعين محتواه النظري تعييناً مزدوجاً:
1- يقوم بتحويل العلم من الوقائع إلى الماهيات، وبتوجيه الفكر جهة العمومية الماهوية، وذلك هو معنى القرار المنهجي الأساسي.
2- النظر إلى الظواهر في الفينومنولوجيا الترسندنتالية على أنها غير واقعية من حيث نوع وجودها[22].
إن فينومنولوجيتنا يقول هوسرل: «لا ينبغي أن تكون نظرية الماهوية لظواهر العالم الواقعية، يمسها الرد الفينومينولوجي»[23]. يمكننا التأكيد إذاً أن المنهج في الفينومنولوجيا يرجع تحديداً إلى ممارستين متميزتين حيث يكون فيه الوصف معيناً منذ الوهلة الأولى، فمن جهة تعتبر الفينومنولوجيا العلم الماهوي eidétique الذي يضم شأنه شأن غيره كل علم ماهوي بواسطة الرد الماهوي. «وهي من جهة أخرى العلم الماهوي للوعي المحض تسعى من هذا المنطق إلى إقامة الرد الفينومينولوجي، الرد المضاعف الذي يُؤدِّي بالضرورة إلى نوع من التعديل للتجربة الأصلية التي نحملها يوميًّا عن العالم، وعن ذواتنا، وأيضاً كارتداد جذري للموقف الطبيعي»[24].
ولقد أكد جلُّ الفينومنولوجين من تلامذة هوسرل أن هذا الأخير لم يحاول وضع مخططاً نهائيًّا لتأسيس نظرية علمية محضة، أو إقامة مذهب فلسفي مغلق، بإمكانه مضاهاة المناهج القائمة في مختلف العلوم التجريبية، ولربما حتى العلوم المحضة، لهذا لن يكون معنى الفينومنولوجيا إلَّا مؤجلاً قصد بلوغ الثبات على الأرض الموعودة التي وعد بها هوسرل الإنسانية، والمتمثلة في أرض الفينومنولوجيا الترسندنتالية، وهذا ما يبرزه تحديداً في عمله الأزمة Krisis.
لن تكون الفينومنولوجيا في نظر هوسرل مادة من مواد العلم، أو من مواد الفلسفة، وإنما هي العلم عينه، والفلسفة عينها، إنها العلم الصارم المؤسس من قبل رؤية جديدة لمفهوم المنهج، حيث نجده لا يحمل دلالة الحرية التي تأخذ بها العلوم الوضعية، وإنما يحمل معنا استعاريا، فهو الطريق الذي حينما نشقه نبدأ في السير قدماً نحو الأفق اللانهائي.
بالإضافة إلى كونه طريقاً غير معطى لنا سلفاً، وإنما يجب شقه والسير عليه، لهذا سيأخذ معنى المنهج داخل المشروع الفينومنولوجي دلالة التعدُّد والإخلاف، لقد تمكنت الفينومينولوجيا حسب لفييناس Levinas من توحيد الفلاسفة، لا بالكيفية نفسها التي قد نجد فيها الكانطيون متحدون داخل الكانطية، ولا بالكيفية نفسها التي قد نجد فيها السبينوزيون متحدون في السبينوزية.
إن الفينومينولوجين لا توحدهم الاهتمامات نفسها، فالقضايا التي شغلت ذهن هوسرل المؤسس، ليست نفسها المتواجدة لدى تلامذته. فحتى وإن تعلقوا بهوسرل فليس من موقع الجعل منه عقيدة دوغمائية، وإنما لإنجاز أسئلة جذرية حول فكره، قصد تجاوز لحظته الفلسفية.
ولا يعنى التجاوز هنا وضع حد فاصل أو نهائي لفكرة ما، وإنما هو بمثابة مواصلة هدف الاكتمال والتحقيق: «إن الفينومينولوجيين لا يدَّعون أبداً انتماءهم أو ولاءهم المطلق لفكر المؤسس. ولأن الفنومينولوجيا نفسها وفي جوهرها ترفض مثل هذا الادِّعاء. إن الفينومينولوجيا منهج بارز وصارم، وجوهرها مفتوح حيث نجدها تتفتح على اهتمامات لا محددة داخل حقول معرفية مختلفة، وتطبيقاتها المنهجية بإمكانها أن تشمل العديد من المعارف[25] فالفينومينولوجيا المؤسسة من طرف هوسرل نشأت وصفية، وصارت بعد ذلك ترسندنتالية محضة، وبين هذا وذاك حاولت وضع حدّ لمعنى المنهج في معناه المعتاد والمعمول به داخل العلوم الوضعية، خاصة العلوم التجريبية.
عرفت الفينومينولوجيا ميلادها: «باعتبارها كشفاً لكيفية جديدة للتفلسف الذي يقطع من جهة وبصورة جذرية مع الرؤية الطبيعانية للعالم منذ أفلاطون إلى غاية ديكارت. ومن جهة أخرى رفضت النظريات التي على الرغم عمقها المتفاوت، إلَّا أنها -مثلما ينبهنا هوسرل- سقطت في مأزق الانغلاق، وهذا شأن العلوم الطبيعية»[26]. والعلوم المحضة ممثلة في الرياضيات المتورطة في السيكولوحية التجريبية.
فالفينومينولوجيا من هذا المنطق لا تمنح لنا مذهب، وإنما تحملنا إلى ما يمكننا نعته حسب «جون توسان دوزانتي» Desanti بـ«التجربة L’expérience» الدالة على السير، سير دائم لا يعرف له قرار، ولا نهاية. أي إنه سير منفتح على أفق اللانهائي horizon Infini، يحث باستمرار عن المعنى، وعن المعرفة المحضة. ذلك لأن الفينومينولوجيا هي بمثابة تحليل دقيق وصارم بقدر ما هي إمكان مُحدَّد من شبكات المعنى في تواصلها واختلافها، فالمعنى يجد نفسه دائماً مفتوحاً مقيماً بداخل موضع دال.
سيرتبط عمل الفينومينولوجي إذاً بإنجاز وأداء هذه الوضعية التي هي إلزام المعنى من جهة، وفرار المعنى من جهة أخرى. ففي اللحظة التي نحقق فيها معنى ما، ترغمنا الفينومنولوجيا على الفرار من الفينومنولوجيا ذاتها ذهاباً وإياباً، حركة مستمرة لا تعرف لها نهاية محددة.
هذا ما جعلنا نؤكد عدم إمكان تحديد المنهج باعتباره المحدد لطبيعة الموضوع، والسائر نحو غاية معينة، إنها -يقول دوزانتي- بعيدة كل البعد عن مذهبية، إنها تمارس فوق الركام Tas [27].
ليست الفينومنولوجيا بناءً للظواهر في الشيء ذاته، وإنما هي كما يشير ليفيناس: «رد الأشياء في ذاتها إلى أفق ظهورها، وجعل الظاهرة نفسها تظهر، وراء ماهية الظهور كان الظاهر يستر نماذجه، دون أن يسلمها طواعية لأول رؤية، هذا ما يتبقى عندما تكف عن جعل القصدية نظرية، إذ الشرط الجوهري لكل رؤية فينومنولوجية مرتبط كلية بحضور الحياة الترسندنتالية بالذات، أي للحاضر الحي، والدال بالإضافة إلى ذلك على القرب بما يمثل موضوع الحدس»[28].
لا تمتلك الفينومينولوجيا إذاً رؤية نهائية عن المنهج، فهي لا تعتقد بوجود منهج معطى بصورة سابقة عنها، ولن يكون لها أبداً منهجاً. إذ لو سلمنا بوجود ذلك، فإننا سنتورط في الانغلاقية المذهبية، وهذا ربما ما جعل هوسرل وإلى غاية آخر أيام حياته يؤكد أن كل ما قدَّمه من أعمال داخل المشروع الفينومينولوجي لم تكن سوى البداية. من هذا المنطلق صار سؤالنا المركزي يتحرك وفق هذه الاستنتاجات، لقد تعينت الفينومنولوجيا ومنذ الوهلة الأولى باعتبارها عين المنهج فالفينومينولوجيا تتطابق والمنهج.
فإذا كنا ننكر على الفينومينولوجيا امتلاكها لمنهج متعين، فإن هذا الأمر لا يجعلنا نمتنع عن إيضاح عناصر تطبيقاتها المكرسة من قبل مؤسس الفينومينولوجيا نفسه، ذلك لأن المنهج عند هوسرل يعتمد كلية «على العناية بموضوعات المعرفة، بل يرتكز أساساً على وصفها للصورة التي تنعطى بها كـ«مقاصد» intentions محضة. وبدورنا نعتقد أن البدء في التفكير في إقامة المنهج عرف ظهوره بشكل واضح مباشرة بعد إنجازه لعمل 1907 الموسوم بـ«فكرة الفينومينولوجيا».
يبرز المنهج في الفينومينولوجيا في بداية الأمر باعتباره وصفاً ذاتيًّا تجريبيًّا إذ ومنذ الوهلة الأولى تحدّد كندٍّ للطبيعانية Naturalisme وللمعرفة الطبيعية، فهو ينجز وصفاً للموقف الطبيعي لما يظهر مباشرة في العالم، ولما كان هذا الوصف للعالم من حيث الدلالة هو وصف لتجربة الأنا، محققة من طرفه، فهو إذاً وصفاً ذاتيًّا تجريبيًّا.
لكن ما نكشفه بعد هذا الوصف أن هوسرل لم يرتح له بعد أن عرفه بهيمنة شبه كلية في البحوث المنطقية، نظراً لقربه طبعاً من أستاذه فرانز برانتانو، إلَّا أن الوصف لم يكن كافياً لتحقيق الوثب، والقيام بتجاوز التخمينات، والافتراضات وإنما كان عليه امتلاك ممارسة نقدية صارمة للمعرفة.
فالأمر لم يتوقَّف عند حدود وصف الظواهر، والبحث عن إمكان تفسيرها وحسب، وإنما صار من الضروري السعي لأجل فهم عمق صلاحية المعرفة. إن إسقاط الضوء على المعيشات المعرفية تدرك في ذاتها ضمن بنيات جوهرية، وهذا ما يطلق عليه اسم: «فهم فعل المعرفة».
هنا تبرز قوة الإرجاع الفينومينولوجي الذي نعتقد بأنه يمثل المحطة الثانية المهمة للسير نحو إتمام الفينومينولوجيا الترسندنتالية، بعد أن أثبت الوصف المنجز داخل منهج القصدية عجزه بحيث صار من المتعذر عليه فهم المعيش من وجهة نظر السيكولوجية في علاقته بدواخلنا، مثلما يحدث في التجربة الجوانية والمرتبطة أساساً بمواضيع اعتقادنا.
فالإرجاع الفينومينولوجي لن يعرف انطلاقته إلَّا عندما يقوم بفهم هذه الاعتقادات، لكنه إذا كان يقدم المعيش بصفة لا مدركة، ولا مفهومة، فإن السؤال الذي يطرح كما يشير إلى ذلك فرانسوا لافين J. F. Lavigne هو إمكانية معرفة من هنا فصاعداً عمَّا نحن بصدد البحث عنه تحديداً، قصد التمكن من معرفته[29].
لقد حول هوسرل مجهوده نحو البرهنة على أن المعرفة السيكولوجية العادية تباشر عمل المفاهيم والماهيات لأجل نظام آخر غير متواجد في الطبيعة، وأنها تمتلك حدسيًّا هذه الماهيات المحددة كحقل بحث جديد. غير أن الأمر لا يتعلق نهائيًّا بتحديد حدس الماهية، وذلك بوضعها موضع البداهة وبالكيفية نفسها حيث يحدث لها الاكتمال، فبعيداً عن الاهتمام بالحدس الماهية يظهر المنهج في الفينومنولوجيا باعتباره تحليلاً لما هو قصدي، غير مكتفياً بتحليل المعطيات المتماثلة أمام الإدراك بصورة مباشرة، معتمداً على معرفة أساسية: «كل وعي هو قصد لشيء ما، قصد يصير أكثر مما هو عليه، أي دائماً في تألق باحث عن أفق جديد، ها هنا يظهر المنهج داخل الفينومينولوجيا في أوج اتساعه مبرزاً طموحه في أن يغدو كل موضوعية متقومة تلائم نموذج ماهيتها»[30].
ﷺ اللحظة الثالثة
وهذا ما جعلنا منه بمثابة اللحظة الثالثة التي تجعل من الفينومينولوجيا الترسندنتالية موضعاً للممارسات والتطبيقات على المواضع التي حدث نسيانها من قبل الفلسفات الكلاسيكية. تحديداً من طرف العلوم الوضعية مثل مشكلة عالم الحياة والجسد، والآخر..
إن كل حياة الوعي مهيمن عليها من قبل قبلي مؤسس كليًّا ومن خلاله يكون الفحص عن المهام الأولى الموكلة إلى الفينومينولوجيا الترسندنتالية. إذ كل وجود موضوعي وكل حقيقة تجد أساسها بداخل ذاتوية ترسندنتالية محضة، أو ما يطلق عليه هوسرل اسم البينذاتية intersubjectivité حقيقة مرتبطة بالذاتية عينها. لحظتها ستظهر الفينومينولوجيا كإيضاح لكل ممكن من الوجود. ومن خلال هذه الرؤية يكون هوسرل قد أنجز حركة انتقال جذرية سارت بالفينومينولوجيا إلى أن تصير اسماً للمنهج، أي الفلسفة علمية.
فإذا أنجزنا فهماً سليماً عنها فإنه بإمكاننا لحظتها القول بأنها المفهوم عينه للمنهج، غالباً ما ارتبط طموح الفلسفة بدراسة الموجود (étant)، فهي تعمل ذلك ليس من موقع الرغبة في اكتساح المواقع، وامتلاك الحق والحقيقة بادِّعائها القدرة المطلقة على الخوض في جميع المعارف دون استثناء، «الفلسفة منذ أرسطو تحدَّدت وتعيَّنت أي كان لها موضوعها الخاص من الناحية الصورية، إنها علم الوجود. فالمهمة الأساسية للفلسفة صارت مرتبطة بمدى قدرتها على التأسيس للفلسفة بما هي كذلك (أي فلسفة) وفقط. عندها تصير معرفة قبلية بالكائن أي تؤسس يقينيته، إنها مهمة لا تنفصل إطلاقاً عن المهمة التقومية» constitutive [31].
طبعاً لم نؤكد إمكان إحداث تقارب بين منهج الفلسفة، وباقي المناهج الوضعية التجريبية، ذلك لأنه (أي منهج الفلسفة) يمتنع عن أن يكون قريباً من منهج الفحص والكشف الخاص بالعلوم الطبيعية، ولا حتى بالعلوم الرياضية المشتغلة على منهج البرهنة. فالأمر لا يتعلق بالنسبة إلى هوسرل: «بجعل الفلسفة علمية، من خلال أخذها بنموذج العلوم التي سبق وأن حصل لها التأسيس (بالمعنى الذي يتحدث عنه المشروع الكانطي من خلال الثورة الكوبرنيكية)، وإنما فضلاً عن ذلك العمل على فهم الفلسفة التي تؤسس انطلاقاً من ذاتها فكرة العلم»[32]، دون أية استعانة بأي حقل أو مجال معرفي آخر.
هذا ما يمكننا أن نطلق عليه اسم الفلسفة الكلية أو الفلسفة الأولى. هنا بالذات تكمن أهمية أعمال هوسرل، فالمنهج الذي عمل على تأسيسه لا يقيم أسسه ومبادئه إلَّا من داخل الفلسفة عينها، ولقد تمكَّن هوسرل من تقديم رؤية مغايرة لمفهوم المنهج عندما جعل منه عين الفلسفة، أي المتطابق مع الفلسفة. موجداً داخل هذا المنهج الكلي مناهج مختلفة: منهج القصدية، منهج الإرجاع، منهج الإيبوخية ومنهج التقوم.
لهذا رأينا أن فينومينولوجيا المنهج هي ميتا-منهج méta-méthode أي المنهج في تعدده. المنهج الذي يسمو بالمفاهيم الفلسفية إلى المعرفة القبلية الأصلية وإلى المعرفة الجوهرية، فإذا كانت الفلسفة تطمح إلى أن تكون علماً للكائن بما هو كذلك، ألن يكون لهذا النزوع في الاتِّجاه بداية نحو الخصوصية؟
إن هذا السؤال مرتبط في الواقع بإمكانية إقامة معرفة فلسفية أصيلة ممكنة، أي التحديد القبلي الكلي لكل كائن. إن السؤال الذي حرك وفعل الفينومنولوجيا وجعلها تظهر ككيفية لاستيعابها أولاً، وكتوجه نحو تتويج مشروع الأصل الذي لا يزال قيد التردد بين التحقق واللا تحقق المؤسس من طرف هوسرل[33].
لم يكن هوسرل في تصورنا إلَّا الفيلسوف الذي -وبعد ديكارت وكانط- منح لنا فرصة إمكان إتمام تطور العقل في الاتِّجاه نحو فلسفة ترفض أحكامها الدوغمائية، لهذا لا تكتفي الفينومينولوجيا بمهمة التطوير من منهجها واكتشاف أنواع المعرفة الجديدة المناسبة بدورها لنوع جديد من المواضيع، وإنما تسعى جاهدة لأجل خلق الوضوح الكامل، كي تتمكَّن من تحديد معنى وقيمة المنهج الذي يسمح لها بالوقوف قبالة الانتقادات الصارمة، والجادة.
هنا يكمن امتحانها الذي يمكنها من الثبات والسير نحو الأرض التي وعد بها هوسرل: «التأسيس لفينومينولوجيا ترسندنتالية محضة، وهذه الأخيرة -كما يشير هوسرل- لا يتم إقامتها بصورة مباشرة بالجعل منها مذهباً فينومينولوجيا للماهية، وإنما محاولة القيام بالبحث ما إن كانت الفينومنولوجيا وهي تأخذ بالتجربة أن تكون مذهباً ممكناً»[34].
[1] Marion J. L: Réduction et donation essai sur Husserl, Heidegger et la Phénoménologie Paris PUF 1989, p 06.
[2] Marion J. L: ibid p 07.
[3] Derrida (J) Sur parole Paris Seuil 1996 p68
[4] جاك دريدا : إيمان ومعرفة منبعا الدين في حدود العقل وحده ضمن عمل جماعي : الدين في عالمنا تحت إشراف جياني فاتيمو. ترجمة: محمد الهلالي وحسن العمراني، الدار البيضاء - المغرب: دار توبقال، 2004، ص 14-15.
- Heidegger M Etre et temps traduit de lʼAllemand par Vézin(F) Pari , Gallimard passage 07 p52.
[5] من الخطأ النظر إلى الإرجاع باعتباره مجرَّد إجراء أو تقنية يتوغل داخل الظواهر منجزاً فهماً لها، ذلك لأنه لو حصل وجعلنا منه كذلك فإنه ستتعطل لحظتها أهميته، ويصير لا طائل من اللجوء إليه.
. 49 Derrida J : sur parole ibid. p
[6] J. L. Marion: La science toujours recherche et toujours manquante, in La métaphysique son histoire, sa critique, ses enjeu, sous la direction. J. Marc Marbonne , et Luc Langlois, Paris, J, Varin , 1999.
[7]. Ricœur P: A l›école de la phénoménologie, Paris J. vrin, 1986, p 141.
[8] Voir Bégout (B) L’héritier hérétique Ricœur et la phénoménologie P. Ricœur: in revue Esprit Dossier sur Ricœur, 1997.
[9] F. Dastur, Husserl de mathématique à l’histoire. Op. cit. p25.
[10] Husserl (E): philosophie de l’arithmétique. Op. cit. p164
[11] Husserl (E): recherches logiques tome II, livre I, p105.
[12] Husserl (E): recherches logique ibid.
[13] Husserl (E): l’idée de la phénoménologie op cit, p 48,49.
[14] Husserl (E): philosophie première (1923-1924) tome 1. critique des idées traduit par Arion Kelkel Paris PUF1990voir l’introduction
[15] Bégout (B) Husserl in introduction a la phénoménologie dirigé par Cabestan (P) Paris Ellipses 2003 p 14.
[16] Levinas ( E), de la phénoménologie à l’éthique, in revue Esprit, dossier sur Levinas n° p 122,123.
[17] Michel H, de la phénoménologie tome 1, Paris, Puf, 2003 ,p43
[18] فتحي إنقزو: هوسرل واستئناف الميتافيزيقا، تونس: دار الجنوب، 2006، ص 33.
[19] Husserl, idées directrices livre 1, voir considérations préliminaire de méthode de 63 à 75, p 209 à 241.
[20] فتحي إنقزو، المرجع السابق الذكر، ص 33.
[21] Husserl (E): philosophie première tome 1, op cit p. 164
[22] Seron D introduction à la méthode de la phénoménologie Bruxelles Boeck université 2001 p45
[23] Husserl (E):I dées directrices, op cit p 87.
[24] Seron D introduction à la méthode op cit p. 39
[25] Levinas ( E), technique de la phénoménologie, in en découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Paris, J, Vrin 1946.
[26] Depraz N, Husserl, in gradus philosophique sous la direction de Paris, Flammarion 1996, voir aussi Husserl: la philosophie comme science rigoureuse, traduit de l’Allemand par Paris, PUF, 199.
[27] J. T. Desanti: la phénoménologie sur le + Tas propos recueillis par Vincent Gérard , dossier sur la phénoménologie in magazine littéraire n° 403, Novembre 2001, p 39.
[28] Levinas ( E): dieu qui vient à la penser, Paris, J. vrin 1996, p 140.
[29] Lavigne ( J. F), la méthode de la phénoménologie, in de la phénoménologie Tome I, Michel Henry, Paris, PUF, 2003, p168
[30] Michel H, de la phénoménologie, op cit p180
[31] Seron D introduction à la méthode op cit p. 32
[32] Husserl ( H), l›idée de la phénoménologie op cit p 51.
[33] Seron introduction à la méthode …op cit p. 105
[34] Husserl (E): problème fondamentaux de la phénoménologie traduit de l›Allemand par: J-English, Paris, PUF, 1991, p 86.