قراءات في استراتيجيات التقريب
استراتيجيتا الإيسيسكو والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية نموذجاً
الدكتور علي بن مبارك*
* أستاذ جامعي من تونس، البريد الإلكتروني: benmbarek.alii@yahoo.fr
يندرج هذا العمل ضمن مشروع فكريّ يهتمّ بتجارب التقريب وما أفرزته من رؤى وتصوّرات، ولقد اخترنا الاشتغال في هذا المقال على استراتيجيات التقريب لما تمثّله من مادّة معرفية وثقافية مفيدة في تبيّن رهانات التقريب وتحدّياته، وتناولنا بالدّرس تحليلاً ونقداً وثيقتين مهمّتين حملت كلاهما عنوان «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية»، أصدرت الوثيقة الأولى[1] المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) سنة 2004م، وهي في الأصل الوثيقة التي اعتمدها المؤتمر الإسلامي الثلاثون لوزراء الخارجية. أمّا الوثيقة الثانية[2] فقد صدرت عن المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران.
ولقد مثّلت استراتيجية «الإيسيسكو» مشروعاً تبنته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وعرضته للمناقشة على المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية في دورته الثلاثين المنعقدة في طهران (مايو 2003)[3]، وقد نبّه مدير عام الإيسيسكو (عبدالعزيز بن عثمان التويجري) في تقديمه بأنّ هذه الاستراتيجية تندرج ضمن مجموعة من الاستراتيجيات[4] تبنّتها المنظّمة وعملت على تحقيقها، وهذا يجعلنا لا نتعامل مع هذا المشروع باعتباره مشروعاً معزولاً عن سياقه بل يندرج ضمن هاجس أعمّ ورؤية أشمل تبنّتها (أو هكذا يبدو) الإيسيسكو، ولكنّ السؤال الإشكاليّ الذي يراود كلّ باحث ولم نجد جواباً عنه في تقديم «التويجري» وفي مختلف أقسام «الاستراتيجية» المقترحة، يتعلّق بالعلاقة بين الاستراتيجيات المختلفة وبرصد الخيط الخفيّ الواصل بينها، فما العلاقة مثلاً بين الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي (1991م)، واستراتيجية تطوير التربية الإسلامية في البلاد الإسلامية من جهة، واستراتيجية التقريب (2003م) من جهة ثانية.
ولقد قُسِّمت استراتيجية الإيسيسكو إلى ستة فصول[5]، حاولت من خلالها أن تلمّ بكلّ ما يهمّ «التقريب بين المذاهب الإسلامية» ولكنّ القسم النظريّ التعريفيّ المتمثّل أساساً في الفصلين الأوّل والثاني هيمن على الاستراتيجية واستأثر بقرابة أربعة أخماس الكتاب، وسيكون لهذا البعد التنظيري المبالغ فيه انعكاساً على الاستراتيجية المقترحة من حيث أدائها وكيفية تطبيقها وتحويلها على سلوك اجتماعيّ.
ولئن عكست استراتيجية «الإيسيسكو» مشروعاً رسميًّا تبنته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، فإنّ استراتيجية المجمع العالمي لم تكن غير مجموعة من مقالات قدّمت في إطار المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية[6]، وهي مقالات متفاوتة من حيث الأهمية ومن حيث علاقتها بموضوع المؤتمر، وبدت لنا هذه التجربة متميّزة عن السابقة إذ ساعدنا التعريف بأصحاب المقالات على تبيّن التمثّلات الكامنة في مشروع المجمع، وهي تمثّلات وإن بدت مختلفة ومتباينة فإنّها عكست جميعها أصواتاً تتوق إلى منشود طالما شغل روّاد التقريب منذ بداياته مع جماعة التقريب بالقاهرة إلى أيّامنا هذه.
ولقد بوّب المشرفون على تنظيم المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية المداخلات المقترحة ضمن سبعة فصول[7] كانت بمثابة المحاور الكبرى، وجدير بالملاحظة أنّ النتائج العلمية التي سنخرج بها من خلال تحليل «استراتيجية» المجمع ستكون نسبية لا بدّ من تدقيقها في مستويات أخرى من البحث، وذلك أنّنا سنكتفي بالنصوص العربية وسنهمل بقية النصوص التي قدّمت باللّغة الفارسية والإنجليزية، ولعلّ الرؤية تكتمل إذا تناولنا كلّ النصوص، وهذا عسير التحقق في هذه المرحلة.
ونظراً لصعوبة تحليل كلّ ما ورد في خطاب الاستراتيجيتين فإنّنا سنحصر عملنا في قسمين نراهما أساسيين في طرح مسألة التقريب والخطط الاستراتيجية المتعلّقة بها، وسنهتمّ في القسم الأوّل بـ«طبيعة الاستراتيجية ومدى الحاجة إليها»، وسنبحث فيه كيف فُهمت الاستراتيجيات؟ وهل استجاب المحتوى المعروض لرؤية استراتيجية دقيقة؟ وكيف بدت الخطط الاستراتيجية المطروحة؟ وما هي آفاقها؟ وكيف يمكن تذليل الصعوبات المتعلّقة بها؟.
أمّا القسم الثاني من العمل سنهتمّ فيه بـ«مكانة التعليم والبحث والإعلام في الخطط الاستراتيجية التقريبية»، وفيه سنحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، لعلّ أهمّها: إلى أيّ مدى استطاعت الاستراتيجيتين مقاربة المسألة التعليمية مقاربة علمية واقعية يمكن بموجبها أن نتبيّن علاقة السائد في مجال التعليم والبحث العلميّ برهانات التقريب وأهدافه المنشودة؟ وهل استطاع واضعو الاستراتيجيتين تقديم حلول عملية لتحويل التعليم والبحث من عائق تقريبي إلى محفّز ومساند لمجهود التقريبيين؟ وكيف تمّ التعامل مع هذا الملفّ الخطير؟ وهل كان تعاملاً إجماليًّا أم تعاملاً تفصيليًّا صنّف فيه التعليم بحسب التخصّصات والمرجعيات؟ وكيف يمكن بلورة خطط استراتيجية ناجعة تتعلّق بالإعلام؟
أوّلاً: في طبيعة الاستراتيجية ومدى الحاجة إليها
تثير «الخطابات الاستراتيجية» عدّة إشكاليات تتعلّق بطبيعة هذه الخطابات وعلاقتها بخطابات أخرى ومرجعياتها، والأسس التي بُنيت عليها، والكيفية التي تشتغل بها، والمعارف التي تستند إليها، والجمهور المستهدف المعنيّ بما تتوجّه به من خطط وتوجيهات وملاحظات.
ولقد لاحظنا انتشاراً غير معهود لهذا النوع من الخطابات أفقده أحياناً خصوصيّاته البنيوية والمضمونية. ولو تتبّعنا المكتبات الإسلامية لوجدنا عدداً لا حصر له من عناوين الكتب والمقالات تتخذ لها من «الاستراتيجية» و«الاستراتيجي» شعاراً لها، ولكنّنا على مستوى التحليل لا نجد خطاباً استراتيجيًّا بمفهومه المخصوص، بقدر ما نجد حديثاً عامًّا ووصفاً للوقائع والأحداث.
وهذا يدعونا إلى التفكير في وضوح دلالات مصطلح «الاستراتيجية» وما المقصود بالخطط الاستراتيجية المطلوبة التي تطابق عنوان المحور الذي اخترنا العمل في إطاره؟ من يضع الاستراتيجيات، وما طبيعة الجمهور المستهدف المعنيّ بها؟ وما هي علاقة الاستراتيجيات بالتاريخ ووصف وقائعه وكيف تنظر إلى الحاضر والمستقبل؟ هل تقترن الاستراتيجيات دائماً بذهنية الدفاع عن الذات أم تراها تتجاوز ذلك للتكفّل بمهمّة التنوير والعقلنة؟ إلى أيّ مدى تستفيد الاستراتيجيات المقترحة من سابقاتها أم أنّها تعتمد الفصل دون الوصل؟ ما مشروعية القول بضرورة التحوّل من استراتيجيات المؤسّسات إلى استراتيجيات التأسيس بحيث يتحوّل التقريب من فصول وبنود إلى ثقافة وسلوك؟
لقد حاولنا الإجابة عن هذه الأسئلة التي تشغل كلّ باحث اطّلع على استراتيجيتي «الإيسيسكو» و«المجمع» وغيرهما من الاستراتيجيات المنشورة هنا وهناك في مجالات متعددة تتعلّق بالتقريب، واعتمدنا في ذلك سبعة مداخل قد تساعدنا على تمثّل أبعاد المحور «الخطط الاستراتيجية المطلوبة» وهذه المداخل هي:
* من الاستراتيجية إلى الخطط الاستراتيجية: الدلالات والتداعيات.
* من استراتيجيات الفصل إلى استراتيجيات الوصل: من أجل تأسيس ذاكرة تقريبية.
* من استراتيجيات الدّفاع إلى استراتيجيات التنوير.
* من استراتيجيات الخلاف إلى استراتيجيات الاختلاف.
* من استراتيجيات التأريخ إلى استراتيجيات التحديث.
* من استراتيجيات المؤسسة إلى استراتيجيات التأسيس.
* من استراتيجيات العلماء إلى استراتيجيات الخبراء.
1- من الاستراتيجية إلى الخطط الاستراتيجية: الدلالات والتداعيات
جدير بالملاحظة أنّ الحديث عن «خطط استراتيجية» منشودة كان جزءاً من أعمال المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية، وبنداً من بنود بيانه الختامي، إذا جاء في التوصية الرّابعة من البيان «في مجال التخطيط الاستراتيجي يرى المؤتمر أنّه يجب وضع الخطط المناسبة التي ترصد الآفاق المستقبلية»[8].
وهذا الكلام على بساطته يعكس مجموعة من المعاني الخطيرة، تجعلنا نتفكّر أكثر في دلالات الاستراتيجية وتداعياتها الفكرية ولإجرائية. ونتبيّن من خلال هذا النصّ القصير أنّ الاستراتيجية في الحقيقة استراتيجيات فرعية تشتغل بالتوازي لتحقق الهدف الاستراتيجي العام، وهو هدف يرتبط أساسا وربّما حصريًّا بالمستقبل ودلالاته.
ولقد حاول الشيخ محمد علي التسخيري في بحثه[9] الذي شارك به في المؤتمر، الذي كان بمثابة الاستراتيجية المقترحة من قبل المجمع، أن يحدّد هذه المستويات المختلفة فضبط دلالات «الاستراتيجية» في علاقتها بمصطلحات أخرى من قبيل: رسالة المؤسسة، الأهداف الرسمية، الآفاق المنظورة، وأكّد أنّ الاستراتيجيات لا بدّ أن تهتمّ بالمستقبل فحسب، ممّا يتطلّب «امتلاك نظرة مستقبلية» و«امتلاك قدرة تخطيطية استراتيجية تراقب العلاقة بين الإمكانيات والفرص»[10].
ورغم أنّ الشيخ التسخيري لم يكن عالم «استراتيجيات» فإنّه استطاع أن يضبط المحور الأساس لهذا التوجّه، وأن يجعل منه نشاطاً علميًّا استشرافيًّا يمكن إدراجه في إطار «الدراسات المستقبلية»، ولقد وجدنا في بعض مقالات مجلة «رسالة التقريب» ما يؤكّد هذا التوجّه، خاصّة أنّ إدارة التحرير خصّصت ملفًّا في أحد أعدادها تناول قضايا «استراتيجية التقريب»[11]، ولكنّها اكتفت بمقالات[12] مؤتمر الوحدة الثاني والعشرين أو مقالات أخرى[13] لا علاقة لها بموضوع الملفّ.
ويبدو أنّ مشروع «الإيسيسكو» الاستراتيجي اهتمّ بدوره بضبط دلالات مصطلح «استراتيجية»، فخصص الفصل الثاني للحديث عن «مفاهيم التقريب ومصادره»، وتعرّض فيما تعرّض لمفهوم الاستراتيجية لغة واصطلاحاً، فهي من حيث بنيتها اللغوية «تعني فن الإعداد والترتيب للوسائل التي يجب الأخذ بها في قيادة الجيوش»، ويقصد بها اصطلاحاً، «عبارة عن خطة عمل الغرض منها الوصول إلى نتائج سريعة وفاعلة، في إطار طرق العمل والوسائل المحددة، بغرض تحقيق أهدافها المتوخاة، أخذاً بعين الاعتبار الإمكانيات المتاحة، والظروف المحيطة، والموانع والعوائق المحتملة، وبغرض اختيار البدائل المحققة للأهداف»[14].
ولئن كانت ثنائية المدخل اللغوي والاصطلاحي مفيدة في تناول قضايا أخرى، فإنّه من غير المفيد اعتمادها في هذه المسألة؛ لأنّ هذا المصطلح ذو جذور أجنبية، وكان من الأفضل البحث عن تاريخية هذا المصطلح كما تجلّى في الفضاء الأوروبي، ولئن كان المفهوم المقترح غير دقيق فإنّنا نستنتج منه وعي واضعيه بأهمية الرؤية المستقبلية في وضع الاستراتيجيات، وبضرورة تحويل الاستراتيجية العامة إلى «مجموعة الأسس والمبادئ والخطوط العامّة التي تقود عمليات التقريب بين المذاهب الإسلامية لتصل بها إلى غاياتها المقصودة»[15].
وكأنّ مقاربة «الإيسيسكو» أدركت بدورها أهمية تحويل الاستراتيجية إلى خطط استراتيجية تنفصل وتتصل في الآن ذاته، وهذا الوعي مفيد ولكنّه لم يتأسّس تأسّساً علميًّا محكماً لمحدودية الاستفادة من بقية التجارب العالمية فيما يتعلّق ببقية الأديان والحضارات، والتقريبية فيما يتعلّق بتجارب التقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة.
2- من استراتيجيات الفصل إلى استراتيجيات الوصل: من أجل تأسيس ذاكرة تقريبية
إنّ تاريخ العلم يقوم أساساً على النقد والتواصل، فلا بدّ لكلّ مشروع يحمل رؤية ويقترح حلولاً أن يمرّ بمجموعة من المراحل تتمثّل في النقاط التالية:
- دراسة الموجود وتجميع كلّ التجارب التي تحققت في الاختصاص نفسه، ونقصد في هذا الإطار التجارب التقريبية.
- تفكيك هذه التجارب وتحليلها وتبيّن نقاط قوتها ونقاط ضعفها.
- توثيق هذه التجارب وما تعلّق بها من ملاحظات نقدية واعتمادها مراجع يستند إليها المشروع المقترح.
- صياغة المشروع بما هو تواصل لمجهودات السابقين.
وتدفعنا هذا الملاحظة إلى طرح سؤال خطير: إلى أيّ مدى اعتمدت استارتيجيتا التقريب على قراءة علمية عميقة في «التراث التقريبي» منذ بداياته مع جماعة التقريب إلى الآن؟ وهل نسمع ونحن نقرأ نصوص الوثيقتين أصوات رواد التقريب بمختلف توجّهاتهم الفكرية ورؤاهم التقريبي؟ هل نحن بصدد خطط استراتيجية تقوم على الفصل أم الوصل أم على كليهما معاً؟
لقد لاحظنا من خلال اطلاعنا على أدبيات التقريب المعاصرة في مختلف نماذجها أنّها لا تستحضر تجارب السّابقين إلَّا فيما ندر، ولذلك كثيراً ما نجد أفكاراً يطرحها اليوم باحثون ومفكرون قد تناولها رواد التقريب الأوائل، عرضاً وتحليلاً ونقداً بطريقة أكثر وضوحاً أحياناً من المعاصرين، ولذلك لا يمكن التقدّم معرفيًّا وعلميًّا في مجال «التقريب» دون تمثّل آراء الروّاد الأوائل، وأخص بالذكر أعلام «جماعة التقريب»[16] بالقاهرة، الذين استطاعوا طرح قضايا التقريب بجرأة وطرافة ورؤية «استراتيجية» تستحقّ المتابعة والتدقيق.
ولئن تنبّهت استراتيجية «الإيسيسكو» لأهمية الوصل مع من سبق فإنّ سلّم الأولويات كان مختلًّا عندها، ففي فصلها الأوّل «فقه الاختلاف وجهود التقريب بين المذاهب الإسلامية»[17] تعمّقت الاستراتيجية في الحديث عن «الاختلاف بين الطوائف الإسلامية» قديماً، معتمدة مجموعة من الأحاديث في أهمية «التوحيد والائتلاف» مركزةً على «احترام السلف لآراء المخالف» وضرورة «المحافظة على الأخوة مع اختلاف الآراء»، كما سردت في إطار حديثها عن «جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية» بعض الأخبار المتعلّقة بالسلف في عصر الصحابة وأئمة المذاهب وصولاً إلى تجربة «الجامعة الإسلامية» و«جماعة التقريب» ومؤسسة آل البيت والمجمع العالمي ومؤسسة الإمام الخوئي و«الإيسيسكو»، ولقد كان الحديث عن التجارب المعاصرة وخاصّة تجربة «دار التقريب بالقاهرة» متسرّعاً ومختزلاً لا يفي بالحاجة ولا يعطي تلك التجارب حقّها.
ولم تكن مقالات مؤتمر الوحدة الثامن العشر المتعلّق بـ«استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية» أفضل حالاً من استراتيجية «الإيسيسكو»، فأغلب المداخلات لم تقف عند التجارب التقريبية السابقة ولم تحاول استثمار «الذّاكرة التقريبية» التي تأسست بفضل مجهودات جمّة، وفي أحسن الأحوال يقوم البحث بتعريف «جماعة التقريب» أم «تجربة تقريبية» أخرى دون الوقوف عند بنيتها الفكرية وتمثّلاتها لقضايا التقريب وخططها لتجاوز الصعوبات والعراقيل.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا التوظيف للذاكرة التقريبية سيكون مفيداً في صياغة «الخطط الاستراتيجية المطلوبة لمواجهة التحديات اليوم حتّى لا نقع في التكرار واستنزاف الطاقات الذهنية والبشرية، وفي هذا الإطار تحدث عبد الرحيم محمد علي بن سلامة في مداخلته «قضايا التقريب بين المذاهب الإسلامية وأهميته: ماضياً وحاضراً ومستقبلاً»[18] عن «دار التقريب بالقاهرة» و«المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران» وندوات «الإيسيسكو»، كما حاول محمد الدسوقي في مداخلته «قضية التقريب بين النظر والتطبيق»[19] الوقوف عند بعض تجارب التقريب في مصر.
ولقد حاول الشيخ محمد علي التسخيري أن يعطي هذه التجارب حقّها فخصّص مبحثاً من مداخلته[20] بعنوان «نبذة عن محاولات وتجارب سابقة لتنظيم استراتيجية للتقريب بين المذاهب الإسلامية»، تعرّض فيه لتجربة «دار التقريب» في القاهرة إذ «يلمح المرء الكثير من المعالم في هذه التجربة الرّائدة وإن لم تكن خطوط الاستراتيجية واضحة تماماً»[21]، ولقد أكّد الشيخ التسخيري أنّ البيان الأوّل للجماعة تناول بوضوح «الأسس التي يقوم عليها التقريب».
وهذا يعني فيما يعني: لا يمكن لنا أن نتفكّر اليوم في خطط استراتيجية تقريبية دون استثمار ما توصل إليه السابقون في هذا المجال، وعلى هذا الأساس حاول الشيخ التسخيري أن يقف أيضاً على تجارب أخرى من قبيل «الميثاق التأسيسي للعلامة شمس الدين» وتجربة «مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية» وتجربة «الإيسيسكو» العلمية. ولئن عمل الشيخ التسخيري على إعطاء كلّ تجربة حقّها فإنّ المجال البحثيّ الضيّق الذي قدّم فيه المداخلة لم يسمح له بمزيد التعمّق، ولكنّنا يمكن أن نستفيد من كتابه «لمحات من فكر بعض الشخصيات التقريبية»[22]، وكذلك من السلسلة التي أشرف عليها تحت عنوان «رواد التقريب»[23].
لقد أردنا من خلال هذا المبحث أن نؤكّد حاجة التقريب لذاكرة تقريبية؛ إذ من غير المنطقيّ أن يتجاهل واضعو الاستراتيجيات أو الخطط الاستراتيجية للتجارب السابقة في مجال اختصاصهم واهتمامهم، ولأنّنا نعتبر التقريب مشغلاً ثقافيًّا معرفيًّا بدرجة أولى فإنّنا نؤكّد ضرورة اعتماد المنهج العلميّ القائم على الوصل والنقد والتجاوز، فلا علم من عدم، ولا معرفة دون أسس ومرجعيات، ولا مستقبل دون ذاكرات.
3- من استراتيجيات الدّفاع إلى استراتيجيات التنوير
لقد لاحظنا ونحن نباشر نصوص «الاستراتيجيتين» أنّ مقولة «المؤامرة» تكاد تحضر بوجوه مختلفة في مختلف الفصول والأقسام، وكأنّ الهدف من وضع «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية» هو التصدّي لمؤامرة يدبّرها الآخر ويرمي من خلالها إلى تدمير الأمّة وضرب وحدتها، وقد خصصت استراتيجية «الإيسيسكو» مبحثاً تحت عنوان «كيد الأعداء لتمزيق صفوف المسلمين»[24] جاء فيه «إنّ أعداء الإسلام الذين اجتمعوا على محاربته في مختلف البلدان، لم تفرّق بينهم مسافات الخلاف الداخلية أو الخارجية في محاولاتهم تدميره، وتحويل أهله عنه بكلّ وسيلة ظاهرة أو خفية، اتفقوا وتوافقوا على كل هذا، وهم لا تجمعهم عقيدة صحيحة، ولا أخوة إيمانية صادقة، ولا كتاب سماوي حق، ولا رسول كريم يؤمنون به، فوحدت بينهم عدواتهم للإسلام»[25].
وهذا الكلام خطير لعدّة اعتبارات، فصاحبه لم يحدّد من هم «أعداء الإسلام» ممّا يفتح باب التأويل على مصراعيه، والتأويل درجات بحسب ثقافة المؤول ومستواه العلمي وحسّه النقدي، فقد يؤوّل بعضها الكلام فيذهب أنّ عدوّ المسلمين الغرب كلّه أو بقية الديانات أو النظريات الغربية المختلفة...إلخ.
وقد ينتج عن هذه التأويلات المختلفة صراع خفي وربّما مصرّح به بين الحضارات والثقافات، فهل يعني ذلك أنّ التقريب بين المسلمين هو هجر الآخر ومعاداته؟ هل يعني ذلك أنّ استراتيجيات التقريب ظلّت استراتيجيات دفاعية تدافع عن نفسها ضدّ عدوّ متآمر يترصّدها في السرّ والعلانية؟ ألم يتحوّل الآخر المتآمر إلى شمّاعة نعلّق عليها أخطاءنا وسلبياتنا، ونواري من خلالها نقائصنا ونزيّن بها فشلنا وضعف خططنا؟
ليس من السهل أن نقبل بهذه الحقيقة، لأنّ التقريب في أغلب تجاربه المعاصرة يبني خطابه على فرضية المؤامرة، فيستنفر لها الذّاكرات، ويحذّر الجمهور المتلقّي من مظاهرها وتداعياتها، وهذا ما يتجلّى بوضوح في مقال عبد العزيز بن عثمان التويجري «التقريب: مفاهيمه وأهدافه»[26] الذي شارك به في المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية، فأكّد أنّ «قوى معادية تكالبت على ضرب الحصار حول العالم الإسلامي لإضعاف بنيانه، واستنزاف إمكانياته، وهدر قدراته، والدفع به في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ المتصاعدة»[27]، واحتجّ في ذلك بأنّ «المتأمّل في هذا التاريخ الممتدّ يجد أنّ ثمّة عوامل خارجية دفعت إلى تأجيج الصراع، وإذكاء العداوة البغضاء وإضرام نيران الفتن، تحت مسمّى الصراع بين السنة والشيعة»[28].
وعلى هذا الأساس فإنّ «المؤامرة» باقية لا تزول ما دام للمسلمين عدوّ يتربّص بهم «ولعلّ مقولة (التاريخ يعيد نفسه) تصدق في زماننا هذا، فها هي القوى الباطشة المهيمنة المحتلة للأرض والغازية للعقل، والمستبدّة بالباطل بمصائر الشعوب، تسعى جاهدة لإيقاظ الفتنة وبث روح الفرقة بين المسلمين»[29].
ويمكن لنا من خلال هذا الشاهد النصّي، أن نتبيّن بعض ملامح الاستراتيجيات التقريبية المقترحة، فهي تسعى إلى التقريب بين المسلمين وتحبيب بعضهم في بعض من خلال استنفار الذاكرة التاريخية، بما هي ذاكرة صراع بين الإسلام في عمومه والعدوّ المتربّص به في كلّ الأزمنة، وهذه الخطّة الاستراتيجية قد تكون مفيدة في استنفار الجماهير وتعبئتهم وتحميسهم للمشروع التقريبي، بما هو مشروع دفاع عن الأمّة، ولكنّها من جهة ثانية، تحول دون تشخيص حقيقي لأمراض الأمة ومشاكلها، ودون تبيّن مشاكل التقريب وصعوباته كما تتجلّى في الواقع التاريخي، وكما يعيشها المهتمون بالتقريب.
إنّنا لا ننفي وجود خطط غربية لتقسيم المسلمين واستنزاف ثرواتهم ومواردهم وتحويلهم إلى سوق استهلاكية كبرى، فهذا أمر بديهيّ يعكس طبيعة التفكير الرأسمالي القائم على التوسّع والاستغلال، ولقد خصّص مجموعة من الباحثين عدّة كتب ودراسات تتعلّق بهذه المسألة، ولكنّا نحترز من تحويل خطط الغرب إلى سبب محوري في تخلّفنا وتشتتنا وجهلنا، والحال أنّ الأمر متداخل متشابك فجهلنا وضعفنا واحترازنا من بعضنا وسوء تعامل بعضنا والبعض، كلّ ذلك يسّر نجاح الغرب في تمرير مشاريعه وتحقيق استراتيجياته.
وعلى هذا الأساس لا بدّ أن نتحلّى بمزيد من الجرأة والشجاعة والنقد الذاتي، حتى نعترف أنّ المشكل يكمن أساساً في ذواتنا ويعيش داخلنا، وعليه لا بدّ من حلّ القضايا العالقة في ثقافتنا الإسلامية، ومراجعة الأسس التي بنيت عليها، وأن نتحوّل لا فحسب من ثقافة «الكفر والإيمان» إلى «ثقافة الصواب والخطأ» كما جاء في الاستراتيجيتين، بل إلى «ثقافة» كلّ إبداع فيه صواب، وهنا نجد أنفسنا في ثنائية الخلاف والاختلاف التي أرّقت القدامى والمحدثين على حدّ سواء.
4- من استراتيجيات الخلاف إلى استراتيجيات الاختلاف
عملت استراتيجية «الإيسيسكو» للتقريب بين المذاهب الإسلامية على الحدّ من ظاهرة الاختلاف، ولكنّها في الآن ذاته تشرّع للاختلاف المحمود، وهذا المنزع قديم جديد؛ إذ أظهر عدد كبير من الأصوليين والفقهاء والمفسرين، تخوّفاً من ظاهرة الاختلاف وكان الهاجس دائماً التقليص من هوّة الخلاف، وفي هذا الإطار عملت الاستراتيجية في سياق ما طرحته من «أسس فكرية وعلمية للتقريب» على «تأكيد نقاء الشريعة الإسلامية، وخلو مصادرها الأساس من الاختلافات الفكرية المناقضة لأساس الشريعة والعقيدة»[30]، وأبدت تخوّفها من اتساع «رقعة الاختلافات»[31].
واقترحت لتجاوز الأزمة «البحث عن صيغ فكرية تنتقل بمسائل الخلاف من «خانة الأصول» التي يؤدي الخلاف حولها إلى «كفر وإيمان» إلى «خانة الفروع» التي معايير الاختلاف فيها هي «الخطأ والصواب» ميدان أساس للتقريب»[32].
كما دعت إلى «جمع كلمة المسلمين ووحدة صفوفهم وتضييق هوة الاختلافات المذهبية»[33]، ولكنّها من جهة ثانية ترى أنّ «المفهوم العملي للتقريب في هذه الاستراتيجية لا يعني بأيّ حال إلغاء المذاهب أو إلغاء الاختلاف»[34].
وهذا الاضطراب على مستوى تحديد الاستراتيجية المناسبة لمعالجة مسألة اختلاف قراءات المسلمين الفكرية والفقهية، نجده بأشكال أخرى في استراتيجية «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية»؛ إذ أكّد إدريس هاني عدم أصالة الاختلاف في العصر الإسلامي الأوّل، عندما كانت الأمّة « يغلب اتفاقها على اختلافها وتماسكها على تفرقها»[35]، ولكنّه من جهة ثانية يقرّ أهمية الاختلاف العلمي بين المسلمين الذين استطاعوا «إنشاء مدارس متنوعة في شتى العلوم الإسلامية... فبهذا المعنى يكون الاختلاف العلمي رحمة بما يستدعيه من مواسعات علمية، وتنوعات في الآراء الاجتهادية، إغناء للفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية»[36].
ورغم هيمنة الأصوات الداعية إلى استبدال ثنائية «الكفر والإيمان» بثنائية «الخطأ والصواب» في مجال الاختلاف الاجتهادي، فإنّنا نجد من يطمح إلى أكثر من ذلك، ويرى أن للحقيقة وجوهاً عدّة، وأنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده، ولا فضل لمجتهد على آخر، ولقد وجد هاني إدريس في صدر المتألهين الشيرازي، وهو يتحدث عن الفكرين الأشعري والشيعي، صوتاً يعبّر عن «صدق النظريتين معاً؛ حيث أعلن بينهما ضرباً من المصالحة»[37].
لا بدّ في وضع خطط استراتيجية تقريبية، أن نحسم دون تردّد واضطراب، وأن نؤسّس للاختلاف المطلق دون مجاملات وتصنّعات، فرحمة الله تسع كلّ خلقه، والحقيقة كلّ كيف قاربها وعبّر عنها، والنصّ التأسيسي ملك رمزيّ لجميع المسلمين وغيرهم، وكلّ له حقّ التأويل والفهم دون وصاية الأوصياء ووساطة الوسطاء، فبأيّ حقّ نصنّف الاجتهاد في فهم النصّ إلى «خطأ» و«صواب»، وبأيّ حقّ نأسر الاختلاف بهذه الثنائية التي تعكس دوماً مركزية مذهبية ووهماص بامتلاك الحقيقة دون بقية المسلمين.
ولقد وجدنا في كتب التراث، ما يؤكّد هذه الوجهة، وهو ما لم نجده عند المعاصرين أنفسهم، وفي هذا الإطار أكّد بدر الدّين الزركشي صاحب «البرهان في علوم القرآن» في مواضع متعددة من كتابه قابلية القرآن لتقبّل كلّ التفاسير والتأويلات، فنجده يقرّ منذ مقدّمة كتابه على لسان سهل بن عبدالله أن «لا نهاية لفهم القرآن»[38]؛ إذ في عملية تفسير القرآن «تتفاوت الأذهان وتتسابق في النّظر إليه مسابقة الرّهان»[39].
وهذا يعني أنّ مسألة الاختلاف مسألة تأويلية بالأساس، ممّا يدفعنا إلى التفكير الجدّي في صياغة خطّة استراتيجية جذرية، ننتقل فيها من ثقافة الخلاف بما هو جدل وبحث عن الحجج والإقناع، إلى ثقافة بديلة تقوم على الاختلاف، وتحافظ عليه ولا تخاف منه، وهذه الثقافة البديلة لا تعيش مع ذهنية التخطئة والتصويب والوصاية ونفي الحقيقة عن المخالف في الملّة، وبهذا المعنى يكون الاختلاف رحمة للخلق، وانتصاراً للشرع والإنسان في الآن ذاته، وانعكاس طبيعيّ لرهانات التاريخ وحاجياته.
5- من استراتيجيات التأريخ إلى استراتيجيات التحديث
شدّ انتباهنا هيمنة المدخل التاريخي على الاستراتيجيتين، فتحوّلت «استراتيجية التقريب» في أغلب الأحيان من استشراف للمستقبل، وحديث عن المنشود، إلى نقل لأخبار القدامى وقصصهم واختلافهم وعدلهم، وكان يمكن -في إطار استراتيجي- القبول بنبذة قصيرة، ولكن أن يتحوّل العمل إلى استرجاع للماضي البعيد، وبحث عن حلول عند القدامى، فهذا أمر لا يتماشى مع الفهم الاستراتيجي للمسألة.
وجدير بالملاحظة أنّ استراتيجية «الإيسيسكو» ركّزت كثيراً على هذا المدخل التأريخي، ممّا استأثر بالجزء الأكبر من الكتاب، كما ركّزت بعض مداخلات مؤتمر الوحدة الثامن عشر على هذا المدخل، فتحدّث عبدالكريم بي آزار الشيرازي عن «تاريخ تشكيل المذاهب الإسلامية وأسباب اختلاف الفقهاء»[40]، وتحدّث الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني عن «التقريب بين المذاهب الإسلامية على ضوء الكتاب والسنّة والاجتهاد الشامل»[41]...
وقد بيّنا في مستهلّ هذا البحث، أنّ الاستراتيجية تفكّر أساساً في المستقبل، فالماضي ليس سوى لحظة عابرة، نعتبر بها، وما الحاضر إلَّا لحظة انطلاق إلى المستقبل، وقاعدة نبني عليها منشودنا، وعلى هذا الأساس لا بدّ لمن يضع خططاً استراتيجية، أن يتحرّر من أسر الماضي، وأن يخترق الحاضر بنظراته المستقبلية، واستشرافاته الاستراتيجية.
وعلى هذا الأساس أصبح من المشروع الحديث عن تحوّل من استراتيجيات التأريخ والبكاء على الأطلال، إلى استراتيجيات تحديثية تحقق التنمية، وتذلّل الصعوبات، التي اعترضت التقريب وما زالت تعترضه.
وحتّى تساهم استراتيجيات التقريب في تحديث العقل الإسلامي، لا بدّ أن تنفتح على الواقع ومشاغل الإنسان الحقيقية، وأن تدرج التواصل الإسلامي - الإسلامي ضمن مشغل أعمّ يتعلّق بالإنسان عامّة، ولذلك لا غرابة أن نجد بيان المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية يدرج بنداً في بيانه الختاميّ يتعلّق بـ«تشجيع الحوار بين الثقافات وأتباع الأديان».
وهذا يعني أنّ التقريب يتجاوز عند روّاده هموم الإنسان المسلم ليشمل هموم البشرية، فالحوار مع الذات لا يمكن فصله عن الحوار مع الآخر[42]، واحترام الغير في مواقفه وأفكاره وطقوسه يشمل المسلم وغير المسلم، ويمكن لمن يقرأ أدبيات تجربة «دار التقريب» بالقاهرة أن يلاحظ هذا المنزع في مقاربة المسألة.
6- من استراتيجيات المؤسسة إلى استراتيجيات التأسيس
يرى بعض النقّاد أنّ ضعف الحركة التقريبية المعاصرة، يكمن في عزلتها وابتعادها عن هموم الشارع ومشاغل النّاس، فهي في أحسن الأحوال ندوات تعقد هنا وهناك، أو كتابات يتداولها نخبة من المثقفين، دون أن تصل إلى كلّ فئات المسلمين، وهذا الرأي يعكس بطريقة أو بأخرى أزمة تعيشها استراتيجيات التقريب؛ لأنّها لم تستطع أن تتجاوز «استراتيجيات المؤسسة» إلى «استراتيجيات التأسيس» بما هي استراتيجيات تشمل كلّ عنصر من عناصر المجتمع، مهما كان اهتمامه أو اختصاصه أو جنسه أو مكانته الاجتماعية.
وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نطرح مجموعة من القضايا الفرعية تتعلّق بثقافة التقريب، ونقصد بها تحوّل هاجس التقريب من موضوع حوار يعقد في المؤتمرات والملتقيات أو مقال ينشر في مجلّة أو كتاب، إلى ممارسة ثقافية يكتسبها الطفل منذ تكوينه الأوّل وتلازمه في المدرسة والجامعة والعمل، ويستحضرها في نشاطه العلمي والإبداعي والاجتماعي، وتتحوّل بموجب ذلك إلى جزء من شخصيته، وعلى هذا الأساس يصبح احترام المخالف في المذهب والفكر سلوكاً تلقائيًّا، لا من باب التصنّع والمجاملات كما نلحظه اليوم عند كثير من الناس.
إنّ فضل المؤسسات التقريبية كما هو حال «الإيسيسكو» و«المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية» يكمن أساساً في تنظيم الندوات وإصدار الكتب والمجلَّات، وهذا عمل مفيد، ولكنّه لا يكفي، فما فائدة كتاب لا يُقرأ أو ندوة ظلّت حبيسة قاعة الاجتماعات، إنّنا لا نبالغ إذا قلنا: إنّ الباحث في مجال التقريب بين المذاهب الإسلامية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي يجد صعوبات كبيرة في الحصول على أدبيات التقريب في تجاربها المختلفة، وربّما كلّفه الحصول على بعضها السفر وبذل الجهد والمال.
ولذلك نقترح أن تكون الخطط الاستراتيجية المطلوبة لمواجهة التحديات المتعلّقة بالتقريب، خططاً تأسيسية بامتياز تفكّر في جميع الفئات وكلّ المجالات، وتنظر في أيسر السبل لإيصال التقريب ثقافةً ورؤية إلى كلّ من يهمّه أمر التقريب.
7- من استراتيجيات العلماء إلى استراتيجيات الخبراء
انتابتنا ونحن نقرأ نصوص الاستراتيجيتين عدّة أسئلة من قبيل من هو واضع هذه الاستراتيجية أو تلك وهل هو أهل لذلك؟ ومن يفترض أن يساهم في وضع الخطط الاستراتيجية؟ هل هذا العمل حكر على علماء الدين والباحثين في مجال الفكر الإسلامي أم تراه يتجاوز ذلك ليشمل عدّة خبرات في مختلف المجالات؟ هل يشرّع ذلك لاستبدال واضعي الاستراتيجيات السابقة بشريحة جديدة من المهتمين بوضع استراتيجيات التواصل والتعارف؟...
إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ممّا لم نطرح، لا يمكن أن يتحقّق اعتماداً على وثيقة «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية» الصادرة عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وذلك لعدم معرفتنا بواضعي هذه الاستراتيجية، ولقد حاولنا التعرّف على ذلك من خلال الاتصال بالمنظمة ولكنّنا لم نلق أيّة إجابة، ولكن يبدو من خلال بنية ما عرض وكذلك من خلال المحتوى الذي قُدّم في هذه الاستراتيجية أنّ أصحابها علماء دين أو باحثين في مجال الإسلاميات، إذ لا نجد أثراً لخبراء الاستراتيجيات والدراسات المستقبلية وعلم الاجتماع والإحصائيات وعلماء النفس والأنثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، كما لا نتحسّس وجود رافد لسانيّ أو آلية من آليات تحليل الخطاب، وهذا التغييب جعل الاستراتيجية ضعيفة الأداء معزولة عن سياقها التاريخي الكوني.
ولئن هيمن صوت العلماء ودارسي الإسلام على استراتيجية المجمع أيضاً، فإنّنا نجد فيها أصواتاً متميّزة كما هو حال مداخلة الشيخ محمد علي التسخيري[43] الذي عمل قصارى جهده ألَّا يتناول المسألة من منظورها التقليدي، فضبط الخصائص الفنية للاستراتيجية، وتحدّث عن مكوّناتها ومقوّماتها والسياسات الممكنة لتحقيق أهدافها، ويبدو أنّ الشيخ التسخيري استفاد من بقية العلوم والمعارف، واعتمد مرجعية تتجاوز مرجعية علماء الديّن، وهذا توجّه مفيد وإن كان محدوداً لا نكاد نجده إلَّا عند عدد قليل من الباحثين المساهمين بمقالات في مجلّة «رسالة التقريب».
ويمكن أن نذكر مثالين عن ذلك، يتمثّل المثال الأوّل في مقال محمد رضا رضوان طلب[44] «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية»[45]، وفيه تعرّض لمفهوم الاستراتيجية كما تجسّد في الثقافة الغربية من خلال عدّة علوم ومعارف، وبيّن وجوه الاستفادة من النظريات الاستراتيجية المتاحة. أمّا المثال الثاني فيتمثّل في مقال عزت جرادات «نحو التكامل في العمل الإسلامي التعليمي.. آفاق مستقبلية (دراسات ومقالات)»[46]، وفيه حاول أن يتناول المسألة التعليمية تناولاً استراتيجيًّا مستحضراً أهمّ البرامج العربية والإسلامية.
إنّ ضبط الأطراف الفاعلة والمستفيدة من «الخطط الاستراتيجية» المزمع إنجازها وتطبيقها، أمر مهمّ لأنّه يجعل من الفعل الاستراتيجي أكثر نجاعة وواقعية، ولذلك لا بدّ أن نتجنّب العموميات وأن نصرّح دون تلميح بالمعنيّ من «الخطاب الاستراتيجي»، فحديث وثيقة «الإيسيسكو» في فصلها الرّابع المتعلّق بميادين التقريب بين المذاهب عن أهمية «اللقاءات الفكرية والعلمية بين قادة الرأي والعلماء والمفكرين والفقهاء الشرعيين»[47] يجعلنا نتساءل: ما المقصود بالعلماء والفقهاء والمفكرين وقادة الرأي؟ وما الفرق بين هذه النماذج المختلفة؟ وهل أنّ التقريب يهمّ هذه الفئات فحسب، أم تراه يتجاوز ذلك ليشمل الجامعيين والأدباء والمسرحيين والسينمائيين والإعلاميين والمشرفين على الجمعيات والمنظمات الحكومية والأهلية ورجال التعليم وخبراء التربية والاتصال والتكنولوجيا والمهتمّين بالإحصائيات والأعمال الميدانية وغيرها من الميادين المفيدة التي يضيق المجال بذكرها.
وقد لاحظنا أنّ ما يعرض من أشرطة سينمائية أو أمسيات موسيقية أو عروض تشكيلية أو معارض كتب في بعض البلدان الإسلامية، قد يحقّق من التقريب ما لا تحقّقه موسوعات في الفقه أو مجلّدات في التفسير، وفي هذا الإطار تندرج على سبيل المثال بعض الأمسيات الموسيقية الإيرانية والباكستانية والتركية... التي عرضت عدّة مرّات بتونس وخاصة هذه السنة في إطار الاحتفال بالقيروان عاصمة الثقافة الإسلامية، وقد أقبل عليها الناّس بكلّ فئاتهم وبصفة ملحوظة، وتابعوها بكلّ جدية، وتواصلوا معها، أليس في ذلك تعارف وتقارب؟ وهل استطاع فقه التقريب أو تقريب الفقهاء أن يستقطب ما استقطبه الإبداع في هذا السياق المخصوص؟
إنّنا لا ننتقص في هذا الطرح من مجال معرفيّ دون آخر، ولكنّنا نؤكّد أنّ كلّ مجال له روّاده وجمهوره، وعلى واضعي الخطط الاستراتيجية المتعلّقة بالتقريب، أن يستجيبوا لحاجيات مختلف الفئات الاجتماعية، وأن يشركوا معهم في بلورة تصوّراتهم الاستراتيجية ومتابعتها الخبراء الممثّلين عن مختلف العلوم والفنون، حتّى ننتقل بجدّ ودون تردّد من استراتيجيات العلماء إلى استراتيجيات الخبراء.
نخلص في نهاية هذا المبحث، إلى القول بأنّ استراتيجيتي «الإيسيسكو» و«المجمع العالمي» كانتا بادرتين جيّدتين في تحويل التقريب من مجرّد هواجس وأفكار مشتتة إلى رؤية متكاملة خاضعة لتصوّر استراتيجيّ، وكانتا منطلقاً مشروعاً للحديث عن خطط استراتيجية تفرضها التحديات المعاصرة، ولكنّ التجربتين لم تخلوا من نقائص لا يمكن التقدّم في مجال التقريب إلَّا بتذليلها والعمل على تجاوزها، وعلى هذا الأساس تجنبنا المجاملات واعتمدنا آلة النقد البنّاء الذي به تتواصل المعارف، وبه أيضاً يستقيم العمران.
ثانياً: مكانة التعليم والبحث العلمي والإعلام
في الخطط الاستراتيجية التقريبية
لا نبالغ إذا اعتبرنا «التعليم» و«البحث العلمي» و«الإعلام» من أهمّ الآليات التي تساعد على إنجاح التقريب بين المسلمين أو تشتيتهم وتنفير بعضهم عن بعض، وهذه الثلاثية متداخلة يكمّل بعضها بعضاً، وهي تعكس في مجموعها وضعاً حضاريًّا يعيشه العالم الإسلامي، وأزمة تمرّ بها مؤسّساته.
1- في رهانات التعليم: من استراتيجيات التعليم إلى استراتيجيات التعلّم
انتبه رواد التقريب منذ البدايات إلى أهمية التربية على التقريب والتعدد والاختلاف والحوار، فأكّدوا على إصلاح التعليم ومناهجه وخاصة التعليم الديني[48]، ولا يمكن في إطار البحث عن الخطط الاستراتيجية المتعلّقة بالتقريب، أن نهمل هذا المدخل الأساس، ولئن اكتفت استراتيجية «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية» بتلميحات في بيانها الختامي الصادر عن المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية، فإنّ استراتيجية «الإيسيسكو» حاولت التعمّق أكثر في هذا المدخل التربويّ.
لقد أكّد بيان مؤتمر الوحدة الثامن عشر في بعض بنوده على ضرورة الاهتمام بالتعليم الجامعي أساساً، ودعا إلى «التكامل بين المؤسسات التعليمية»[49]، والاهتمام بصفة مخصوصة بـ«الدراسات المستقبلية الطويلة الأمد لترفد مسيرة الأمّة بما يوضح لها مسيرتها»[50].
ونجد لهذه الإشارات الموجزة صدى على مستوى المداخلات التي قدِّمت في المؤتمر، وفي هذا الإطار دعا إدريس هاني[51] في مقاله «المواسعة والمسامحة: آليتان في تدبير الخلاف، من أجل استراتيجية للتقريب بين المذاهب الإسلامية»[52] إلى «مزيد الاهتمام بالبرامج التعليمية وإصلاح تكيف التعليم الإسلامي في العالم الإسلامي مع متطلبات التقريب بين المذاهب»، وهذا عنده «يستند إلى تقنيات تربوية متقدمة... بحيث تدرس مادة التقارب بين المسلمين إلى جانب دراسة المذاهب الإسلامية المقارنة»[53].
وكما نلاحظ فإنّ إدريس هاني ركّز في طرحه على التعليم العالي الديني، ولكنّ هاجس التقريب يتجاوز التعليم العالي فقط ولا يقف عند حدود مؤسسات التعليم الديني وبرامجه، بل يشمل كلّ مستويات التعليم ومختلف المجالات المعرفية، فالطفل منذ نشأته يتأثر بمحيطه العائلي ثم المدرسي والثانوي، وإذا لم يتلقّن في هذه المرحلة أدب السّماع إلى الآخرين وحسن الحديث مع من يحاوره، عدم التعصّب لرأيه، والأخذ برأي الآخرين إذا كان مفيداً... فإنّه من الصعب في مراحل متقدّمة من التعليم، أن يتمثّل هذه القيم الأساسية في التواصل مع الآخرين وتحقيق العيش المشترك معهم.
وعلى هذا الأساس لا بدّ أن نراجع كلّ برامج التعليم منذ مراحله، وأن نجعل من «ثقافة الحوار» جزءاً لا يتجزّأ من تكوينه المعرفي والسلوكي والثقافي والمنهجي، ولقد أكّد محمد مهدي التسخيري في مقاله «المحاور الاستراتيجية للتقريب»[54] على هذه المسألة، ورأى أنّ البعد التقريبي لا بدّ أن يشمل كلّ مراحل التعليم بداية من التعليم الابتدائي وصولاً إلى الدراسات العليا[55].
وفي الإطار نفسه دعت استراتيجية «الإيسيسكو» إلى الاهتمام بـ«الجامعات والمعاهد ومدارس التعليم مجتمعة ومنفردة»[56] حيث «تبنى فيها عقول الناشئة وفيها تتكوّن مدارك الأجيال»[57].
وهذا التصريح يعكس بوضوح وعي المنظّمة بخطورة المسألة التعليمية ودورها في تحقيق التواصل بين المسلمين، أو تنافرهم بحسب طبيعة البرامج والأهداف المتعلّقة بها، واقترحت المنظّمة في إطار بعث هيئة تابعة الإيسيسكو هيكليًّا وتنظيميًّا، ترعى شؤون التقريب في مراكز تجمعات المسلمين مجموعة من المهام يتعلّق بعضها بالمشغل التعليمي من قبيل:
- «إدماج مادة (ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية) في كلّ مناهج المراحل التعليمية»[58].
- «دعوة الكليات والجامعات الإسلامية لتطوير مناهجها ومقرراتها وفتح آفاق معرفية جديدة، تتمثل في توسيع الدراسات الإسلامية العليا وتطويرها في إطار التقريب»[59].
ويمكن لنا أن نلاحظ من خلال هذين المقترحين أنّ «الإيسيسكو» عملت من خلال هذه الاستراتيجية على توعية أصحاب القرار في المجال التربوي بأهمية إدراج مادة «ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية» في مختلف مراحل التعليم، ولكنّنا لا نجد تصوّراً تربويًّا مضبوطاً يؤطّر هذا المقترح.
فما المقصود تربويًّا بمادة ثقافة التقريب؟ هل ستكون مادّة مستقلّة يُكوّن لتدريسها صنف مخصوص من المدرّسين، أم تراها ستكون فرعاً من مواد أخرى من قبيل التربية الدينية والعربية والتاريخ...؟ هل نجد فعلاً من بين المدرّسين من هو قادر على تعليم هذه المادة، وهل يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟ هل تلقّى المدرّس في مراحل تكوينه الجّامعي دروساً تقريبية تساعده على أداء مهامه؟ هل يمكن تقديم المحتوى التقريبي نفسه لمختلف الأعمار والمستويات؟ ما هي الأسس التربوية والبيداغوجية التي لا بدّ من مراعاتها ؟ هل نجد من بين الدول الإسلامية من بادر بتطبيق هذا المقترح الذي صدر منذ نصف عقد من الزمن؟ وهل من الممكن فعلاً تطبيقه؟
الأسئلة المتعلقة بهذا المقترح كثيرة لا يمكن إثارتها في هذا المجال البحثيّ الضيّق، وكان يمكن للمنظمة باعتبارها مفوّضة للنظر في قضايا التعليم في العالم الإسلامي، أن تهتمّ أكثر بهذه المسائل، وأن تجري بحوثاً ميدانية في مختلف الأقطار الإسلامية، وتوزّع الاستبانات على المتعلّمين والمعلّمين والمشرفين حتى ترى إمكانات التطبيق، وأن تتحسّس الصعوبات الممكنة. ونحن لا ندري إلى أيّ مدى راعت «استراتيجية تطوير التربية في البلاد الإسلامية»[60] هذا المنزع التقريبي؟ وهل أدمجت «استراتيجية تطوير التعليم الجامعي في العالم الإسلامي»[61] هذا الخيار التربويّ ضمن أولوياتها؟
لقد عدنا إلى «استراتيجية تطوير التعليم الجامعي في العالم الإسلامي» فلم نجد فيها ذكراً لاستراتيجية التقريب ولا حديثاً عن تعليم «ثقافة التقريب» في مؤسسات التعليم العالي، ولم نجد غير حديث بسيط عن أهمية الحوار بين الأديان والحضارات[62].
وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن جدّية طرح «الإيسيسكو» فيما يتعلّق بتعلم «ثقافة التقريب»، وهل «ثقافة التقريب» هذه مادةّ يمكن تدريسها أم هي سلوك ثقافي ورؤية حضارية ودرجة من الوعي يفترض أنّها تلازم الإنسان في مختلف مراحل حياته، في تعلّمه وتعليمه وحديثه وسماعه وقراءاته وتأليفه، إنّه كلّ لا يتجزّأـ ومن التعسّف أن نتعامل مع «ثقافة التقريب» بما هي ثقافة حوار وتعدّد واختلاف بهذه الرؤية الضيّقة.
ولقد شاءت الصدف أنّ أحضر حصّة تعليم لمادّة «ثقافة التقريب» بجامعة المذاهب الإسلامية بطهران[63]، وتحدّثت مع الأستاذ الذي قدّم المحاضرة وأساتذة آخرين معنيين بالأمر، فلاحظت أنّ هذا المجال المعرفيّ التربويّ مازال غامض المعالم من حيث الأسس والمنطلقات والمحتويات التربوية، والمناهج المعتمدة، والأهداف المقصودة من التدريس ومدى مساهمة المتعلّم (الطالب) في صياغة هذه الثقافة وتمثّلها وتطبيقها على مستوى الحوار مع الآخرين.
ولنا أن نتساءل في هذا الإطار: هل يعني تدريس «ثقافة التقريب» المقارنة بين المنظومات الفقهية والأصولية والتفسيرية والحديثية المختلفة، واستخراج نقاط الالتقاء بينها؟ هل يعني تدريسها التأريخ لحركات الإصلاح الديني وحركة التقريب بصفة أخصّ؟ هل تعني «ثقافة التقريب» البحث في مسألة الاختلاف بين المجموعات الإسلامية المتعدّدة والنظر في إمكانات الحدّ من هوّة الخلاف، أم هي العكس، تعني النظر في جمالية «الاختلاف» وطرافة التعدّد، ونجاعة التنوّع في الآراء والمواقف؟ هل تراها كلّ ذلك، أم هي أشياء أخرى لم نذكرها؟....
من الصعب في هذا المجال البحثي الضيّق أن نجيب عن هذه الأسئلة، وأن نقترح تصوّراً لهذا المجال المعرفي، فهذا عمل يتطلّب مجهوداً كبيراً في إطار مؤسسات علمية مختصّة، ويمكن للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بحكم مهامها الموكولة إليها أن تضطلع بهذه المسألة على أنّ تعوّل في تصوّرها على خبراء متعدّدي الاختصاصات من قبيل المختصّين في علوم التربية، وهندسة التكوين، وعلوم التواصل والاتصال، والعلوم النفسية والاجتماعية، والعلوم المتصلة بالأنساق الفكرية والدراسات المقارنة للظاهرات الدينية والحضارية، وخبراء القانون وحقوق الإنسان، واللغات والترجمة، وغيرها ممّا يضيق المجال بذكره.
إنّا نحتاج في إطار البحث عن مخططات استراتيجية تتعلّق بالتعليم وتوظيفاته في التواصل البشري البنّاء والمتوازي، إلى تعميق الرؤى وتجنّب الاستنتاجات المتعجّلة والمشاريع الاستراتيجية المحدودة الأفق، ولقد أحسّ عدد كبير من الباحثين اليوم بهذا الفراغ الاستراتيجي في مجال التربية ممّا دفع كمال حسني بيومي -وهو أحد البحثين في مجال «استراتيجيات التعليم» في كتابه «تحليل السياسات التربوية وتخطيط التعليم المفاهيم والمداخل والتطبيقات»[64]- إلى ضرورة إكساب الإنسان العربي مهما كان تخصّصه مجموعة من المهارات والمنهجيات تساعده على تحليل السياسات العامة على وجه العموم، والسياسات التربوية، والتخطيط التعليمي على وجه الخصوص، وتوفر له مجموعة من الآليات تيسّر مراقبة المشهد التربوي وتقديم خطط استراتيجية مناسبة له.
نخلص في ختامة هذا المبحث إلى أنّ «ثقافة التقريب» والحوار مع الآخرين، تُكْتَسَبُ منذ المراحل الأولى من حياة الإنسان الذي يصقلها وينمّيها من خلال تجاربه الاجتماعية و«الوضعيّات التعلّمية الاجتماعية» التي يمرّ بها، وعلى هذا الأساس لا بدّ أن نراهن في وضع استراتيجيات التعليم على القدرات الذاتية للمتعلّم، فهو قادر على التمييز بين الفاسد من الآراء والصلح منها، إذا تربّى على الفكر النقدي الحرّ، والمقاربات العقلانية، واحترام الغير، وعدم ممارسة الوصاية عليه، والتواضع العلمي.
وعلى هذا الأساس لا بدّ من تدريب المتعلّمين والمعلّمين على حدّ سواء على فنّ السماع، وحسن إدارة الخطاب والكلام، والتفاوض الاجتماعيّ، وكيفية تحليل الخطاب مهما كان نوعه، وفهم أبعاده وخلفياته، والتفطّن إلى نقاط ضعفه، ويمكن تجسيد ذلك من خلال مجموعة من المداخل:
1- التحوّل من التلقين إلى المشافهة: لا بدّ أن نحرّر منظوماتنا التعليمية من إملاء المحاضرات وتلقين الطلاّب بطريقة آحادية، في المقابل لا بدّ أن نفسح المجال للمتعلّمين في كلّ المواد لتبادل الآراء ونقدها وسماع مختلف وجهات النظر وتقويمها تقويماً علميًّا بناءً.
2- ثقافة التقريب لا تخصّ العلوم الدينية فحسب، بل لعلّ تطبيقها في بقية المواد أنجع وأيسر، ونرى أنّ التقسيم التقليديّ للمعارف ومواد التدريس إلى مواد رئيسة وأخرى ثانوية مهمّشة، قد لا يستجيب لتحديات «ثقافة التقريب»، وعلى هذا الأساس لا بدّ من مزيد الاهتمام بالمواد المهمّشة من قبيل الموسيقي والمسرح والفنون التشكيلية... في مواد مهملة في بعض المنظومات التربوية ولكنّها مفيدة في مادة «ثقافة الحوار والتعدد والانفتاح»، ويمكن لطالب في بلد إسلاميّ ما أن يتعرّف على أعمال تشكيلية أو مقطوعات موسيقية أو فنون أخرى لشعوب إسلامية مخالفة له في اللغة والعادات، وربّما في الانتماءات المذهبية والفكرية، ولكنّه سيشعر بتواصل متين معها قد لا يتحقق في سياقات دينية فقهية أخرى.
3- العقل النقدي ضروريّ في بناء «ثقافة التقريب»، ولا يمكن للفكر الإسلامي أن يتطوّر دون تزوّده بآليات التحليل العقلاني، والتدرّب على النقد البنّاء والتأليف، ولكنّ المشكلة أنّ بعض المنظومات التربوية الإسلامية ما زالت ترفض الفكر العقلانيّ النقدي، وتمنع تدريس الفلسفة والفكر الحرّ، وتصرّ على تصنيع عقول بائسة لا تتقن غير النقل والرواية وما ينتج عنهما من تعصّب وتزمت.
4- لقد أثارت الثورة التكنولوجية الحديثة في مجال المعلومات والاتصال والتعليم عدّة أسئلة لا بدّ لواضع الخطط الاستراتيجية التعليمية مراعاتها، وتتعلّق بمدى توظيف هذه التقنيات في التواصل الفكري والثقافي البنّاء، وفي تبادل الآراء والتعارف بين أبناء الملّة الواحدة؟ إنّ النّاظر في الواقع التربوي اليوم يلاحظ إهمالاً لهذا المدخل، والتعامل معه في أحسن الحالات تعامل المجاملات والتصنّع.
2- الخطط الاستراتيجية ورهانات البحث العلمي
أكّدت استراتيجية «الإيسيسكو» عند ضبطها للإجراءات العملية الضرورية لسبل تنفيذ استراتيجية التقريب على «تشجيع التعاون الإسلامي... وتشجيع تبادل الدارسين والباحثين والإسهام في توجيه الدراسات العلمية والبحثية»[65].
وهذا يعكس وعياً بخطورة غياب هذا التعاون، ومغبّة غلق الأبواب أمام الباحثين ممّا يجعل البحث ضعيف الأداء لا يستجيب لتحدّيات الثقافة الإسلامية ورهاناتها المعاصرة، وفي إطار تذليل الصعوبات المتعلّقة بالاختلافات بين المسلمين، اقترحت الاستراتيجية فيما اقترحت «تشجيع البحث العلمي.. والعمل على الانتقال به إلى ما يواكب حاجيات العالم الإسلامي اليوم»[66].
وقد أكّدت استراتيجية المنظّمة على أهمية البحث العلمي بأكثر عمق وتفصيل عند حديثهما عن «ميادين التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وجعلت من مراكز البحث والدراسات التخصصية: «أهمّ ميادين التقريب، حيث يمكن أن يتبادل فيها الخبرات البحثية واكتساب المعلومات عن المدارس الإسلامية، ونقلها إلى روادها بأسلوب علمي صادق ومؤثر»[67].
وهذا الموقف مفيد لعدّة اعتبارات، فهو من جهة يؤكد ضرورة تبادل الخبرات البحثية، وهذا المدخل أساس لأنّا لا نجد تعاوناً حقيقيًّا بين الجامعات الإسلامية، ولا يعرف الباحث ما أُنجز في مجال بحثه في بقية الجامعات العربية والإسلامية، ممّا ينتج عنه إضاعة للجهد والوقت والسقوط أحياناً في التكرار والاجترار.
والأخطر من ذلك -حسب اعتقادنا- أنّ أغلب الباحثين في العالم الإسلامي محرومين من بحوث تنويرية تأسيسية تنجز هنا وهناك، ولكنّها توأد حيثما أنجزت، وكم من بحث اطّلعنا عليه بعد نشره غيّر رؤانا وطوّر مفاهيمنا وعدّل منهجنا في مقاربة المسائل وتحليلها.
ولا بدّ أن نذكر في هذا السياق خطورة غياب استراتيجية فعلية وصارمة تتعلّق بتبادل البحوث وتعميم الاستفادة منها، ولو طبّقنا ذلك في مجال «التقريب بين المذاهب الإسلامية» لوجدنا عدّة بحوث جامعية في مستويي الماجستير والدكتوراه، وفي مستويات أخرى تساهم في التعريف بمختلف المنظومات الإسلامية بطريقة علمية صارمة، بعيداً من الرؤى الدينية الضيّقة.
ولنا في التجربة الجامعية التونسية خير مثال على ذلك ولم نختر الحديث عن هذه التجربة من منطلق الحمية والعاطفة، بل من منطلق اطّلاعنا الجيّد عليها وتميّزها في كيفية طرح القضايا وتناولها، ولقد نوقشت في جامعات تونس، وخاصّة في كليات الآداب، عدّة بحوث في مجال الدراسات الحضارية تهتمّ بالفكر الشيعي الاثني عشري والزيدي الإسماعيلي[68] والإباضي[69] وبمختلف اتّجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، وتتصف هذه الدراسات بمنهجها العلمي الصارم، وتحرّرها من أسر الانتماءات المذهبية، وربّما كان من المفيد اطّلاع بقية الباحثين من جامعات عربية وإسلامية أخرى على هذه البحوث، ولكنّ غياب استراتيجية بحثية دقيقة وواضحة يحول دون ذلك.
إنّنا نعيش مجموعة من الصعوبات البحثية لا تتماشى مع ما طرح من مقترحات في الاستراتيجيتين وخاصّة استراتيجية «الإيسيسكو»، فليس من اليسير على الباحث في مجال الدراسات الإسلامية بصفة عامة و«التقريب بين المذاهب الإسلامية» بصفة أخصّ، أن يظفر بالمعطيات المساعدة والمعلومات المدعّمة لنتائج بحثه، بل قد يجد صعوبات في الاتصال بالجامعات والهيئات العلمية ومراكز البحوث.
وكم راسلنا -في إطار إعداد أطروحة الدكتوراه حول التقريب- من مراكز علمية ومؤسسات معنية بالتقريب فلم نلقَ منها حتّى ردّ السلام والإعلام بوصول ما أرسلناه، بل الأغرب من ذلك أن نجد بعض المؤسسات العالمية الرّاعية للتقريب المنظّمة لندواته المصنّعة لاستراتيجياته لا تضع في موقعها عنواناً أو رقم هاتف أو عنواناً بريديًّا للاتصال بها، وإن عثرت على إحدى هذه المعطيات واتصلت بغية التعاون وجدت الأبواب موصدة لا ردّ ولا إشعار.
إنّا نتحدّث بألم من منطلق تجربة عشناها وشاركنا غيرنا من الباحثين فيها، قد تدفع على الإحباط واليأس والتوقف عن البحث، لولا إرادة الباحث وإصراره على مواصلة ما بدأ فيه. إنّ مشكلة البحث العلمي في مجال التقريب مشكلة تواصل وفتح أبواب التعاون وتبادل الخبرات، ولا يكون ذلك من خلال التنظير وتبويب الفصول والبنود، بقدر ما يكون بالممارسة والإنجاز، وأضعف الإيمان أن تجيب المؤسسة عن أسئلة الباحث وتوجهه وتوفر له ما أمكن من أدوات البحث، وتؤمّن له فرص اللّقاء بغيره من الباحثين للاستفادة منهم وإفادتهم.
ونظراً لارتباط البحث العلميّ بما تحقق من ثورات معاصرة في مجال تكنولوجيات المعلومات والاتصال، فإنّا نؤكّد ضرورة توظيف هذه التقنيات توظيفاً علميًّا ييسّر البحث، وحضاريًّا يكرّس التواصل والتعارف والتعاون، ويمكن تحقيق ذلك من خلال النافذات التالية:
1- اعتماد آليات تواصل أكثر نجاعة من الآليات المتوفّرة حاليًّا، وتوفير الرّدود الشخصية على كلّ مراسلة يتوجّه بها باحث، وتجنّب المراسلات القارّة الآلية التي يتلقاها الباحث مهما كان موضوع رسالته التي توجّه بها إلى المؤسسة.
2- توفير بنك معلومات يحتوي موسوعات وأطروحات ومقالات، تعكس مجهود كلّ الجامعات ومراكز البحوث فيما يتعلّق بالتقريب وغيره من المجالات المعرفية المفيدة.
3- فتح فضاءات رقمية للحوار النزيه البنّاء لتبادل الآراء والخبرات.
4- فتح فضاءات بحث جماعي مشترك في مجالات مخصوصة.
5- توفير آليات النشر الرقمي قصد تجاوز صعوبات النشر الورقي.
إنّ التخطيط لإيجاد استراتيجية ناجعة في مجال البحث العلمي المنفتح على قضايا التقريب، يتطلّب الدقة والجرأة والواقعية، لأنّ تجنّب الدقة يورطنا في الفوضى، وتجنّب الجرأة يقحمنا في المجاملات والمزايدات، وتجنّب الواقعية يجعل من الخطط الاستراتيجية ضرباً من الوهم والإيهام.
وعلى هذا الأساس نقترح مجموعة من المداخل نراها ضرورية ولم نجد الاستراتيجيتين قد وقفت عندها، وهي على النحو التالي:
أولاً: مناهج البحث: إنّ أزمة البحث العلمي الجامعي أزمة منهجية بالأساس، بمعنى أنّها أزمة نوع لا أزمة كمّ، فعدد الباحثين على مستوى العالم الإسلامي لا يمكن حصره وعدد ما نوقش من رسائل جامعية وما هو بصدد الإنجاز يفوق كلّ تقدير، بل نجد في بعض الأقطار من يبيع الشهادات العلمية ويعير البحوث كما تعار الأشياء.
وهذا يعني أنّ كثرة البحوث لا تعني جودتها ونجاعتها، بل نجد بحوثاً ساذجة لا تستجيب لتحديات اللحظة ورهاناتها، وعلى هذا الأساس لا بدّ من مراجعة المناهج المعتمدة في البحوث وخاصّة في مجال الإسلاميات والعلوم الإنسانية. ولا حرج أن نفكّر بعمق وجدية في توظيف مناهج جديدة في دراسة الظاهرات الدينية والمذهبية والعادات والتقاليد وتاريخ الأفكار، من قبيل آليات تحليل الخطاب ومناهج الدراسات المقارنة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني وعلم النفس الاجتماعي وهندسة الثقافة واللسانيات التداولية.. وغيرها من المعارف المفيدة ممّا لا يسمح لنا هذا الإطار بذكرها وتحليلها وذكر فوائدها ونقائصها.
ثانياً: نشر البحوث: يشكو قطاع نشر البحوث الجامعية عدّة صعوبات تتعلّق بمحدودية الإمكانات وغياب استراتيجيات نشر واضحة، ويمكن للفضاءات الرّقمية وما توفّره من آليات أن تذلّل بعض هذه الصعوبات.
ثالثاً: تحقيق المخطوطات: لا بدّ من الاهتمام بهذا المجال لأنّ قراءة التراث الواعية والناضجة قد تساهم في التقريب الثقافي بين المسلمين.
رابعاً: الترجمة: تحدّثنا في بحثنا[70] الذي شاركنا به في المؤتمر الحادي والعشرين للوحدة الإسلامية إلى أهمية الترجمة في التقريب، ونؤكّد مرّة أخرى على ذلك وخاصّة على ترجمة المؤلّفات ذات البعد التنويري العقلاني المكتوبة بمختلف لغات الشعوب الإسلامية.
نخلص في نهاية هذا المبحث، إلى القول بخطورة مسألة البحث العلمي في علاقته بهاجس التقريب وخططه الاستراتيجية، ولا يمكن تجاوز مشاكله العالقة دون مساهمة كلّ الأطراف في تقديم التصورات والحلول، ولا يمكن لعلماء الدين البتّ في مثل هذه القضايا، بل لا بدّ من تشريك الأكاديميين والمختصّين في وضع البرامج وعلماء المناهج وخبراء هندسة البحث وغيرها من المجالات. ولعلّ من بين القضايا العالقة التي تحتاج بدورها على التحليل والدرس علاقة البحث بالإعلام؟
3- الخطط الاستراتيجية المتعلّقة بالإعلام: الصعوبات والآفاق
تأكّد في السنوات الأخيرة أهمية الإعلام في توجيه الرأي والتأثير في الجمهور المتقبّل، بل لا نبالغ إذا ذهبنا أن الإعلام سحب من تحت علماء الدين البساط واستأثر دونهم بالتوجيهات الدينية وتوزيع الفتاوى العجيبة والغريبة، وتحوّل من عرفوا بـ«الدعاة الجدد» إلى مذيعين يديرون البرامج وينشّطون الأمسيات والاحتفالات وحصص الألعاب والترفيه، وأصبح الإعلام وجهاً من وجوه الحياة الاجتماعية اليومية يتابعه الأفراد والجماعات وهذا يدفعنا إلى الحديث عن «سوسيولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام»[71]، بما هي مدخل لفهم هموم الشارع والتحديات المتعلّقة به.
وقد تعرّضت استراتيجية «الإيسيسكو» في فصلها الرابع المتعلّق بميادين التقريب إلى الإعلام ووسائل الاتصال واعتبرته «من الميادين المهمّة جدًّا، في كلّ ميادين عمليات تنفيذ استراتيجية التقريب ومراحلها، بدءاً بمراحل التوعية والتنظيم والتخطيط، وانتهاء بمراحل التنفيذ والمتابعة والتقويم»[72].
وهذه الأهمية تدفعنا إلى التساؤل عن واقع الإعلام الحواري التقريبي في مقابل ما نراه من انتشار سريع للإعلام الديني الإقصائي، والفضائيات الدينية التي تعمل قصارى جهدها على تكريس الذاكرات المذهبية وإثارة النعرات الطائفية، وتجميد العقول واغتيالها، ونشر ثقافة الخرافات الساذجة، الملاحظ أنّ هذه المشغل ما زال لا يشدّ اهتمام المؤسسات الرّاعية للتقريب بين المذاهب الإسلامية، بل لا نبالغ إذا ذهبنا أنّ استراتيجياتها الإعلامية بسيطة ومحدودة ممّا يجعل شريحة كبيرة من الباحثين لا يعرون هذه المؤسسات وما تنجزه من أنشطة.
ولقد دعا الشيخ محمد مهدي التسخيري في مداخلته بالمؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية: «المحاور الاستراتيجية للتقريب»[73] إلى «دعوة الصحف والإذاعات وجميع وسائل الإعلام إلى نهج تقريبي منسق»[74].
وهذا التأكيد على إصلاح حال الإعلام القائم وتوجيهه، نجده أيضاً عند عبدالقادر الإدريسي في مقاله «الاعتدال والوسطية ونبذ التطرف والإرهاب» إذ أكّد ضرورة «توجيه وسائل الإعلام»[75]، ولكن هل من الممكن حقًّا أن توجّه وسائل الإعلام هذه الوجهة؟ أليس من الأفضل لو فكّر أصحاب القرار في بعث فضائية وفق رؤية تعددية تقريبية واضحة يتحقق فيها العدل العلميّ، وتنتفي فيها الوصاية واحتكار الحقيقة، فتعرض أفكار الجميع وطقوسهم دون تصنّع أو مجاملات؟
إنّنا نستغرب وجود عشرات من الفضائيات تكرّس الجهل الحضاريّ، والأمية الثقافية، وتمارس العنف الفكري والعقدي، ولا نجد فضائية واحد تدرّب الناس على النقد العقلانيّ والفكر الحرّ والاعتراف بالآخر والقبول بالاختلاف والدفاع عنه؟
ونخلص في خاتمة هذا العمل إلى القول بأنّ الخطط الاستراتيجية المطلوبة في عملية التقريب بين المذاهب الإسلامية، لن يكتب لها النجاح إلَّا متى تحلّت بالصرامة والجرأة والشجاعة في طرح الصعوبات والنقائص، والعمل الجدي على تجاوزها.
ولا يمكن لهذا العمل أن يكون محصوراً في مجال معرفيّ دون آخر، أو في فئة اجتماعية دون أخرى، بل لا بدّ أن يخترق كلّ الفضاءات والميادين دون تفاضل أو تمييز. ولقد تعرّضنا لبعض نقائص التجارب السابقة في الطرح الاستراتيجي المتعلّق بالتقريب، لا من أجل التقليل من قيمتها، بل بالعكس حاولنا أن نقف على أهمية الاستراتيجيتين ولكنّ المعرفة لا تتقدّم إلَّا بالنقد البنّاء، وتجاوز الموجود إلى منشود أفضل، قد يذلّل ما علق بالتقريب من صعوبات ومعوّقات قد تحول أحياناً دون تقارب أهل الملّة وتعاونهم.
[1] استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، 2004م.
[2] استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية (مجموعة مقالات)، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، المعاونية الثقافية، طهران، 2006م.
[3] جاء في موقع الإيسيسكو في شبكة الإنترنت أنّ هذه الاستراتيجية اعتمدها مؤتمر القمة الإسلامي العاشر المنعقد في بوتراجايا - ماليزيا عام 2003م، ولكن الوثيقة في صيغتها الرقمية لم تتحدث عن ذلك، ولم نحصل على إجابة عن هذه المسألة من قبل العاملين بالمنظمة.
[4] وهذه الاستراتيجيات هي على النحو التالي:
- استراتيجية تطوير التربية الإسلامية في البلاد الإسلامية (1988م).
- الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي (1991م).
- استراتيجية تطوير العلوم والتكنولوجيا في البلدان الإسلامية (1997م).
- استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب (2000م).
- استراتيجية الاستفادة من العقول المهاجرة في الغرب (2002م).
وأهملت الوثيقة استراتيجية أخرى وهي «استراتيجية تدبير الموارد المائية في العالم الإسلامي» التي اعتمدها المؤتمر الإسلامي الثاني لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي المنعقد في طرابلس عام 2003م.
[5] وهي:
* الفصل الأول: فقه الاختلاف وجهود التقريب بين المذاهب الفقهية.
* الفصل الثاني: مفاهيم التقريب ومصادره.
* الفصل الثالث: تطور المذاهب الإسلامية.
* الفصل الرابع: ميادين التقريب.
* الفصل الخامس: أهداف التقريب.
*الفصل السادس: «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية»، سبل تنفيذ استراتيجية التقريب.
[6] انعقد هذا المؤتمر بطهران بين 15 و17 ربيع الأوّل 1426هـ (2005م)، وكان موضوعه «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية».
[7] وهي:
* الفصل الأوّل: بحوث تمهيدية مفهوم التقريب وأهدافها.
* الفصل الثاني: أسس التقريب.
* الفصل الثالث: رسالة مجمع التقريب وآفاقها.
* الفصل الرّابع: مجالات التقريب.
* الفصل الخامس: مبادئ التقريب قيمها وسياساته.
* الفصل السادس: عوامل التقريب.
* الفصل السابع: تقريرات حول مسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي.
[8] أعمال المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية،ص519.
[9] عنوان البحث «فكرة عن الاستراتيجية المقترحة للتقريب ونصها»، ن، م، ص 185-208.
[10] ن، م، ص 187.
[11] انظر العدد 47، محرم وصفر 1426 هـ، 2005 م، وورد الملفّ بين الصفحات، 121-202.
[12] نذكر خاصة مقال الشيخ محمد علي التسخيري «فكرة عن الاستراتيجية المقترحة للتقريب ونصها»، ومقال محمد مهدي التسخيري «المحاور الاستراتيجية للتقريب».
[13] من قبيل مقال وهبة الزحيلي «مسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية في بلاد الشام»، ومقال عبدالعزيز بن عثمان التويجري «التقريب: مفاهيمه وأهدافه»...
[14] استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، الإيسيسكو، ص 37.
[15] ن، م، ص 37.
[16] تأسست «جماعة التقريب» بالقاهرة سنة 1946، وترأسها محمد علي علوبة باشا (تـ 1375 هـ، 1956)، وقادها مجموعة من العلماء من قبيل عبد المجيد سليم (تـ 1374هـ، 1955م)، ومحمد مصطفى المراغي (1364هـ،، 1945م)، ومصطفى عبد الرازق (تـ 1366هـ، 1946م)، محمود شلتوت (تـ 1383هـ، 1963م)، ومحمد المدني (تـ 1388 هـ، 1968م)، وعلي الخفيف (تـ 1398هـ، 1891 – 1978م)، وعبد العزيز عيسى (تـ 1415هـ،، 1994م)، وآية الله آغا حسين البروجردي، محمد تقي الدين القمي، ومحمد الحسين آل كاشف الغطاء، وعبدالحسين شرف الدين الموسوي، ومحمد جواد مغنية، وصدر الدين شرف الدين.... وتولّى محمد تقي القمّي الأمانة العامة للجماعة، وتوقّفت دار التقريب عن النشاط سنة 1979.
[17] ن، م، ص 24-34.
[18] أعمال المؤتمر الثامن عشر للوحدة الإسلامية،، ص 55-72.
[19] ن، م، ص 93-100.
[20] فكرة عن الاستراتيجية المقترحة للتقريب ونصها، ص 185-208.
[21] التسخيري، ص190.
[22] صدر سنة 2008م عن المعاونية الثقافية بالمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
[23] أصدر المجمع سلسلة «رواد التقريب» وتناول فيها عدّة شخصيات تقريبية.
[24] استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، الإيسيسكو، ص 25.
[25] ن، م، ص 25.
[26] استراتيجية المجمع، ص 73-92.
[27] ن، م، ص 73.
[28] ن، م، ص74.
[29] ن، م، ص74.
[30] استراتيجية «الإيسيسكو»، ص 13.
[31] ن، م، ص15.
[32] ن، م، ص 21.
[33] ن، م، ص37.
[34] ن، م، ص38.
[35] هاني (إدريس)، المواسعة والمسامحة: آليتان في تدبير الخلاف، من أجل استراتيجية للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ص 34.
[36] ن، م، ص36.
[37] ن، م، ص 47-48.
[38] الزركشي (بدر الدين)، البرهان في علوم القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 2001، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، (منشورات محمد علي بيضون)، ج1، ص30.
[39] ن،م، ج1، ص36.
[40] استراتيجية «المجمع»، ص 11-34.
[41] ن، م، ص 105-112.
[42] انظر: كتاب الشيخ محمد علي التسخيري «الحوار مع الذات والآخر»، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، المعاونية الثقافية، 2005م.
[43] فكرة عن الاستراتيجية المقترحة للتقريب ونصها.
[44] أستاذ في جامعة طهران.
[45] رسالة التقريب، عدد 51، رمضان وشوال 1426هـ، 2005م.
[46] مجلة «رسالة التقريب»، عدد 44،، رجب وشعبان، 1425هـ، 2004م، 41-54.
[47] استراتيجية «الإيسيسكو»، ص 110.
[48] في هذا الإطار تندرج كلمة رئيس التحرير: محمد محمد مدني، في العدد الثاني من مجلّة «رسالة الإسلام» لسان حال جماعة التقريب بالقاهرة، السنة 1، عدد2، أبريل 1949، جمادي الآخرة 1368هـ، 107-110.
[49] مؤتمر الوحدة الثامن عشر، ص 518.
[50] ن، م، ص 519.
[51] باحث من المغرب.
[52] ن، م، ص 35-45.
[53] ن، م، ص 51.
[54] ن، م، ص 279-324.
[55] ن، م، ص 89.
[56] استراتيجية الإيسيسكو، ص 112.
[57] ن، م، ص 112.
[58] ن، م، ص 138.
[59] ن، م، ص 138.
[60] اعتمدها المؤتمر العام الثالث للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة المنعقد في عَمَّان عام 1988م، وصدرت عن «الإيسيسكو».
[61] اعتمدها المؤتمر الإسلامي الثالث لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي المنعقد في الكويت عام 2006م والمؤتمر العام الرابع لاتحاد جامعات العالم الإسلامي المنعقد في الكويت عام 2007م.
[62] انظر: القسم الرابع المخصص لـ«دور التعليم الجامعي في معالجة قضايا ومشكلات العصر».
[63] هذه الجامعة تابعة للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
[64] بيومي (كمال حسني)، تحليل السياسات التربوية وتخطيط التعليم المفاهيم والمداخل والتطبيقات، دار الفكر للنشر والتوزيع، 2009م.
[65] استراتيجية الإيسيسكو، ص 140.
[66] ن، م، ص 104.
[67] ن، م، ص 113.
[68] من ذلك نذكر بعض البحوث التي نوقشت بكلية الآداب بمنوبة (جامعة منوبة/ تونس):
- فتحي الخيري، الغيبة لدى الشيعة الإمامية، شهادة الكفاءة في البحث، 1990م، إشراف عبدالمجيد الشرفي.
- منصف بن عبد الجليل، الفرق الهامشية في الإسلام، أطروحة دكتوراه دولة، 1997م، إشراف عبدالمجيد الشرفي.
- عبيد خليفي، صورة علي بن أبي طالب في المخيال العربي الإسلامي، شهادة دراسات معمّقة، 2004م، إشراف منصف بن عبد الجليل.
- جيهان عامر، بدء الوحي من خلال المصادر الشيعية الاثني عشرية: بحار الأنوار للمجلسي نموذجاً، رسالة ماجستير، 2005م، إشراف منصف بن عبد الجليل.
[69] نوقشت بالجامعة التونسية عدّة أطروحات تتعلّق بالإباضية لعلّ أهمّها أطروحة فرحات الجعبيري «البعد الحضاري للعقيدة الإباضية»، كما ينجز الآن مجموعة من الباحثين بحوثاً حول الموضوع نفسه، كذلك نوقش بجامعة الزيتونة عدد كبير من الرسائل والأطروحات لعلّ أهمّها:
- الفكر الدعوي عند الإباضية، عبد الله الريامي، 1997م، رسالة ماجستير.
- الرخص في الفقه الإباضي، خلفان بن سنان الشعيلي، 2001م، رسالة ماجستير.
- أسس منهج التأويل في المدرسة الإباضية، محمد بن يحيى الكندي، 2002م، رسالة ماجستير.
- مصادر الفقه الإباضي في القرنين الأوّل والثاني الهجري، صالح بن خلفان البراشدي، 2004م، رسالة ماجستير.
- الولاية والبراءة عند الإباضية: المفاهيم والآثار، يحيى بن سالم الهاشلي، 2005م، رسالة ماجستير.
- علوم السنة عند الإباضية، أحمد بن يحيى الكندي، 2006م، أطروحة دكتوراه.
[70] عنوان المقال «من خطاب التكفير إلى ثقافة التقريب: بحث في الدّلالات والمرجعيات والصعوبات والآفاق».
[71] سوسيولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام عنوان كتاب لإريك ميغريه،، ترجمة: موريس شربل، جروس برس، 2009م.
[72] استراتيجية الإيسيسكو، ص 115.
[73] استراتيجية المجمع، ص 279-324.
[74] ن، م، ص 300.
[75] ن، م، ص 518.