شعار الموقع

في البدء كان ( الكلمة ) من الصدفة إلى الترصد

عبدالعالي العبدوني 2019-05-31
عدد القراءات « 615 »

في البدء كانت «الكلمة»

من الصدفة إلى الترصد

عبد العالي العبدوني*

* باحث من المغرب.

 

 

أستطيع أن أتذكَّر أول مرة اشتريت فيها مجلة «الكلمة» لأنها شكَّلت بالنسبة لي منعطفاً معرفيًّا جديداً، جعلتني أعود إلى عطاء لغة الضاد، كانت مشكلة من هم على شاكلتي يتعقبون المجلات والكتب الأجنبية الناطقة باللغة الفرنسية أو الإنجليزية لقيام قناعة شخصية بأن المعرفة الإنسانية الصلبة توجد هناك، من فرط ما أتخمتنا الخطابة والدلال النظري، وغياب المعنى لفائدة جمالية المبنى. أغلبية جيلي طلَّق لغة الضاد طلقة بائنة بينونة صغرى ولم يرَ في كتاباتها إلَّا رجع صدى للمعطيات الفكرية الغربية، فكان الأولى الذهاب إلى المنبع رأساً والاستغناء عن الواسطة.

كانت هذه قناعتي التي عشت عليها لسنوات ليست بالقصيرة، إلَّا أنه وفي إحدى الأيام التي أعتبرها مباركة وأنا أقتني مجموعة من المجلات الغربية في إحدى الأكشاك بمدينة الدار البيضاء أثار انتباهي «فتح معرفي» مجلة متوسطة الحجم تميل نحو الخضرة يعلوها اسم «الكلمة»، تعقبت عناوين المقالات المدرجة بها، فلاحظت دراسة تُناقش سؤال التأريخ وأزمة المؤرخين تحمل عنوان «محنة الكتابة التأريخية العربية بين التأريخ والمؤرخ» للأستاذ إدريس هاني، كما أثار انتباهي تنوُّع العناوين العميقة واقعاً، لكن أيضاً نوعية المواضيع التي تناقش، فقرَّرت أن أضمها إلى قائمة مشترياتي على أن أقرأها لاحقاً، وعندما أقول لاحقاً يعني بعد أشهر، لكن حيوية المواضيع المُضمَّنة بها جعلتني ألتهمها في ليلة واحدة فور عودتي للبيت.

لأكتشف بأنني وقعت صريعاً لجمال الأفكار التي طُرحت وباحترافية، جعلتني أراجع معتقدي الأساسي بأن المجلات العربية لا يُمكن أن يخرج منها المرء بشيء، إلى معتقد أساسي بأن المجلات العربية ليس فقط يُمكن أن تناطح المجلات المعرفية العالمية، بل بإمكانها أن تتجاوزها بانضباط تنظيري أكبر.

فقرَّرت أن أضعها على رأس قائمة مشترياتي عند ورودها الأسواق المحلية، ليزداد تصوُّري ارتكازاً وقناعتي صلابةً.

تمكّنت مجلة «الكلمة» من إزاحة ستار أنطولوجي من الجهل بالمقدرة الفكرية العربية على بناء حضارة في العصر الرقمي الذي نعيشه، وتفتح آفاقاً نقدية متينة تجاه ما نتشربه كما الماء والهواء من أفكار وافدة من الشمال.

لذلك عندما أقول: كانت في البدء «الكلمة» فإنني أعني ما أقول، هي مناسبة وعي جديد تُولد في ذهني، ومفتاح معرفي تحوزته بعد طول فقدانه، فكان لها الأثر الأجلى على مساري البحثي والفكري.

ولتتحوَّل النظرة التصادفية مع هذه المجلة إلى ماراثون ترصدي لها، أتعقَّبها في أكشاك المدينة، أخاتلها.. أداعبها.. وأتمعَّن فيها برفق حتى تجود عليَّ بعطاياها، أرتشف منها حتى تتحوَّل الكلمات إلى مذاق نظري وبنية تكوينية في عقلي تُخالط المادة الرمادية، وتُعيد تلوينها مع كل عدد جديد.

قد يتبادر إلى الذهن أنني مبالغ، لكن لا يهمني ما يسكن أذهان البشر، بقدر ما يهمني صدق ما أبوح به.

مجلة «الكلمة» عندما اتَّصلت وتواصلت مع العقل الفعَّال جعلت من نفسها موجوداً متوحداً في عالم زخم الإصدارات وقلَّة العطاءات، لتضحي «نابتا» من النوابت القليلة في عالمنا العربي، تسعد وتجلب السعادة للعقول التوَّاقة للمبنى العقلاني والعمق الإبيستمولوجي، والمهجوسة بحركة المعرفة الإنسانية بعيداً عن الأسقف الأيديولوجية المتدنية عن فضاء الحقيقة.

التقائي بمجلة «الكلمة» كان لقاءً عرفانيًّا جمعني مع ثلة الباحثين الساهرين عليها، لأكتشف قامات ثقافية فتحت لي الطريق على أسماء جديدة، ومع كل عدد تتولَّد إنارة، مع كل عدد جديد يتولَّد طريق.

إنه لحقيقة كانت «الكلمة» هي البداية، وكانت هي الدليل في دروب المعرفة، وكانت هي الصديق الذي يُلازمني كما الظل الذي يرقص مرحاً وتفاؤلاً أمام بدن أنهكه الهجران.

لذلك أقول لمجلة الكلمة وللفريق الساهر عليها: شكراً من القلب، بل شكراً من أعماق العقل، أنتم نوابت هذا العصر، ولو عاش الفيلسوف ابن باجة إلى هذا التأريخ لجعل من منبركم منبره، ولما تغيَّا غيركم، بوركتم وبُوركت الأنامل التي تخط حسن المسير لمن هم على شاكلتي.