تحدّيات الإبداع العلمي
بين المحافظة والتّجاوز
إدريس هاني
تهدف هذه الرؤية إلى مقاربة مسألتين أساسيتين في بناء المعرفة: الأولى تتعلّق بالنظرة الفلسفية للعلم التي قد تكون سبباً في قبضه أو بسطه، والثانية تتعلّق بالمنهجية التي يسلكها العلم والتي قد تكون سبباً في إعاقته أو إرساله. هي إذن رؤية في صلب النقاش في مستوييه الإبستيمولوجي والميتودولوجي. وهذه الرؤية تحدّد واحدة من أبرز ما يعنينا في تطوير المزاج العلمي وتحريره من معيقاته المعرفية والمنهاجية، يقوم على تحرير الموقف والعقل والخيال. وذلك من منطلق اعتقادنا بأهمية تموقع الدّماغ من العملية الفكرية والإبداعية حيث نعتقد أنّ التساوي التشريحي في تكوين الدّماغ لا علاقة له بمسألة الفوارق في كيفية الاشتغال والممارسة العقلية. فتموقع الدماغ في العملية الفكرية يتحدّد بالهندسة الاجتماعية التي تشكلها البيئة الثقافية والتربوية والتي تجعل العقل الجمعي حاكماً على العقل الفردي. وفي مثل هذه الحالة يصبح شرط قيام الإبداع والتفكير الحرّ هو انعتاق الفرد من تأثير العقل الجمعي قدر المستطاع لتأمين استمرار الحياة الفكرية خارج منطق الرتابة التي يفرضها الاجتماع.
وقد اهتدينا في مجال الإبستيمولوجيا عموماً وفلسفة العلم تحديداً إلى أنّ الرقابة التي يفرضها البارادايم على الجماعة العلمية من شأنه غلق باب الاجتهاد. وفي هذا المنحى نميل إلى فكرة فتح باب الاجتهاد بالمعنى الذي نفهمه من ثورة كارل بوبر على بارادايم توماس كون.
وفي مجال المناهج اهتدينا إلى فكرة المجاوزة البنّاءة التي وجدنا لها رابطاً تاريخيًّا بين الحكمة المتعالية والعبر-مناهجية كما عند باسراب. في هذه النقطة وجدنا في الحكمة المتعالية ما يتجاوز حتى فكرة ربطها بالبيتخصصية كما نحا الباحث الإيراني أحد قرمالكي، بل نرى الأمثل ربطها بالعبرمناهجية. والقيمة الأساسية التي ترتكز عليها هذه العملية هو التجاوز والفكر الخلَّاق الذي يعطي الخيال دوراً كبيراً على صعيد تطوُّر العلوم الفيزيائية مثلاً، كما يعطي دوراً للوجود في عملية إنتاج المعرفة. تتضاعف القيمة الأنطولوجية للإنسان بقدر استعماله وتجاوزه في الوقت نفسه للمنهج.
المشكلة المصطلحية كتصدير
تفاديا لمشكلة الاصطلاح، كنّا دائماً ومنذ سنوات نعتبر أنّ لا مُشاحَّة في الاصطلاح. ولتفادي الالتباس في المصطلح نفضّل في البناء الصناعي للمفاهيم الإبقاء عليها مع ضبطها من حيث الوزن العربي قصد إدماجها في النّظام الصوتي العربي. لكن ولكي تظلّ حمولتها المفهومية تؤدّي وظيفتها العلمية يجب الإبقاء عليها كما هي. والقيمة العلمية لهذا الاختيار هو أنّ الإبقاء على المصطلح كما هو يمنحنا نحن فرصة الاقتراب الدائم من أبعاده المفهومية كما يمنحه الرقابة الكاملة على ألَّا ننزل به إلى حدّ المتداول في عرفنا اللغوي الطبيعي مما يؤدّي إلى تحريف المعنى وتهديم الصناعة المفهومية.
وقد كان هذا هو الوضع الطبيعي في نقل وإدماج المصطلح في الثقافة العربية، إلى أن ورد المفكّر المغربي طه عبد الرحمن ونحا منحى مختلفاً تماماً لكن لم يجد بيئة علمية حاضنة تكرس القناعة بالنتائج التي توصّل إليها فيما سمّاه بالترجمة التّداولية. وعلى أهمّية هذه المحاولة إلَّا أنّني أعتقد أنّها محاولة لا تقدّم ضمانات وافية لحماية المفاهيم من التحريف الذي يفرضه عليها ما يسمّيه الباحث المذكور بالمجال التّداولي. حيث لا يمكن أن يمارس المجال المستقبل للمفاهيم سلطته على المفهوم المستنبت أساساً في مجتمع علمي آخر. وفي مثل هذه الحالة نكون أمام وضع يشبه المبادلات التجارية. حيث يمكن الوصول إلى ترشيد الاستهلاك وتهذيب عملية نقل البضاعة ولكن دون تحريف مضمونها.
الحاجة إلى المفهوم هي حاجة كونية. وتفقد المفاهيم سلطتها إذا ما أفرغت من شحنتها التداولية التي تفسّر قيمتها المعرفية. هناك إذن مبالغة في فكرة الترجمة التداولية. وأمّا النقطة الغائبة فيما أراه يمثّل تحدّياً حقيقيًّا أمام هذه الفكرة، والتي غالباً ما لم ينتبه إليها المعجبون وغير المعجبين بفكرة طه عبد الرحمن حول المجال التداولي، هو أنّ هذا المفهوم نفسه تنطبق عليه الإشكالية التي نحن بصددها. فالتداولي هي المعادل الذي ارتضاه طه عبد الرحمن لعبارة تختص بعلم قائم بذاته هو اللّسانية البراغماتية. وهذا علم أمريكي تحديداً يحيلنا إلى مجمل التفكير الأمريكي الذي اكتمل مع محاولات بيرس في تطوير هذا العلم الذي لازال يتطور منذ فرديناند دوسوسور.
لقد تميّز الفكر الفلسفي الأمريكي بالبراغماتية الفلسفية كما أرسى أفكارها وليام جيمس. ومع بروز البراغماتية اللسانية اكتمل العقل الأمريكي وانسجم مع هذه الظاهرة الجديدة في تعدّد المقاصد. وكان أحرى بطه عبد الرحمن أن يعمل على إيجاد جسر حقيقي بين هذه اللسانية البراغماتية وبين ما يمكن أن يكون داعماً لها من التراث اللّغوي العربي.
وعند التعمق في عبارة تداولي التي آثر طه عبد الرحمن أن تكون المعادل العربي لمصطلح براغماتي، نجد أنّ التداول يثير قضية التساوي في بناء الدلالة، بينما المطلوب في البراغماتية وبموجب نظرية التّلقي وأفعال الكلام أنّ يكون المتلقي هو العنصر الحاسم في عملية تشكّل المعنى. من ناحية أخرى، يبدو التناقض هنا كبيرا، حيث اللسانية البراغماتية هي ثورة على الإنحاء الصّلب لأنّها هي الاستمرار للثورة الأمريكية على التّاريخانية والبنائية لصالح فعل الكلام. فهي مع بيرس جماع النزعتين الواقعية والعقلية. هنا لا مجال للإغراق في تاريخانية الكلام وبنيوية النحو، بل المعوّل عليه في عملية توليد المعنى هو فعل الكلام في سياق معيّن وظروف خاصة تشكل معا إطارا للمعنى. إنّ استحضار المعنى لا يتمّ إلَّا باستحضار كلّ هذه العوامل المصاحبة مما يجعل الحديث عن تاريخ المعنى أمرا شبه مستحيل. فالآنية والمعايشة أيضا مهمّة.
وإغراق طه عبد الرحمن في المعيارية المنطقية والنحوية كسلطة معيارية لتحديد المعنى، مناقض تماماً لعلم التداوليات. ولذا لجأ طه عبد الرحمن إلى اللّغة الطبيعية في نوع من التحريض على اللغة الصناعية التي تنطلق من شروط مختلفة وتتطوّر حسب وتائر مختلفة.
وفي هذا أتبع منهج ابن تيمية في ردوده على المنطقيين؛ حينما هاجم الصناعة المنطقية باللغة الطبيعية.
ومن هنا آثرنا أن يكون نقل المفهوم يعتمد فقط شرط وزنه ضمن اللغة المحلّية للاندماج النحوي والصوتي، بينما يظلّ مفهومه يُرخي بظلاله كمفهوم جديد تمّ استدخاله لحاجات معرفية صناعية.
لقد حرص طه عبد الرحمن على أن يجعل من قواعد النّحو والمنطق المعيار الأسمى لتحديد المعنى. وهذا انتهاك غير معلن للتداولية بوصفها تتصيد المعنى في سياق الخطاب ومقام التخاطب واستعمال اللّغة. وهي غير معنيّة بأصول المواضعات قدر عنايتها بمآلات المعاني ضمن ما عرّفه علماء مباحث الألفاظ بالمعاني التّعيّنية إذا جاز لنا القول. وذلك نابع من أنّ المعنى بتعبير هوسرل يسبق اللّفظ. وبالتالي هنا يكمن الدور الثانوي للغة. وقد جاء ذلك ردّا من هوسرل على المناطقة الصوريين -الذي ينحو طه عبد الرحمن منحاهم- الذين اعتبروا أنّ المنطق هو الذي يحدّد المعاني، لذا فصل هوسرل بين المعنى والحدّ المنطقي، ليربطه بحالة الشعور القصدي[1].
يعتبر كتاب «الفلسفة والترجمة» لطه عبد الرحمن عملاً منبّها لخطورة الترجمة أحاطها بمحاذير كثيرة، وارتقى بها إلى مستوى من الأهمية الإشكالية للعلاقة المذكورة. وستجد هذه العلاقة المحكومة بالتّوتر الذي تفرضه المفاهيم المنقولة لدى الكاتب اهتماماً يخدم وجهة نظره في علاقة اللّغة بالفكر[2]. لكن وعلى منحى طه عبد الرحمن في عدم الإحالة على الأصل الأوروبي لما ينحته عربيًّا، لم يشر إلى أن رصد هذه العلاقة لها سابقة في معالجة بنيامين لنص مالارمي في كتابه «مهمّة المترجم» حين كتب يقول: «إنّ الفلسفة والترجمة ليستا مع ذلك من الأمور التافهة كما يدّعي بعض الفنانين العاطفيين؛ ذلك أنه توجد عبقرية فلسفية تتميز بالحنين إلى هذه اللغة التي تعلن عن نفسها في الترجمة»[3].
تناول جاك دريدا إشكالية الترجمة كقضية فلسفية من خلال نموذج أبراج بابل. وهي تصلح أن تعطينا فكرة عن الهواجس التي لم يتطرّق إليها طه عبد الرحمن وهو يخوض في إشكالية العلاقة بين الترجمة والفلسفة كما لو أنّها لم تُبحث من قبل. فمن خلال مقاربة إشكالية ترجمة بابل كنّا أمام منشأ المتاهة إن لم نقل شكلاً من بلبلة اللغات. فالموقف من الترجمة الحرفية ليس جديداً فلقد حذّر منه شيشرون نقداً على شوراكي.
تضعنا أسطورة برج بابل أمام انتقام إلهي ضدّ الذين سعوا إلى فرض الأصل الوحيد والعالمي للغة. لذا سيكون تفكيك البرج والقضاء على السلالة والأصل الجينيالوجي والعقاب عبر فرض الترجمة ومنعها في آن معاً، وبذلك ينهي عهد الإمبريالية اللّسانية.
وهنا أقول: إنّ الإسرائليات الفكرانية لو صحّ التعبير، ماثلة في مقاربة طه عبدالرحمن، حيث ستتحوّل الترجمة في محاولة طه عبد الرحمن إلى ضرورة مستحيلة، بل كادت تكون لعنة. فالترجمة هي هنا بمثابة إعلان حرب على الهوية بوصفها تختزل هنا إلى لغات مشتّتة لكن يحكمها منطق كوني. ولا شكّ أنّ للتعددية اللغوية تأثيراً على عملية استزراع المفاهيم من حيز لغوي إلى آخر. هنا ومع استحالة الترجمة لا يفعل المترجم سوى أن يفسّر ويشرح ولكنه لا يترجم.
إن التقسيمات الطهائية لأنواع الترجمة هو نفسه جري على تقسيم جاكبسون للترجمة إلى حقيقية وأخرى دلالية «بينلغوية».
في مقاربة دريدا الذي اختار الأمانة العلمية للإحالة على بنيامين وكذا التعبير عن أنه مدين لموريس غوندياك الذي عمل على ترجمة نصوص بنيامين، نجد أنّ الترجمة تحيل إلى الدَّين والأمانة، لكنه دَين غير قابل للسداد ويسميه بالإنجاز البابلي. وهو ما يعتبر بنيامين باستحالة الإرجاع.
وليس ثمة سوى رابطة حميمية بين اللغات تتيحها الترجمة التي تعزّز بقاء النص حيًّا وليس حياته بعد الممات. هذه الحياة التي لا تتحقق باستمرار الجسد العضوي بل هي حياة روحية وتاريخية تتجاوز الحياة والموت البيولوجيين.
العلاقة بين النص الأصلي والمترجم ليست علاقة تلقي ولا تواصل ولا تمثيل. الأصل نفسه يتطور من خلال الترجمة: «بابل غير قابلة للترجمة». هنا أهمية «العقد الترانسندنتالي» بين لغتين. ولغة الحقيقة الخالصة التي ينتمي إلى المضمون غير الممكن ترجمته. وتكمن مهمة المترجم في استرجاع «هذه اللغة الخالصة والمنفية داخل اللسان الأجنبي وتحريرها بنقلها كلغة أسيرة داخل العمل». إن الأصل بتعبير بنيامين يكبر داخل الترجمة «ينمو ولا يعاد إنتاجه» ومن ثمّ تتصالح اللغات وتتكامل فيما بينها.
الحاجة ماسة إذن إلى لغة ثالثة ضامنة يعبّر عنها دريدا بالقول: «يتجلّى وعد الترجمة داخل مملكة تتصالح فيها اللغات. وكحدث رمزي خاص يجمع ويقرن ويزاوج بين لغتين تعتبران جزأين من كلّ أكبر، فإن هذا الوعد يستدعي لغة الحقيقة»[4].
من خلال هذه القراءة لإشكالية الترجمة كما بسطها دريدا على هامش «مهمّة المترجم» لبنيامين، ندرك أنّنا أمام حاجة للغة فوق كلّ اللّغات: لغة الحقيقة. وهذه اللغة للأسف لم تنتهِ عندها محاولة طه عبد الرحمن، حيث كان البديل عنها هو تمكين اللغة من سلطتها التداولية على المعنى وعلى اللغات الأخرى. وهنا تتعزّز إمبريالية الألفاظ والأنحاء والقاطيقورياس على فعل الكلام. وإذا كانت كلّ لغة تفرض حقيقتها خارج معيار اللغة الخالصة للحقيقة، سنكون أمام صدام حضارات لغوية.
وبما أن الترجمة باتت مستحيلة، وبما أنّ المفهوم يتطور من خلال الترجمة نفسها كان أحرى الإبقاء على المصطلح كما هو مع إفاضة الشروح والتأويل. فالترجمة هي نفسها تنمّي اللغة ولا تفرض على المفهوم نقصانها. فكمال الأصل ينعكس على اللغات من خلال الترجمة.
وهذا يفرض ما نسمّيه بالترجمة الدّائمة للمفهوم الواحد، عبر الشروح والتأويل. فكل مفهوم يخلق فلسفته. وهذا هو الحدّ الذي تؤمنه العلاقة الخلاّقة بين اللغة والفكر.
إنّ المتاهة التي تتركها الأفكار والمعاني التي تسابق بل تسبق اللغة تجعلنا أمام تحدّي كوجيتو جديد بالمعنى الفوكوني للعبارة، أي الفكر الذي في متاهات اللاّمفكّر لن يحيل إلى الوجود. وحين يتغيّر الكوجيتو الذي لا زال وفيًّا لمعيار العلم القديم فإنّنا نجدنا أمام تحوّل في العلائق المتوتّرة بين اللغة والفكر، بين المعرفة والوجود.
يتساءل موران إذا ما كانت الحقيقة انعكاساً للأشياء أم كشفاً لها أم ترجمة: «وإن كانت كذلك فأيّ ترجمة؟ وما طبيعة ما نترجم إلى تمثلات ومفاهيم وأفكار ونظريات؟ هل ندرك الواقع أم ندرك ظله فقط»[5].
هنا يبدو التخفيف من سلطة المنطق على المعنى وبنية اللغة على المعنى المحتمل. هنا يصبح البحث في تاريخ المعنى نفسه أمر غير منتج. بل هنا -حسب فوكو- مهمّة الأركيولوجيا بوصفها مهمة معكوسة لمهمة المؤرّخ تبحث في التمايزات والقطائع والتمفصلات. فالترجمة إن كانت ستكون عملية انتهاك للأصل واغتصاب كلّ حقوقه بما فيه ما كان غير قابل للترجمة، هي موقف مفارق من اللغة والفكر معاً، حيث تقرّ بقدرة اللغة على استحضار الحقيقة المكنونة في لغات أخرى وفي الوقت نفسه تستعلي عليها، ليس بلغة الحقيقة الخالصة بل بلغة تكرست فيها الحاجة إلى استعارة المفهوم والنموّ الفكري من خلاله. وربما تستعلي عليها بالتعيين لا بالتّعيّن، بالمواضعات لا بالدّلالات.
بناء عليه، اعتبرنا أنّ مصطلح بارادايم يتعيّن الإبقاء عليه كما هو دون البحث عن مقابلات عربية، مثل النموذج الإرشادي وغيرها من المعادلات. هكذا حتى نوحي بأنّنا أمام مصطلح منحوت صناعيًّا وهو لا ينتمي إلى اللغة الطبيعية في الغرب فكيف نحاول أن نقربه إلى اللغة الطبيعية عندنا؟ فما هو صناعي يجب أن يظل صناعيًّا. ونستعمل عبارة بارادايم بدل باراديغم للاستعمال الشائع نزولاً عند من يتعاطى المصطلح بالإنجليزي وليس بالفرنسي. فالكلمة هي نفسها لكنها تنطق فرنسيا بـ(باراديغم) كما تنطق إنجليزيًّا بـ(بارادايم). ويهمّنا هنا مناقشة محتوى هذا المفهوم ودوره في إعاقة المعرفة بعد أن شرحنا سبب إبقائنا على المصطلح كما هو دون إعمال تعسّفي قد تفرضه أي ترجمة تعكس فهم المترجم لا فهم المفهوم. تاريكين للمتلقّي هو نفسه أن ينسج علائق تأويلية مستدامة مع المفهوم، وهو ما أسمّيه الترجمة الموضوعية غير المباشرة الدّائمة للمفهوم. التي تعطي فرصة للمتلقّي للانخراط في العملية الترجمية بوصفها تأويلاً مستداماً.
البارادايم كعائق إبستيمولوجي
ماذا لو تدفّق التطوير العلمي للتكنولوجيا المكتسبة اليوم بعد ألف أو حتى مليون سنة، إذا كان كل هذا الشيء المدهش في الاكتشافات العلمية لم يتم إلَّا بمقدار عشرات السنين؟ لكن هذا في الواقع يطرح إشكالية الإعاقة في مسيرة العلم، والتي تجعلنا أكثر وفاء للبنيات الذهنية التي شكَّلت بنيات حاضنة للعلوم السابقة وأيضاً بنيات ذهنية نافرة من أي تجديد جذري في العلوم.
وتبدو المشكلة أكثر تعقيداً حينما يصبح العلم هو نفسه عائقاً ضدّ العلم. ونعني به العوائق التي تطرح في طريق العلم التي عادة ما يُسبِّبها إقرار الجماعة العلمية. وسوف يثار النّقاش مرّة أخرى حول مصير العلم وسيرورة التطور العلمي. وللأسف لا زالت هناك معيقات تتربّص بالثورات العلمية وتؤجّلها لصالح مرجعيات ونماذج ليس لها علاقة بالسيرورة الطبيعية للاكتشافات العلمية.
حتى اليوم لم نظفر بعدُ بفيزياء حرّة تبحث في حقائق الطبيعة على مزاج العلماء خارج رقابة الإجماع والتي في الغالب يشرف عليها رقيب الاقتصاد السياسي. وهو ما أظهره النزاع الشهير بين مفهوم الدّحض البوبري (نسبة إلى كارل بوبر) والبارادايم الكوني (نسبة إلى توماس كون). الأمر الذي لخّص قصة ضربين من الاجتهاد: الاجتهاد المطلق عند بوبر مقابل الاجتهاد من داخل المذهب عند توماس كون.
تكمن أهمية البارادايم التي هيمنت على فلسفة العلم في أواخر القرن العشرين في أنّها قدَّمت فكرة عن طبيعة التّطور العلمي الذي يأخذ طابع القفزات. وحتى هنا لا شيء جديد سوى تعزيز توماس كون عبر صياغته هذه لما كان تقرّر عند غاستون باشلار في القطيعة العلمية. لكن الأثر الخطير هنا لفكرة البارادايم تكمن أساساً في كونها شكّلت تعبيراً عن أمر كان يمارس بالفعل داخل المجتمعات العلمية. وستزداد النزعة المحافظة إلحاحاً مع تطوّر نزعة الاقتصاد السياسي داخل المجتمع العلمي القائم على فكرة الرقابة على الإنتاج المعرفي وإخضاعه لمنطق السّوق وبالتّالي الاحتكار.
ستفرض فكرة البارادايم على المجتمع العلمي أن يبني اعتقاداته العلمية على أساس الإجماع وليس الاكتشاف والافتراض وخرق قواعد ومسلمات المجتمع العلمي. وتضعنا فكرة كون عن حتمية البارادايم أمام وضع يشبه فكرة فوكوياما حول نهاية التّاريخ. إنهما ينبثقان من التأثير ذاته الذي تحدثه غلبة النموذج العلمي شديد الصلة والرهان بالاقتصاد السياسي.
هناك حرص كبير داخل الدّوائر المهيمنة على البحث العلمي على ضبط وحراسة أصول ومقولات الجماعة العلمية المنتجة للعلم السّويّ بمفهوم كون الذي اشتغل كمجنّد في مهمّة تكريس المحافظة العلمية ضدّ محاولات الاختراق للباراديم. قد يكون من غير المبالغ فيه ذلك النعت الذي أحدث مقايسة بين المنطق الذي تشتغل به الجماعة العلمية وبين المنطق الذي تشتغل به الجماعة الدينية في إطار الأصولية البارادايمية عند كون. وذلك من خلال ما يحدثه الخوف من اختراق العلم الاستثنائي لمقولات العلم السويّ هو أشبه بالفتنة في منظور الجماعة الدينية. شكّلت محاولة كون سابقة غير بريئة في مضمار فلسفة العلم لارتباطها بحسابات أخرى تتعلق بالضبط الرأسمالي لحركة العلم. فالرأسمالية لا زالت ولأسباب ماركوتينية تتحكم بإيقاع وأصول العلم مما يجعلها ضد الإبداع لأنها كرست بشكل أصولي فكرة الإجماع والرقابة في البحث العلمي. وبالنتيجة فإن أمريكا تسعى عبر التجسس الصناعي والعلمي وعبر الاحتكار إلى ضبط إيقاع تقدُّم العلوم خوفاً من الثورات غير المحسوبة بحساب الرساميل. من هنا أيضاً وجب التذكير بأهمية التصنيع بالنسبة للاستراتيجية الاحتكارية العالمية.
إن وجود مشاريع صناعية سرية خارج تحكم وضبط النموذج العلمي الرسمي احتكاري هو بمثابة تهديد بثورات علمية غير مقبولة لدى قوى الهيمنة الكبرى. لأن القدرة الإبداعية المتحرّرة تمنح دفعة أسطورية لمنظومة كاملة من فروع العلم مما يجعل فعل خرق النموذج الإرشادي للعلوم أمراً ممكناً دئماً.
نستطيع الوقوف على جانب من تلك الحقائق في المعالجة التي قدَّمها ستيف فولر بخصوص المناظرة الشهيرة بين بوبر وكون بجامعة لندن في منتصف ستينات القرن الماضي. وهي المقاربة التي لم تقف عند مظاهر الإفحام والحجاج بل نظرت في محتوى الرسائل التي تضمنها ذلك النقاش الذي أكّد البعد التقدمي للعلم في نظر بوبر مقابل نزعة المحافظة في العلم عند كون. فالعلم في نظر الأوّل يجد مبرره في تطلعاته التقدمية في حين هو في نظر الثاني يجد مبرره في أصوله البارادايمية. فالعلم السوي في نظر كون ليس في نهاية المطاف سوى أعمال تفصيلية تجسّد مخططاً بارادايميًّا مقرّراً سلفاً. سعى بوبر خلافاً لكون إلى مواجهة كل أساليب الهيمنة في العلم[6].
إنّ انتصار كون هنا أعطى الشرعية للجماعة العلمية المهيمنة. هذه الجماعة التي نظر إليها بوبر كصيغ فاسدة للمثال العلمي[7]. ومن هنا «تفوّق كون على بوبر في بلاط الرأي العام»[8].ويظهر أنّ كون على الرغم من أنّه نظّر للثورات العلمية، إلاّ أنه لا يعتبر ثوريًّا علميًّا، حيث نظر إلى الثورات العلمية كملاذ أخير للعلم[9]. وكان بوبر قد نظّر للمجتمع المفتوح سياسيًّا وعلميًّا أيضاً. وبأن المطلوب من العلماء أن يسعوا دائماً إلى دحض نظرياتهم العلمية كما يجب على الناس باستمرار اكتشاف الخلل في حكوماتهم. وهو ما جعل بوبر وتلامذته -حسب ستيف فولر- باحثين ذوي فرص متكافئة عن الأخطاء في العلوم الطبيعية والاجتماعية[10].
ومن هنا يبدو توماس كون -بحسب مصطلح المتكلّمين- من المصوّبة في حين يبدو كارل بوبر من المخطّئة. وهو لهذا لم يخفِ انطباعه السلبي من أفلاطون، ذلك الذي كان -في نظره- قد أفسد فكرة التقدم[11].
إن ما يسميه كون بالعلم السويّ هو في نظر بوبر فشلاً أخلاقيًّا. والمبدأ الأخلاقي في نظر بوبر هو مبدأ القابلية للدحض. لذا ما فتئ يتحدّث عن ضمانة أخرى غير سلطة العلماء التي قد تؤدي إلى فساد العلم.
إن العلم في ضوء برنامج البارادايم يعكس سلطة مجتمع علمي عادة يؤثر ويتأثر بالوظائف الاجتماعية بشكل غير متكافئ.
إنّ الجماعة العلمية هي جماعة أقلية سيطرت على نشاط علمي بصورة غير متكافئة. فتصبح المعرفة على هذا الأساس أداة لتركيز القوة لا لتحللها وأداة هيمنة وليس وسيلة تحرر[12]. وتبدو الحقيقة عند بوبر متعالية على الجماعة في حين هي عند كون تكمن داخل الجماعة[13].
سوف يثير هذا الوضع الحرج لقضية هيمنة البارادايم على النشاط العلمي فكرة الاستهانة بتاريخ فلسفة العلم. حيث نظر إليه ستيف فولر على أنه «سلسلة لا تنتهي من الخيبات، مقبرة علماء فاشلين وأفكار علمية فاشلة»، وإنّه في نهاية المطاف ليس «تاريخ علماء كانوا في الطرف الخاسر في مجادلات من الرتبة الأولى اكتسبوا أفضلية معرفية عبر الصعود إلى بحث من الرتبة الثانية، أي البحث في المثل التي يتوجب أن توجه سلوك العلم»[14].
في هذا السياق يثير فولر قصة السخرية التي أثارها كتاب كون عن بنية الثورات العلمية، عند فلاسفة العلم الأنجلوساكسونيين. ويتجلّى ذلك في الغموض الذي جعل عبارة بارادايم -كما لاحظت مارجريت ماسترمان- تتخذ 21 معنى في الطبعة الأولى من الكتاب. وكانت النتيجة فيما يقرره فولر هو أنّ هذه الاختلالات لن تنال من سمعة كون، بل سوف تتحول هي إلى مكمن قوّة، أو بالتعبير الذي يستعيره فولر من جون الستر «الليمون الحلو». وعليه فليس كون هو من سيدفع ذلك من صميم سمعته الفلسفية، بل ما حدث هو أنّ المشروع الفلسفي هو من سيتدنّى داخل التخصصات المعنية بدراسة العلم[15].
لقد تمّ عقد مقارنة بين توماس كون وماتن هيدغر بخصوص مسألة الصمت وطأطأة الرؤوس لدى العلماء الذين اشتغلوا بعقود عسكرية. وكان كون حسب ما يذكر فولر وكما ورد في تصريح صحفي له في بداية تسعينات القرن الماضي بأنّ للعلم وظائف اجتماعية تتجلى في كونه عامل إنتاج أو أداة حكم[16]. في قبال هذا كان كارل بوبر قد دعا العلماء في أوج حرب فيتنام «إلى تبني صيغة من اليمين الأبيقراطي لكبح نزوعهم شطر إلحاق الضرر»[17].
وبعيداً عن كل هذا الجدل حول السلوك العلمي بين نزعة المحافظة ونزعة التحرر استمر النّقاش على أشدّه. وربما فتح شهية لطرق أخرى بعضها لم يتحرّر من أسوأ ما في الطريقين، كما حصل مع فيرابند صاحب «ضد المنهج»، الذي لم يفعل -حسب لاكتوش- أكثر من الجمع بين أسوأ نزوعات بوبر وأسوأ نزوعات كون لصالح نزعة الفوضوية الإبستيمولوجية[18]. لكن المهمّ في هذا النقاش ذي الأثر البالغ على بنية الفكر العلمي الحديث، هو أنّ العالم يتعدد بحسب البارادايمات التي تشكل خريطة طريق العلماء في أي برنامج أو نشاط علمي. كما أن لا خيار عن تحرير العلم من سلطة الجماعة العلمية وتحريك مبدأ القابلية للدّحض. وهنا قد نجد طريقاً ثالثاً قد يؤلّف خلافاً لما وصف به لاكتوش فيرابند. أي بأن نجمع أهم وأجود ما في الطريقيتن. وأعتقد أنّ الوصل بينهما برسم العبر-مناهجية ممكن جدًّا إذا ما اعتبرنا الحقل الأنطولوجي هو حقل انصهار كلّ أجزاء ونتائج العلوم ومناهجها. إنّ توماس كون يبحث عن استقرار العلوم واستنفاذ ما في جعبة الأصول البارادايمية التي تشكل قواعد لتدبير النشاط العلمي. بينما بوبر يبحث عن عدم استقرارها لصالح التطور الدّائم. وذلك ما سمّيناه في كتابنا «المفارقة والمعانقة» بالبارادايم المفتوح. وفيها يلتقي أجود ما في نظرية البارادايم الكوني مع فكرة المجتمع المفتوح عند بوبر.
العبر-مناهجية: ثورة في المنهج وعلى المنهج
قبل تحسس طريقنا الثالث المتصالح مع عهد طفولتنا المتحرّرة من هيمنة مسبقات اللّوغوس، لا بدّ أن نتوقّف قليلاً عند إشكالية المناهج، باعتبارها مسألة أساسية في نظرية التجديد الجذري التي تستهدف الذهن البشري. والهدف هنا نعلنه مسبقاً، ألا وهو اكتشاف أزمة المناهج داخل حقل تدبير المناهج نفسها. إنّ الفوضوية الإبستيمولوجية التي تبنّاها فيرابند وجعلها مطيّته ضد كلّ منهج ليست أقلّ شقاوة من دعوى المنهجية الواحدية الصارمة التي تختزل كل الوقائع الممكنة وتعقيدات العالم في مقاربة منهجية واحدة. وبين هذه وتلك ظهرت اعتقادات منهجية لم تستطع أن تحلّ مشكلة تدبير العلاقة بين المنهج والواقع والمعرفة من دون شطط. ذلك لأنها سعت منذ البداية إلى استبعاد الذّات والوعي بوصفه جزءاً من الواقع وليس أمراً مجرّداً. وهكذا تمّت مواجهة المعضلتين بتحشيد هائل لكل المناهج وتلفيقها. وذلك بدعوى تعقّد الواقع. وهذا إلى حدّ ما صحيح. فتعقيد الواقع يستدعي رؤية مركّبة. ولكن الإشكال ينتقل هنا إلى مستوى عملية التركيب نفسها.وداخل هذا الحشو المناهجي الذي يدعي تعدّدية المناهج تبرز إشكالية التيه ومفارقات الواقع نفسه بشكل يؤسس إلى مستوى آخر من الانسداد أسميه الانسداد المتعدد. وهو الانسداد الذي يجعلنا نوهم أنفسنا بأنّنا وسّعنا من مستويات إدراكنا لكنّ هذا لا يؤثّر في مستوى الواقع الذي يبقى هو هو ما دام الموضوع لا يزال يحتفظ بالمسافة نفسها من الذّات.
إنّ تعددية المناهج على أهميتها لا تختلف في سياسة حلّ مشكلة المعرفة، لأنّها تعالجها في مرتبة الموضوع بينما تظلّ المشكلة قائمة في رتبة تدبير العلاقة بين الذّات والموضوع.
لقد تقدّمت المنهجية أطوار لتقف عند البينمناهجية التي بنت على تعددية المناهج من دون الوفاء لأحدها. ففي التعددية المناهجية توجد دائماً شئنا أم أبينا تراتبية وعدم تكافؤ في الفرص بين المناهج. أي دائماً يوجد المنهج الناظم والمستوعب لسائر المناهج التي تؤدّي هنا دور الكومبارس في دراما المنهجية. لكن جاءت البينمناهجية لا لتقيم داخل هذه المناهج بل لتركّب من هذا الكل منهجية مركّبة من كلّ مستويات إدراك واقع بعينه. غير أنّنا نرى أنّ ثمة موقفاً أهمّ من كلّ هذا وأنجع من كلّ ذاك. إنها العبرمناهجية (Transdiscipliranite) التي تكمن أهمّيتها في أنّها تنقل الإشكال إلى مستوى تدبير العلاقة بين الذات والموضوع.وتعطي السلطة لما هو أنطولوجي وتجعل المناهج تعبيراً عن وقائع وليس عن واقع واحد. إنها تتبنّى الأجود في كل المناهج لكنها لا تسلط منهجاً مخصوصاً على سائرها كما هي التعددية المناهجية (pluridiscipliranite)، ولا تستهدف تركيب منهج شمولي من تلك المناهج لمزيد من ضبط الموضوع كما هي البينمناهجية (interdiscipliranite). ولا هي تنحطّ إلى اختزال الواقع المعقّد في مستوى إدراك واحدي كما هي المنهجية الواحدية الصارمة (unidiscipliranite). ولا هي تتيه بالموضوع خارج كل منهجية كما هي دعوى ضدّ المنهج (antidiscipliranite). إنهما موقف مناهجي مستوعب لكل المناهج ووارث لصرامة المنهج الواحد وتحررية ضدّ المنهجية ومرونة تعددية المناهج وتركيبية البينمناهجية. لكن كلّ هذا لا قيمة له إذا لم نستحضر أنّ كلّ هذا الاستيعاب يتمّ على قاعدة تدبير أمثل لعلاقة الذات بالموضوع.إنّها ضرب من الحكامة الأنطولوجية التي تجعل الغاية من كل ذلك هو تأمين تجاوز الذات لنفسها بنفسها والعبور من كل مستويات الواقع وكل مستويات الإدراك.
إنّ الواقع في نظر بسراب لا يتقوّم إلَّا بالذات والموضوع والقدسي الذي يكفل التناغم بين الذات والموضوع. ومن دون وجود واحد من الثلاثة مقومات السابقة الذكر فسنكون حتماً أمام ضرب من الاستيهام المدمّر وليس أمام واقع واقعي[19]. لقد آثرنا أن نعالج هذه القضية في سياق البحث عن فيزياء بديلة تستطيع أن تجيب عن أزمة السلوك العلمي الذي يتوقّف عليه تحرير مستويات من إدراكنا وواقعنا أيضاً. ففي الفيزياء تنبثق الأجوبة الواعدة التي تهدف إلى تحرير العقل من العقل والمادة من المادة. وليس غريباً أنّ أكثر الذين فطنوا إلى هذه الأزمة هم فيزيائيون. وليس أغرب من ذلك أنهم أدركوا أهمية الربط بين الشعر والفيزياء، الشعر والخيال، وبالتالي إعادة تأثيث عتبة جديدة لفيزياء بديلة تدشّنها العودة إلى أسئلة الطفولة البريئة. وهنا تلتقي العبرمناهجية مع الفيزياء كما سنتبّينها من خلال أهمّ بيان تاريخي مرّ بصمت ومن دون الضوضاء نفسه الذي سبق وأحدثه البيان الشيوعي. وأعني به بيان العبرمناهجية الذي تبنّاه بسراب نيكولسكو. كما تلتقي هذه العبرمناهجية بشكل غير مباشر مع الفيزياء المستحيلة عند ميتشيو كاكو. وكلاهما -كما سيظهر لاحقاً- يعتبران الثورة الكوانتية والثورة المعلوماتية مؤشراً لتغيير جذري لرؤية العالم.
ويشكّل القرن العشرين محطة أساسية في تسارع تطور العلوم إلى حدّ اسكشاف اللاّمتناهي في الكبر واللاّمتناهي في الصغر.
في منظور بسراب انشغلت الفيزياء الكلاسيكية بالكون المتّصل والسببية المحلّية. وكلّ شيء جرى على هذا المنوال فيما عزّزت الفتوحات العلمية في هذا العصر هذه الرؤية. لقد تمت القطيعة مع العهد القديم. وكان من أثر ذلك القطيعة بين الذات والموضوع. وسينتج عن الإقرار بالعالم المتّصل القول بالسببية المحلية التي ألغي معها بحكم هيمنة ذلك الشكل الوحيد من السببية كل الأشكال الأخرى التي تطرق إليها أرسطو كالسببية الصورية والسببية الغائية. وحينئذٍ لم يعد من الضروري تقييد ذكر السببية بالمحلية، لأنها أصبحت هي الشكل المهيمن والوحيد، بعد أن تعززت في جهاز رياضي يقوم على الاتصالية عند لايبنتز ونيوتن[20]. لكن هذا العالم سرعان ما سيفسح الطريق أمام عالم غير مرئي، مع فيزياء الكوانتا.
كان ماكس بلانك قد طرح أسئلة بريئة لكنّ حلّها أحدث في داخله دراما حقيقية، حين اكتشف للمادة بنيان خفي غير متّصل[21]. لم تكن اللاّإنفصالية الكونتية تسعى لإنكار مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. بل جاءت لتغذّيها بآفاق جديدة أخرى. أو حسب بسراب لم تأتِ اللاّإنفصالية الكوانتية لتنسخ السببية نفسها بل لنسخ إحدى أشكالها التي هيمنة على الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية ألا وهي السببية المحلّية. كما أنها لا تشكك في الموضوعية العلمية بل تشكك في شكل من أشكالها هيمن على التفكير الكلاسيكي يفصلها عن باقي العلائق غير المحلّية[22]. كل هذا في نظر العبرمناهجية يعزز من فكرة أنّ الثورة الكوانتية إنما هي لحظة انقلاب على رؤية كلاسيكية للعلم تقوم على مستوى واحد للواقع. وهذا الإدراك لمستويات الواقع ليس جديداً، بل هو متوفر في تاريخ الحضارات المختلفة. غير أنّ فكرة تعدد مستويات الواقع في تلك الحضارات -حسب بسراب- كانت «مؤسّسة إما على عقائد دينية وإما على استكشاف الكون الدّاخلي»[23].
ويمنح بسراب الفضل في اكتشاف حقيقة تعدد مستويات الواقع في عصرنا هذا إلى هسرل ونظرائه. لكن ما حدث هو أنهم هُمّشوا من قبل الفلاسفة أو لم يُفهموا من قبل الفزيائيين الغارقين في تخصصهم. لكن هذا لا يحجب أنهم كانوا طلائع استكشاف عالم متعدد الأبعاد والمراجع[24].
العبر مناهجية لا تلغي المنهجية بل تفيد من نتائجها الناجعة على مستوى إدراك الواقع في مستوى من مستوياته لكنها تعتبر مجاله محدوداً. في حين تبدو العبرمناهجية معنية «بالدينامية المتولّدة بفعل عدة مستويات للواقع في آن معاً»[25].
إنّ حركة الاستكشاف في العالم ما قبل الكوانتي كانت تتجه من المرئي إلى المرئي. وهي في العالم الكونتي -حسب بسراب- تتجه من المرئي إلى اللاّمرئي. إننا نستطيع إدراك هذا العالم إذا بتحقيق نوع من الصمت الداخلي وإسكات الفكر المعتاد الذي يحول بيننا وتمثّل حقائق العالم الكوانتي الذي لا نستطيع اقتحامه بأنفسنا بما أننا لسنا كائنات كوانتية، ولكن يمكن ذلك بعد تمكين الفكر المعتاد ومسلّماته الماكروفيزيائية لفهم حقائق اللاّإنفصالية الكوانتية[26]. إنها مسألة تربية وعادة. فمستوى الإدراك الضروري في اللاّإنفصالية الكوانتية كامن في صلب تركيبتنا نفسها. تماماً كما أنّ العالم الكوانتي كامن في العالم الماكروفيزيائي[27].
هنا تكون دعوى بسراب إلى ضرب من الفطرة. الفطرة هنا بطبيعة الحال لا تعني الجهل أو البساطة الأولى ما دام بسراب يؤمن ببساطة الذات وتعقّد الواقع. وأنّ همّ العبرمناهجية هو كيفية تدبير جدل البساطة والتعقيد. لكنّه يعتبر أن دخول عالم الكوانتا يفترض صيرورتنا أطفالاً. إنه شرط دخولنا الخيال الكوانتي الذي يبدو خيالاً بلا صور.شرط الطفولة هنا التحلل من كل صور العالم الماكروفيزيائي الحاجب لرؤية العالم الكونتي وتجليّه. وهذا يساعدنا على إدراك معنى الفطرة الحيوي من حيث هو قدرة فائقة على التّقدم والعبور. ويذكّرنا هذا الذي يتحدّث عنه بسراب في العبر مناهجية وسيذكّرنا به ميتشيو كاكو في الفيزياء المستحيلة، بالمقولة القديمة للسيد المسيح: لم تدخلوا الجنة حتى تصبحوا أطفالاً.
[1] انظر محمود عكاشة: النظرية البراجماتية اللسانية، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 2013.
[2] حضرت في بدايات التسعينات أمسية بمناسبة صدور كتاب عبد الكريم غلاّب: اللغة والفكر، وكان من بين قراء هذا الكتاب د. طه عبد الرحمن. حدث هذا قبل أن تظهر أعمال هذا الأخير في الأسواق، لكنّه ارتقى بعمل عبد الكريم غلاّب إلى كونه يعبر عن أنّ كاتبه تنزل منزلة كبير اللغويين والمفكرين.
[3] جاك دريدا: استراتيجية تفكيك الميتافيزقا، ص258، تـ: د. عز الدين الخطابي، ط 1، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013.
[4] م، ن، ص 283.
[5] إدغار موران: المنهج، ص 23، تـ: د. يوسف تيبس، ط1، أفريقيا الشرق، 2013، الدار البيضاء.
[6] ستيف فولر: كون ضدّ بوبر، ص 18، تـ: نجيب الحصادي، المركز القومي للترجمة، ط 1، 2012، القاهرة.
[7] م، ن، ص 20.
[8] م، ن، ص 26.
[9] م، ن، ص 32.
[10] م، ن، ص 47.
[11] م، ن، ص 34.
[12] م، ن، ص 51.
[13] م، ن، ص 53.
[14] م، ن، ص 79 - 80.
[15] م، ن، ص 148.
[16] م، ن، ص 156.
[17] م، ن، ص 159.
[18] م، ن، ص 25.
[19] بسراب نيكولسكو: العبرمناهجية،ص88، تـ: ديمتري أفييرينوس، دار مكتبة إيزيس، دمشق، ط1، 2000.
[20] م، ن، ص 18.
[21] م، ن، ص 23.
[22] م، ن، ص 26.
[23] م، ن، ص 31.
[24] م، ن، ص 31.
[25] م، ن، ص 56
[26] م، ن، ص 75
[27] م، ن، ص 86