شعار الموقع

الحداثة والوعي الزمني

العربي ميلود 2019-06-02
عدد القراءات « 642 »

الحداثة والوعي الزمني

 

إعداد وتقديم: الدكتور العربي ميلود

تقديم

إن هذه المفارقة التي تسكن الحداثة منذ بدايتها، تستوجب النقد الذاتي وإعادة البناء، لا السير في موضة النقد الجذري، والعداء المنهجي للأنوار، فحالة المصالحة بين الذات ونفسها والذات والطبيعة، هو صورة السعادة الأصلية، لأن مغامرة الذات خارج الدين والميتافيزيقا، هي مغامرة ذات متعطشة للمعرفة ولإدراك ذاتها.

جاعلة من التفكير في الإنسان كوحدة كلية ومطلقة أداة للتقارب، وتذليل المسافة الكائنة بين الذات والآخر، مما يوسع الأرضية المشتركة للتفاهم والحوار، والصداقة والاحترام، كما يمنح سيرورة تتجاذبها فكرة وجود حداثة نموذجية تراعي مسألة الزمن التاريخي، الذي تتعلم منه الذات كيف تتبنى رأي الآخر، وكيف تتلاقح الذوات وتتقاطع عوالمها الوجودية، لتتأسس صورة إنسان العصر الجديد.

إن ميزة الحداثة الفلسفية، هي الانفتاح على الحاضر ثم المستقبل، محاولة التعبير عن الحاضر وفهمه، لأن على الفلسفة أن تصبح بنت زمنها، زمن تجاوز التقليد، الولادة، الانتقال والرحيل، فهي وعي الذات بطلوع شمس يوم جديد، يجب التفكير فيه كحاضر.

هناك معضلتين حول التفكير في سؤال الحداثة: ما هي الحداثة ومتى بدأت؟

هل هي نمط من التفكير أو حالة نفسية واجتماعية أكثر من كونها نظرية ترتبط بحدث تاريخي معين أو أحداث متعددة؟

هل يمكن للحداثة أن تتعالى عن كل ضبط زمني أو تحديد مفاهيمي؟

كيف يمكن التفريق بين التحديث بجوانبه الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، والحداثة كونها عقلنة للعلم والزمن والتاريخ؟

وهل يمكن الحديث عن حداثة عربية إسلامية، أم أن فكرة الحداثة مرتبطة بواقع جيو-فلسفي غربي مطلق؟

ولمحاولة الإجابة عن بعض من هذه التساؤلات سوف تعرض المقالات الثاوية في هذا الملف لسؤال الحداثة من خلال مقاربات خمس:

المقاربة الأولى ستكون مفاهيمية، وهي للدكتور العربي ميلود من جامعة مستغانم، الجزائر، والموسومة مقالته بتساؤلات في الحداثة، إذ سيعرض لمفهوم الحداثة عبر سيرورته التاريخية، وما يتخلل هذا المفهوم الشائك والمعقد من تداخلات معرفية مع مفاهيم فلسفية كبرى كالعقل والدين وغيرها، لذا سيحاول أن يمنحنا تحديداً فلسفيًّا وزمنيًّا لمفهوم الحداثة، على اعتبار أنها باتت الموضوع الأكثر استقطاباً في عالمنا الراهن الغربي والعربي الإسلامي على حد سواء، وعليه ستمثل الحداثة تجربة بشرية لا تعتد بالحدود ولا الثقافات، بل تخص الإنسانية جمعاء.

المقاربة الثانية في هذا الملف، هي للدكتور عطار أحمد من جامعة تلمسان، الجزائر، والتي حاول فيها أن يقف عند لحظة مهمة من لحظات الحداثة ألا وهي عصر الأنوار وبالأخص عند نص إيمانويل كانط الشهير: ما الأنوار؟. لكن المقالة لن تتوقف عند حدود كانط بل سيحاول صاحب المقال استقراء نص الأنوار من خلال فيلسوفين معاصرين هما الفرنسي ميشال فوكو، والألماني يورغن هابرماس، ويأتي استحضار هذين الفيلسوفين لإظهار مدى التفكك الذي بات يكتنف الحداثة ذاتها، فالأول شكل لحظة تجاوز الحداثة أو مركزية العقل، بينما حاول هابرماس إعادة ترميم هذه المشروع واعتباره مشروعاً لم يكتمل بعد.

المقاربة الثالثة زمانية تاريخية للدكتور قواسمي مراد من جامعة مستغانم، الجزائر، وقد وسم مقالته بـ(الزمان والزمانية.. ضد زمان الحداثة)، إذ سيركز صاحب المقال على تحديد مفهوم الوعي الزمني من خلال فينومينولوجية إدموند هوسرل، التي منحت للحداثة تصوراً مميزاً من خلال ارتباطها اللازم بالوعي الزمني أو التجربة الزمانية التاريخية، فالوعي بالزّمان هو تلك الصّورة التّركيبية التي تجعل كلّ تركيبات الوعي ممكنةً، وبناءً على أن بنية الوعي تنقسِم إلى مادية منها وصورية، فالزّمانية ليست هي ذلك الوعي المحايث للزّمان وإنّما مُضَايِفُهُ، ومعناه أنّ الزّمانَ في الأصل صورةٌ لا مادّة، فالزّمان هو فعل الوعي الذي يُعتَبَرُ صورةً، في حين أن الزّمانية بما هي موضوع الوعي فإنّ هذا الأخير هو ما يجعل من المعيشات مُنتظَمَة، أي بما هي بدءٌ وانتهاءٌ، إمّا أنّها تتعاقبُ أو تتزامنُ، وهو ما يعني بأنّ الكليّة الزّمانية محسوبة على جانب الصّورية القصدية، أفعال الوعي، بينما تُحسب عمليات التغيّر وحتّى التّناقض على الجانب المادّي المتعلّق بمحتويات الزّمان، أي موضوعات الوعي.

وتعد هذه المقاربة الثالثة آخر محطة في هذا الملف لما سميناه لحظات تأسيس المفهوم في فضائه الابتدائي، أي في الحقل الفلسفي الغربي، لننتقل بعدها مع مقاربتين أخريين إلى الحقل العربي الإسلامي، إذ سيتعرض الدكتور بومحراث بلخير من جامعة مستغانم، الجزائر، إلى رهانات قراءة التراث الإسلامي لدى المفكر العربي محمد أركون، وتعد تحديدات هذه القراءة الباب الرئيس الذي يمكن أن نلج من خلاله لعالم الحداثة في صورته العربية الإسلامية دون أن نقصي التجارب الإنسانية الأخرى التي سبقتنا في ولوج عالم الحداثة، وتحديد مفاهيمه وصوره الزمنية.

أما المقالة الأخيرة في هذا الملف فهي للدكتور مرقومة منصور من جامعة مستغانم، الجزائر، والذي ارتأى أن تكون مقاربته لموضوع الحداثة أنثربولوجية خالصة، باعتبار أنه بات يصعب علينا التمييز بين الحداثة والتحديث، وعليه اختار صاحب المقال نموذج الجزائر ليبرز من خلاله مظاهر الحداثة والعصرنة التي باتت تشكل أهم مظاهر مجتمعنا الحالي برغم أنها غربية المنشأ، وبالرغم من أن مجتمعاتنا العربية الإسلامية لا زالت تعتقد بفكرة العصبيات والتقاليد والطقوس.

وفي الأخير يجدر بنا الإشارة إلى أن راهنية موضوع الحداثة هو ما دفعنا لطرح هذا الملف، الذي سلك خط سير نراه منطقيًّا من لحظة التأسيس الغربي إلى لحظات تحديد المفاهيم مع أقطاب فلسفية معينة، بلوغا إلى لحظة الانعراج نحو الفضاء العربي الإسلامي لاستلهام تجليات هذه الحداثة ومدى إمكانية حلولها ضمن مجتمعات تنعت غالباً بالتراثية.