عصر النهضة..
كيف انبثق في المجال العربي الحديث؟
زكي الميلاد
- 1 -
عصر النهضة.. والأطروحات الأربع
كيف ظهر وتشكل ما عرف بعصر النهضة، أو عصر اليقظة، أو عصر الإصلاح، أو عصر الأزمنة الحديثة، على اختلاف التسميات والتوصيفات المتداولة في الأدبيات العربية والإسلامية؟
هذا السؤال يحضر في أذهان كل من يقترب من عصر النهضة توقفاً وتأملاً ونظراً، وكل من يتصل بهذا العصر بحثاً وكشفاً ودراسةً، وذلك لأهميته وقيمته الفكرية والتاريخية من جهة، ولمركزيته ومحوريته في هذا الموضوع من جهة أخرى، ولكونه من جهة ثالثة سؤال بقي حائراً، ومحتفظاً بعض الشيء بإثارة الدهشة مع هذا الامتداد الزمني الطويل.
ومصدر الدهشة في هذا التساؤل أنه يقارب فترة نادرة الحدوث، وعدت مميزة جدًّا في روحها وأفقها، وكادت تتغير فيها وجهة المنطقة العربية وتنقلب مساراتها، وتضعها في طريق النهوض والتقدم، ومرت علينا هذه الفترة ومضت من دون أن نجني ثمارها، ولم نتنبه إليها باكراً، وتوالت الأيام فقطعت صلتنا بهذه الفترة الموصوفة بالذهبية.
مع ذلك، هناك من سلب مصدر الدهشة في هذا التساؤل وقلب صورته، وقلل كثيراً من أهميته وقيمته، وذهب إلى هذا الرأي الدكتور فهمي جدعان الذي توقف أمام تساؤل طرحه على نفسه، ووجد فيه أنه فقد إلى حد بعيد سحره وإغراءه، وحسب تساؤله ورأيه يقول الدكتور جدعان: ما هو على وجه الدقة الأمر الذي أدخل الدولة العثمانية ومعها العرب في العصور الحديثة؟ وأي وعي أنتج هذا الحدث لدى المفكرين العرب المسلمين بالذات؟
وفي الإجابة عن هذا التساؤل، يرى جدعان أن «من الواضح تماماً أن هذا السؤال الذي طرح مراراً كثيرة قد فقد إلى حد بعيد سحره وإغراءه، لكن ذلك لا يعفينا من العودة إليه، لأن أعمال المفكرين العرب المسلمين لا تكتسب دلالتها وقيمتها إلَّا على ضوء التحديدات التي تتضمنها الإجابة على هذا السؤال»[1].
نتفق مع الدكتور جدعان بأن هذا السؤال طرح مراراً، لكنه طرح بصيغ وأشكال مختلفة، تضفي عليه عنصر الدهشة، ولا تسلبها منه، وتجنبه اكتساب صفة الرتابة، ولا نتفق معه أبداً في أن هذا السؤال فقد إلى حد بعيد سحره، وذلك لأن ليست هناك إجابة واحدة على هذا السؤال، وإنما هناك إجابات، وهذه الإجابات اختلفت وتعددت كانت وما زالت، على كيفية ظهور هذا العصر وتشكله، وعلى كيفية غيابه واضمحلاله، أي إن الإجابات اختلفت وتعددت على زمن البداية، وعلى زمن النهاية.
يضاف إلى ذلك، أن عصر النهضة الذي اندرس وتلاشى وجوداً وزمناً، بقي في الذاكرة والأذهان حلماً وتعلقاً، وتحول في نظر البعض إلى حنين، وحنين جارف حسب وصف الدكتور سعيد بن سعيد العلوي، الذي يرى أن هذا الحنين يحركه الشعور بالنقص والحرمان في الحاضر، ويوقظه في النفس الإحساس بالمرارة وخيبة الأمل[2].
ولولا عنصر الدهشة في هذا العصر، ما حصل هذا التعلق، وهذا الحنين.
وأمام السؤال المطروح، وقفت على أربع أطروحات مهمة، تعددت فيها وتباينت زوايا النظر واتجاهات البحث، وتعارضت فيها وتباعدت المواقف والأفكار، وهكذا النتائج والخلفيات.
وهذه الأطروحات الأربع بيانها وتعدادها، قبل الحديث التفصيلي عنها، هي:
أولاً: الأطروحة التي ترى أن عصر النهضة ظهر وتشكل على أثر الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، ومطلع القرن التاسع عشر.
ثانياً: الأطروحة التي ترى أن عصر النهضة ظهر وتشكل نتيجة نهوض ذاتي حصل في القرن الثامن عشر، وهناك من يرجعه إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر، وامتد إلى أوائل القرن التاسع عشر.
ثالثاً: الأطروحة التي ترى أن هذا العصر يبدأ مع ابن خلدون (732 - 808هـ/ 1332 - 1406م) في القرن الرابع عشر.
رابعاً: الأطروحة التي ترى أن هذا العصر ظهر وتشكل على أثر ما أحدثه السيد جمال الدين الأفغاني (1254 - 1314هـ/ 1838 - 1897م) من يقظة واسعة في مراكز العالم الإسلامي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
- 2 -
عصر النهضة.. والحملة الفرنسية
الحملة الفرنسية على مصر التي دامت ثلاث سنوات، بدأت سنة 1798م وانتهت سنة 1801م، بقيادة القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت (1183 - 1237هـ/ 1769 - 1821م)، هذه الحملة اختلفت طبيعتها عن باقي الحملات العسكرية الأخرى التي حصلت في الشرق.
فقد اختلط في هذه الحملة وامتزج الطابع العسكري مع الطابع العلمي في حالة نادرة، فإلى جانب القوات العسكرية التي كان لها الغلبة العددية بالطبع، كان هناك أيضاً فريق كبير من العلماء ينتمون إلى تخصصات متعددة، في الطب والهندسة والرياضيات والعلوم والجغرافيا والآداب والفنون والإعلام وغيرها.
هذه الحملة بهذه الطبيعة ظلت على طول الخط تثير الجدل والنقاش والاختلاف، ليس في ساحة العرب والمسلمين فحسب، وإنما في ساحة الأوروبيين أيضاً، وليس في زمن الحملة مطلع القرن التاسع عشر فقط، فقد تواصل وامتد على طول زمن القرن العشرين، وما زال له إلى اليوم في القرن الحادي والعشرين بقايا أثر.
وبات من المألوف مع الذكرى السنوية لهذه الحملة، التي دخلت مصر من ساحل الإسكندرية في أول شهر يوليو 1798م الموافق 17 محرم 1213هـ، ووصلت إلى القاهرة في 24 يوليو الموافق العاشر من صفر، بات من المألوف أن يتجدد في ساحة المصريين الجدل والنقاش والاختلاف، وبصور وأنماط مختلفة.
وبتأثير الطابع العلمي لهذه الحملة، كان لها وقع الصدمة والصدمة المدوية ليس على مصر فحسب، وإنما على المنطقة العربية برمتها، الصدمة التي وصفت تارة بصدمة الحضارة، وتارة بصدمة النهضة، وتارة بصدمة الحداثة، في دلالة على قوة وشدة هذه الصدمة من جهة، وعلى عمقها وامتدادها من جهة أخرى.
وفي نطاق هذا الانطباع، تبلورت الأطروحة التي ترى أن عصر النهضة في المجال العربي الحديث انبثق بتأثير هذه الحملة، التي جعلت العالم العربي يتنبه إلى علاقته بالعالم الحديث، ويدرك حاجته إلى العلوم والمعارف والمكتشفات الحديثة، ويبدل من نظرته إلى ذاته ومن رؤيته إلى العالم، وأخذ ينتابه الشعور بضرورة تغيير أحواله العامة، والالتحاق بركب النهضة والتقدم.
وعن هذه الأطروحة شرحاً وتفسيراً وتصديقاً، يمكن الإشارة إلى أربعة أقوال متداولة في الكتابات العربية المعاصرة، هذه الأقوال هي:
القول الأول: أشار إليه الدكتور غالي شكري (1935 - 1998م)، الذي يرى أن رد الفعل المصري على الحملة الفرنسية كان بمثابة انعطافة تاريخية في بنية المجتمع، وتساءل: هل كان من الممكن أن تنفجر نهضتنا بغير شرارة الحضارة القادمة مع بونابرت؟
والجواب الافتراضي -حسب قوله- أنه كان ممكناً، سواء تأخر بنا الزمن قليلاً أو كثيراً، ولكن الجواب يظل عنده ناقصاً إذا لم نتساءل مرة أخرى: هل كان التقاطع بيننا وبين الحضارة الغربية الحديثة حتميًّا؟
والجواب في نظر الدكتور شكري، أن هذا التقاطع كان حتميًّا لأن الرأسمالية الأوروبية منذ بداية عصرها الكولنيالي قد افتتحت ما يمكن تسميته بعالمية العالم، والحضارة الغربية منذ ذلك التاريخ أصبحت الحضارة الإنسانية الحديثة، أو الحضارة العالمية الحديثة[3].
القول الثاني: أشار إليه الدكتور علي المحافظة، الذي يرى أن الحملة الفرنسية على مصر فتحت «أبواب العالم العربي على الحضارة الغربية الحديثة، بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية وأنظمة إدارية وعلوم وآداب وفنون وطباعة وصحافة وغيرها. ورافق نابليون بونابرت في حملته هذه فريق من العلماء الفرنسيين في الرياضيات والهندسة والطب والجغرافيا، وجلب معه مطبعتين إحداهما فرنسية والأخرى عربية، ولما استقر به المقام في مصر، أنشأ الدواوين وغرضه منها تعويد أعيان مصر على نظم المجالس الشورية وأساليب الحكم.
كما أسس مجمعاً علميًّا على غرار المجمع الفرنسي، من أجل البحث والدراسة في موضوعات الطبيعة والصناعة والتاريخ، وكان المجلس مؤلفاً من ثمانية وأربعين عضواً، موزعين على أربعة أقسام هي: الرياضيات، العلوم الطبيعية، الآداب والفنون، الاقتصاد السياسي.
وأنشأ مرصداً ومتحفاً ومختبراً، وأقام مسرحاً للتمثيل، وأصدر جريدتين باللغة الفرنسية هما Le Decade Egyptien، وهي جريدة اقتصادية خصصت لنشر أبحاث المجمع العلمي المصري، وتصدر كل عشرة أيام مرة، و Le Courrier dEgypte الناطقة بلسان السلطات الفرنسية، وكانت تصدر مرة كل أربعة أيام، كما أصدر جريدة عربية، التنبيه لنشر بياناته على الناس»[4].
القول الثالث: أشار إليه الدكتور فهمي جدعان بصورة متفرقة في كتابين له، ويمكن ضبط هذا القول وتحديده في ثلاث نقاط، هي:
1- ليس ثمة شك في نظر الدكتور جدعان أن مصر من بين الأقطار العربية، كانت أول من أحس بعمق الهوة، وسعة الشقة التي تفصل الشرق عن الغرب، وكان ذلك عقب غزو نابليون واحتلاله لمصر.
ويرى جدعان أن هذا الوعي قد تبلور في بادئ الأمر، في صورة دهشة وتساؤل لا يخلوان من الذعر أثارتهما رؤية علماء مصر ووجوهها، لهذه المصنوعات العلمية والتجارب المخبرية، التي أتيحت لهم فرصة الاطلاع عليها لدى إدارة الاحتلال، وأعقب هذه الحالة صرخة الشيخ حسن العطار (1180 - 1250هـ/ 1766 - 1835م) المشهورة «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها».
وعنت هذه الكلمة في تقدير جدعان أمرين أساسيين هما: تغيير الأحوال، وتجديد المعارف، وعلى ضوء ذلك بات لزاماً أن نعتقد حسب قول جدعان، بأن فكرة التقدم قد وجدت في حسن العطار أول معبر أصيل عنها في القرن التاسع عشر[5].
2- من المؤكد في نظر جدعان، أن ننتظر حملة نابليون على مصر لكي نلاحظ بداية الاهتمام بالعلوم الحديثة، ولكي نشاهد رجالاً كالشيخ حسن العطار يتصلون بعلماء الحملة الفرنسية، ويطلعون على كتبهم وآلاتهم الفلكية والهندسية، وعلى بعض تجاربهم العلمية فتعتريهم الدهشة أولا، ثم يلي ذلك الإعجاب[6].
3- يرى الدكتور جدعان أن حملة نابليون على مصر كانت لها آثار ثقافية عميقة، لكن من الحق -في نظره- بأن هذه الآثار قد جاءت في فترة تلت هذه الحملة، وذلك حين بدأت حكومة محمد علي ترسل البعثات العلمية إلى فرنسا بالذات، أما الأثر الثقافي المباشر للحملة وعلمائها، فقد كان من غير شك حسب قول جدعان محدوداً جدًّا، ولم يغير شيئاً من الأوضاع الثقافية التي كانت سائدة آنذاك[7].
القول الرابع: أشار إليه الدكتور محمد عابد الجابري (1936 - 2010م)، الذي يرى أن المشروع النهضوي العربي لم يتبلور إلَّا مع حملة نابليون على مصر وانطلاقاً منها[8].
تقدم هذه الأقوال الأربعة، سنداً وإسناداً للأطروحة التي ترى أن بتأثير الحملة الفرنسية على مصر، انبثق عصر النهضة في المجال العربي الحديث، وهناك أقوال أخرى كثيرة لكنها في المجمل تدور في فلك هذه الأقوال الأربعة، وتحوم حولها، ولا تكاد تتجاوزها أو تبتعد عنها.
وفي وقت لاحق، اعتبر الدكتور رضوان السيد أن هذه الأطروحة قد تأكدت وتوثقت مع ألبرت حوراني (1334 - 1414هـ/ 1915 - 1993م) وكتابه (الفكر العربي في عصر النهضة)، وحسب قوله: «جرى الاصطلاح منذ ظهور كتاب ألبرت حوراني (الفكر العربي في عصر النهضة) مطلع الستينات، على اعتبار الغزوة النابليونية لمصر بداية لدخول المشرق الإسلامي في الحداثة، ومع أن ألبرت حوراني لم يقل ذلك صراحة، لكن هذا مؤدى محاولته، مستنداً في ذلك إلى النتائج، أي الهيمنة الغربية اللاحقة على أكثر ديار العالم الإسلامي لما يزيد على القرن من الزمان»[9].
- 3 -
عصر النهضة.. والنهوض الداخلي
بخلاف الأطروحة السابقة، وعلى النقيض منها، وتشكيكاً فيها، وردًّا عليها، جاءت هذه الأطروحة التي ترى أن عصر النهضة انبثق نتيجة نهوض داخلي سابق لزمن الحملة الفرنسية على مصر، وحصل بعيداً عن سياقات هذه الحملة وتأثيراتها، ومغايراً لاتجاهاتها ومساراتها، نهوض نابع من تجدد ذاتي ظهر في بعض البيئات العربية، وامتدت تموجاته وتأثيراته في البيئات الأخرى، وعرف برجال وأعلام كانت لهم شهرتهم الفكرية والاجتماعية.
وبحسب هذه الأطروحة، فإن زمن عصر النهضة يرتد إلى القرن الثامن عشر، وهناك من أرجعه إلى منتصف القرن السابع عشر، وامتد أجله إلى أوائل القرن التاسع عشر.
وفي نطاق هذه الأطروحة شرحاً وتفسيراً وتصديقاً، سوف نرجع بصورة رئيسية إلى رأيين لهما أهميتهما وشهرتهما في هذا الشأن. الرأي الأول ينتمي إلى المجال العربي، وينسب إلى الأديب المصري محمود محمد شاكر (1327 - 1418هـ/ 1909 - 1997م)، والرأي الثاني ينتمي إلى المجال الغربي، وينسب إلى المؤرخ الأمريكي وأستاذ التاريخ المصري الحديث بيتر جران.
وهذان الرأيان هما:
الرأي الأول: عرض محمود محمد شاكر هذا الرأي في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، ودافع عنه بشدة، وأظهر ثقةً وتمسكاً به، وظل يشير إليه وينبه عليه، حرصاً منه وتأكيداً على تثبيته وإشاعته في المجال التداولي، ونقداً وطرحاً للآراء التي تباينه وتعارضه، خاصة تلك الآراء التي تتبنى الأطروحة السابقة وتتناغم معها.
وحسب هذا الرأي، فإن عصر النهضة وهي التسمية التي استعملها شاكر في كتابه إلى جانب تسمية عصر اليقظة، فهذا العصر يتحدد زمناً ما بين منتصف القرن الحادي عشر الهجري، إلى منتصف القرن الثاني عشر، ويقابله منتصف القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلاديين.
وارتبط هذا العصر نهوضاً وتقدماً بخمسة أعلام، عددهم شاكر على هذا النحو:
1- عبدالقادر بن عمر البغدادي (1030 - 1093هـ/ 1620 - 1683م) في مصر، صاحب كتاب (خزانة الأدب).
2- الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم الجبرتي العقيلي (1110 - 1188هـ/ 1698 - 1774م) في مصر أيضاً.
3- محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (1115 - 1206هـ/ 1703 - 1792م) في جزيرة العرب.
4- المرتضى الزبيدي محمد بن عبدالرزاق الحسيني (1145 - 1205/ 1772 - 1790م) في الهند وفي مصر.
5- الشوكاني محمد بن علي الخولاني الزيدي (1173 - 1250هـ/ 1760 - 1834م) في اليمن.
وقد دوت أسماء هؤلاء الخمسة حسب قول شاكر «في أرجاء دار الإسلام، وأشتات غيرهم، مؤذنة بيقظة جديدة، وإحياء لعلم الأمة ولغتها وثقافتها، واستعادة لسيطرة الأمة على أسباب حضارتها الزاهرة القديمة، وإرادة لبعثها بعثاً جديداً، دون شعور واضح أو علم مستبين، بالذي كان يجري في ديار المسيحية الشمالية من يقظة ونهضة وبعث جديد»[10].
وعن أدوار هؤلاء الخمسة في بعث عصر النهضة، يقول شاكر «هب البغدادي في منتصف القرن الحادي عشر الهجري - السابع عشر الميلادي، فألف ما ألف ليرد على الأمة قدرتها على التذوق، تذوق اللغة والشعر والأدب وعلوم العربية، وهب ابن عبدالوهاب يكافح البدع والعقائد التي تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي ركن الإسلام الأكبر، ولم يقنع بتأليف الكتاب، بل نزل إلى عامة الناس في بلاد جزيرة العرب، وأحدث رجة هائلة في قلب دار الإسلام، وهب المرتضى الزبيدي يبعث التراث اللغوي والديني وعلوم العربية وعلوم الإسلام، ويحيي ما كاد يخفى على الناس بمؤلفاته ومجالسه، وهب الشوكاني الزيدي الشيعي محيياً عقيدة السلف، وحرم التقليد في الدين، وحطم الفرقة والتنابذ الذي أدى إليه اختلاف الفرق بالعصبية، أما خامسهم وهو الجبرتي الكبير، فكان فقيهاً حنفيًّا كبيراً نابهاً، عالماً باللغة، وعلم الكلام، وتصدر إماماً مفتياً وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولكنه في سنة 1144هـ/ 1731م، ولى وجهه شطر العلوم التي كانت تراثاً مستغلقاً على أهل زمانه، فجمع كتبها من كل مكان، وحرص على لقاء من يعلم سر ألفاظها ورموزها، وقضى في ذلك عشر سنوات (1144 - 1154هـ)، حتى ملك ناصية الرموز كلها، في الهندسة والكيمياء والفلك والصنائع الحضارية كلها، حتى النجارة والخراطة والحدادة والسمكرة والتجليد والنقش والموازين، وصار بيته زاخراً بكل أداة في صناعة وكل آلة، وصار إماماً عالماً أيضاً في أكثر الصناعات، ولجأ إليه مهرة الصناع في كل صناعة يستفيدون من علمه، ومارس كل ذلك بنفسه، وعلم وأفاد، حتى علم خدمه في بيته»[11].
ومن جانب آخر، يرى شاكر أن المستشرقين الأوروبيين قد تنبهوا منذ وقت مبكر لهذه اليقظة في بلاد المسلمين، فقد كانوا -حسب قوله- يجوبون دار الإسلام من أطرافها إلى قلبها، يلاقون الخاصة من العلماء، ويخالطون عامة المثقفين والدهماء، وكانت بلادهم يومئذٍ قريبة عهد بعصر النهضة واليقظة والإحياء، وكانوا على أتم معرفة بأسرار اليقظة كيف تبدأ وإلى أين تنتهي، فأدركوا أن ما يجري في دار الإسلام خلال تلك الفترة، إنما هو يقظة حقيقية، ونهضة كاملة، وإحياء صحيح[12].
وعلى أثر هذا التنبه حسب تقدير شاكر، هب هؤلاء المستشرقون «هبة الفزع من هذه اليقظة، فتسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة مما هو جارٍ تحت أعينهم في دار الإسلام، ووضعوه بيِّناً جليًّا، مشفوعاً بمخاوفهم وملاحظاتهم ونصحهم وإرشادهم، تحت أبصار ملوك المسيحية الشمالية وأمرائها ورؤسائها وقادتها وساستها ورهبانها، وبصروهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه اليقظة، الوليدة التي بدأت تنساح في أرجاء دار الإسلام، وتناجوا بينهم نجوى طويلة، يقلبون النظر في أهدافهم ووسائلهم، وتبينوا الخطر الداهم الذي جاء يتهددهم، إذا ما تمت هذه اليقظة، واشتد عودها، واستقامت خطواتها على الطريق اللاحب، وببديهة العقل، لم يكن للمسيحية الشمالية يومئذٍ خيار، طريق واحد لا غير، هو العمل السريع المحكم، واهتبال الغفلة المحيطة بهذه اليقظة الوليدة، ومعالجتها في مهدها قبل أن يتم تمامها ويستفحل أمرها، وتصبح قوة قادرة على الصراع والحركة والانتشار»[13].
وما إن فرغ نابليون من حروبه في أوروبا، حتى أصاخ سمعه -حسب قول شاكر- لنذير الاستشراق ولنصحه وإرشاده، فقدر أن الحين قد حان ليكون أول قائد أوروبي يخترق قلب دار الإسلام، وأن يداهم اليقظة التي أرَّقت منام الاستشراق، ويبطش بها في عقر دارها.
ولهذا يرى شاكر أن الغاية الأولى للحملة الفرنسية، هي تجريد دار الإسلام في القاهرة من أسباب اليقظة ووأدها في مهدها، والقضاء عليها قبل أن تتفاقم، ومع هذه الحملة وأدت هذه اليقظة.
الرأي الثاني: عرض بيتر جران هذا الرأي في كتابه (الجذور الإسلامية للرأسمالية.. مصر 1760-1840م)، الذي كشف فيه بالبحث التاريخي عن أن مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر شهدت تطوراً ذاتيًّا على الصعيدين الفكري والاقتصادي، تطوراً نابعاً من قوى داخلية، وجاء بعيداً عن أي مؤثرات خارجية.
فعلى الصعيد الفكري، قاد الشيخ حسن العطار حركة فكرية تجديدية في داخل مؤسسة الأزهر، وعلى الصعيد الاقتصادي، قاد التجار المصريون حركة اقتصادية أدت إلى ازدهار قطاع التجارة داخليًّا وخارجيًّا، وإلى تراكم رأس المال، هذا التلازم بين التطورين الفكري والاقتصادي، وضع مصر -حسب تقدير جران- على طريق النهوض والتقدم آنذاك.
هذا الرأي اكتسب أهمية كبيرة، لكونه من جهة أنه جاء من مؤرخ غربي وليس من مؤرخ عربي، وهذا التفاضل له علاقة بإشكالية التحيز والحياد العلمي والموضوعي، ومن جهة أخرى أنه جاء من مصدر متخصص في التاريخ والتاريخ المصري الحديث بما يعطيه صفة المصداقية والموثوقية، ومن جهة ثالثة أنه جاء من باحث معاصر جرت مناقشته ومحاججته في هذا الرأي.
وقد جدد هذا الرأي، النقاشات الفكرية والتاريخية حول مرحلة ما قبل الحملة الفرنسية على مصر، المرحلة التي تباينت حولها وانقسمت وجهات النظر، وحامت حولها الشكوك بسبب غموضها وعدم وضوحها بالقدر الكافي، وكان الانطباع السائد أنها مرحلة غلب عليها حالة التراجع والجمود، أو أنها مرحلة ما كانت تتجه نحو طريق النهوض والتقدم، ولم يعرف عنها أنها كانت تتسم بالتطور والازدهار.
وفي إطار هذه النقاشات، سوف نكتفي بالإشارة إلى موقفين مهمين، ومتباعدين نسبيًّا من جهة الرؤية، الموقف الأول للدكتور رضوان السيد، والموقف الثاني للدكتور وجيه كوثراني، وهذان الموقفان هما:
الموقف الأول: اعتبر الدكتور رضوان السيد أن ما طرحه بيتر جران مثل أطروحة جديدة، في دلالة منه على جدية هذه الأطروحة وأهميتها وحداثتها، وأن جران شرح هذه الأطروحة لأول مرة، وبشكل متكامل حسب وصف الدكتور السيد، في كتابه (الجذور الإسلامية للرأسمالية).
ومنذ ذلك الحين حسب تقدير الدكتور السيد، توالت البحوث مركزة على بعض شخصيات القرن الثامن عشر في أنحاء العالم الإسلامي أحياناً، أو متتبعة بشمولية حركات الإصلاح الفقهي والعقدي، وحركات الإحياء الروحي الصوفية في ذلك القرن أيضاً.
ويرى السيد أنه في سياق هذه الأطروحة التي يصفها مراراً وتأكيداً بالأطروحة الجديدة، احتلت اليمن والهند والحجاز ونجد مكانة متميزة في عمليات التجديد. ففي نجد قامت الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب التي بعثت روحاً جديدة في طرائق التفكير في المسائل العقدية وقضايا الشعائر والسلوك، وفي الحجاز -وإلى حد ما في مصر- نهضت حركات صوفية مجددة، وفي اليمن انبعثت حركة إصلاح فقهي، وفي الهند ازدهر اتجاهان أحدهما سلفي والآخر صوفي، وما عاد هناك شك اليوم بين الباحثين حسب قول السيد، في ظواهر التجديد والتغيير هذه.
بعد هذا التوصيف والتحديد لهذه الأطروحة، يعقب عليها السيد بلسان حال بعض الباحثين، فهناك من يذهب -حسب قوله- إلى أن تلك الظواهر افتقرت إلى الترابط والاتساق والوعي الهادف، وإذا كان من الصحيح القول بأن هناك قاسماً مشتركاً بين تلك الظواهر والتوجهات، تمثل في الدعوة للاجتهاد ونبذ التقليد، لكنها في نظر هؤلاء المناقشين والباحثين قد عبرت عن حاجات محلية أو جهوية، وما وصلت إلى درجة الحركة الشاملة الواعية لمآزق التخلف، وضرورات التغيير العام.
وما ينبغي الانتهاء إليه -في نظر السيد- أن المدخل النابليوني للحداثة الذي استتب له الأمر على مستوى الدول والنخب الجديدة، لا ينبغي أن يصرف نظرنا عن الحركة الداخلية الإسلامية للتجدد والانبعاث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهذا الإدراك كفيل بأن يطلعنا على ظواهر وسياقات لا يمكن تفسيرها بالهجمة النابليونية أو الغربية وحسب[14].
الموقف الثاني: أعطى الدكتور وجيه كوثراني ما طرحه بيتر جران صفة الفرضية، في دلالة منه على عدم الاكتمال من الناحية المعرفية، والشك في الصدقية من الناحية التاريخية، وهذا بخلاف الوصف الذي أعطاه الدكتور رضوان السيد حين وصف ما طرحه جران بالأطروحة الجديدة.
ومهما يكن من أمر مناقشة هذه الفرضية في نظر الدكتور كوثراني، ومدى صحتها التاريخية على مستوى حجم الاستعدادات، ووجهة المؤشرات العلمية والاقتصادية في المجتمع المصري خلال القرن الثامن عشر، فإن هذه الفرضية قد تصح في مرحلة محاولة البناء التي قام بها محمد علي باشا، والتي انتهت بالاتفاقية الجمركية اللامتكافئة المفروضة من بريطانيا على السلطان العثماني، وعلى خديوي مصر في الوقت نفسه.
ووجهة النظر عند الدكتور كوثراني في افتراض أن مرحلة ما قبل حملة نابليون، وضمناً ما قبل محمد علي باشا، قد شهدت بذور نهوض رأسمالي، افتراض يرى فيه كوثراني بأنه مثير للمناقشة، وأن إعادة قراءة النص الجبرتي يفيد في تنويع النظر إلى هذه المسألة، ومناقشتها من وجوه عدة.
وفي نطاق العودة إلى النص الجبرتي، وقبل التعبير عن وجهة نظره، يذكر الدكتور كوثراني نصًّا يسرد فيه الجبرتي (حواراً جرى بين شيخ الأزهر الشيخ عبدالله الشبراوي وبين وال عثماني، هو أحمد باشا -أقام في مصر إلى عاشر شوال 1163هـ، أي حوالي منتصف القرن الثامن عشر- يقول الجبرتي: «وكان –الوالي- من أرباب الفضائل وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، ومنهم الشيخ عبدالله الشبراوي، شيخ جامع الأزهر، ومشايخ آخرون... فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا لا نعرف هذه العلوم فتعجب وسكت».
وفي لقاء آخر مع الشيخ الشبراوي، يستوضح الباشا الأمر بقوله: «المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال له الشيخ: هي -يا مولانا- كما سمعتم معدن العلوم والمعارف. فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها، وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئاً، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد؟. فقال له: نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلَّا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث كعلم الحساب.. فقال له: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة، كالعلم بدخول الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك. فقال: نعم، معرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية، كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق، فيندر فيهم القابلية لذلك».
ويشير شيخ الأزهر إلى هذا البعض الذي يقوم بفرض الكفاية، فإذا بأحدهم هو والد الجبرتي، الذي لبى مطلوب الوالي في معرفة مسائل من الحساب وإتقان الرسم والحفر على ألواح من الرخام، حتى قامت صداقة بينه وبين الوالي، تطورت إلى أن قال فيها الوالي: لو لم أغنم من مصر إلَّا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني».
وفي تعقيبه على هذه الحادثة، يرى كوثراني «أن استطراد الجبرتي حول سيرة والده الذي لبى مطلوب الوالي من العلوم، لا يقدم دليلاً، لا عبر علم الوالد ولا عبر مرجعية الوالي العثماني، على وجود وضعية ثقافية علمية في مصر، تؤهل لعملية نهوض أو تطوير اقتصادي. ذلك أن المؤسسة العلمية الأم –الأزهر- كانت، وكما يشير شيخها فاقدة القابلية لهذا التطوير، كما أن أوضاع الحرف والصناعات كانت لا زالت تحمل نمطاً من التقنيات والعقليات والذهنيات التقليدية، وأشكالاً مغلقة من التنظيم غير قابلة لأي تغيير في إطار انتظامها في أصناف مهنية، وطرق صوفية ضابطة ومقننه لأخلاقيات العمل وأساليبه، وتسعير قوة العمل وتسويق إنتاجه».
والخلاصة عند كوثراني «أن فرضية بيتر جران القائمة على رصد بعض حالات النمو أيام علي بك الكبير، لا تصمد أمام سيل الأوصاف التي تزخر بها نصوص الجبرتي، والتي يمكن أن نستخلص منها حالة الجمود الثقافي والعلمي والاقتصادي المزمنة، التي أصيب بها المجتمع المصري».
ويستدرك كوثراني على ذلك بقوله: غير أن هذا لا يوصلنا إلى الاستنتاج بأن حملة نابليون هي التي نبهت نخبه إلى أفكار التنوير، أو طورت أساليب الإنتاج فيه أثناء وجودها، وأن ردة فعل الجبرتي لهي خير دليل.
وعليه قد يصح القول عند كوثراني: إنه كان للحملة الفرنسية فعل الصدمة غير المرغوبة، وكان ينبغي انتظار مشروع محمد علي باشا لدراسة آثار تلك الصدمة، ولا سيما في موقع ومكانة البعثات التي أوفدها محمد علي إلى فرنسا[15].
- 4 -
عصر النهضة.. وابن خلدون
يكاد الدكتور فهمي جدعان ينفرد بهذه الأطروحة، التي ترى أن الأزمنة الحديثة تبدأ مع ابن خلدون بالذات، لا مع مدافع نابليون التي يقال عادة: إنها أيقظت مصر والعالم العربي من السبات العميق.
وهذه الأطروحة تبدو للدكتور جدعان صادقة تماماً، وقد أشار إليها في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث)، وتوقف عندها شارحاً لها بدقة أكبر في كتابه (الماضي في الحاضر)، وحسب قوله: «لقد زعمت في كتاب صدر لي عن (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) أن الأزمنة الحديثة العربية تبدأ مع ابن خلدون لا مع حملة نابليون على مصر كما ظن الكثيرون. وإن شئنا الدقة بقدر أكبر أقول: إن إشكالية ابن خلدون الحضارية، وهي الإشكالية التي تدور على قيام الدول وأفولها، قد مثّلت الهاجس الرئيس عند المفكرين العرب المحدثين منذ أن اتصل الإسلام بالغرب، ومنذ أن وعى هؤلاء المفكرون العرب الهوة التي تفصل عالم الإسلام الذي خسر مدنيته المتقدمة عن عالم الغرب الذي قفز إلى المواقع التمدنية الأمامية، فباتت القضية الجوهرية هي القضية التي تدور حولها (المقدمة) قيام الحضارات وانهيارها، صورة الأمة أو الدولة المثلى التي يمكن لقيامها أن يجنب أمة العرب استمرار التقهقر، وأن يحقق لها الانعتاق من حالة الانحطاط، والخطو في درب التمدن الحديث»[16].
ويرى الدكتور جدعان أن هذا الأمر واضح تماماً في القرن التاسع عشر، الذي يصفه بقرن النهضة، وواضح عنده على وجه التحديد في أعمال جميع المفكرين البارزين في العصر الحديث، من رفاعة الطهطاوي إلى مالك بن نبي.
والأمر الذي يثير العجب والإعجاب في آن واحد حسب قول جدعان «أن نلاحظ اليوم أمراً لم يكد ينتبه إليه أحد من باحثينا المعاصرين، وهو أن الأثر الذي خلفه ابن خلدون على الصعيد النظري الخالص في العصور الحديثة العربية، لا يكاد يعدله أثر أي مفكر آخر، فمنذ القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، حتى القرن الرابع عشر/ العشرون، ومنذ أبي عبدالله الأصبحي المعروف بابن الأزرق (832-896هـ)، صاحب (بدائع السلك في طبائع الملك)، حتى عبدالقادر المغربي ومالك بن نبي وعلال الفاسي من معاصرينا، ظلت (المقدمة) تقوم بدور فكري موجه رائد من الطراز الأول، كما ظلت قضاياها الدائرة على الانحطاط وعلله وأعراضه تحتل مكانة رئيسة في التفسير والفهم»[17].
وفي كتاب (أسس التقدم) هناك الكثير من الشواهد الدالة على هذه الأطروحة، والمنبهة لها، خاصة من جهة العناية والاهتمام في الكشف عن مدى حضور ابن خلدون وتأثيراته في أفكار واتجاهات العلماء والمفكرين العرب والمسلمين منذ الأزمنة الحديثة إلى اليوم.
وكانت هذه الملاحظة، قد استوقفت انتباهي حين مطالعة هذا الكتاب، الذي أجرى فيه جدعان الكثير من المقاربات والمقارنات والموازنات والمشابهات بين أفكار ابن خلدون وأفكار الآخرين من العرب والمسلمين في الأزمنة الحديثة، وتصلح هذه الملاحظة أن تكون واحدة من السمات المميزة لهذا الكتاب.
وعند الحديث عن هذه الأطروحة، تقصد جدعان استعمال تسمية أزمنة حديثة، مفضلاً لها عن تسمية عصر حديث، الذي قد يكون حسب قوله: حمال لكثير من سوء التقدير، وذلك لأن العالم العربي الحديث قد تجلى في نظره فعلاً، في وجوه زمنية ومكانية متباينة ومتنوعة، وسمت إلى حد بعيد نمط وطبيعة المشكلات والموضوعات التي طرحت في كل مكان، وفي كل زمان.
- 5 -
عصر النهضة.. والأفغاني
هناك من يرى أن عصر النهضة ظهر وتشكل نتيجة اليقظة الواسعة التي أحدثها السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1315هـ/ 1838-1897م) في ساحة الأمة، وبدوره وتأثيره ظهرت حركة لامعة عرفت بالحركة الإصلاحية أو حركة الإصلاح الإسلامي، وعدت أهم حركة إصلاحية تنويرية ظهرت في المجال الإسلامي الحديث، وكادت تغير وجهة العالم الإسلامي برمته، وتضعه على طريق النهوض والتقدم.
والذين تحدثوا عن الأفغاني وهم كثيرون عرباً ومسلمين وحتى أوروبيين ومستشرقين، هؤلاء هم الذين كشفوا عن دوره في انبثاق عصر النهضة، ومن هؤلاء الأستاذ مالك بن نبي (1323-1392هـ/ 1905-1973م)، فعند حديثه عن حركة الإصلاح، اعتبر أن الأفغاني هو باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وما زال بطلها الأسطوري في العصر الحديث[18].
وتحدث عنه الدكتور محمود قاسم، واعتبر أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق، ورجل الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي في بلاد المسلمين كافة، منذ ثمانين عاماً حتى اليوم، لذلك لا عجب أنه متى ما ذكرت حركة الإصلاح في أي بلد من هذه البلاد، لم يكن بد من إرجاعها إليه... وكان أصدق معبر عن آمال الشرق وآلامه، وإنه باعت يقظته ورائد نهضته[19].
وفي كتابه عن ذكراه المائوية الأولى (1897-1997م)، اعتبر الدكتور حسن حنفي أن جمال الدين الأفغاني هو رائد الحركة الإصلاحية، وباعث النهضة الإسلامية، وهو أول من صاغ المشروع الإصلاحي الحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر[20].
إلى جانب هذه الأقوال، هناك الأوصاف التي أعطيت للأفغاني وكشفت عن دوره وتأثيره وريادته في انبثاق عصر النهضة، فهناك من وصفه بباعث نهضة الشرق وتحدث عنه بهذه الصفة، كالمؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي (1889-1966م) في كتابه (جمال الدين الأفغاني باعث نهضة الشرق)، وهناك من وصفه بحكيم الشرق وتحدث عنه بهذه الصفة، كالكاتب السوري قدري قلعجي (1336-1406هـ/ 1917-1986م) في كتابه (جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق)، وبين من وصفه بباعث النهضة الفكرية في الشرق وتحدث عنه بهذه الصفة، كالكاتب. المصري محمد سلام مدكور في كتابه (جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق).
واللافت في هذه الأوصاف، هو تواترها واكتسابها قوة الرسوخ والثبات، في دلالة على التوافق والتسالم عليها من جهة، وفي دلالة على ظهور ووضوح قوة التأثير وعظمته من جهة أخرى.
وليس هناك ما هو أبلغ دلالة من هذه الأوصاف التي أطلقت على الأفغاني، والتي لم ينازعه عليها أحد، لا قبله ولا بعده على مستوى الشرق.
واعترف له بهذا الدور، وبهذه الأوصاف، حتى المستشرقون الأوروبيون أو بعضهم، ومن هؤلاء المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب (1895-1917م)، الذي وصف الأفغاني بالرائد الكبير للنهضة الإسلامية الحديثة في القرن التاسع عشر[21].
- 6 -
ملاحظات ومناقشات
بعد أن تحددت الأطروحات الرئيسية، التي جاءت في سياق تفسير انبثاق عصر النهضة في المجال العربي الحديث، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات والمناقشات، منها:
أولاًَ: بحسب التقسيمات الفكرية، فإن الأطروحة الأولى التي تربط عصر النهضة بالحملة الفرنسية على مصر، هذه الأطروحة بصورة عامة هي أقرب إلى النزعة الليبرالية، وأصحاب هذه النزعة هم الأكثر دعماً وتأييداً وتوافقاً مع هذه الأطروحة.
والأطروحة الثانية التي تربط عصر النهضة بالنهوض الذاتي في القرن الثامن عشر، فهذه الأطروحة بصورة عامة هي أقرب إلى النزعة الإسلامية إصلاحيين وتقليديين، وأصحاب هذه النزعة هم الأكثر دعماً لها وتأييداً وتوافقاً.
وبالنسبة إلى الأطروحة الثالثة التي تربط عصر النهضة بابن خلدون ومقدمته، فهذه الأطروحة لم تشتهر كثيراً حتى هذه اللحظة، وما زال مجالها التداولي ضيقاً ومحدوداً، لكنها بصورة عامة هي أقرب إلى النزعة الإسلامية التي يعبر عنها الدكتور فهمي جدعان.
وأما الأطروحة الرابعة التي تربط عصر النهضة بالأفغاني وحركته ودوره، فهذه الأطروحة هي أقرب إلى النزعة الإسلامية الإصلاحية، وأصحاب هذه النزعة هم الأكثر دعماً لها وتأييداً وتوافقاً.
ثانياً: الأطروحة الأولى مشكلتها أنها تستبطن حرجاً نفسيًّا لا يحتمل ولا يطاق، وحرجاً أخلاقيًّا وثقافيًّا أيضاً، وذلك لكون أن هذه الأطروحة تربط عصر النهضة بحملة فرنسية أجنبية، وصفت في الكتابات العربية المعاصرة تارة بالاستعمارية، وتارة بالحملة الصليبية الثامنة، وتارة بالحرب الصليبية الجديدة، إلى جانب أوصاف أخرى، فهل يؤرخ ويدون ويقال: إن عصر النهضة الحديث عند العرب والمسلمين يبدأ بحملة استعمارية أو بغزو عسكري أو بتدخل أجنبي!
هذا التقدير وهذا الحرج، بأبعاده النفسية والأخلاقية والثقافية أمر واقع لا ريب فيه، ومن الصعوبة أن نسجل على أنفسنا مثل هذا الموقف، ونوثقه في تاريخنا الحديث، وننقله إلى أجيالنا الجديدة، وذلك بحكم الذاكرة المرة، والتاريخ الاستعماري الدامي، والعلاقات الإمبريالية المدمرة التي تربطنا بأوروبا وبالغرب خلال التاريخ الحديث.
مع ذلك فإن هذه الحملة كان لها فعلاً وقع الصدمة، والصدمة غير المرغوبة حسب وصف الدكتور وجيه كوثراني، ومنشأ هذه الصدمة ليس الجانب العسكري مع أنه الجانب الغالب والطاغي على هذه الحملة، وإنما هو الجانب العلمي الذي أثار دهشة المصريين آنذاك، الدهشة التي أبلغ من عبر عنها الشيخ حسن العطار في مقولته الشهيرة: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها».
ويكفي لهذه المقولة البالغة الدلالة، أن تكون مصداقاً لفعل الصدمة من تلك الحملة المثيرة للجدل، لكون أن هذه المقولة بالتأكيد، ليست من نمط المقولات العادية أو العفوية أو العابرة، وإنما هي من نمط المقولات التي لها وزنها الدلالي والعلمي والتاريخي، وتركت أثراً وتأثيراً فعليًّا وحقيقيًّا، وكان من أثرها وتأثيرها البعثات العلمية التي حصلت في عهد محمد علي، ومن أثرها أيضاً أن بزغ عقل مميز هو الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي عرف واشتهر بعد عودته من باريس، وذهب إلى هناك بتوصية من أستاذه الشيخ حسن العطار.
ثالثاً: في النقاش حول الأطروحة الثانية، يمكن القول: إن هذه الأطروحة كشفت وعبرت عن حالات من النهوض، ظهرت وحصلت في أزمنة وأمكنة معينة من البيئات العربية والإسلامية خلال القرن الثامن عشر، لكن هذه الحالات من النهوض لم ينبثق عنها عصراً جديداً، يطلق عليه عصر النهضة أو عصر اليقظة، وذلك لأن هذه الحالات جاءت متفرقة ومتباعدة، ولم ينبعث منها روح عام يغير من الوعي العام في الأمة برمتها، أو في أجزاء واسعة منها.
أما ما طرحه محمود شاكر فقد عليه من جهة حالة من الاندفاع والتحيز تجاه الذات، وغلب عليه من جهة أخرى حالة من الشك والممانعة تجاه الآخر، ولم يسلم هذا الطرح من حالة الإنشائية وسطوة البيان.
فحالة الاندفاع والتحيز كانت ظاهرة فيما طرحه شاكر، وتجلت هذه الحالة في اللغة والأسلوب والبيان، وظهر كما لو أنه يرى نفسه في معركة فكرية يقف فيها مدافعاً عن ثقافة الأمة وهويتها وتاريخها وأعلامها، أمام عدو غربي شرس يحاول تدمير ثقافة الأمة، وتمزيق هويتها، والعبث بتاريخها، الصورة التي اقتضت منه التحيز الكامل إلى الأمة وثقافتها وتاريخها.
وترتب على هذا الموقف عند شاكر، حالة من الشك والممانعة لكل ما له علاقة بالغرب الذي ظل يذمه ويمقته ويتهجم عليه على طول الخط، فهو عنده الغرب المسيحي، والغرب الصليبي، والغرب الاستشراقي، والغرب الغازي، إلى غير ذلك من أوصاف ترسخ عنده حالة الشك والممانعة.
وأكثر ما لفت الانتباه في طرح شاكر موقفه من الاستشراق، الذي حمله وزر جميع المصائب والكوارث التي حلت بنا، ومنها -وفي مقدمتها- وأد اليقظة في مصر آنذاك، فهو يعتبر أن جذور قضيتنا كامنة في نذير الاستشراق، الذي يرى فيه «عين الاستعمار التي بها يبصر ويحدق، ويده التي بها يحس ويبطش، ورجله التي بها يمشي ويتوغل، وعقله الذي به يفكر ويستبين، ولولاه لظل في عميائه يتخبط، ومن جهل هذا فهو ببدائه العقول ومسلماتها أجهل»[22].
ومن شدة الإسراف في هذا الموقف، اعتبر شاكر أن البعثات العلمية إلى فرنسا وأوروبا في عهد محمد علي حصلت بتأثير الاستشراق وإغرائه، ولم يسلم من هذا الموقف حتى الشيخ الطهطاوي فقد اعتبر شاكر أن المستشرقين هم الذين احتضنوه وربوه وغذوه ونشَّؤُوه مدة إقامته في باريس، واستغلوه أبرع استغلال، وصبوا في أذنيه، وطرحوا في قرارة قبله معاني وأفكار قد بيتوها ودرسوها، وعرفوا عواقبها وثمراتها حين تنمو في دخيلة نفسه[23].
أما ما طرحه المؤرخ الأمريكي بيتر جران، فله أهميته وقيمته الفكرية والتاريخية، ليس من ناحية إثبات أن عصر النهضة حصل في القرن الثامن عشر، وإنما من ناحية البرهنة على أمرين مهمين، هما:
الأمر الأول: أن مصر شهدت حالة من النهوض الفكري والاقتصادي قبل الحملة الفرنسية، بمعنى أن مصر قبل هذه الحملة لم تكن في حالة تراجع وجمود كما صور البعض.
الأمر الثاني: أن الحملة الفرنسية لم تكن هي السبب الذي وضع مصر والعالم العربي على طريق النهوض والتقدم.
رابعا: بالنسبة لأطروحة الدكتور فهمي جدعان، فهي أطروحة غير متسالم عليها، وذلك من جهتين، هما:
الجهة الأولى: إن هذه الأطروحة لا تكشف عن انبثاق أزمنة حديثة أو عصر حديث، بقدر ما تكشف عن بزوغ رجل له سمات الحداثة، ويعبر عن روح الأزمنة الحديثة، ونعني به ابن خلدون الذي أنجز بمقدمته فتحاً مهمًّا في حقل الدراسات الاجتماعية والتاريخية، فتحاً أفاد منه التراث الإنساني برمته، فابن خلدون كان حداثيًّا لكنه لم يسهم آنذاك في انبثاق أزمنة حديثة، وعصره وما بعده لم يكن عصراً عرف بالنهضة، ولم تنبثق منه أزمنة الحديثة.
الجهة الثانية: في كتابات الدكتور جدعان نلاحظ أن هناك ما يكشف عن حالة من التعارض مع أطروحته التي ترى أن الأزمنة الحديثة أو العصر الحديث يبدأ مع ابن خلدون، ومن هذه الدلائل حين تساءل بقوله: ما هو على وجه الدقة الأمر الذي أدخل الدولة العثمانية ومعها العرب في العصور الحديثة؟ وأي وعي أنتج هذا الحدث لدى المفكرين العرب المسلمين بالذات؟
وأجاب الدكتور جدعان بما نصه «من الواضح أننا لن نضيف شيئاً ذا بال حين نقول بكل بساطة: إن ما أدخل الدولة العثمانية والأقطار العربية في العصور الحديثة، هو التوغل العسكري العثماني في أوروبا من ناحية، والتوغل الأوروبي العسكري أيضاً في أقطار الدولة العثمانية من الناحية المقابلة، وما الأثر الثقافي إلَّا تابع لهذا التوغل وذاك التوغل المضاد»[24].
ومن هذه الدلائل أيضاً، حين اعتبر جدعان في كتابه (الماضي في الحاضر)، أن القرن التاسع عشر هو قرن النهضة، وهذا واضح عنده على وجه التحديد في أعمال جميع المفكرين البارزين في العصر الحديث، من رفاعة الطهطاوي إلى مالك بن نبي، والطهطاوي في نظره هو أول مفكري عصر النهضة العربية الذين اكتشفوا ابن خلدون وتابعوه في إشكاليته[25].
والتعارض في هذه الآراء، يتجلى في أن جدعان اعتبر تارة أن الأزمنة الحديثة تبدأ مع ابن خلدون وهذه كانت أطروحته الأساسية، وتارة أخرى اعتبر أن ما أدخل الدولة العثمانية ومعها الأقطار العربية في العصور الحديثة هو التوغل العسكري العثماني في أوروبا، والتوغل الأوروبي في أقطار الدولة العثمانية، وتارة ثالثة اعتبر أن القرن التاسع عشر هو قرن النهضة، والطهطاوي هو أول مفكري عصر النهضة العربية!
خامساً: بقيت الأطروحة الرابعة التي تربط عصر النهضة بالأفغاني الموصوف تواتراً بموقظ الشرق وباعث نهضة الشرق، هذه الأطروحة هي التي امتلك تفسيراً لها، ويتحدد هذا التفسير في النقاط الآتية:
أولاً: جاء الأفغاني وبعث روحاً جديداً في الأمة، روحاً كان له قوة التأثير والاستلهام، ومتى ما ظهر في الأمم والمجتمعات روحا جديداً أحدث فيها يقظة ونهوضاً، وكل اليقظات التي ظهرت كانت بتأثير انبعاث مثل هذا الروح الذي يقلب المزاج العام وينتقل به من حال إلى حال، من حالة الضعف إلى حالة القوة، ومن حالة السكون إلى حالة الحركة، ومن حالة التفرق إلى حالة الجمع.
وعن هذا الجانب، تحدث مالك بن نبي بقوله: «ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، انبعث صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، إنه صوت جمال الدين الأفغاني موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة، ويوم جديد... وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتهم إلى أسلوب في الحياة جديد»[26].
ثانياً: مثَّل الأفغاني جسراً للربط والتواصل الفعال بين المراكز الكبرى والمؤثرة في ساحة الأمة، وهي المراكز الثلاثة المعروفة: الأستانة مركز الخلافة العثمانية وطهران والقاهرة، ومتى ما اتصلت هذه المراكز وترابطت كان بالإمكان دفع الأمة نحو اليقظة والنهوض.
وفي هذا النطاق قام الأفغاني بثلاثة أدوار متصلة ومترابطة، الدور الأول أنه حرك هذه المراكز وبعث فيها روح الحركة، والدور الثاني أنه ربط هذه المراكز ومثل جسراً للتواصل فيما بينها، والدور الثالث أنه أسهم في إعطاء هذه المراكز قدراً من الحركة في ساحة الأمة.
ولعل أوضح من أشار إلى هذا الدور هو مالك بن نبي بقوله: «لقد كان جمال الدين إلى جانب أنه رجل فطرة، رجلاً ذا ثقافة فريدة عدت فاتحة عهد رجل الثقافة والعلم في العالم الإسلامي الحديث، ولعل هذه الثقافة هي التي دفعت الشبيبة المثقفة على إثره في إسطنبول وفي القاهرة وفي طهران، وهي الشبيبة التي سيكون من بينها قادة حركة الإصلاح»[27].
وعن دوره في تحريك ساحة مصر بوصفها أحد هذه المراكز الثلاثة، يقول المستشرق الألماني كارل بروكلمان (1868-1956م)، «فقد كان الإسلام ولا يزال هو المهيمن على الحياة الدينية في مصر، إنما يرجع الفضل في ذلك، في المحل الأول إلى تأثير جمال الدين»[28].
ثالثاً: اتخذ الأفغاني من الأمة ساحة لنشاطه وحركته الفاعلة والدؤوبة، وكان في عصره من أكثر المصلحين حركة وتنقلاً وتأثيراً في ساحة الأمة، ولم يعرف عنه الاستقرار والتوطن في مكان واحد، أو في بلد معين، فقد تنقل بين إيران والعراق وأفغانستان ومصر وتركيا والهند وفرنسا، وترك أثراً وتأثيراً مهمًّا وكبيراً في كل مكان حل به، وهذا ما وثقه لاحقاً الكتاب والمؤرخون، عرباً ومسلمين وأوروبيين.
وقد ظل الأفغاني على طول الخط يحرك المياه الراكدة في ساحة الأمة، وكان حاضراً ومؤثراً في معظم القضايا والأحداث التي حصلت في عصره، وعلى امتداد أقطار العالم الإسلامي، وخاصة القضايا والأحداث الكبرى والمؤثرة على حاضر الأمة، وعلى وجودها ومستقبلياتها، كما كان في مقدمة المواجهة مع القوى الاستعمارية الغازية، وفي طليعة الدفاع عن الأمة الجامعة التي عبر عنها بمفهوم الجامعة الإسلامية، المفهوم الذي عرف به وأصبح عنوانا لحركته ومدرسته.
رابعاً: في حركته تواصل الأفغاني مع شرائح وفئات واسعة، علماء ومثقفين وأدباء وصحفيين وسياسيين، من الوسطين الديني والمدني، ومن الفريقين السني والشيعي، ومن الديانتين الإسلامية والمسيحية، في سابقة غير معهودة بهذا المستوى وبهذه الدرجة من التواصل والتعاون والانفتاح.
كما تواصل الأفغاني أيضاً مع الحكام والسلاطين في عصره، وتحديداً في مصر والأستانة وإيران، تواصل معهم ولم يكن تابعاً لهم، وتعامل معهم بمنطق النصيحة والإصلاح، فدعاهم إلى إشراك الأمة، وتقييد الحكم بنظام الشورى، وتبني المجالس النيابية، والتخلي عن الحكم المطلق والاستبدادي.
وهذا ما ألَّب عليه بعض الحكام الذين لم تعجبهم هذه النصائح، وكانت سبباً لطلب مغادرته دولهم، حذراً وخشيةً منه، ومن مواقفه وأفكاره السياسية والإصلاحية التي يجاهر بها.
هذه لعلها أبرز العوامل والأسباب التي تفسر لماذا اكتسب الأفغاني صفة موقظ الشرق، وباعث نهضة الشرق.
[1] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان: دار الشروق، 1988م، ص107.
[2] سعيد بن سعيد العلوي، العدالة أولاً من وعي التغيير إلى تغيير الوعي، الرباط: جامعة محمد الخامس، 2014، ص95.
[3] غالي شكري، النهضة والسقوط في الفكري المصري الحديث، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992م، ص133-142.
[4] علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، بيروت: الأهلية للنشر، 1987م، ص23.
[5] فهمي جدعان، الماضي في الحاضر دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997م، ص472.
[6] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، مصدر سابق، ص116.
[7] فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص109.
[8] محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000م، ص20.
[9] رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997م، ص18.
[10] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1992م، ص86.
[11] محمود محمد شاكر، المصدر نفسه، ص84-85.
[12] محمود محمد شاكر، المصدر نفسه، ص87.
[13] محمود محمد شاكر، المصدر نفسه، ص88.
[14] رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر، مصدر سابق، ص16-17.
[15] وجيه كوثراني، مسائل في الوعي التاريخي يثيرها استذكار الحملة الفرنسية من الجبرتي إلى شمبليون إلى الطهطاوي، منبر الحوار، مجلة فصلية، العدد 38، ربيع 1999م، ص47-50.
[16] فهمي جدعان، الماضي في الحاضر، مصدر سابق، ص500.
[17] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص98.
[18] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص52.
[19] محمود قاسم، جمال الدين الأفغاني حياته وفلسفته، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009م، ص9-10.
[20] حسن حنفي، جمال الدين الأفغاني في المائوية الأولى، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، ص11.
[21] هاملتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت: دار مكتبة الحياة، 1966م، ص33.
[22] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص89.
[23] محمود محمد شاكر، المصدر نفسه، ص147-148.
[24] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص108.
[25] فهمي جدعان، الماضي في الحاضر، ص500-501.
[26] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عمر مسقاوي وعبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2000م، ص23-24.
[27] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص49.
[28] كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي، بيروت: دار العلم للملايين، 1981م، ص617.