التصور الدلالي عند الشاطبي
الدكتور محمد دويس*
* أستاذ النحو والتصريف - المركز الجامعي، النعامة-الجزائر. البريد الإلكتروني:
douishamed@gmail.com
مفهوم الدلالة
جاء في لسان العرب: دَلَلَ:أدَلَّ عليه وتدلل انبسط، وقال ابن دريد: أدل عليه وثق بمحبته فأفرط عليه.
والدليل: ما يستدل به، والدليل: الدال، وقد دلَّه على الطريق يدُلّه دَلالةً ودِلالةً ودلُولة. والدليل والدّلّيلي: الذي يدلُّك.
قال ابن دريد الدَّلالة بالفتح حرفة الدّلاّل، ودليل بيّن الدِّلاَلة بالكسر لا غير[1].
أمَّا في الأساس: دَلَّه على الطريق وهو دليل المفازة، وهم أدلاؤها، وأدللت الطريق: اهتديت إليه، وتدللت المرأة على زوجها، ودلّت تدلّ، وهي حسنة الدلّ والدلال. وذلك أن تريه جرأة عليه في تغنّج وتشكل، وكأنّها تخالفه وليس بها خلاف.
ومن المجاز -الدال على الخير كفاعله- ودلّه على الصراط المستقيم، ولي على هذا دلال، وتناصرت أدلة العقل السَّمع واستدل به عليه[2].
وقد ألفينا أبا البقاء الكفوي قد فرق بين الدَّلالة بفتح الدال والدِّلالة بكسرها، وأورد في ذلك معنى لطيفاً جاء فيه: «وما كان للإنسان اختيار في معنى الدلالة فهو بفتح الدال، وما لم يكن له اختيار في ذلك فبكسرها، مثاله: إذا قلت: دَلالة الخير بزيد فهو بالفتح، أي له اختيار في الدلالة على الخير، وإذا كسرتها فمعناه حينئذٍ صار الخير سجية لزيد فيصدر منه كيف ما كان»[3].
معنى المصطلح عند الفلاسفة
إن الاختلاف المحتدم بين المناطقة والفلاسفة في تحديد تعريف شامل مانع -للمعنى-جعل الخوض فيه أمراً صعباً وشائكاً، وعلى الرغم من وعورة المسلك، فقد حصروا المعنى في ثلاث نظريات:
1- النظرية الإشارية في المعنى REFEREUTIAL THEORY
2- النظرية الفكرية IDEATIONAL THEORY
3- نظرية المنبه والاستجابة STUMULUS RESPOUSE THEORY
فالنظرية الأولى -النظرية الإشارية في المعنى REFEREUTIAL THEORY- فحواها أن معنى الاسم مسماه ذاته، وبتعبير آخر أن معنى الاسم مميز من مسماه لذلك أطلقوا عليها اسم: النظرية الاسمية NAMING THEORY OF MEANIG
أما النظرية الثانية -النظرية الفكرية IDEATIONAL THEORY- فتقول: «إن الكلمة تشير إلى فكرة في الذهن وأول هذه الفكرة هي معنى الكلمة»[4].
أما الثالثة فنظرية المنبه والاستجابة STUMULUS RESPOUSE THEORY، ويرى أصحابُها أن معنى الجملة هو الموقف الذي ينطق فيه المتكلم جملة ما وتعقبه استجابة لدى السامع، فيكون المعنى هو المنبه الذي يثير استجابة لفظية معينة ومن رواد هذه النظرية ليونارد بلومفيلد L.BLOOMFIELD
أما الفلاسفة المسلمون فسهامهم لم تبتعد عن هدف أرسطو، فالدلالة عندهم تتناول اللفظ وما ينجم عنه من آثار نفسية، أو ما يسمَّى بالصورة الذهنية.
إن المهتمين بالدلالة عند العرب لم يستثنوا الأمر الخارجي من اللفظ إلَّا أن تعلق اللفظ به لا يتم إلَّا عن طريق الصورة الذهنية بواسطة دلالة إضافية[5].
ويرجع المتأخرون مفهوم الدلالة عند ابن سينا بأنه «فهم أمر من أمر»، فهو بهذا يرجع الدلالة إلى فهم السامع، ففهم الأمر الأول الذي هو (الدّال) يستدعي في الذهن حتمية فهم الأمر الثاني الذي هو (المدلول). فتكون الدلالة بذلك فهم علاقة ذهنية بين صورتين، إلَّا أنّ هذا كان محل اعتراض؛ ذلك أنّ الدلالة وصف للدّال، والفهم وصف للفاهم لذا صحّح الفهم السابق للدلالة بأنه: «كون أمر بحيث يفهم منه أمر آخر»[6].
المصطلح عند المناطقة والنحاة
يعرف المناطقة الدلالة بأنها: «كون الشيء بحيث يلزم من تصوره تصور شيء آخر»[7]. وهي عندهم ثلاثة أنواع:
1- دلالة مطابقة: أن يدلّ اللفظ على تمام معناه الحقيقي أو المجازي كلفظ إنسان فهو يدل على الحيوانية والناطقية.
2- دلالة تضمن: وهي تضمن اللفظ لبعض معناه الحقيقي أو المجازي، فالجزء يمكن فهمه ضمن فهم تمام المعنى «فالناطقية» تفهم من خلال فهم لفظ إنسان.
3- دلالة التزام: أن يدلّ اللفظ على معنى يكون خارجاً عن معناه، لازماً له عقلاً أو عرفاً، فالأعداد الزوجية تدل عقلاً على أنها تقبل القسمة على اثنين دون كسر[8].
وقد ورد مثل هذا في كلام العرب، كقول الخنساء ترثي أخاها صخراً:
طَوِيلُ النِّجَادِ، رَفِيعُ الْعِمَادِ
كَثِيرُ الرَّمَادِ إِذَا مَاشَتَا
فطول نجاد أخيها دلالة على طول قامته، وقولها: «رفيع العماد» يدل على مكانته وعزته القعساء بين قومه، أما كثرة الرماد فتدل دلالة واضحة على الجود والكرم والسخاء. وكل هذه لوازم عرفية لا عقلية. لذا ميز المناطقة بين نوعين من اللزوم:
- لزوم عقلي: يحكم به العقل المجرد.
- لزوم عرفي:لا يحكم به العقل إلَّا بعد ملاحظة الواقع.
والمعمول به عند المناطقة الدلالة الإلزامية العقلية، أما العرفية فإنها في دلالات الكلام على وجه العموم، وهي معتمدة عند علماء البلاغة وأصول الفقه، حيث يستنبط عن طريقها قضايا فقهية ويحتج بها لدى المناظرة[9].
أمّا النحاة[10] فيعرفون الدلالة بأنها «فهم المعنى من اللفظ المستعمل فيه، فإن كان المعنى موضوعاً للفظ فهو مطابقة، وإن كان موضوعاً لجزئه فهو تضمن، وإن كان خارجاً عنه فهو التزام»[11]. وقد كان الفارابي يرى أن: «الإحاطة باللغة ونحوها شرط أساسي لدراسة المنطق»[12].
والمناظرة التي جرت بين أبي سعيد السيوفي اللغوي، ومتى بن يونس أكبر دليل على أن من المناطقة من كان يميز بين النحو والمنطق ويرى أن المنطقي في غنى عن النحو.
قال أبو بشر متى المنطقي: «النحو لم أنظر فيه لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى»[13].
وقد كان ردّ السيرافي مفحماً حينما أورد حجته التي رأى من خلالها أنه لا يمكن أن ننطق ألفاظاً خالية وفارغة من دلالتها على معان توحي بها، كما أنه من المستحيل أيضاً أن تتكون لدينا معانٍ دون ألفاظ[14].
ومن هذه المناظرة يتبيَّن لنا أن السيرافي اللغوي كان يجمع بين اللفظ والمعنى.
وخلاصة القول في الدلالة عند المناطقة والنحاة أن الصلة ظلت قائمة بين الفريقين، والفنين معاً، فكلاهما يدرس العلاقة بين اللفظ والمعنى، إلَّا أنهما يختلفان في الوسائل والأدوات الموصلة للمقصد.
أما التمييز في أن النحو موضوعه اللفظ، وأن المنطق موضوعه المعنى، فهو كلام لا طائل تحته. وفي هذا يقول الفارابي: «وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولات (المعاني) من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات، ذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أموراً ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأي»[15].
وبهذا يتضح أن العلاقة بين النّحو والمنطق قائمة، وأن اللفظ والمعنى لا يمكن الفصل بينهما.
الدلالة عند اليونانيين
أطلق أفلاطون مصطلح الشكل eidos على ما يرادف مصطلح المثل في الفلسفة، والشكل نادر الارتباط بطبيعة الشيء أو ماهيته، ومعرفة شكل الشيء ضرورية لأنها تشكيل لمقتضى الموجودات[16].
وقد تصدى أرسطو لرأي أفلاطون؛ لأن في رأيه الشكل لا يمكن أن يفصل إلَّا في حالات نادرة[17].
وظل فلاسفة اليونان يعالجون قضية المناسبة بين الألفاظ ومدلولاتها ردحاً من الزمن، ظهر فيه انقسامهم وتباين آرائهم، ففريق قال بوجود علاقة طبيعية بين الأصوات والمدلولات تدرك بالعقول. وفريق ثانٍ أرجعه إلى الاصطلاح العرفي منكراً العلاقة بين الأصوات ومدلولاتها، وقد ظلت كلمتا (الطبيعة أو العرف) محور جدل ونقاش زمناً طويلاً، وكأنما عزّ على هؤلاء الفلاسفة ألَّا يروا الصلة بين الأصوات والمدلولات وثيقة، وهم الذين يرون في اللغات أموراً سحرية رمزية، إن لم تدركها الأفهام في أيامهم فعَنْ قصور في تلك الأفهام والعقول[18].
مفهوم الدلالة عند الأصوليين
البحث الدلالي عند الأصوليين شديد الارتباط بفهم المسالك التي تؤدي إلى الأحكام المراد استنباطها، ولتحقيق ذلك انصبت جهودهم في دراسة الألفاظ وعلاقتها بمعانيها من حيث الأفراد والتركيب، كما اتجهوا إلى أوجه الأدلة وارتباطها بمدلولاتها، ملمين بمقتضيات الخطاب[19]، لذا اشترطوا أن يكون الأصولي متمكناً من دقائق اللغة العربية، وملمًّا بالمقاصد الشرعية، وهما يمثلان محوراً دلاليًّا عند الشاطبي، سواء تعلق الأمر بالدلالة اللفظية أم الدلالة المقاصدية[20].
الدلالة عند الشاطبي
قسّم الشاطبي الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني في اللغة العربية إلى نوعين اثنين:
1- ألفاظ مطلقة: وهي ألفاظ وعبارات تدل على معانٍ مطلقة سماها الشاطبي «الدلالة الأصلية»، وهي مشتركة بين جميع الألسنة وليست مقتصرة على لسان دون آخر.
2- ألفاظ مقيدة: وتكون دلالات عباراتها مقيدة تدل على معانٍ خادمة سماها الشاطبي «الدلالة التابعة»، وهذا النوع من الدلالات، ينفرد به اللسان العربي دون سواه، فإذا قلت مثلاً: «قامَ زيدٌ» فالعناية هنا ابتداء بالخبر، فإذا أردت العناية بالمخبِر عنه قلت: «زيدٌ قامَ»، وإنْ كان المخاطب متردداً تساوره الظنون قلت: «إنّ زيدا قامَ»، وإنْ كان ناكراً قلت: «والله إنّ زيداً قامَ».
فهذه التراكيب التي تختلف معانيها، هي من متممات الكلام ومكملاته، لأن الإخبار عند الشاطبي يقتضي أموراً خادمة له بحسب المخبِر والمخبَر عنه، والمخبَر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب من الإيضاح، والإخفاء والإيجاز، والإطناب وغير ذلك[21].
وإذا كانت مشكلة اللفظ ودلالاته قد طرحت من قبل، فإنّ الشاطبي قد حسم الأمر حينما عدّ المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة لتحصيله، «فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضاً كل المعاني، فإنّ المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه»[22].
فعن عمر: أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[23] ما الآبُّ؟ فقال عمر: نُهينا عن التعمق والتكلف، ويعلق الشاطبي على هذا بقوله: «و ظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي»[24].
في حين أنه لو كان فهم اللفظ الإفرادي، يترتب عليه فهم التركيبي، صار مضطراً إليه، وفي هذه الحال ينبني عليه حكم. وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}[25].
يؤكد الشاطبي على ضرورة الاعتناء بفهم المعنى، أي معنى الخطاب، وفي هذا إشارة إلى أنّ الاختلاف بين الأفهام والعقول إنما هو في مدى إدراكهم للمعنى، والمعنى مصحوب بقرائن ودلالات أصلية وتبعية، إفرادية وتركيبية، الأخذ بها يتطلب المرونة والاهتمام بالنصوص فَهْماً وتعمُّقاً؛ «لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداء، وكثيراً ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتستبهم على الملتمس وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل ومشيه على غير طريق»[26].
لقد تبيّن مما سقناه من نصوص أنّ الشاطبي اعتنى بالمعنى إيماناً منه أنّ فهم النصوص مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعنى، وأنّ العرب كانت عنايتها بالمعاني، وما جودة اللفظ وديباجته إلَّا من المعنى، وما أصلحت الألفاظ إلَّا من أجل المعاني.
ويبدو الشاطبي متميزاً عن غيره من الأصوليين، في فهمه لمقاصد الشريعة وقد أفرد فصلاً في كتابه المقاصد سماه (مقاصد وضع الشريعة للأفهام)، مما يدل على ما ينبني على المعنى من أحكام تخص المكلفين، لذا حذّر من الغفلة وسوء فهم النصوص، بعد أنْ أثار آراء القائلين بالأخذ بالدلالة التبعية، والقائلين بالمنع وحججهم، مرجحاً رأي المانعين بقوله: «قد تبيّن تعارض الأدلة في المسألة، وظهر أنّ الأقوى في الجهتين جهة المانعين.. لكن يبقى فيها نظر آخر، وربما أخال أنّ لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية، وتخلقات حسنة، يقر بها كل ذي عقل سليم، فيكون لها اعتبار في الشريعة»[27].
دلالة العام والخاص عند الشاطبي
ظل الخلاف قائماً بين الأصوليين حول دلالة العام أقطعية هي أم ظنية؟ فذهب الحنفية إلى أنّ دلالة العام قطعية مستغرقة كل أفراده[28] ورأوا في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[29] أنّ الحكم يشمل كل من توفي عنها زوجها قبل الدخول وبعده، ما لم يخصص، ومن أدلتهم على ذلك أنّ العموم وضع له اللفظ باتفاق الجمهور، فإذا وضع لمعنى من المعاني صار لازماً له حتى يثبت العكس، ومن ثم رأوا بقطعية العام، علماً أنهم لا يقبلون التخصيص إلَّا بدليل مستقل[30].
ويرى الجمهور أنّ دلالة العام على ما يشتمل عليه دلالة ظنية، يجوز العمل به، فيما له تعلق بالمسائل الفرعية، لخضوعها لاختلاف وجهات النظر، وتفاوت الأفهام، ويحظر العمل به في أصول العقيدة[31].
والدليل على ذلك أنّ كل عام يحتمل التخصيص في الغالب حتى صار عندهم من القواعد «ما من عام إلَّا وقد خص منه بعضه»، وباللجوء إلى الاستقراء اللغوي توصلوا إلى أنّ التخصيص يدخل كثيراً من ألفاظ العموم مما دفعهم إلى القول بالاحتمال، وإذا ثبت ذلك انتفى القول بالقطع واليقين[32].
أما الشاطبي فيرى أنّ دلالة العام قطعية، وأبدى تخوّفه من الذين قالوا بظنية العام، وعدّ ذلك إشكالاً يفضي بالشريعة إلى المطلقات، وعمدة الشريعة العمومات تبين ذلك من قوله: «ولقد أدى إشكال هذا الوضع إلى شناعة أخرى، وهي أنّ عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتمد في حقيقته من العموم، وإنْ قيل بأنه حجة بعد التخصيص، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال به جملة إلَّا بجهة من التساهل وتحسين الظن، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم»[33].
وخلاصة القول أنّ ما يسميه الأصوليون عامًّا مخصصاً متصلاً أو منفصلاً، لا يقرّه الشاطبي ويعتبره إبطالاً للكلمات القرآنية، والأصوليون يعتبرون ما يسميه الشاطبي مبيناً لمجمل يفضي إلى النتيجة نفسها، ومن ثم اعتبروا تخوف الشاطبي على كلمات الكتاب والسنة لا مسوغ له، إذ إن التخصيص لا يجنح إليه إلَّا بدليل وله ضوابط تضبطه.
إنّ العموم والخصوص عند الشاطبي قائم على المعنى وجدت له صيغة أو لم توجد معتمداً في ذلك على الاستقراء. ومنهج الشاطبي في دراسته للعام والخاص منهج منفرد اتسم بالشمولية، «حيث ميز فيه بين مفهوم العام المستفاد من الصيغ العربية في وضعها الإفرادي، والاستعمالي العربي أو الشرعي، وبين الاستقرائي، واعتمد في ذلك التمييز على ما التزمه في منهجه القائم على اعتماد منطق الجمع بين ما هو لغوي، وما هو مقاصدي، ونظمه في مجموع كلي، يحكم به على ما هو جزئي ظني»[34].
ويرى الشاطبي بضرورة حمل العمومات الشرعية، على مقتضى الأحكام العادية، معللاً ذلك بأنه إذا عللنا القصر بالمشقة، فهذا لا ينتقض بالملك المترف، ولا بالصناعة الشاقة، كما عُلق الحدّ في الخمر على نفس التناول، حفظاً على العقل، ثم أجريَ مجرى العموم في القليل الذي لا يذهب العقل اعتباراً بالعادة في تناول الكثير. كما علق حد الزنى على الإيلاج، وإن كان المقصودة حفظ الأنساب فيما يحد من لم ينزل، لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال[35].
ويتفق الشاطبي مع الأصوليين في أن للعموم صيغاً وضعية، مُرْجِعًا النظر في ذلك إلى أهل العربية من وجهين:
الأول: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أهل وضعها على الإطلاق، وهذا محل نظر عند الأصوليين؛ لذلك خصصوه بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة.
الثاني: باعتبار المقاصد الاستعمالية، التي تقضي العوائد بالقصد إليها، لأن العرب إنما تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام لا بحسب الوضع. والقاعدة عندهم: إذا عارض أصل الاستعمال الأصلَ القياسي كان الحكم للاستعمالي[36].
فقول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا..}[37] ليس المقصود أنها تدمر السماوات والأرض والجبال وغيرها، وإنما المقصود كل شيء أتت عليه؛ لذلك قال: مبيناً {.. فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ المُجْرِمِينَ}[38]، ومن ثم لا يصح الاستثناء في نحو: «من دخل بيتي أكرمته إلَّا نفسي»؛ لأنه استثناء للمتكلم، والاستثناء إنما يصح من غير المتكلم[39].
وعليه فالعموم عند الشاطبي واضح، يصح ثبوته بصيغ العموم، بل بغيرها أيضاً من الصيغ، والطرق، منها الاستقراء، وهو تتبع لمواطن المعاني حتى يحصل منه أمر كلي عام يرقى في الحكم إلى العموم المستفاد من الصيغ، لأن العمومات إذا اتحد معناها وعمت في أبواب الشريعة وتكرر في مواطن كثيرة بحسب الحاجة من غير مخصص فهي مجراة على عمومها، ومن ذلك ما قررته الشريعة في مواطن كثيرة أن لا حرج علينا، فعدّه العلماء أصلاً مطرداً، أو عموماً مرجوحاً، وذلك مما فهموا بالتكرار والتأكيد من غير استثناء ولا طلب مخصص[40].
كما عالج الشاطبي الألفاظ من حيث وضوحها، وإبهامها، ودلالتها على المعنى بطريقة تختلف عن سابقيه، من علماء أصول الفقه، جعلته متميزاً بطرحه، فهو لما تناول واضح الدلالة طرق موضوع الإحكام صراحة، أما بقية الموضوعات فتلمح من خلال منهجه الذي صدره بمقدمات توضحه، وهو منهج استقرائي أساسه المنطق والفهم السليم للغة، قال الشاطبي: «وإذا تُؤمِّل هذا الإطلاق وهو المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه، كما أنّ الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم»[41].
وفي النص دلالة واضحة على أن الشاطبي، في دراسته لموضوعات أصول الفقه، ولاسيما مبحث الدلالات، ففي واضح الدلالة أفرد المحكم بكلمة خاصة لكنه مع ما يقابله وهو المتشابه. وقسم المتشابه إلى نوعين: عام وخاص. وصنف العام ضمن واضح الدلالة كونه لا يحتاج إلى غيره في بيان معناه. أما الخاص فالمقصود به خلاف المنسوخ، وهو تعبير علماء الناسخ والمنسوخ لأنهم يميزون بين آي القرآن الكريم بقولهم: هذه محكمة وهذه منسوخة[42].
ولما وقف الشاطبي عند غير واضح الدلالة عالج فيه المشكل والمجمل والمتشابه، أما الخفي فلم يخصه بموضوع، إلَّا أنه أدرجه ضمن منهجه الاستقرائي القائم على فهم النصوص بلغة العرب وحسب فهم العرب لها.
[1] أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، لبنان: دار بيروت للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، المجلد 11، ص 247.
[2] جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق الأستاذ عبد الرحيم محمود، بيروت - لبنان: دار المعرفة، بدون تاريخ، ص134.
[3] الكفوي ، الكليات ، ص 439.
[4] محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة، ص 96.
[5] عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، بيروت - لبنان: دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1985، ص9.
[6] عادل فاخوري، الدلالة عند العرب، ص 10.
[7] عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، 1988، ص 27.
[8] المرجع نفسه، ص 30.
[9] المرجع السابق، ص 31.
[10] النحاة يترجح نظرهم في جانب الألفاظ (أنظر:البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الطبعة الثانية، 1992، الجزء الثاني، ص49
أما الدكتور محمد سمير اللبدي فيقول: «لقد فرق الباحثون بين الأبحاث اللغوية والأبحاث النحوية، حيث قصروا الأولى على ما يتعلق بطبيعة اللفظ وتاريخه وأصله ومراحل تطوره ونشأته، كما قصروا الثانية على موقع الكلمة في الترتيب من الناحية الإعرابية والدلالية، ونحن نرى أن أبحاث اللغة تشمل كل ذلك بدون تفرقه». معجم المصطلحات والصرفية، الجزائر: مطبعة أمزيان، ص 205.
[11] نقلاً عن د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 47.
[12] د. محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة، بيروت - لبنان: دار النهضة العربية، 1985، ص 169.
[13] التوحيدي، أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، موفم للنشر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، 1989، الجزء الأول، ص 158.
[14] محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة، ص 169.
[15] نقلاً عن: محمود فهمي زيدان ، في فلسفة اللغة، ص 170.
[16] سمير أبو حمدان، الإبلاغية في البلاغة العربية، بيروت، باريس: منشورات عويدات الدولية، الطبعة الأولى، 1991، ص 86 - 87.
[17] المرجع نفسه.
[18] إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة، 1966، ص 126.
[19] منهج الدرس الدلالي عند الشاطبي.
[20] المرجع نفسه ص211.
[21] إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، بيروت - لبنان: دار المعرفة، الطبعة الأولى، ب.د.ت.، ج 2 ص: 66 - 67.
[22] المصدر نفسه ص 87.
[23] سورة عبس، الآية 31.
[24] الموافقات 2/87.
[25] سورة البقرة، الآية 17.
[26] الموافقات 2/88.
[27] الموافقات 2/103.
[28] محمد أبو زهرة، أصول الفقه الإسلامي ، دار الفكر العربي ، ب.د.ت.، ص 158.
[29] البقرة الآية 234.
[30] محمد أبو زهرة، أصول الفقه، دار الفكر العربي، ب.د. ينظر: 58.
[31] ينظر: (منهج الدرس الدلالي عند الشاطبي)، ص 71.
[32] ينظر: تفسير النصوص: في الفقه الإسلامي، صالح محمد أديب، بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 2/111.
[33] الموافقات 3/291.
[34] منهج الدرس الدلالي عند الشاطبي، ص 291.
[35] الموافقات 3/ 266-268.
[36] ينظر: الموافقات 3/269.
[37] سورة الأحقاف، الآية 25.
[38] تتمة الآية السابقة.
[39] الموافقات 3/271.
[40] الموافقات 3/306.
[41] الموافقات 3/86.
[42] ينظر: الموافقات 3/85.