شعار الموقع

دور الدكتور الفضلي في معالجة المفاهيم القلقة ..

حسين منصور الشيخ 2019-06-03
عدد القراءات « 733 »

دور الدكتور الفضلي في معالجة المفاهيم القلقة

قراءة في المنطلقات ومسارات العمل وخطواته

حسين منصور الشيخ*

 

* كاتب من السعودية.

 

 

ﷺ مقدمة

لا تزال المجتمعات المسلمة تعيش اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية في مستوياتها المختلفة، وينسحب الأمر نفسه على الجانب الثقافي، إذ لا تزال في حيرة حول كثير من المفاهيم وتحديد البوصلة الفكرية التي تسير في فلكها، هل هي مبادئ ومفاهيم وقيم الحضارة الغربية الرأسمالية، أم هي قوانين وفلسفة المادية التاريخية الماركسية، أم هي تعاليم الشريعة الإسلامية، أم هي خليط بين هذا وذاك؟

ولأن الورقة تتناول في موضوعها دور الدكتور عبد الهادي الفضلي في معالجة المفاهيم القلقة، كان من المناسب التمهيد لذلك بالإشارة إلى ظاهرة قلق المفاهيم في المجتمع المسلم بصورة عامّة، ومن ثَمّ تناول دوره (رحمه الله) في معالجتها، وذلك في محاور ثلاثة، هي: دوافع دراسة المفاهيم القلقة عند الدكتور الفضلي، ومسارات دراستها، ومن ثَمَّ خطواتها.

ﷺ تمهيد: المجتمع المسلم وقلق المفاهيم

تتداخل في المجتمع المسلم المفاهيم وتتشوّش الطرق والاتجاهات؛ وذلك لعوامل بعضها داخلي نابع من المجتمع، وآخر خارجي ظهر بفعل التأثر بالثقافة الوافدة، وهو ما يمكن بيانه من خلال بعض الأمثلة لكلا العاملين:

1) العوامل الداخلية

أ) تداخل الديني بالسياسي

عاشت التجربة الإسلامية قرونًا طويلة تداخل فيها العامل الديني بالعامل السياسي، فأصبح كلٌّ منهما يخدم الآخر ويبرّره في كثير من المناطق، وبسببٍ من ذلك، تداخلت المفاهيم واضطربت، فأصبح غير واضح تاريخيًّا بصورة دقيقة مفهوما الفتح الإسلامي والاحتلال الأجنبي، على سبيل المثال. فالقوّة الغالبة المتوسّلة بالسلاح والداخلة إلى البلد الإسلامي هي قوّة احتلال أجنبي، فيما القوّة العسكرية الإسلامية في حال دخلت بلدًا أجنبيًّا وفرضت سيطرتها هي قوة فتح. وهي تفرقة غير واضحة المعالم؛ ذلك أن الحاكم أو قائد الجيش المسلم قد يمارس أثناء سيطرته لأي منطقة جديدة ما يمارسه غير المسلم على المسلمين. ولكن إطلاق مسمى الفتوحات على توسّع النفوذ الدولة الإسلامية ومسمّى الاحتلال على توسّع نفوذ غير المسلمين كانت ولا تزال بفعل تداخل العاملين الديني والسياسي في المجتمع المسلم.

وهي نقطة يشير إليها الباحث عبد الرؤوف سنّو، إذ يقول: «استند المسلمون في فتوحاتهم إلى آيات قرآنية تحثهم على الجهاد وفق تفسيرات ملتبسة حول وسائل تحقيقه. وإذا كانت غاية هذا المؤتمر[1] هي ممارسة النقد لكل ما جرى من فتوحات باسم الإسلام على أيدي مسلمين، فأقول: إن غالبية المسلمين لم تستطع، لا في الماضي ولا في الحاضر، سواء أكانوا أفرادًا أم مثقفين، أن يمارسوا بعقلانية نقدًا لهذه التجربة: أولاً، باعتبار أن الجهاد أمر مفروض من الله ولا يجوز شرعًا الخوض فيه، وثانيًا، بسبب التداخل المحكم بين ما هو ديني وما هو دنيوي»[2]، حيث يصنّف ما عرف بالفتوحات الإسلامية بأنها توسّع إمبريالي؛ «لفرض دين وقيم وعادات على شعوب أخرى أو إخضاعها لسلطة أجنبية وسلبها حقوقها الطبيعية»[3]، ويدعو إلى ضرورة تقييم التجربة الإسلامية في الحكم وتوسّع النفوذ، وينتقد راهن المجتمعات الإسلامية التي «تمتنع عن ذلك بالنسبة إلى الفتوحات الإسلامية، باعتبارها أمرًا مفروضًا من الله، فيتم التغاضي عمدًا عمَّا ألحقته الفتوحات الإسلامية من أذى للآخرين، معنويًّا أو جسديًّا، والتستر وراء آيات قرآنية متعددة التفاسير لتبرير (الجهاد) العسكري»[4].

هذا فيما يتعلّق بمفهومي الفتح والاحتلال، وفي مقابلهما مجموعة أخرى من المفاهيم الملتبِسة، يمكن الإشارة هنا إلى مفهومي (الامتثال لأنظمة الدولة) و(الديكتاتورية)؛ ذلك أن الحاكم بوصفه خليفةً لرسول الله وأميرًا للمؤمنين و«وليًّا للأمر»، تصدر عنه أوامر سلطانية أو ما يعرف اليوم بالتشريعات الحكومية ليس بالضرورة أن تتوافق جميعها مع قيم وتعاليم الشريعة الإسلامية، يتسبّب ذلك التداخل ما بين الديني والسياسي في حدوث خلل بين مفهومَي (الديكتاتورية) في بعض صورها مع المفهوم الديني لـ(طاعة وليّ الأمر).

وغيرها من المفاهيم الملتبسة بسبب تلكم العلاقة والتداخل بين الدين والسياسة في التجربة الإسلامية في ممارسة السلطة.

ب) التداخل بين الثابت الشرعي ومقتضيات التغيّر الزمكاني:

مما يشير إليه الفقهاء فيما يتعلّق بسمات الشريعة هو عنصر المرونة في التشريع الإسلامي، ولأن مفهوم المرونة التشريعية غير واضح تمامًا، فقد تلتبس لدى الفقيه الضرورات الشرعية الثابتة، وتلكم الأحكام الفقهية التي من الممكن إخضاعها لعنصري الزمان والمكان اللذين قد يتحكّمان في تغيير بعض الأحكام الإسلامية مع المحافظة على روح التشريع العامّة فيها.

وهو الأمر الذي ينسحب على الكثير من المفاهيم الشرعية، وهو ما يشير إلى أحد مفرداته الشيخ محمد مهدي شمس الدين أثناء حديثه عن مفهوم (الذمّي) في الفقه الإسلامي، فيقول هناك: «أمّا ما أنتجه الفقهاء في أبحاث الفقه والتنظيم السياسي، واشتمل على مصطلح «أهل الذمّة»، فإنما هو مصطلح أنتجه مناخ فقهي كان سائدًا في ذلك الحين، وكان نتيجة لعرفٍ حقوقي سائد في العالم، وهو مصطلح ليس له ذكر في القرآن، ولا يوجد عندنا في السنة الشريفة مصطلح أهل الذمّة بما هم جماعة سياسية تنظيمية منفصلة عن موجبات الالتزام التنظيمي في المجتمع. نعم، توجد ذمّة في بحث الإذمام من أحكام الجهاد، ففي حالة الحرب يقال: إن للمسلم أن يُذِمّ عَدوّه، أي أن يدخله في ذمّته بأمان،... إن «الذمّي» مصطلح فقهي حقوقي، نشأ نتيجة لتطوّر المصطلحات الفقهية، وهو لا يحكي عن ثابت في التشريع الإسلامي، ونحن الآن في أبحاثنا الفقهية نطوّر فكرة المواطنة، ومصطلح المواطنة بالنسبة إلى أعضاء المجتمع السياسي»[5].

2) العوامل الخارجية

وقعت معظم بلدان العالم الإسلامي تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي حقبًا من الزمن، وكان من آثار تلكم الحقبة الاستعمارية هو حالة الصراع بين الوافد الأجنبي والموروث المحلّي، وبخاصّة أن السلطات الأجنبية أنشأت العديد من المؤسسات التعليمية والخدماتية والإعلامية، وهي مؤسّسات وخدمات لم تألفها تلكم المجتمعات، من جهة.

ومن جهة أخرى، كان لهذه المؤسسات، وبخاصّة التعليمية والإعلامية، دور كبير في تنشئة أجيال على ثقافة المحتلّ، وهي الثقافة المغايرة في بنيتها ومفاهيمها عن ثقافة الموروث.

ومن تلكم المفاهيم القلقة التي كانت للمستعمر الأجنبي أيادٍ في بثّها: مفهوم الدين، وهو ما يشير إليه الدكتور الفضلي في مقرّره الدراسي الأول: (التربية الدينية)، حيث يناقش فيه ما تطرحه الموسوعات والمقرّرات الدراسية الأجنبية حول مفهوم الدين، التي تعرّفه بأنه: «علاقة فردية بين الإنسان وخالقه»[6]، وهو تعريف يلتقي وتعريف موسوعة المورد العربية، إذ يُعرَّف هناك بأنه: «تعبير الإنسان عن إيمانه بقوّةٍ أعظم منه وإجلاله لها، بوصفها خالقة هذا الكون ومسيِّرته،... وهو كل مجموعة متكاملة من الشعائر أو الطقوس المبنيّة على أساس من هذا الإيمان»[7].

حيث يشير الدكتور الفضلي بأن «الاستعمار الغربي عمل على إشاعة هذا التعريف في أذهان المسلمين عن طريق المناهج التعليمية وغيرها ليتمّ له فصل الدين الإسلامي عن الحُكم، فيتخلّص منه،.. وذلك لما يفرضه الإسلام على المسلمين من عدم جواز خضوعهم لغير الحكم الإسلامي»[8].

ويطرح بدلًا منه تعريفًا آخر تبنّاه الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ويعدّ أوّل من طرحه في العصر الحديث –حسب الدكتور الفضلي- إذ يعرّف الدين بأنه «عقيدة إلهية ينبثق عنها نظامٌ كامل للحياة»[9]، ذلك أن المطروح قبل تبنّي الشهيد الصدر لهذا التعريف هو أن «الإسلام عقيدة وعمل»، بحيث تكون أصول الدين هي العقيدة، والعمل هي فروع الدين. «وعندما أصدر السيد محمد باقر الصدر كتاب اقتصادنا أثبت أمام الآخرين هذه الحقيقة، وهي أن الإسلام عقيدة ونظام»[10].

ﷺ جهود الدكتور الفضلي في معالجة المفاهيم القلقة.. الدوافع والمنهج

من المجتمعات الإسلامية التي عاشت حالًا من الصراع بين الحديث الوافد والقديم الموروث هي الساحة العراقية، التي انفتحت منذ بدايات القرن العشرين على المؤسسات التعليمية الحديثة، متمثّلة في مدارس التعليم العامّ، والجامعات، وكذلك المؤسسات الإعلامية المقروءة والمسموعة، ودور النشر، وغيرها من الوسائل الحديثة التي كان لها تأثيرها البارز في تكوّن ثقافة جديدة وافدة على المجتمع العراقي.

وكان ذلك دافعًا لظهور العديد من الحركات الإسلامية المعاصرة، التي كان من بينها الحركة الإسلامية بقيادة السيد محمد باقر الصدر ومن معه من رفقاء الدرب، حيث يأتي في مقدّمتهم الدكتور عبد الهادي الفضلي، الذي كان قلمه ومحاضراته من تلكم الإسهامات الفكرية المؤسِّسة للحركة.

ولعلّ من أبرز تلكم الإسهامات التي عمل عليها وعالج قضاياها الدكتور الفضلي تزامنًا مع ظهور الحركة الإسلامية وفاعليتها في العراق هي المفاهيم القلقة غير واضحة المعالم، فكانت جهوده في ذلك بيّنة جليّة. وهي النقطة محور البحث التي تتناولها العناوين الثلاثة أدناه:

1) دوافع دراسة المفاهيم القلقة

بدأ الدكتور الفضلي نشاطه الفكري في النجف الأشرف انطلاقًا من الجمعيات والنوادي الأدبية والعلمية محاضرًا وكاتبًا نشطًا وفاعلا في الميدانين الأدبي والفكري الإسلامي.

ولا يخفى أنّ بيان المفاهيم وتناولها في العمل البحثي يعدّ من الأساسيات المنهجية لذلكم البحث أو المحاضرة. ولكنّ تناول الشيخ الفضلي لدراسة المفاهيم لم يكن انطلاقًا من الدواعي المنهجية فحسب، وإنما لدواعٍ أخرى، يمكن الإشارة إلى عاملين منها، وهما:

أ) خدمة المشروع الفكري

في ظلّ ما كانت تعيشه الحركة الإسلامية العراقية من صراعٍ فكريٍّ مع الفكر الماركسي، وكذلك في ظلّ ما كانت تسعى إليه تلكم الحركة حينها من إحداث نقلة «ثوريّة تهدف إلى تسلّم السلطة، ومن ثمّ يأتي دور التغيير الشامل»[11]، في ظلّ هذه التحدّيات كان يستدعي ذلك إيجاد مفهوم واضح وبيّن حول مفهوم الدين، وبخاصّة ما يرتبط بمسألة شموليته لمسألة النظام وحاكميته في المجتمع. ولذلك، فإن الشيخ الفضلي، وخدمةً لهذا المشروع الفكري الواسع، أصدر دراسته القيّمة (الإسلام مبدأً)، حيث قارن فيها بين مفهوم الدين فيما يؤدّيه من معنى لغوي، وبين المفهوم الذي يعرضه القرآن حول الدين، وكذلك حول مفهوم الإسلام، ليخرج بنتيجة مفادها بأن «الإسلام هو الدين الذي بعث به نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البشرية كافّة.

وهذا التعريف للإسلام -بانطوائه على كلمة (الدين)- يعطينا بأن الإسلام مبدأ، أي: عقيدة، ونظام، ومنهج. وذلك على أساسٍ من تعريف الدين بأنه عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام كامل للحياة»[12].

وفي مثالٍ آخر حديث، يدور حول مفهوم (الإرهاب)، الذي سخّرت الآلة الغربية الإعلامية أجهزتها من أجل إلصاقه بصورة لازمة للإسلام، يتناوله الدكتور الفضلي في بحث دلالي فقهي وتاريخي، ليخلص هناك إلى أن الإرهاب -بمفهومه الشرعي الإسلامي- يتلخّص في النقطتين التاليتين:

1. «لا يجوز في الإرهاب الشرعي استعمال وسائل العنف، كالخطف والقتل والتعذيب والتخريب وما شاكلها.

2. إن الإرهاب الشرعي مقصور على إعداد القوّة العسكرية الضخمة التي تحقّق للمسلمين الحضور المتميّز عالميًّا، وتدخل الرعب في نفوس أعداء الإسلام والمسلمين الذين يريدون بهم الكيد والعدوان»[13].

إنّ رفع الغموض عن حدود ما يشمله الدين في حياة الإنسان -في المثال الأول- يمثّل خدمة لمشروع الحركة الإسلامية في حينها، وبيان الرؤية الشرعية لمفهوم إعداد القوّة في المجتمع المسلم -في المثال الثاني- يهدف إلى بيان الموقف الإسلامية تجاه ما يواجهه الإسلام اليوم من تشويه، وهما منطلقان مبدئيّان يراعيهما الدكتور الفضلي لجُملة من المفاهيم الحائرة خدمة للمشروع النهضوي الإسلامي الذي يتبنّاه.

ب) بيان القيمة الحضارية للأمة

تمرّ المجتمعات بتغيّرات على مستويات عدّة، وتمثيلًا لذلك نشهد اليوم ما أحدثته التقنية الحديثة من تغيرات واسعة على حياة الإنسان الفرد والمجموع. ومما تمسّه تلكم التغيّرات ظهور العديد من المفاهيم الجديدة غير المألوفة سابقًا. فبسبب تلكم التقنية ظهرت العديد من المفردات، مثل: الحاسوب، شبكة الإنترنت، البريد الإلكتروني، الكتاب الإلكتروني، الموقع الإلكتروني، اسم المستخدم، كلمة المرور، التحميل، التنزيل، التغريدات، محركات البحث، وغيرها.

ويمكن تطبيق هذه الفكرة على حدث ظهور الإسلام، إذ مع بزوغه المبارك ظهرت مجموعة واسعة من الاستعمالات اللغوية الجديدة، كان لبعضها حضوره السابق قبل الإسلام، ولكنه تبدّل إلى معانٍ أخرى قريبة استحدثها الدين الجديد، كما هي الحال مع الصلاة والحج اللتين كانتا لمطلق الدعاء والزيارة، ثمّ تخصصت الصلاة في العبادة الإسلامية بأفعالها وأدعيتها الخاصّة، والحجّ في مناسكه العبادية التي تؤدّى في مكّة المكرّمة وما جاورها.

وإلى جانبهما استحدثت مجموعة أخرى من المفردات ذات المعاني الجديدة وغير المألوفة في البيئة العربية قبل الإسلام، من قبيل: المؤمن والكافر والمنافق، والجاهلية والإسلام، وغيرها.

وهذا لا يتعلّق بانطلاقة الإسلام الأولى، وإنما يمتدّ إلى عصرنا الحاضر، ذلك أنّ اللغة كائن حيّ، يلحق الكثير من مفرداتها وتراكيبها التبدّل والتغيّر، نتيجة للعديد من العوامل الاجتماعية والثقافية المتعاقبة، وهو أمرٌ لا نجد له حضورًا في المعاجم اللغوية العربية، بحيث يتمّ تعقّب التغيُّرات الدلالية لكل مفردة، بدءًا من العصر الجاهلي وحتّى العصر الحاضر.

وهي نقطة نبَّه عليها الدكتور الفضلي في دراسته «الإسلام مبدأً»، حيث يقول هناك: «لم تُعْنَ الدراسات اللغوية العربية -وبخاصّة القديمة منها- بدراسة الكلمة في حدود ارتباطها بالكلمات الأُخَر، إلا فيما نقرؤه في أمثال (الاشتراك) و(الترادف) و(المجاز)، ولا في حدود تطوراتها نتيجة عوامل الزمان والمكان، لمعرفة مدى ما تلتقي فيه المعاني المتعدّدة التي يستعمل فيها اللفظ الواحد، ومعرفة المناشئ، والأسباب التي أدّت أو ساعدت على انتقال اللفظة من هذا المعنى إلى ذاك، أو على استعمالها في هذا المعنى ثمّ في المعنى الآخر.

أما اليوم، وقد تطوّرت الدراسات اللغوية إلى دراسة تاريخ وحياة الكلمة دراسة توفّرت لها كل الإمكانيات والجهود، رأيتُ أن أوافي قرّائي الكرام بهذا اللون الجديد من الدراسة لكلمتي: (الدين) و(الإسلام)، اللون الذي سيلمسون في نتائجه تطوّرًا مهمًّا بالنسبة إلى دراسات الكلمة المذكورة قديمًا وحديثًا»[14].

كما يركّز الحديث حولها، لأهميتها في البحث الأصولي والفقهي، أثناء تناوله لمسألة حجيّة قول اللغوي في علم الأصول، فيقول هناك: «عني اللغويون العرب باللهجات العربية، فجمعوا الشارد والوارد والشائع والشاذّ، مما يصلح مادة خصبة لمعرفة التطوّر الدلالي للكلمة العربية، لو أنهم أرّخوا لهذه اللهجات. كما أنهم ابتعدوا عن ذكر ما أسموه بالمولّد، فلم يعنوا به، وهو ذو دور مهمّ في عالم التطوّر الدلالي»[15].

ومما كان يردّده في مجلسه كثيرًا هو أهمية هذا النوع من المعاجم التي كان يسمّيها بمعاجم التتبّع الحضاري للكلمة، حيث يفاد منها الكثير من المفردات والاستعمالات الكاشفة عن الحضارات والأجيال والتغيرات الاجتماعية التي انتمى إليها أبناء تلكم اللغة، وبخاصّة مع ما تتمتّع به اللغة العربية من عمق تاريخي طويل.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يشير العلَّامة الفضلي إلى جنبة أخرى، وهي أثناء حديثه عن تمازج اللغة بين المعجمية والاصطلاحية، ذلك أنه يقسّم الاستعمال اللغوي إلى أقسام ثلاثة، هي:

1. اللغة الاجتماعية، وهي لغة التفاهم والتخاطب بين أبناء المجتمع، بصفتهم أفراد مجتمع.

2. اللغة الأدبية ذات المداليل الجمالية في التعبير بتنوّعاتها الأدبية المختلفة: شعرًا ونثرًا.

3. اللغة العلمية، وهي الألفاظ ذات المداليل العلمية التي تتداول وتدور في حوار أبناء العلم بصفته حوارًا علميًّا.

وبين هذه المستويات اللغوية تمازج دلالي قد يضيق وقد يتّسع، وفي حالتي الضيق والسّعة تبقى الجذور الغائرة في تربة اللغة واحدة[16]. وفي مقالته حول (تمازج اللغة بفنّ مصطلح الحديث) يقترح تنويعَ المعاجم اللغوية العربية بما يشمل اللغتين الاجتماعية التي تتناول المادة اللغوية في استعمالها الاجتماعي البحت دون الدخول في المعاني العلمية، والمادة العلمية التي تهتم بفرز المصطلحات وشرحها في حقولها العلمية والمعرفية البحتة، دون خلط بين هذين المستويين، وهو ما بدأت تشهده الساحة العلمية اليوم. وهي دعوة يطلقها الشيخ الفضلي انطلاقًا من رؤية حضارية لهذه الأمة، ذلك أنه يرى أن امتلاك أي لغة للمستويين الأخيرين (الأدبي والعلمي) له دلالة عميقة على مدى خلاّقية تلكم اللغة، وأنها تملك مرونة لغوية تمكنها من إنتاج العديد من المصطلحات العلمية في قوالب لغوية جديدة، وأنها لغة لا تشيخ، وهو جانب حضاري مهمّ يدعو الشيخ الفضلي إلى إبرازه من خلال تلكم الجهود العلمية.

وانطلاقًا من هذه النقطة، يدعو في مناسبة أخرى إلى تكثيف الجهود من أجل إصدار الموسوعات ودوائر المعارف الإسلامية، لأنها المستودع المعرفي الذي من خلاله يستطيع الباحث تعرّف المفاهيم المتعدّدة وفقًا للرؤية الإسلامية. يقول في هذا الصدد: «تلجأ الدول اليوم إلى ما يعرف بدوائر المعارف، ذلك أن من مظاهر التقدّم الحديثة التي استحدثتها الدول المتقدّمة رصد تجربتها الحضارية فيما ساهمت وتساهم فيه من المجالات العلمية في مختلف الحقول، وذلك من خلال مؤسسات ثقافية وظيفتها الأساس رصد جميع العلوم والمعارف والكتابة حولها... ومما يؤسف عليه أن العالم الإسلامي لا يمتلك أي دائرة معارف تعرّف بالحضارة الإسلامية ومنجزاتها ورجالاتها، ولو أرادت الأمة الإسلامية التعريف بما تمتلكه من حضارة، فلا يوجد لديها ما تعرض به منجزاتها العلمية والحضارية والثقافية موثّقةً في دائرة معرفية خاصّة بها»[17].

2) مسارات دراسة المفهوم عند الدكتور الفضلي

ينطلق الدكتور الفضلي في معالجة المفهوم في مسارين متوازيين، هما:

أ) المسار النظري:

وهو المسار العامّ والتقليدي المتّبع في معظم الدراسات المنهجية، حيث يسير فيه الدكتور الفضلي بدءًا من التعريف اللغوي، ومن ثمّ الانتقال إلى التعريف الاصطلاحي، رابطًا بين المعنيين ربطًا عضويًّا يُظهر فيه للمتلقّي وجه العلاقة بينهما بصورة جليّة واضحة.

ولكثرة تلكم المفاهيم وغلبتها، يمكن تجاوز التمثيل ببعض الأمثلة إلى حين الحديث حول خطوات دراسة المفهوم عند الدكتور الفضلي.

ب) المسار التطبيقي:

في هذا المسار، يتناول الشيخ الفضلي المفهوم محلّ البحث، ويحدّد معناه من خلال ما يقترحه من تطبيقات عملية تساهم في بيان ما توصّل إليه من معنى، وهذا من قبيل دراسته المنشورة بعنوان: «مفهوم الاستقلال السياسي»، حيث ينهي دراسته بالإشارة إلى أنّ ما يحقّق مفهوم الاستقلال السياسي بحيث يكون استقلالًا كاملاً وحقيقيًّا هو مجموعة من المبادرات، منها:

1.        «وضع دراسات سياسية ميدانية لواقع أوضاع بلاد المسلمين سياسيًّا.

2.        توعية المسلمين ليكونوا في حالة استعداد للعمل من أجل التخلّص من النفوذ الأجنبي.

3.        مساعدة البلدان الإسلامية غير المستقلّة استقلالًا كاملًا بما يدفعها إلى العمل على التخلّص من الاستعمار الذي تعاني منه.

4.        محاولة التوسّل في البدء باتباع الوسائل والأساليب السلمية، ومن بعدُ لا مناص من الجهاد.

5.        وفي الوقت نفسه، على البلدان الإسلامية المستقلّة استقلالًا كاملًا أن تعمل على رفع مستواها تقنيًّا لتكون في مصافّ الدول الأخرى المتقدّمة تكنولوجيًّا.

6.        وأن تكثر من إنشاء مراكز البحث العلمي التي تعمل عل شرح العقيدة الإسلامية كأيديولوجية للفكر الإسلامي والعمل الإسلامي، وعلى استنباط وشرح التشريعات الإسلامية لتنظيم الحياة، وترجمة ذلك إلى مختلف اللغات الحيّة ليشقّ الإسلام طريقه مع الأنظمة الأخرى العالمية جنبًا إلى جنب.

7.        ثم القيام عن طريق مراكز البحث بدراسات مقارنة بين التشريع الإسلامي والتشريعات الأخرى الراهنة لنصل عند ذلك إلى أن يسترجع الإسلام سيادته على العالم من أجل تحقيق السعادة والسلام»[18].

وفي مثالٍ آخر، وذلك أثناء حديثه عن مفهوم (الحرّية)، يشير إلى أن مفهوم (الحرية) لم يكن مستعملًا في البيئة العربية إلَّا فيما يقابل العبودية والرقّ، وأنه، وبفعل حركة الترجمة عن الفكر الغربي، وبخاصّة ما يتعلّق بوثيقة حقوق الإنسان والنظريات الفكرية المؤسِّسة، مثل: العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، انتقل بمفهومه الحديث إلى هذه البيئة. «ولأن هذه الدلالة لكلمة الحرية، أو المفهوم القانوني للحرية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالجانب التشريعي للإنسان، ولتفاعل الحضارة الغربية التي تحمل هذا المفهوم مع حضارتنا الإسلامية، وهي من الحضارات التشريعية، كان على الفقهاء المسلمين دراسة هذا المفهوم في ضوء المبادئ التشريعية الإسلامية العامّة، وإبداء الرأي الإسلامي في المسألة بغية التحرُّر من هذا التخبّط الذي لمسناه في تعريف ونقد الحرية.

وقد يرجع عدم البحث في المسألة إلى الاعتقاد باستقلالية الإسلام، وهو شيء مقبول، إلا أنه علينا أن ننظر المسألة من خلال واقع الصراع الفكري القائم بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وبخاصّة في مجالات التشريع التطبيقية التي تكشف عن مدى تحقيق الإنسانية بمعناها الواقعي للإنسان فردًا ومجتمعًا.

وسأحدّد في هذا الطرح مركز البحث ومحور الصراع لأضعه بين يدي الفقهاء المسلمين، ليعبروا عن وجهة النظر الإسلامية في هذه المسألة:

إن الحرية في الحضارة الغربية تعني نقل السيادة والسلطة من الفرد إلى الشعب، ويتمّ هذا عن طريق وضع الدستور والأنظمة التي تحقّق هذا الهدف من قِبَل المشرّعين الممثّلين لهذا الشعب.

وعليه: فالمنطلق هو قدرة التشريع على تخليص الفرد من عبودية الفرد في مجال الحكم، وما يتشعّب عن ذلك ويدور في فلكه.

ولذلك نحن مطالبون بتقديم نموذج حيّ للحرية بمعناها الحديث وبشكلها الشريف النظيف، ذلك أن ما أفهمه أن الحرية تقوم على دعامتين، هما:

* النظام العادل.

* تمتّع المواطن بحقوقه كإنسان في ظلّ النظام العادل.

ولذلك، فالحرية تعني -في ضوء هذا- تحرّر الإنسان من ظلم الإنسان الآخر بالاعتداء على حقوقه، ومن ظلم النظام عندما لا يكون عادلًا»[19].

3) خطوات دراسة المفهوم عند الدكتور الفضلي

انطلق الدكتور الفضلي في تخصصه اللغوي من حلقات الدرس الشرعي النجفي، وذلك لترابط مسائل الحقلين وإفادة كل منهما من الآخر، وقد كان للفضلي دوره البارز في تجلية العديد من المفاهيم اللغوية، كما مارس الدور ذاته فيما يتعلّق بالمفاهيم الشرعية. ولفكّ الغموض عن المفهوم القلق في كلا الحقلين، يسلك الدكتور الفضلي مجموعة من الخطوات التي تتناسب وطبيعة المفهوم، ومن هذه الخطوات:

أ) الإفادة من طبيعة ما يعالجه المفهوم:

لعلّ أبرز ما عمل عليه العلّامة الفضلي في مشروعه العلمي والثقافي هو إعادة صياغة العلوم الإسلامية بما يتلاءم ومقتضيات العصر الحديث، وبخاصّة ما يرتبط منها بالدرس الشرعي بصورة مباشرة. وفيما يتعلّق بمقرّرات العلوم والمعارف، لا يعني كثرة تناولها بالبحث والدراسة وضوح مفاهيمها الأساس؛ فوجود مجموعة من المقرّرات في علم (المنطق) لا يعني وضوح مفهومه لدى دارسيه، وهي النقطة التي يبيّنها الدكتور الفضلي في أحد حواراته، إذ يشير هناك إلى أن علم (المنطق) يعرّف بأنه: «آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر»، وهو التعريف الذي يوجه إليه الفضلي مجموعة من الانتقادات، وفي مقدّمتها أن تعريف أيّ علم ينطلق من طبيعة ما تعالجه مسائل هذا العلم، و«كان يفترض من علماء المنطق أن يتبيّنوا الغاية من علم المنطق من خلال تتبّع مفردات العلم نفسه، ومن الواضح أن علم المنطق يركّز -في دراسته- على نقطتين أساسيتين، هما: التعريف والاستدلال. وقد اتخذتُ في تعريفي لعلم المنطق طريقًا وسطًا بين ما يذكره القدماء وبين واقع العلم، فعرّفته بقولي: (المنطق: دراسة قواعد التفكير الصحيح)، فهذا التعريف لعلم المنطق يتوافق بشكل قريب مع التعريف القديم، وكذلك يتوافق بشكل غير صريح مع واقع العلم؛ لأنّ تعلُّم تعريف المفردات والاستدلال على القضايا بصورة صحيحة يشكّل قاعدة من قواعد التفكير العلمي الصحيح»[20].

وهي نقطة يلتفت إليها أيضًا في تعريف علم البلاغة؛ ذلك أنّ التعريف المدرسي للبلاغة أنها: «مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته». وهو تعريف –بحسب الفضلي– يلاحظ عليه «أنه غير متوفّر على ذكر جميع العناصر الأساسية للنصّ الأدبي، وهي: الفكر، والخيال، والعاطفة، والصورة»[21].

وبدلًا من التعريف المدرسي أعلاه، يرجّح تعريف أبي هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) ويعدّه «من أسلم التعاريف للبلاغة وأقربها إلى حقيقتها، وينطوي على الإشارة إلى عناصر النصّ الأدبي التي تجعل منه نصًّا أدبيًّا بليغًا»[22]، حيث يعرّف العسكري البلاغة بأنها: «كل ما تبلِّغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه في نفسه كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومَعْرِضٍ حسن»[23].

ب) التأصيل:

ويُقصَد بالتأصيل هنا ذلكم الحفر والتنقيب بعيد الغور عن أصول المفاهيم، وتتبّع تطورها التاريخي والعلمي، فعند دراسة الشيخ الفضلي لمفهوم (الشعر) بغية الوصول إلى انطباق مفهومه على ما يسمّى (الشعر الحرّ) أم لا، نجده يبحث في تعريفات الأقدمين وتتبّع تطوّر تلك التعريفات وصولًا إلى العصر الحديث، ليصل في خاتمة المطاف إلى أن اشتراط التزام النظم وفقًا لأوزان الخليل واتباع (القافية) لم يكن لازمًا في تعريفهم للشعر، ولا أدلّ على ذلك من اتّهام معارضيّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه شاعر، والقرآن لم يتّبع في آياته تلكم الأوزان أو القوافي، ومع ذلك عُدَّ شعرًا في حاضرة الشعر العربي في حينها.

يقول الدكتور الفضلي في خاتمة بحثه ما نصّه: «وننتهي في هذا إلى أن اعتبار الوزن عنصرًا أساسيًّا في تقويم حقيقة الشعر أمرٌ متّفق عليه بين علماء الشعر، واعتبار القافية ركنًا مقوِّمًا لحقيقة الشعر يتكامل مع الوزن في ذلك أمرٌ مُخْتَلَفٌ فيه.

أما كون المراد من الوزن عنصرًا مقوِّمًا لحقيقة الشعر وأوزان الخليل، فلم أقف على نصّ عليه، والذي وقفتُ عليه هو أن الخروج على أوزان الخليل وبحوره لا يُخرج النصَّ الأدبي إذا كان موزونًا عن كونه شعرًا»[24].

وفي أجواء اللغة أيضًا، يبدأ الفضلي كتابه القيّم «دراسات في الإعراب» بالحديث عن (حقيقة الإعراب) التي رجع في تحديد مفهومه إلى المصادر النحوية الأولى، وبخاصّة إلى كتاب سيبويه، فينتهي هناك إلى ما مفاده بأن فهم النحويين الأوائل لمفردة الإعراب إنما تعني وقوع الكلمة في مواقع الرفع أو النصب أو الجرّ، وهو ما يعني أن جميع الأسماء معربة، ولا توجد أسماء مبنية؛ لأن كون الكلمة اسمًا هو وقوعها في هذه المواقع. وهو ما يعني أيضًا أن جميع الأفعال والحروف مبنية، ولا وجود لفعل معرب، ولذلك لا وجود لحالة إعرابية اسمها: الجزم[25].

هذا فيما يتعلّق بالدرس اللغوي، وإلى جانبه اهتمّ الدكتور الفضلي بتأصيل مجموعة من المفاهيم الشرعية، يمكن الوقوف هنا مع مفهوم (الرأي) الذي يمثّل العِماد الفقهي لإحدى المدرستين الإسلاميتين الكبريين، وهي مدرسة الصحابة في مقابل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام). ومع أهمية مصطلح الرأي في الدرس الشرعي، إلَّا أنه يظلّ مفهومًا غامضًا «اختلف الأصوليون من أهل السنة والمؤرخون منهم أيضًا في فهمهم لمعنى الرأي عند الصحابة:

-         فرادَفَ بعضهم بينه وبين القياس.

-         ورادَفَ آخرون بينه وبين القياس والاستحسان.

-         ورادَفَ غيرهم بينه وبين القياس والاستحسان والمصالح المرسلة.

-         ورادَفَ قوم منهم بينه وبين الاجتهاد بوجه عامّ، سواء كان في فقه الكتاب والسنة أو فيما عداهما.

-         ورادف ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم بينه وبين الإلهام»[26].

ولمعالجة ما يعتري المفهوم من «الخلاف والاختلاف في فهم معنى الرأي وتحديد مفهومه، ولأجل الوقوف على جليّة الأمر في فهم معنى الرأي، لا بدّ من عرض بعض المسائل التي أخضعها بعض الصحابة لاجتهاد الرأي، ثمّ استخلاص معنى الرأي منها وتعريفه؛ لأنّ هذا هو الطريق المنهجي السليم»[27].

وهو ما دفع الدكتور الفضلي إلى استعراض مجموعة من الأحداث التاريخية ذات العلاقة باستعمال الرأي مُسْتَنَدًا في إصدار الحكم الشرعي من قبل الصحابة، وذلك من خلال المسائل التالية:

1. الاستيلاء على الأرض المفتوحة.

2. مسألة صلاة ركعتين بعد العصر.

3. فرض الزكاة على الخيل.

4. تقسيم المال بين المسلمين وفقًا لطبقية اجتماعية.

5. إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة.

6. تحريم زواج المتعة.

7. إضافة بعض الأذكار في الأذان.

8. دية المسلم الحرّ.

9. مسألة طلاق الثلاث.

10. مسألة الصلاة بمنى.

11. مسألة الصلاة إلى جنب الكعبة وردّ عمر الناس إلى مقام إبراهيم.

12. مسألة تأخير صلاة العيدين وإحداث الأذان والإقامة فيها وتقديم الخطبة قبل الصلاة.

13. مسألة الشراب بآنية الذهب والفضة.

14. مسألة صلاة التراويح جماعةً.

15. مسألة ضَوَالّ الإبل.

16. مسألة القضاء في السرقة.

17. سبّ الإمام عليّ (عليه السلام) على المنابر.

18. مسألة بيع الذهب والفضّة ربويًّا.

19. مسألة النداء الثالث يوم الجمعة[28].

وبعد المرور بهذه المسائل، يعلق الدكتور الفضلي عليها بقوله: «إن مصطلح (الرأي) -كما هو بيّن- يدور مدار ما يراه المجتهد حسب تقديره الشخصي من مصلحة أو مفسدة. وعليه، يمكن تعريف (الرأي) بأنه: ما يراه المجتهد من مصلحة أو مفسدة حسب تقديره الشخصي، وفي ضوء ما لديه من خلفيات، وما يهدف إليه من غايات. والرأي الشخصي قد يلتقي مع ما عرف فيما بعدُ بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وفتح الذرائع وسدّها، وقد لا يلتقي. فقد يكون (الرأي) قياسًا، وقد يكون استحسانًا، وقد يكون استصلاحًا، وقد يكون تذرّعًا، وقد يكون غير هذه.

ومن هنا، ندرك أنّ التعاريف التي رادفت بين الرأي وهذه المذكورات لم تكن جامعة مانعة.

والذي يظهر -وبوضوح- أن الرأي تطوّر من ناحية علمية إلى هذه المذكورات. وقد تمّ هذا التطوُّر في القرنين الثاني والثالث الهجريين، والمعرّفون له لاحظوه من خلال تطوّره، لا في أصله»[29].

ج) الإفادة من البحث التاريخي في بيان المفهوم

لقد عالج الدكتور الفضلي مفهوم (الرأي) أعلاه من خلال تتبّع مفرداته، وهو ما تطلّب منه الإفادة من البحث التاريخي لاستقراء تلكم المفردات بغية تأصيل المصطلح وتجلية معناه. وهي منهجية أفاد منها في تجلية مجموعة من مفاهيم أخرى، وبخاصّة في الدرس الفقهي. ومن ذلك مفهوم (الربا) وربطه بمصطلح الفائدة في المعاملات البنكية الحديثة. ذلك أنّ (الربا) يصنّف فقهيًّا ضمن باب المعاملات، وهو الباب الذي يعالج الفقيه مسائله بصورة مغايرة في بعض صورها عن مسائل الأحكام العبادية؛ ذلك أنّ المعاملة في التشريع الإسلامي غالبًا ما تكون سابقة على الإسلام من حيث الوجود، ويأتي النصّ الشرعي ممضيًا أو مهذِّبًا أو محرِّمًا لها. وهو ما يتطلّب من الفقيه –عند البحث في حقيقتها– اللجوء إلى الدراسات التاريخية الخاصّة بالجوانب الاجتماعي للمجتمع العربي الذي صدرت فيه النصوص الشرعية؛ وذلك بغية فهم الحكم في واقعه الاجتماعي قبل التشريع الإسلامي وواقعه بعد نزول التشريع بشأنه.

وهو ما بدأ الدكتور الفضلي عند تناوله لـ(حقيقة الربا)، إذ بدأ بالتعريف اللغوي؛ لتحديد ما يبحث عنه، ومن ثمّ القرآني، حيث انتهى فيه إلى «أنّ القرآن الكريم ليس فيه بيان لحقيقة الربا، وإنما إحالة لمعرفة حقيقتها إلى الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي كان ماثلًا وقتَ نزول آيات الربا، وهو المعروف بـ(ربا الجاهلية)»[30].

وهي نتيجة فرضت على الفضلي –منهجيًّا– دراسة مفهوم (ربا الجاهلية) في الواقع العربي أيام صدور تلكم الآيات، وذلك لمقارنته لاحقًا بواقع الفائدة البنكية. وهو ما قام به بعد بحث المفهوم قرآنيًّا مباشرةً، حيث انتهى فيه إلى أنّ «ربا الجاهلية يتمثّل في الصور التالية:

- الربا المعاملي.

- الربا القرضي.

- الربا المضاعف.

وإذا أمكن إحالة القسم الثالث (الربا المضاعف) إلى الثاني؛ لأنّه ربا قرضي، أمست الأقسام الثلاثة قسمين:

- الربا المعاملي أو البيعي.

- الربا القرضي»[31].

ولأنّ الفقه الإمامي يمتدّ عصر صدور النصّ الشرعي فيه إلى وقت وجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك لتنزّل رواياتهم منزلة الحديث النبوي من حيث مستوى الحجّة الشرعية، يتتبّع الدكتور الفضلي مفهوم الربا في مرويات أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك استكمالًا لتجلية المفهوم عَصْرَ صدور النصّ، حيث يخرج من تلكم المرويات إلى «أنّ ما تضمّنته الروايات هو نفس ربا الجاهلية الذي أحال إليه القرآن الكريم»[32].

ثمّ يستكمل تناول مفهوم (الربا) في الدرس الفقهي من خلال تناول الفقهاء له، حيث «يتحقّق الربا –فقهيًّا– في نوعين من المعاملات المالية، هما:

-         البيع أو كلّ معاملة مالية، على الخلاف، مع شرط أن يكون المالان المتبادلان من جنس واحد، مما يكال أو يوزن، ومع اشتراط الزيادة لأحد الطرفين.

-         القرض مع اشتراط الزيادة للدائن على المستدين»[33].

ولكنّ لأنّ المعاملة البنكية تعدّ من «المعاملات المستحدثة، يفترض على الباحث فيها –لكي يصل إلى نتائج سليمة– أن ينطلق في بحثه من منطلقين أساسيين، هما:

- محاولة تحديد الموضوع، أوّلًا.

-ثمّ محاولة معرفة الحكم.

ففي مجال تحديد الموضوع، يحتاج الباحث إلى الخطوات التالية:

-         الرجوع إلى أنظمة البنوك التجارية المدوّنة.

-         الرجوع إلى نماذج من أوراق المعاملات بين البنوك والعملاء.

-         الرجوع إلى القرارات البنكية الصادرة عن إدارات البنوك ومجالها بشأن المعاملات المصرفية.

-         الرجوع إلى الكتب والرسائل المؤلّفة في الموضوع، وكذلك البحوث والمحاضرات التي تعنى بهذا الشأن»[34].

ويعلّل الدكتور الفضلي ضرورة هذه الخطوات وعدم الاكتفاء بالتعريفات في المعاجم والمدوّنات الفقهية بأنّ «موجِبَ هذه [الخطوات] يعود إلى أنّ مفاهيم المسائل والقضايا المصرفية بعدُ لما تدخل دائرة الفهم العرفي وتستقرّ في أذهان الناس حتّى يصبح فهمها ميسورًا لكل أحد، ليصحّ الاعتماد على الفهم العرفي والرجوع إليه»[35].

وتطبيقًا لذلك، يتدرّج الدكتور الفضلي في إيضاح معنى (الفائدة البنكية) –المقابل لمفهوم (الربا) في الفقه الإسلامي– في الاصطلاح الاقتصاديّ المعاصر، إذ يوجز مفهومها من خلال بيان الآلية المتّبعة في تحصيل الفائدة من المستدين، فيقول: «وبالتحليل نتوصل إلى أن الزيادة التي يحصل عليها الدائن من المستدين تأتي على أنواع، هي:

1- الزيادة التي يدفعها المقترِض (المستدين) إلى المقرِض (الدائن) هي في مقابل استعمال المستدين لرأس المال كتعويض عما فات الدائن من الربح لو كان قد استعمل رأس المال بنفسه.

2- إن أخذ هذه الزيادة وبالشكل المذكور كانت هي الظاهرة المعروفة في بداية نشأة البنوك التجارية في أوروبا.

ثم تطوَّرت هذه الزيادة بعد خضوع البنوك التجارية لقانون الاقتصاد في البلاد، فأخذت مسارًا آخر، هو أن القوانين كانت تتدخَّل في تحديد الزيادة حماية للمستهلك. ولكن البنوك كانت تتجاوز الحد القانوني فتأخذ زيادة على ما هو مقرر أو محدد، فكان الوضع الاقتصادي لهذه الظاهرة يستدعي أن تكون الزيادة القانونية مشروعة، والزيادة التي تكون فوق الزيادة القانونية هي زيادة غير مشروعة.

3- وقد مرّ ردح من الزمن على اعتبار الزيادة على رأس المال تعويضًا عما يفوت صاحب رأس المال (الدائن) من الربح الذي قد يحصل عليه لو استعمل رأس ماله بنفسه.

ولكن وبعد انتشار البنوك الانتشار الواسع، والمركزية لحركة المال التي أصبحت تتمتع بها البنوك التجارية، والتي انحصرت بها، أصبحت الزيادة التي يعوض بها الدائن ربحًا ثابتًا لرأس المال ونسي الناس أمر التعويض، أي أصبح من يريد أن يشغل ما عنده من المال بغية الحصول على الربح أمامه طريقان:

1- الاستثمار:

وذلك بأن يدخل شريكًا في إحدى الشركات أو مساهمًا في إحدى الشركات.

2- الإقراض:

وهو أن يقرض ماله للبنك التجاري ليستخدمه البنك في عملياته في مقابل ربح محدد يدفعه إليه البنك.

والفارق بين هذه المرحلة الأخيرة التي لم تعدّ فيها الزيادة تعويضًا، وإنما تنظر ربحًا خالصًا، والمرحلة الأولى حيث كانت الزيادة تعدُّ تعويضًا، يتمثل ذلك الفارق فيما قد يقال من أن الفائدة البنكية أو الربح في المرحلة الأولى كان في مقابل عمل وهو استعمال رأس المال، فلا تعدُّ الفائدة -والحالة هذه- من الربا، بينما في المرحلة الأخيرة حيث لا تعدُّ الزيادة (الفائدة) في مقابل عمل، وإنما هي ربح خالص للقرض، تعدُّ هذه الزيادة من الربا.

واعتبار هذه الزيادة (الفائدة البنكية) من الربا هي الرأي المتفق عليه في الفقه الإمامي إذا حصل اشتراط الفائدة ضمن العقد»[36].

د) الإفادة من تقسيمات المفهوم

يساهم تعديد الأقسام الفرعية لأي مفهوم في بيان معناه، وهي إحدى الطرق المتبعة في التعريف، إذ يقابلها: (التعريف بالحدّ) و(التعريف بالمثال)[37]. وهو ما سلكه العلاّمة الفضلي في معالجة بعض المفاهيم الحائرة، ومن ذلك ما بيّنه حول مفهوم (المعرفة) في الفكر الديني مقارنًا بمفهوم (المعرفة) في الفلسفات المادية، حيث يشير إلى أن «ما نعيشه اليوم من افتراق منهجي كبير بين المنهج العلمي في تحليل الظواهر وبخاصّة ما يرتبط منها بالجانب الاجتماعي، وبين المنهج الديني الشرعي في تحليل تلكم الظواهر، يرجع في كثير من نواحيه إلى تحديد المصادر الأساس للمعرفة الإنسانية، ففي حين تستبعد الفلسفات الفكر الديني أو المعرفة الدينية في مجال دراساتها لعدم تعقّلهم مصادر أخرى للمعرفة الإنسانية غير الحسّ والعقل، يعتقد المؤمنون بالدين الإلهي أن مصادر المعرفة الإنساني هي: الوحي والإلهام والعقل والحسّ»[38].

ثمّ يضيف: «إنَّ الفكر الديني -بعمومه- يدعو إلى توسيع دائرة مصادر المعرفة بما يشمل المعارف التي تلقاها المتدينون عن طريق الوحي، ذلك أن التشريع الإلهي يقوم في أساسه على تلقي التعاليم الدينية الموحاة إلى الأنبياء (عليهم السلام)، بينما يرفض الفكرُ الفلسفي الغربي تلكم الغيبيات لعدم تعقّله تعدّد تلكم المصادر بما يشمل الوحي الإلهي، فيرفضون كل ما يتعلّق بهذه المعرفة الغيبية، ولذلك يرفضون الاعتقاد بالذات الإلهية ومعها كثير من الاعتقادات الدينية الأخرى ذات العلاقة»[39].

ومثال آخر على بيان المفهوم انطلاقًا من التقسيمات الخارجية هو ما يشير إليه الدكتور الفضلي من تفوّق الحضارة الإسلامية على الحضارات الأخرى. ولبيان هذا التفوّق، يقسّم الحضارات إلى تقسيمين رئيسين، الأول منهما بالنظر إلى قابلية الحضارة إلى التوسّع والانتشار، والآخر بالنظر إلى قابليتها للصمود والتحدّي، فيقول في ذلك: «إننا لا نعدم أن نرى تأثُّرًا وتأثيرًا من خلال احتكاك الحضارات مع بعضها بعضًا، ولكن هذا التبادل والتأثُّر يختلف من حضارة إلى أخرى، وذلك تبعًا لطبيعة هذه الحضارة أو تلك، من حيث امتلاكها لمكامن القوّة وقابلية الاستمرار والصمود، ذلك أن الحضارات لا تعيش حالًا وطبيعةً واحدة، وإنما تقسّم تقسيمات عدّة، نذكر منها التقسيمين التاليين:

التقسيم الأول: إلى إقليمية وعالمية، حيث يراد ﺑ:

1- الحضارة الإقليمية: الحضارة التي تقتصر على مجتمعها وأمتها التي انطلقت منها، وذلك مثل: الحضارة الهندية، إذ تعدّ حضارة إقليمية بما فيها من أنماط الفكر وغيره من العادات والتقاليد والفنون. وفي السياق نفسه تقع الحضارة الصينية التي تعدّ -كذلك- حضارة إقليمية فيما تملك من ثقافة وأعراف اجتماعية.

2- الحضارة العالمية، وهي الحضارة التي تملك المقوّمات التي تساعدها على أن تكون الحضارة الوحيدة في العالم، وهي الروح التي تتملّك الحضارة الغربية المعاصرة، وتوازيها في ذلك الحضارة الإسلامية.

وما يجعل المسلمين يؤسسون لحضارة عالمية هو ما يعتقدونه من أن الإسلام دين منزل للناس كافّة، ويقابلهم في ذلك ما يشعر به الغربيون اليوم من قوّة فيما شيّدوه من حضارة يرون فيها المقوّمات التي تساعدها على أن تكون حضارة العالم كله.

التقسيم الثاني: وهو انقسامها إلى حضارة منهزمة وأخرى صامدة، فالحضارات -في واقع صراعها مع الحضارات الأخرى- تنقسم إلى هذين القسمين:

* حضارة فيها قابلية الانهزام والضعف والضمور.

* حضارة فيها قابلية الصمود والتحدّي.

ولتقريب الفكرة، أعطي مثالًا توضيحيًّا، وذلك مع ظهور الإسلام ودخوله منطقة الشام -المعروفة اليوم بلبنان والأردن وسورية-، حيث كانت خاضعة للسريان. والسريانية من الحضارات القديمة التي نزل كتاب الإنجيل بلغتها. ولكن الإسلام عندما دخل الشام انهزمت هذه الحضارة أمامه وخضعت له، حتى إن اللغة السريانية طغت عليها اللغةُ العربية، فأصبحت الشام منطقة خالية منها إلى يومنا هذا، وهي اللغة الأصلية في تلك المنطقة، وما هو موجود اليوم من اللغة السريانية ما يدرسه طلاب اللغات السامية القديمة في كليات الآداب. ولذلك تعد الحضارة السريانية من الحضارات المنهزمة تاريخيًّا.

وفي مثالٍ آخر مقابل، نجد أن الحضارة الغربية عندما دخلت ووفدت على البلدان العربية والإسلامية غازيةً أوجدت حالًا من الصراع بينها وبين الحضارة الإسلامية، ولكنها لم تستطع أن تتمكن من القضاء عليها، إذ بقيت هذه الأخيرة تعيش في بلاد المسلمين وتهيمن على الكثير من جوانب الحياة لديهم، وهو الأمر الذي يجعل من الحضارة الإسلامية حضارة فيها قابلية الصمود والتحدي»[40].

ﻫ) الإفادة من الجهود السابقة في بيان المفهوم

يؤكّد الدكتور الفضلي على أهمية أن تبرز شخصية الكاتب فيما يكتب، و«لكن ليس عن طريق التركيز على الذات، بل عن طريق ما يمتلك من علم وموهبة في إبراز الفكرة، فأصحاب أي علم –وإن كان المؤلّف يختلف معهم– ساهموا جميعًا في إبراز أفكاره وعناصره وتقسيماته، فلا يصحّ من المؤلّف –لأنّه يرتضي رأيًا معيّنًا– أن يقصي هذا الرأي أو ذاك، فقد يأتي من يرى صواب ما يرى المؤلّف خطأه»[41].

ولذلك فإنّه أثناء معالجته لمجموعة من المفاهيم، لا يوجّه النقد إليها دون المرور بالجهود العلمية السابقة، فإن أمكن البناء على تلكم الجهود، فإنه يتبنّاها ويكتفي بها إن كانت كفيلة ببيان وتجلية المفهوم بصورة كاملة، أو يبني عليها من خلال الجمع بينها ومن ثَمَّ الخروج بالتعريف الجامع لتلكم التعاريف السابقة.

ومثالًا على الإفادة من الجهود العلمية السابقة في الوصول إلى تعريف أجلى، نقف مع ما استعرضه الدكتور الفضلي في تعريف (الغناء)، إذ يشير هناك إلى «النصوص الشرعية لم تعرّف الغناء بما يكشف عن حقيقته ويحدّد ماهيته، ويرجع هذا –فيما أقدّر– إلى أنّ ظاهرة الغناء من الظواهر الاجتماعية التي تختلف باختلاف المجتمعات، وتتطوّر سعة وضيقًا»[42].

وللوصول إلى معنى واضح للغناء، يرجع إلى مجموعة من تعريفات اللغويين له، وذلك بغية الوصول إلى معناه في العرف الاجتماعي، وقد بلغ ما استعرضه منها 11 تعريفًا لغويًّا. وللخروج بتعريف جامع لها، يقسمها الدكتور الفضلي إلى أقسام خمسة، ينتهي من خلال الجمع بينها إلى أن «عناصر الغناء التي يتألّف منها هي:

- النظم (Poetry).

- اللحن (Tune).

- الأداء (التطريب (Song)»[43].

ثم يخرج بما سمّاه: (نتيجة النتائج)، وهي: «إن للغناء ثلاثة تعريفات لغوية تختلف سعة وضيقًا، وهي:

- الغناء هو: التطريب بالصوت المسموع، الملحّن.

- الغناء هو: التطريب بالصوت المسموع، الملحّن، المُطْرِب للسامعين.

- الغناء هو: التطريب بالصوت المسموع، الملحّن، وفي مجلس لهو»[44].

وبعد الجولة اللغوية حول تعريف الغناء، ينتقل الدكتور إلى جولة أخرى في تعريفاته الفقهية، حيث يذكر منها 12 تعريفًا، يخرج منها بقاسم مشترك حول حقيقة الغناء داخل الدرس الشرعي، وهو: «التوفّر على العناصر الثلاثة: الكلام + اللحن + التطريب (الطريقة الخاصة في أداء الأغنية)»[45].

ثم يستخلص من خلال تتبّع آراء الفقهاء حول حقيقة الغناء إلى أنّ «أن الطريق الذي سلكه الفقهاء إلى معرفة مفهوم الغناء هو إحدى الوسيلتين التاليتين: التعريف أو الإحالة.

والتعريف - كما رأينا - تمثل في المعادلات التالية:

1. الغناء = الكلام + اللحن + الأداء + الإطراب.

2. أو = الكلام + اللحن+ الأداء بالكيفية المتعارف عليها عند أهل الفن.

3. أو = الكلام + اللحن+ الأداء المقترن بما هو محرم شرعًا.

4. أو = الكلام + اللحن + الأداء في حفل غنائي.

أما الإحالة فإلى أحد العرفين:

1. العرف العام (أبناء المجتمع)، فما يراه أبناء المجتمع غناء فهو الغناء.

2. العرف الخاص (أهل الفن)، فما يراه أهل الفن غناء فهو الغناء»[46].

ﷺ النتائج والتوصيات

النتائج

استخلاصًا ممّا ورد بعاليه، يمكن الخروج بمجموعة من النتائج، منها:

1. تعيش المجتمعات الإسلامية اليوم حالًا من قلق المفاهيم، وذلك بفعل مجموعة من العوامل الداخلية التي يأتي من بينها تداخل العاملين الديني بالسياسي، ويضاف إليه التداخل بين الثابت الشرعي ومقتضيات التغيرات الزمانية والمكانية. ومعها العوامل الخارجية المتمثّلة في التأثّر الثقافة الوافدة.

2. بفعل التداخل الحضاري والقيمي في العصر الحديث، نشطت الحركات الإسلامية في سبيل تأصيل الحلّ الإسلامي في معالجة التحديات التي تواجهها مجتمعاتها، وقد شارك الدكتور الفضلي بفاعلية في رفد هذه الحركة من خلال مشاركاته متعدّدة الجوانب، التي كان في مقدّمتها مساهمته الفكرية في معالجة ظاهرة قلق المفاهيم.

3. لم ينطلق الدكتور الفضلي في مساهمته المفاهيمية من الدوافع المنهجية البحتة وحسب، وإنما بدوافع قيمية تتمثّل في تبنّيه للمشروع النهضوي الإسلامي، وحركية تتمثّل في معالجة ما تحتاجه الساحة بصورة ملحّة.

4. لم يكتفِ الدكتور الفضلي في معالجة المفاهيم بالمسار التقليدي الذي يبدأ بتعريف المفهوم لغويًّا، ومن ثم الانتقال إلى التعريف الاصطلاحي، وإنما سلك في بيان المصطلح مسارًا تطبيقيًّا يشير فيه إلى بعض المبادرات العملية التي من شأنها تحقيق المفهوم بصورة أجلى، كما هي الحال في بيانه لمفهومي (الحرية) و(الاستقلال السياسي).

5. لتجلية المفهوم نظريًّا، سلك الفضلي خطوات متنوّعة كانت تقتضيها طبيعة المفهوم أو مساره التاريخي، وكان من تلك الخطوات: الإفادة من طبيعة المفهوم، كما هي الحال في بيانه لمفهومي (المنطق) و(البلاغة)، إذ استقى تعريفهما من واقع ما يعالجان من مسائل.

6. كما أنه أفاد من البحث التاريخي في تأصيل بعض المفاهيم، من قبيل: (الشعر) و(الإعراب) اللغويين، و(الرأي) و(الربا) الفقهيين.

7. ولأنّ بيان المفاهيم لا يقتصر على (التعريف بالحدّ) أو (بالمثال)، أفاد الفضلي في تعريف بعض المفاهيم من خلال تقسيماتها، كما هي الحال مع مفهومي (المعرفة) و(الحضارة) في النظرة الإسلامية.

8. واتباعًا للمنهجية الحديثة، أفاد الدكتور الفضلي من الدراسات السابقة في تجلية بعض المفاهيم من خلال الجمع بين تلكم الجهود للخروج بالتعريف الجامع للمفهوم محلّ الدراسة، وذلك من قبيل دراسته لمفهوم (الغناء) في الدرس الفقهي.

التوصيات

انطلاقًا من النتائج أعلاه، يمكن الإشارة إلى مجموعة من التوصيات، هي:

1. تعيش المجتمعات الإنسانية حالًا من التجاذبات الفكرية والضبابية في تحديد الأهداف والغموض في الرؤى، وهي حال تتحمّل النخب الاجتماعية والفكرية دورًا مهمًّا من المسؤولية تجاهها من خلال ما يتوجّب عليها من الجهود العلمية في تجلية المفاهيم، سواءً الوافدة والحديثة منها، أو الموروثة؛ ذلك أنّ الإرث الثقافي لأي مجتمع لا يجب أن يكون بعيدًا عن النقد والمراجعة، وذلك سعيًا من أبنائه نحو مصداقية أعلى تجاه الذات وتجاه الآخر.

2. أنتجت حال الصراع والتحدي التي عاشتها المجتمعات الإسلامية حِراكًا ثقافيًّا وفكريًّا لا تزال مساهماته حاضرة وبارزة، وهو الحِراك الذي لا يجب أن تخفت جذوته، إذ لا تزال الأمة الإسلامية في حال مواجهة مع المشاريع المغايرة، وهو ما يتطلّب توجّهًا نحو معالجة ما يستجدّ من أطروحات وتوجّهات حديثة جديرة بالبحث والدراسة في ضوء النصوص الدينية الشريفة.

3. في عصر المعلومات والتبادل الثقافي بين المجتمعات، لا يجب أن تغيب النظرة الإسلامية حول العديد من المفاهيم المعاصرة، وفي مقدّمتها منظومات حقوق الإنسان، ومؤسسات المجتمع المدني ودورها في تنمية الشعوب وبناء مجتمعاتها، وتنمية الحسّ الإنساني المشرق انطلاقًا من روح التشريعات الإسلامية السامية.

4. «إن ثورة المعلومات الحديثة وما صاحبها من تزايد هائل في حجم المعرفة جعل من الصعوبة تزويد المتلقّي بكل ما هو مطلوب في مختلف حقول المعرفة، فظهرت الحاجة إلى التركيز على المفاهيم والمهارات الأساسية في المناهج المدرسية المستعملة في المراحل الدراسية المختلفة، واستعمال المفاهيم في تنظيم المنهاج. وتؤكّد الدراسات التربوية أن تعامل العقل مع المفاهيم أسهل من تعامله مع المعلومات الكثيرة المنفصلة»[47]. وهو ما يؤكّد أهمية جلاء المفهوم في صياغة الشخصية الإنسانية ومحوريته في تنمية الوعي لدى المجموع الإنساني العامّ، بحيث تأخذ هذه النقطة موقعيتها أثناء إقرار المقرّرات الدراسية في مراحل التعليم العامّ والعالي، وبخاصّة ما يرتبط منها بالدرس الشرعي؛ وذلك للدور الفاعل الذي يتسنّمه علماء الدين في المجتمعات الإسلامية.

 

 

 



[1] مؤتمر المسلمين التقدميين، مؤسسة فريدريش أبرت، برلين 22 – 24 تشرين الأول 2009.

[2] عبد الرؤوف سنّو، الفتوحات الإسلامية والتسامح الديني، مجلة الحداثة، العددان 125 و126، 2009م، ص 31.

[3] المصدر السابق، ص 32.

[4] المصدر السابق، ص 32.

[5] الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أسس العلاقات بين المسلمين وغيرهم في المجتمع الواحد، بحث منشور ضمن كتاب: الحوار سبيل التعايش مع التعدّد والاختلاف، مجموعة مؤلّفين، دمشق: دار الفكر، ط1، 1995م، ص 63 - 64.

[6] الدكتور عبد الهادي الفضلي، التربية الدينية.. دراسة منهجية لأصول العقيدة الإسلامية، بيروت: مركز الغدير، ط5، 1428ﻫ - 2007م، ص 25.

[7] منير البعلبكي، موسوعة المورد العربية، بيروت: دار العلم للملايين، ط1، 1990م، ج1/ 516، مادة: دين: Religion.

[8] التربية الدينية، مصدر سابق، ص 25.

[9] المصدر السابق نفسه.

[10] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الحركة الإسلامية في العراق، القطيف: منشورات لجنة مؤلّفات العلامة الفضلي، ط1، 1435ﻫ - 2014م، ص 56 - 57.

[11] الحركة الإسلامية في العراق، مصدر سابق، ص 67.

[12] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الإسلام مبدأً .. دراسة لغوية قرآنية لمفهومي الدين والإسلام، بيروت: دار الرافدين، ط2، 1431ﻫ - 2010م، ص 39.

[13] الدكتور عبد الهادي الفضلي، دراسة دلالية لكلمة «إرهاب»، مجلة الكلمة، السنة 7، العدد 28، صيف 1421ﻫ - 2000م.

[14] الدكتور الفضلي، الإسلام مبدأً، مصدر سابق، ص 13 - 14.

[15] الدكتور عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية، بيروت: مركز الغدير، ط2، 1427ﻫ - 2006م، ج1/ 344 - 345.

[16] الدكتور عبد الهادي الفضلي، قضايا وآراء في العقيدة واللغة والأدب، بيروت: دار الزهراء، ط1، 1414ﻫ - 1993م، ص 289.

[17] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الحضارة الإسلامية بين دواعي النهوض وموانع التقدّم، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2013م، ص 147 - 149.

[18] الدكتور عبد الهادي الفضلي، مفهوم الاستقلال السياسي، مجلة الكلمة، السنة 13، العدد 51، ربيع 1427ﻫ - 2006م، ص 11.

[19] الدكتور عبد الهادي الفضلي، رأي في السياسة، بيروت: دار الرافدين، ط1، 1431ﻫ - 2010م، ص 28 - 30، مختصرًا.

[20] حوارات في الدين والفكر واللغة مع الدكتور عبد الهادي الفضلي، القطيف: منشورات لجنة مؤلّفات العلاّمة الفضلي، ط1، 1434ﻫ - 2013م، ص 231.

[21] الدكتور عبد الهادي الفضلي، تلخيص البلاغة، دار الكتاب الإسلامي – بيروت، بدون تاريخ وطبعة، ص 10.

[22] المصدر السابق نفسه، مع تصرّف يسير.

[23] المصدر السابق نفسه.

[24] قضايا وآراء في العقيدة واللغة والأدب، مصدر سابق، ص 355 - 356.

[25] انظر: الدكتور عبد الهادي الفضلي، دراسات في الإعراب، جدّة: تهامة للنشر، ط1، 1405ﻫ - 1984م، ص 11 - 26.

[26] الدكتور عبد الهادي الفضلي، دروس في فقه الإمامية، بيروت: مركز الغدير، ط2، 1435ﻫ - 2014م، ج1/ 94.

[27] المصدر السابق، ج1/ 97.

[28] انظر: المصدر السابق، ج1/ 97 - 116.

[29] المصدر السابق، ج1/ 116.

[30] المصدر السابق، ج5/ 75.

[31] المصدر السابق، ج5/ 79.

[32] المصدر السابق، ج5/ 80.

[33] المصدر السابق، ج5/ 81.

[34] المصدر السابق، ج5/ 37.

[35] المصدر السابق، ج5/ 38.

[36] دروس في فقه الإمامية، مصدر سابق، ج5/ 82 – 83.

[37] انظر حول هذه النقطة: الدكتور عبد الهادي الفضلي، خلاصة المنطق، بيروت: مركز الغدير، ط5، 1432ﻫ - 2011م، ص 113 – 126.

[38] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الإسلام والتعدّد الحضاري بين سبل الحوار وأخلاقيات التعايش، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2014، ص 54 – 55.

[39] المصدر السابق، ص 57.

[40] المصدر السابق، ص 94 – 96.

[41] حوارات في الدين والفكر واللغة، مصدر سابق، ص 212.

[42] الدكتور عبد الهادي الفضلي، بحوث فقهية معاصرة، بيروت: مركز الغدير، ط1، 1435ﻫ - 2014م، ص 135.

[43] المصدر السابق، ص 143.

[44] المصدر السابق، ص 144.

[45] المصدر السابق، ص 147.

[46] المصدر السابق، ص 154.

[47] تصميم التدريس بين النظرية والتطبيق، الدكتور زيد سليمان العدوان والدكتور محمد فؤاد الحوامدة، عمّان: دار المسيرة، ط2، 1432ﻫ - 2011م، ص 47 – 48.