شعار الموقع

الثقافة الإسلامية والرؤية الاستشراقية

ميلود حميدات 2019-06-03
عدد القراءات « 1188 »

الثقافة الإسلامية والرؤية الاستشراقية..

قراءة تحليلية نقدية

الدكتور ميلود حميدات*

 

*         جامعة الأغواط، الجزائر، البريد الإلكتروني: hfarouk18@hotmail.fr

 

 

 

 

ﷺ مقدمة: مفهوم الاستشراق

الاستشراق كلمة عربية على وزن استفعال، ويعني بصورة عامة تخصص باحثين غربيين في دراسة كل ما يتعلق بالشرق[1]، ويطلق على هؤلاء الباحثين مصطلح المستشرقين[2].

كما يعرّف الاستشراق بأنه: «مجموعة المباحث التي تتناول بالدراسة الشعوب الشرقية، ولغاتها وتاريخها وحضاراتها، أو هو تذوق أشياء الشرق»[3].

ويفهم مما سبق أن الاستشراق كلمة مشتقة من الشرق، الذي أصبح يعني خاصة الشرق العربي الإسلامي. ولهذا قدم الاستشراق نفسه دائمًا على أساس أنه منهج موضوعي لدراسة قضايا الشرق، كما أكد على التمايز بين الشرق والغرب، في الفكر والمنهج والممارسة، والانتماء الديني والأيديولوجي.

وانطلاقًا من هذه المعطيات تطور كذلك مفهوم الاستشراق، وأصبح يعرّف بأنه: «أسلوب من الفكر قائم على تمييز أنطولوجي (وجودي)، وإبستمولوجي (معرفي) بين الشرق والغرب، والتمييز بينهما بوصف هذا التمييز نقطة الانطلاق لسلسلة محكمة الصياغة، من النظريات والملاحم والروايات والأوصاف الاجتماعية، والمسائل السياسية التي تتعلق بالشرق، وعاداته وعقله وقدره وما إلى ذلك»[4].

وقد أصبح هذا التمييز بين الشرق والغرب، والنظرة الاستعلائية الغربية أساس الاستشراق حديثًا، إذ إن: «جوهر الاستشراق هو التمييز الذي لا يمكن استئصاله، بين تفوق غربي، ودونية شرقية»[5].

ولذلك تعامل الاستشراق مع الشرق ككيان ستاتيكي ثابت، وكظاهرة تثير اهتمام وشهية الغرب لإثبات تفوقه. وأصبح الاستشراق عملًا منظمًا يقوم به الغرب لدراسة واكتشاف كل ما يتعلق بالشرق، من لغات وثقافات، ودين وتقاليد، وعائدات ومميزات فكرية، وذلك لتحقيق أهداف كثيرة دينية تبشيرية، أو سياسية استعمارية، أو اقتصادية تجارية، أو عملية علمية.

وإذا كانت التعريفات لا تحدد في الاستشراق سوى الماهية، دون الأهداف، فإن فحص الاستشراق كفعل أو ممارسة في الواقع يكشف عن أهداف ضمنية أو صريحة، تكشف لنا عنها دراسة تاريخ ظهور الاستشراق، وارتباطه بالمؤسسات التبشيرية والاستعمارية، إذ كانت «رغبة التبشير بالمسيحية في الشرق، فاستلزم هذا دراسة اللغة العربية على أيدي المستشرقين، ومن هذا تلاقت وجهة الاستعمار ووجهة التبشير ووجهة الاستشراق»[6] حيث لم يكن يتسنى للمبشر أداء عمله، إلا إذا كان يحسن آداب الشرق.

وقد ازدادت أهمية الاستشراق بالنسبة للمراجع السياسية والدينية الأوربية في القرن التاسع عشر، وذلك لما وجدته المؤسسات التبشيرية، وأوروبا الاستعمارية من أهمية كبرى للمستشرق كسند في سياستها، لتسهيل عمل البعثات التبشيرية والعسكرية لاستغلال وغزو الشعوب العربية.

لهذا يعتبر الاستشراق من أهم أدوات الغزو الفكري، التي أثرت تأثيرًا فعالًا في تمكين الاستعمار وتجسيد التبعية الثقافية. وذلك حين استهدف الاستشراق خدمة الاستعمار ببعث التخاذل والشعور بالنقص في نفوس الشعوب العربية الإسلامية، لأن جهود المستشرقين انصبت على دراسة التراث العربي الإسلامي، والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية، والتوصل بعد ذلك إلى نتائج تحددها ميول وأهداف مسبقة، ثم يتم نشر تلك النتائج على أنها حقائق موضوعية لا نقاش فيها، وذلك عن طريق المجلات والكتب والمحاضرات والندوات وعلى نطاق واسع في العالم الغربي. ثم تروج في المجتمعات العربية، وسنبرز ذلك بتوسع عندما نتكلم عن طبيعة المنهجية التي يستخدمها الاستشراق في التعامل مع قضايا العقيدة والفلسفة الإسلامية.

وتأكيدًا لما تقدم وزيادة في إبراز طبيعة الاستشراق حديثًا، نلاحظ أن الاستشراق أصبح اليوم «عبارة عن مؤسسة مشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقريرات حوله، وهو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه -أي إعادة صياغته- وامتلاك السيادة عليه»[7].

وهذا ما يؤكده تأمُّل الاستشراق الذي أصبح يمثل مؤسسات ثقافية مركزية قوية تدعمها المؤسسات الرسمية في الدول الغربية، بل أصبح يشكل قطاعًا استراتيجيًّا في وكالات الاستخبارات، ومراكز التجسس الغربية. وذلك نظرًا إلى أهمية التقارير التي يقدمها، والشاملة للمجالات الفكرية والاقتصادية والسياسية، مما جعل الاستشراق ينتج كمًّا هائلًا من المؤلفات، «فقد قدّر أن حوالي 60.000 كتابًا، تتعلق بالشرق الأدنى قد كتبت بين 1800 و 1950 في الغرب، وليس ثمة ما يقارب هذا العدد أي مقاربة من الكتب الشرقية عن الغرب، فالاستشراق من حيث هو جهاز ثقافي، هو عدوانية، ونشاط، ومحاكمة... فالشرق وجد من أجل الغرب، أو هكذا بدا لعدد لا يحصى من المستشرقين»[8].

وأصبح الاستشراق أكثر تخصصًا وتركيزًا على موضوع الإسلام ومجالاته، مستخدمًا في ذلك مناهجه، إلى حد أن المنهج الاستشراقي أصبح جزءًا أساسيًّا من الاستشراق نفسه، وتحدّد الاستشراق «كمنهج وكمحاولة فكرية لفهم الإسلام عقيدة وحضارة وتراثًا، كان دافعه الأصيل العمل من أجل إنكار المقومات الثقافية والروحية في ماضي الأمة، والتنديد والاستخفاف بها»[9].

ولما كان اهتمام المستشرقين ينصب على الإسلام وموضوعاته، فقد أنشؤوا علم الإسلاميات (Islamologie)، وهم يحاولون بذلك إعطاء الصبغة العلمية لدراستهم ونتائجهم، وما يؤكد ذلك تعريفهم لهذا المبحث: «موضوع -علم الإسلاميات- هو الدراسة العلمية للدين الذي يعتنقه المسلمون، وتأثيره على المجالات المختلفة للنشاط الإنساني، فالدراسة تتعلق إذا بالعقيدة المحمدية، وكل المعلومات التي تطورت في إطارها، أو من خلال التيارات المخالفة لها، كما تهتم الدراسة بانتشار الإسلام والمفاسد التاريخية للدول الإسلامية، أنها تدرس الحياة الثقافية في البلدان الإسلامية...»[10].

وأننا بعد تعريف الاستشراق، نميل إلى التأكيد على أبعاد الاستشراق التي يحددها التعريف السابق. إذ لم يعد الاستشراق مجرد دراسة بريئة للشرق، وإنما صار منهجًا ووسيلة هامة من أدوات الغزو الفكري التي اعتمدها الغرب بصورة عامة، وأوروبا بصورة خاصة في تعاملها مع العالم الإسلامي، ولهذا سنهتم بالاستشراق من هذه الزاوية أي كمنهج ووسيلة ونتطرق لذلك إلى الوقائع والنتائج. وليس الغرض تحليل الاستشراق بصورة عامة، وإنما محاولة كشف منهجيته والمجالات التي تعامل معها، والأهداف التي توخّى تحقيقها من ذلك.

ﷺ الاستشراق وقضايا العقيدة الإسلامية

شكل ظهور الإسلام كدين سماوي ثورة كبرى، حوّلت العرب الجاهلين، من مجتمع قبلي متناحر إلى أمة موحدة، ذات عقيدة لها بعد عالمي، أقيمت على أساسها دولة إسلامية عظيمة غيرت مجرى التاريخ الإنساني. إذ استطاعت، أن تنتصر على حضارات، وأمم قوية كانت تسيطر على العالم آنذاك.

وسرعان ما تبلورت حضارة عربية إسلامية، تستمد جذورها من عقيدتها، وتشرّع قوانينها من دينها. فكان للإسلام كل الفضل في تأسيس حضارة العرب والمسلمين، وتميزهم كأمة لها خصوصياتها الحضارية والثقافية.

وأدرك المسلمون أن المصدر التشريعي الأساسي هو القرآن الكريم ثم السنة النبوية، وبذلك قطع المسلمون صلتهم بالجاهلية، واستمروا أقوياء أعزاء، ما استمسكوا بهذين الأصلين، واستمرت عظمة المسلمين قرونًا طويلة، حتى انحرفوا عن مبادئهم الأساسية في التشريع، فانهارت دولتهم وضعفت قوتهم، ووهنت مقاومتهم فطمع فيهم غيرهم، وسيطرت عليهم دول الغرب الاستعمارية.

ورغم حالة الضعف التي كان يعانيها المسلمون فقد ثاروا وكافحوا الاستعمار والغزو الأجنبي، وأدرك الغرب خطورة تعاليم الإسلام، على وجوده، والتي كانت تحث المسلمين على الجهاد.

ولذلك كان من الطبيعي أن يتجه الغرب إلى محاولة القضاء على الثقافة الإسلامية، والتشكيك في تعاليم الإسلام والطعن في صلاحياته للقضاء على روح المقاومة والجهاد، وإخضاع الشعوب الإسلامية، وإلغاء ارتباطها بالإسلام وتشريعاته ليستطيع التحكم فيها.

وقد حدث الاحتكاك المبكر بين الإسلام والغرب، واعتبر هذا الأخير حضارة الإسلام أخطر أعدائه، وخاصة مع انتشار الإسلام وثقافته في كل أنحاء العالم.

ولما كانت مصادر الإسلام متمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ الإسلامي، فقد تناول الغزو الفكري بكل أدواته هذه المصادر، بالتشكيك والطعن، رغبة في ضرب الأمة الإسلامية في جوهرها. ولذلك تناول الاستشراق مجال العقيدة بأسسها المختلفة، أي القرآن الكريم، والسنة النبوية، وأخيرًا التاريخ الإسلامي باعتباره مجال النشاط السياسي والثقافي للمجتمع الإسلامي.

أولاً: القرآن الكريم

أعتبر القرآن الكريم عند المسلمين المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية، وكلام الله الموحى به إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو محفوظ بنص القرآن، من التحريف والتغيير، وهو صالح لكل زمان ومكان.

ونظرًا إلى هذه المعطيات كان الاهتمام الكبير من طرف الغرب وأدواته الغازية بالقرآن الكريم، وذلك لاعتبارات كثيرة نذكر منها:

1- التشكيك في حقيقة القرآن ذاته، لأن تحطيم المسلمين وغزوهم في نظرهم لا يتم إلَّا من خلال تحطيم عقيدتهم وحضارتهم.

2- القرآن هو المصدر الأول لفهم الإسلام عقيدة وشريعة.

3- التعرف إلى طبيعة الإسلام، وموقعه من الشرائع الأخرى.

4- حاجة التبشير والاستشراق إلى فهم القرآن، وذلك لإيجاد وسائل الرد عليه.

ومما سبق ذكره من اعتبارات تناول المبشرون والمستشرقون -بوسائلهم المختلفة- القرآن الكريم بالتشكيك والنقد، وإطلاق الشبهات حوله وخاصة ما يتعلق: بمصدر القرآن الذي يعتبره المسلمون كلام الله لفظًا ومعنى، أما المبشرون والمستشرقون فيعتبرون القرآن من تأليف الرسول، وهو من عنده أو أخذه من الرهبان المسيحيين أو الكهان اليهود، أو خليط من المسيحية واليهودية، ويتلخّص موقفهم في أن: «القرآن من عند محمد، وهو زعيم ديني ومؤلف القرآن»[11].

وقد قال كثير من كبار المستشرقين بهذه الشبهة، مما كان له تأثير كبير على غيرهم من غير المستشرقين، وعملوا على إظهار هذا الموقف المجحف كما لو كان حقيقة علمية.

يقول هاملتون جيب H.Gibb (1895، 1971م) عن القرآن الكريم: «إنه مجموعة الخطب الواردة على لسان محمد خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، وهي تشكل في حد ذاتها تعاليم دينية وأخلاقية مختصرة، وحججًا ضد خصومه... كان النبي محمد يعتقد أن جميع هذه الآيات أوحيت إليه، ولا تشكل في حد ذاتها فكرته الواعية»[12].

أما بعضهم قد دفعهم تشابه القصص القرآني مع ما جاء في التوراة والإنجيل إلى إرجاع القرآن إلى مصادر مسيحية ويهودية، حيث يقول بهذه الشبهة على سبيل المثال أغناز جولدزهير Ignaz Gol zhir (1850، 1921م): «فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية، عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية... فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيًا إلهيًّا»[13].

وإذا كانت شبهات المستشرقين استطاعت التأثير في الأوساط الغربية، وذلك بتشكيل رأي عام غربي لا يعترف بالإسلام، ولا يعرفه بشكل موضوعي، فإن تلك الشبهات لم تؤثر على المسلمين نظرًا إلى تمسكهم بعقيدتهم.

وبسبب ما سبق حاول بعض المستشرقين اعتماد طرق جديدة لاختراق العقيدة، وذلك بالبحث في القرآن ذاته، والقول بتناقضه، وغير ذلك من الشبهات.

ولا يمكن استعراض كل ما قيل وكل ما كتب عن الموضوع لكثرة ذلك من جهة، وتفاهة الطرح وتذبذبه من جهة أخرى، والبديع في كل هذا أن الرد على المشككين جاء في القرآن الكريم، وهذا يدل على أن هذه الشبهات قديمة أثارها اليهود والمنافقون، وعلى أن ترديدها اليوم لا يخدم أي هدف علمي، وإنما هي تعبير عن مواقف عدائية تبشيرية، أو جهل بالقرآن وعلومه من طرف الخائضين فيها من المستشرقين، وسنثبت ذلك من خلال الملاحظات التي نبديها بعد استعراضنا بعض الآيات المفحمة للمشككين في القرآن الكريم.

حيث يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾[14].

وقوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[15].

وقوله تعالى ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾[16].

وهناك آيات أخرى كثيرة جاءت مفندة للشبهات التي أثيرت حول القرآن، وانطلاقًا مما جاء في القرآن الكريم، وثبت في السنة النبوية والتاريخ الإسلامي نبدي هذه الملاحظات المبرزة لتهافت آراء المستشرقين، والمفندة لشبهاتهم:

1- لقد جاء في القرآن الكريم إعجاز علمي ولغوي وتشريعي، أثبت العلم استحالة توصل العقول البشرية إليه في ذلك العصر.

2- أثبتت كل المصادر أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمي، فهل يعقل أن يأتي بكل هذا الإعجاز التشريعي واللغوي والتاريخي، ودون أي تناقض، وهو عمل تعجز عنه مؤسسات حديثة بأكملها.

3- إن نظرة القرآن الكاملة والشاملة، لمناحي الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية -عبادات ومعاملات- لا يمكن أن تكون من صنع بشر، حيث يعجز الفرد أو الجماعة أيًّا كانت عقولهم، على كل هذا التنظيم والانسجام والشمولية.

4- أي مصلحة أو غاية لمحمد في أن يؤلف القرآن وهو عمل جبار معجز ثم ينسبه لغيره.

5- في القرآن الكريم عتاب ولوم للنبي، كما أن هناك اختلافًا بين كلام النبي (الحديث) وكلام الله (القرآن) مما يدل على اختلاف المصدر[17].

رغم كل هذا إلا أن أغلب المبشرين والمستشرقين لم يتوصلوا إلى تكوين فكرة موضوعية وصحيحة عن القرآن والوحي، وقد انساق أكثر كتاب الغرب إلى ترديد نفس الأطروحات، التي لا تعترف بالإسلام دينا سماويا، وبمحمد نبيا، ولذلك يطلقون على الإسلام (المحمدية).

كما لم يتورع أساطين التبشير والاستشراق من إرجاع القرآن إلى اليهود والنصارى، رغم ما يحمل هذا الكلام من تناقض، ويبدو لنا أن الهدف من ذلك، هو امتصاص انتصارات الإسلام وإنجازاته الحضارية، واعتبار ذلك جزءا من المسيحية بالإدعاء أن الإسلام صورة من صور المسيحية واليهودية.

إلا أنه ليس من المعقول أن يكون القرآن مستمدا من المسيحية أو اليهودية، وهو يخالف هذه العقائد تماما ويندد بأعمال اليهود، ويرفض عقيدة التثليث ويعتبرها من أكبر الكبائر، ودلائل الكفر، وهو الإشراك بالله[18].

إن المتتبع لمواقف المستشرقين من القرآن الكريم يلاحظ أن هذه المواقف لم تختلف عن مواقف أسلافهم الذين كانوا يعادون القرآن لأسباب دينية أو سياسية، إذ رغم ادعاء المعاصرين اعتماد الموضوعية والمنهج العلمي، إلا أن هذا الادعاء يبقى مجرد مغالطة، لتمرير كثير من الأفكار، والشبهات التي لا تخفى وجود أفكار مسبقة، سيئة في الغالب إذا تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.

ولم تتوقف هذه المحاولات إلى اليوم، إذ يشجع الاستشراق كل دراسة تشكك في القرآن، أخرها كتاب صدر بفرنسا، يدّعي صاحبه أن القرآن ليس كلام الله، لأنه جمُع بعد وفاة النبي، وأن هناك سبع قراءات. مما يبين عدم إلمام، وجهل صاحب الكتاب، بعلوم القرآن، والقراءات، وتاريخ تدوين القرآن كتابة، وحفظه في صدور الصحابة قبل جمعه.

ثانيًا: السنة النبوية

أشرنا سابقًا إلى فشل المستشرقين في اختراق المصدر الأول للإسلام أي القرآن الكريم، وبيّنا كيف أن محاولتهم كانت تصطدم بعظمة القرآن الكريم من جهة، وتمسك المسلمين به من جهة أخرى، لذا توجه بعض المستشرقين للصيد في مجال آخر، وهو التشكيك في النبوة لأن ذلك يحقق هدفهم بالتشكيك في الوحي وبالتالي في القرآن الكريم.

ولكن هناك من يتخذ وسائل في ذلك، وخاصة بعض نظريات ومناهج علم النفس، ويعتبرها حقائق لا نقاش فيها. وكأن هذه المناهج والمدارس لم توجد إلا لهدم الإسلام ومحاربته، والحقيقة أن هذا ما يريده مستخدمو هذه الوسائل في غير مجالاتها.

ولمّا كان الموضوع واسعًا جدًّا نكتفي بأخذ نموذجين فقط، لأن الهدف أبراز معالم المنهجية وليس تتبع كل ما قيل.

النموذج الأول: هو ما استخدمه المستشرق مونتغمري واط M/Watt (1909، 2006م) للتشكيك في النبوة، وذلك في دراسة كيفية تلقي النبي الوحي؟ ورغم أنه سؤال يرتبط بموضوع غيبي ديني يتطلب منهجا إيمانيا، فإن واط يطرح هذا السؤال بمنطق مادي علماني وكأنه يعالج مشكلة مادية[19].

إذ ينطلق من إلغاء النبوة، واعتبار القرآن كلام النبي، ويحاول واط تأكيد فكرته المسبقة بتعسف ظاهر إذ يرى أن «اللاوعي الجماعي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية»[20].

ثم يضيف: «أنّه يمكن أن يكون الملَك قد وضع الكلمات في ناحية من نواحي الوجود المحمدي، أي اللاوعي ثم برزت فيما بعد إلى الوعي»[21].

والجواب ما الداعي إلى كل هذه الفرضيات؟ فالاعتراف بالملَك لمَ لا يتبعه اعتراف بالوحي الإلهي وتنتهي المشكلة؟ ولكن المستشرق واط لا يبحث عن الحقيقة، وإنما عن إثارة الشبهات، وافتراض الفرضيات والعمل على إثباتها حتى ولو كانت مستحيلة.

إذ رغم وضوح النصوص في كيفية حدوث الوحي، إلا أن التساؤل حول هذا الموضوع ليس هو الأساس، وإنما مادة الوحي أي ما جاء في القرآن الكريم الذي يستحيل أن يكون كلام بشر، وهذا ليس موقفًا إيمانيًّا فحسب بل هو انطلاق من الدراسة العلمية الموضوعية التي تثبت الطبيعة الفائقة للبشرية للقرآن الكريم.

النموذج الثاني: ويتناول السنة النبوية وتأثيرها في التشريع، رغم وجود كثير من البحوث في هذا الموضوع إلا أن أغلبها يفتقر إلى المنهج العلمي، ويمتاز بالتعسف في الطرح، إلا أن هناك محاولات أكثر نضجًا منهجيًّا، حيث إنها تخادع نسقنا الدفاعي لأنها تضع السم في العسل كما يقال.

من هذه المحاولات أعمال جوزيف شاخت J.SHACHT (1902، 1969م)، والتي تتناول الشريعة الإسلامية، من خلال البحث في أسس الفقه الإسلامي، الذي تمثل فيه السنة المصدر الثاني للتشريع.

وقد تناول شاخت السنة النبوية مشككًا في صدق الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، وذلك بالعمل على افتراض كذب كل الرواة ليتوصل إلى قلع جذور الشريعة الإسلامية، والقضاء على تاريخ التشريع، كما يصف علماء الإسلام... بأنهم كانوا كذّابين وملفّقين غير أمناء[22].

والأخطر في دعوى شاخت هو عمله على إلغاء صحة السنة النبوية، وبالتالي اعتبارها كلها «خارج نطاق الدين»[23]. وينتج عن ذلك، إفراغ الأحاديث النبوية من صفتها التشريعية الإلزامية، واعتبارها مجرد نشاط اجتماعي طبيعي للرسول وأصحابه، ملغيًّا بذلك المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، وبالتالي الأحكام الشرعية التي حددتها وشرحتها السنة النبوية.

والشيء الذي يفهم من الفكرة الأساسية التي يدافع عنها شاخت والتي تبرز جلية من خلال مؤلفاته، محاولة نزع صفة الشرعية عن أحكام الشريعة، ليجعل منها مجرد أحكام وضعية، توصلت إليها عقول الفقهاء والرواة، لأنه ينكر نسبتها إلى النبي.

وينتج عن النظرية التي يضعها شاخت، ويعمل على إثباتها بكل الطرق مجموعة من النتائج المعلنة والخفية نذكر منها:

1- اعتبار العودة إلى الشريعة الإسلامية أمرًا غير ممكن، ولا ينصح به باعتباره خارج نطاق الدين.

2- التبشير بالعلمانية وذلك لأن ما يسمى «بالفقه الإسلامي ليس هو الفقه الإسلامي المبني على الكتاب والسنة لأنه لا يوجد ما يمكن تسميته سنة النبي، وأن جزءًا غير قليل مأخوذ من شرائح اليهود والكنيسة»[24].

3- تشجيع المسلمين على أخذ القوانين من شرائع غيرهم، كما فعل أسلافهم[25].

4- إدخال الشك إلى المسلمين في عقائدهم وشريعتهم، والعمل على إبراز الروايات الشاذة أو المرفوضة واعتبارها الأساس.

ثالثًا: التاريخ الإسلامي

أدرجنا التاريخ الإسلامي في المجال الروحي إيمانًا منا بأن التاريخ الإسلامي هو محاولة لتجسيد الفكر الإسلامي في الواقع، سواء من ناحية العقيدة والالتزام بها، أو لتجسيد الشريعة الإسلامية في الممارسات الاجتماعية.

ولهذا لم يسلم التاريخ الإسلامي من شبهات الغزو الفكري، ومحاولة فصله عن الإسلام وتفسيره تفسيرًا يبعده عن روح العقيدة والشريعة الإسلامية.

اهتم كثير من المستشرقين ومفكري الغرب بالتاريخ الإسلامي، وقد استفاد بعضهم من بعض في اختراق موضوعات التاريخ الإسلامي، وتفسيرها وفق مناهجهم المختلفة في الخطوات، المتفقة في الأهداف. إذ رغم الاختلاف الأيديولوجي أو اللغوي، يتفق أغلب المستشرقين على إنكار النبوة كما لاحظنا سابقًا، حيث يتّفق مثلًا التفسير السوسيولوجي الاجتماعي لسيرة النبي لمونتغمري واط، مع التفسير المادي الماركسي الذي قدمه ماكسيم رودنسون[26].

تتبعنا سابقًا كيف حاولت أقلام الاستشراق والتبشير التشكيك في مصادر الإسلام، واعتبار القرآن كلام بشر وتأليف النبي، وجعل الشريعة مجرد عادات وتقاليد مستمدة من قوانين بشرية توصف أحيانًا بأنها من المسيحية أو اليهودية، أو التشريع الروماني، ولم تكن هذه الملاحظات في نسبة التلفيق إلى النصوص الإسلامية إلا لدفع المسلمين إلى رفض كثير من مبادئهم ونصوصهم باسم المنهج العلمي.

ولم يكن التعامل-كما لاحظنا- مع قضايا العقيدة والشريعة تعاملًا موضوعيًّا، يحترم خصوصيات الموضوعات المدروسة، إذ غلبت على المستشرقين الأفكار المسبقة والتعسف في إطلاق الأحكام، كما أن كثيرًا من المستشرقين يفتقرون إلى أبسط بديهيات التعامل مع النصوص الشرعية والتي نجملها في:

1- المعرفة والتمكن من اللغة العربية وآدابها والتاريخ الإسلامي.

2- الابتعاد عن التحزب أو الخضوع لأفكار مسبقة، والتزام الحق.

3- تجنب التسرع في الأحكام دون تثبت، وتجنب الآراء الشاذة والروايات الضعيفة أو المرفوضة.

4- عدم رفض الأمور الإيمانية، والقضايا العقائدية أو على الأقل احترامها وعدم التسرع في إنكارها، لأنها موضوعات تتجاوز قدرات العقل البشري لإدراكها إدراكًا ماديًّا.

ولا يمكننا إذا لاحظنا أن كثيرًا من المستشرقين ينطلقون من اصطياد العثرات وإطلاق الأحكام المسبقة دون تثبت، واختيار الآراء الشاذة، والروايات المرفوضة، وبناء النظريات والمواقف على أساسها، سوى أن نحكم باختلال في المنهج المستخدم، وتعمد الإساءة والعدوان.

تواصلت محاولات الغزو الفكري للنيل من قضايا تاريخية أخرى، وإطلاق شبهات منها أن الإسلام انتشر بالقوة، أو أن الإسلام رسالة للعرب فقط، وإنه انتشر بعد النبي لأسباب توسعية، واقتصادية لا غير. حيث جاء في قول كارل بروكلمان K. Brockelman (1868، 1955م): «من الثابت أن الإسلام لم يكن يصادف نجاحًا إلَّا عندما كان يهدف إلى الغزو»[27].

ولقد تم التأكيد على هذه الفكرة وترويجها حديثًا مع اعتبار شعوب إفريقيا وآسيا قد أخضعت إلى الإسلام بالسيف، هذا ما تروج له الدوائر الاستعمارية والتبشيرية المعاصرة. وهذا ما عملت فرنسا على استثماره أثناء استعمارها لدول المغرب العربي، حيث اعتبرت العرب المسلمين غزاة وأنها جاءت لطردهم وإحياء الإمبراطورية الرومانية، وعليه اعتمدت على سياسة الفرنسة والتنصير، وحين فشلت في هذه السياسة عمدت إلى استغلال الورقة البربرية وذلك باعتبار البربر من أصول أوروبية، وعملت لذلك على تنصيرهم وتغريبهم وقطع صلتهم بالعرب والإسلام وقد فشلت في ذلك أيضًا.

كما تناول المستشرقون بعض المحطات من التاريخ الإسلامي يتم انتقاؤها لأهداف محددة مسبقًا، ومن جهة أخرى امتاز هذا النفر من المستشرقين بالدهاء والمكر، فهم لا يسوقون الاتهامات جزافًا، ولكن يعمدون إلى تقليب صفحات المصادر التاريخية العربية القديمة، ليتوصلوا إلى ثغرات ينفذون منها إلى أغراضهم، أو ليتوصلوا إلى سطور قليلة تحذف من سياقها، وتبتر بترًا من إطارها، ويستندون إليها في إساءاتهم واتهاماتهم، وقد يجدون بعض الروايات الشاذة في بعض المصادر الضعيفة أو القليلة، ويتلقفون تلك الروايات المشكوك فيها (الإسرائيليات) ويعتبرونها عين الحق، ويبنون عليها كل مواقفهم واستنتاجاتهم.

وسنورد هذا المثال لإثبات الغرض السيئ من اعتماد هذه الروايات، فقد اعتمد كارل بروكلمان على الروايات الضعيفة التي أوردها ابن جرير الطبري (ت310ﻫ)، عن ذكر النبي لأصنام الكعبة أو ما يدعى بحديث الغرانيق[28].

والغريب أن قسم التاريخ بالإنجليزية بجامعة كامبردج يدرس لطلبته قصة الغرانيق، وأيضًا أن الهجرة إلى الحبشة هجرة اقتصادية، وحديث الإفك[29].

والسؤال الذي يطرح لماذا هذه المواضيع بالذات من التاريخ الإسلامي؟ والتي عليها ردود -لا تدرّس بطبيعة الحال- ويتم إغفال جمال وروعة الأحداث الأخرى، وخاصة الحضارة العربية الإسلامية ودورها في تقدم الإنسانية.

والحقيقة أن اهتمام المستشرقين بموضوعات معينة، هو جزء من المنهج الذي يعتمدونه، خدمة للهدف المراد تحقيقه، إذ كيف نفسّر اهتمام كثير من المستشرقين بأحداث معزولة في التاريخ الإسلامي؟ وترك الأحداث العظيمة التي تبرز عظمة الإسلام في رقي الحضارة الإنسانية.

ويبقى دعاة الغزو الفكري أوفياء لأهدافهم حديثًا، إذ لا يتورعون في تشجيع كل حركة هدامة يمكن أن تسيء إلى تاريخ الإسلام والمسلمين بصورة عامة، وذلك ما حدث بظهور مذاهب هدامة في التاريخ الإسلامي المعاصر مدعومة من الاستعمار والتبشير، والماسونية العالمية نذكر منها حركة القاديانية[30] وحركة البهائية[31] والتي ظهر بعض دعاتها في الجزائر[32].

كما قام الاستعمار الفرنسي بتشجيع الطرق الصوفية في المغرب العربي، وخاصة من يخدمون مصالح فرنسا، حيث يقول أحد زعماء تلك الطرق: »إننا إذا كنا قد أصبحنا فرنسيين فقد أراد الله ذلك، وهو على كل شيء قدير، فإذا أراد الله أن يكسح الفرنسيين من هذه البلاد فعل، ولكنه كما ترون يمدهم بالقوة وهي مظهر قدرته الإلهية، فنحمد الله ولنخضع لإرادته[33].

هذه الصوفية هي التي شُجعت وتكلم عنها السياسي الاستعماري جبريال هانوتو .G Hanoteau [34] (1853-1944) قائلًا: «إن بين تلك الطرق والطوائف من يخلد أعضاؤه إلى السكون، وربما كانت علاقاتهم مع رجال حكومتنا في الجزائر وتونس على أحسن ما يرام... لأن الفوضى التي أصابت الإسلام الإفريقي قد أخذت نصيبها منهم»[35].

أما التصوف الحقيقي الذي حمى الشخصية الجزائرية من التغريب، وساهم في نشر الإسلام وقيمه، فقد حاربه الغرب، والاستعمار، ويكفي الإشارة إلى أن كثير من زعماء المقاومات الشعبية التي ثارت ضد الاستعمار الفرنسي، كانوا من رجال التصوف المخلصين لدينهم، ووطنهم، مثل الشيخ المقراني والشيخ الحداد، ومؤسس الدولة الجزائرية الأمير عبدالقادر الجزائري.

ولذلك تم التركيز على الدعوات الهدامة، والتيارات المعاصرة المنحرفة التي نشأت من داخل العالم الإسلامي، لأن وراءها أهدافًا غربية استشراقية، متمثلة في هدم الإسلام من داخله بالقضاء على تاريخه المتماسك، ومهاجمة مبادئه، وتضليل أبنائه. وتشجيع الطوائف المنحرفة، لأنها وسيلة الهدم والتفرقة، وإثارة الفتن والصراعات، التي تنتهي بتقسيم وإضعاف المسلمين، وهو ما يعمل الغرب باستمرار على تحقيقه؛ بوسائله الغازية المختلفة.

أما المؤرخون الغربيون المعاصرون فلم يؤرخوا لثورة شعوب المغرب العربي على الاستعمار الفرنسي، بل أرخوا للاستعمار، ونظروا إلى كفاح الشعوب على أنه عمل غير حضاري قامت به مجموعات مهمشة لا تمثل شعوبها.

ﷺ الخلاصة

ما نتوصل إليه بعد استعراضنا للمواقف السابقة، والتي حاولنا أن نوثقها بالرجوع إلى المصادر الأصلية والدقيقة بقدر ما يتوفر لنا ذلك، مبرزين التأثير الخطير الذي تعرضت له العقيدة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي.

- وهو أن الرؤية الاستشراقية تصدر عن مركزية فكرية أوروبية مختلقة، مع تناول الحضارات غير الغربية كموضوع للدراسة، مع نظرة دونية، «إن التمركز الأوروبي قد خلق فعلا خرافة الشرق كتضاد للغرب»[36].

- وقد ظهرت هذه المركزية كمنهج معتمد في الرؤية الاستشراقية للعقيدة والفلسفة والفكر الإسلامي عمومًا. حيث أرجع الأوروبيون تفوقهم في السابق إلى طابعهم الأوروبي، أو عقيدتهم المسيحية، أو أسلافهم الإغريق، واليوم يرجعون ذلك إلى الأيديولوجية الرأسمالية المعاصرة.

- إن مناهج التفكير الغربي تنطلق دائمًا من هذه المركزية الفكرية التي تعتبر حضارة الغرب هي الأصل والمركز، وتعتبرها تحققًا للعقل والموضوعية، وبالتالي فهي الحقيقة الوحيدة، ويتم في المقابل الترويج لفكرة أن الحضارات الأخرى، مجرد ثقافات بدائية هامشية، تقاس على مقياس المركز لتكتسب الاعتراف بها.

- رغم أن استمرارية تاريخية تمتد من اليونان إلى روما، فالقرون الوسطى، فالإقطاع، فالرأسمالية المعاصرة لتفسير ما يدعى بأطروحة التمركز الأوروبي، أمر فيه تعسف كبير.

- إذ نشأ عن هذه الفرضية فرضيات أخرى أكثر عنصرية، ذكرنا بعضها سابقًا، منها تقسيم البشر إلى ساميين وآريين، يتبع ذلك لغات سامية، وأخرى هندوأوربية، ثم نقلت العنصرية إلى الدين فتم تفسير المسيحية كدين متفوق على الإسلام، والاعتقادات الشرقية. مع العلم أن الديانة المسيحية في حد ذاتها أصولها شرقية.

- إن الانطلاق من مركزية الحضارة الغربية عنصر موجود في المناهج الغربية الحديثة عند المستشرقين، كما كان موجودًا عند أسلافهم من المبشرين المتعصبين، وهو موقف ذاتي، قائم على نظرة غير علمية، ولا تاريخية للثقافة والأديان.

- لا يمكن تفسير هذه المحاولات الحديثة، إلَّا بما سعت إليه المحاولات القديمة، من استهداف للعقل الإسلامي وإنجازاته، منكرة عنه أي إبداع، ومحاولة إخضاعه للعقل الأوروبي، وهي محاولات يائسة، لأن شهادة التاريخ لا يمكن أن تطمسها محاولات البعض، وأصالة الفكر الإسلامي بدأت تتأكد لكثير من المشككين، من خلال أعمال المخلصين من العرب، أو من المنصفين من الغرب وهي كثيرة.

- إن المطالبة بموضوعية أكبر لدراسة التراث الإسلامي، وإنجازات العقل العربي تصبح أكثر إلحاحًا في عصر يتغنى فيه أصحابه بالحرية الفكرية، والمنهج العلمي، وتجنب الأحكام الذاتية المسبقة التي ولدتها عصور الصراع والحروب الصليبية، وذلك للتأسيس لعالم عادل ومنصف، يُعترف فيه لكل الشعوب والأمم بإسهاماتها في الحضارة الإنسانية، التي يجب أن تبقى تراثًا إنسانيًّا يستفيد من ثماره المادية والعلمية الجميع، مثلما أسهم الجميع بالأمس، واليوم في الوصول إلى هذه الحضارة.

 

 



[1] الشرق: مصطلح قديم ظهر بسبب الاعتقاد بأن البحر الأبيض المتوسط يقع وسط العالم، وبناءً على ذلك تتحدد الجهات وقد استمر المصطلح للدلالة على البلاد العربية، وشمال إفريقيا، كما يطلق على الهند.

[2] المستشرق: هو الباحث الأوروبي أو الأمريكي الذي يقوم بدراسة تراث الشرق وكل ما يتصل به، وقد تخصص المستشرقون في جوانب متعددة من تاريخ الشرق، وموضوعاته كالفلسفة، والتصوف، وعلوم اللغة والشرع، وأدى ذلك إلى نشأة هيئة المستشرقين في (مؤتمر المستشرقين) التي تعقد اجتماعًا كل ثلاث سنوات، كان أولها في باريس سنة 1874.

[3] LAROUSE 1991, p 689.

[4] إدوارد سعيد، الاستشراق، تعريب: كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، 1984، ص38.

[5] المرجع نفسه، ص 42.

[6] التصوف عند المستشرقين، ص 8،( سلسلة الثقافة الإسلامية) نقلًا عن نجيب العقيقي: المستشرقون، القاهرة: دار المعارف، ط4، 1980، ج3، ص613.

[7] إدوارد سعيد: مرجع مذكور سابقًا، ص9.

[8] المرجع نفسه، ص 216.

[9] عرفان عبد الحميد، المستشرقون والإسلام، بيروت: المكتب الإسلامي، ط3، ب ت، ص4.

[10] Pareja F.M et al: Islamologie, Imprimerie Catholique, Beyrouth, 1964, P1.

[11] شوقي أبو خليل، الإسلام في قفص الاتهام، دمشق: دار الفكر، ط5، 1986، ص 23.

[12] هاميلتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، تعريب: جماعة من الأساتذة الجامعيين، بيروت: المكتب التجاري للطباعة، ط1، 1961، ص 30.

[13] تهامي النقرة، القرآن والمستشرقون، بحث في مناهج المستشرقين في الدراسات الإسلامية، تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ج 1، 1985، ص 31.

[14] قرآن كريم: النساء 82.

[15] قرآن كريم: يونس 38.

[16] قرآن كريم: الحج 41/42.

[17] شوقي أبو خليل، مرجع مذكور سابقًا، ص 24.

[18] المرجع نفسه، ص 36.

[19] عماد الدين خليل، المستشرقون والسنة النبوية، بحث في مناهج المستشرقين، مرجع مذكور سابقًا، ج 1، ص 120.

[20] جعفر شيخ إدريس، منهج منتغمري واط في دراسة نبوة محمد، بحث في المرجع نفسه، ج1، ص 234.

[21] المرجع نفسه، ج1، ص 234.

[22] محمد مصطفى الأعظمي: شاخت والسنة النبوية، بحث في مناهج المستشرقين، مرجع مذكور سابقا، ج1، ص68.

[23] المرجع والموضع نفسه.

[24] المرجع نفسه، ص 70.

[25] المرجع والموضع نفسه.

[26] محمد بن عبود، منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي، بحث في مناهج المستشرقين، مرجع مذكور سابقًا، ج1، ص 348.

[27] كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، تعريب: منير البعلبكي ونبيه فارس، بيروت، 1954، ص78.

[28] شوقي أبو خليل، مرجع مذكور سابقًا، ص 81 (الهامش).

[29] المرجع والموضع نفسه.

[30] القديانية: مؤسسها ميرزا غلام أحمد في قديان بالهند، وقد كان أبوه عميلًا للاستعمار الإنجليزي، ظهر المذهب رسميًّا (سنة 1900)، وأصدر زعيمه كتاب (براهين الأحمدية) وادّعى أنه المهدي، ويقول المذهب بالحلولية ويحوّل الحج من مكة إلى قديان ويسقط الجهاد.

[31] البهائية: مؤسسها ميرزا علي محمد الشيرازي بشيراز بإيران، ادّعى زعيمها النبوة وحاول الإلوهية بذاته، ولما قتل تزعمها (ميرزا حسين علي)، ساعده الإنجليز بعد طرده من إيران للإقامة بمكا، وساعد في قيام الكيان الصهيوني، وقد عقد أول مؤتمر بهائي عالمي بإسرائيل سنة 1968، مما يثبت صلته بالصهيونية. راجع بأكثر توسع محمد البهي: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار، ص 45 - 46.

[32] راجع: فضيلة الشيخ أحمد محمد حماني، رسالة الدلائل البادية على ضلال البابية وكفر البهائية، باتنة، الجزائر: دار الشهاب، ب ت.

[33] محمد عمارة، العرب والتحدي، الكويت: عالم المعرفة، 1980، ص 170.

[34] جبريال هانوتو: مؤرخ ومستشرق وسياسي فرنسي، وزير الخارجية (1894-1898)، من المنظرين للاستعمار، أهتم بدراسة البربر وبمهاجمة الإسلام وقد رد عليه الشيخ محمد عبده.

[35] المرجع نفسه، ص 170.

[36] سمير أمين، التمركز الأوربي نحو نظرية للثقافة، الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية والنشر، 1992، ص71.