المجتمع المدني في تونس..
والتحول الديمقراطي
فتحي الحاج إبراهيم*
* باحث من تونس، أستاذ مساعد، معهد دراسات العالم الإسلامي، جامعة زايد. البريد الإلكتروني: fathi.brahim@zu.ac.ae
بعد مرور ما يناهز الأربع سنوات على انطلاق ثورات الربيع العربي، وما بشرت به من آمال ووعود على مستوى الإصلاح لا سيما السياسي، تشهد جل بلدان الربيع العربي حروبًا وصراعات داخلية عنيفة، تنبئ بخرابها وإعادتها إلى طور ما قبل التحديث.
في ظل هذا الوضع المتأزّم الذي لا تبدو بوادر انفراجه بائنة، والذي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، يبدو المشهد السياسي في تونس مختلفًا وأنّ أمل التحول الديمقراطي لا يزال قائمًا رغم ما يحفّ به من مخاطر وإنزلاقات. كان تعاطي القوى السياسية والاجتماعية التونسية مع أزمتها مختلفًا عمًّا حدث في الأقطار العربية الأخرى.
ففي ظل التجاذبات والاحتقان السياسي أجمعت جل القوى على الخيار الديمقراطي التوافقي الذي مكّنها من انتخاب مجلس تأسيسي في 23 أكتوبر 2011 جامعًا لجل الأحزاب السياسية والتيارات الأيديولوجية، تلته انتخابات تشريعية في 26 أكتوبر 2014 أفرزت أول مجلس لنواب الشعب عاكسًا لتنوع المشهد السياسي، ثم جاءت الانتخابات الرئاسية في 21 ديسمبر من السنة نفسها متوجة لمسار التحول الديمقراطي الذي استغرق أربع سنوات رغم المخاوف التي لازالت تحفّه.
يهدف هذا البحث إلى فهم وسبر عوامل هذا الاستثناء والنجاح النسبي الذي أحرزته التجربة في تونس، من خلال استجلاء عوامل نشأة ومراحل تطور المجتمع المدني الذي يعتبر من أهم تجلّيات نشأة وتطوّر الوعي السياسي في المجتمعات الحديثة؟
في الندوة الفكرية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في سنة 1992 حول المجتمع المدني في الوطن العربي[1] طرحت العديد من الإشكاليات التي تحيط بهذا المفهوم من خلال ثلاث أسئلة رئيسية:
الأول حول المفهوم ذاته، نشأته وتطوره وإمكانية استعارته وتنزيله على واقع المجتمعات العربية، وحول التجارب العربية السابقة التي تمثلت في مؤسسة الأوقاف والجمعيات الحرفية والمهنية ووجود الزوايا والربط والتكايا إن كانت تمثل شكلًا من أشكال المجتمع المدني أم هي عبارة عن «مجتمع أهلي» يختلف في حمولته الوجدانية والمعرفية عن الأول.
لا شك أن الحذر مرغوب عندما نتعاطى مع مفاهيم نشأت في سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، كما نوّه العديد من الكتاب من بينهم سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل[2]، ولكن لا بد من إدراك بعدها الكوني[3] وأنّه يمكن انتزاعها من سياقاتها الأصلية وتنزيلها على واقع اجتماعي مغاير لا سيما المجتمع العربي الذي تبنّى العديد من المفاهيم والقيم الحديثة منذ القرن التاسع وتشكّل بمقتضاها ولا يزال يسعى إلى تحقيقها ومن ضمنها مفهوم المجتمع المدني.
أما السؤال الثاني فقد تعلق بحدود المفهوم: هل المفهوم يقتصر على التنظيمات والتجمعات المتنوعة التي تهدف إلى احتواء الفاعلية الاجتماعية وتنظيم عمل الفاعلين (كما يرى البعض)، أم أنه يتوسع ليشمل الأحزاب السياسية وتنظيماتها (كما يرى البعض الآخر)؟
فيما يتعلق بدراستنا نعتبر أنّ الأحزاب السياسية هي من ضمن قوى المجتمع المدني التي لعبت دورًا هامًّا في نشأة المجال السياسي في الأقطار العربية، وفي تنظيم وتأطير الممارسة السياسية، لا سيما التي شكلت المعارضة في مرحلة الاستعمار وساهمت في نشأة الدولة الوطنية الحديثة.
أما السؤال الثالث فهو نظري معرفي وعملي: هل المجتمع المدني في تركيبته وبنيته العميقة، مجتمع واحد في الوطن العربي أم أنه مختلف ومغاير باختلاف التشكيلات الاجتماعية والسياسية لكل قطر؟ لا شك أنه هناك العديد من القواسم المشتركة بين كل أقطار العربي لا سيما الذي يشكل الذاكرة والمخيال الاجتماعي المشترك، لكنه حري بنا أن نميز بينها أو أقلها بين ثلاث مجموعات منها تشكلت وتطورت مجتمعاتها وثقافاتها بنسق مختلف، وهي مجتمع أقطار مجلس التعاون الخليجي، وأقطار المغرب العربي وبقية أقطار الشرق الأوسط، ومن ضمن أقطار المغرب العربي تميزت تونس بجملة من الخصائص أهمها تجانس مجتمعها وتمدنه بنسبة أعلى[4].
في سياق الحديث عن نشأة المجتمع المدني في المجتمعات الغربية، يميّز يورغن هابرماس بين المجال العام والمجال السياسي والمجتمع المدني، ويعتبر هذا الأخير آخر مراحل تطور المجال العام، وأحد أهم محددات المجال السياسي. ففي كتابه «الفضاءالعام» (L’espace public)[5] تناول دراسة المراحل التاريخية والطبقات الدلالية لمفهوم المجال العام وكيف تحوّل تدريجيًّا إلى مجال سياسي من خلال نشأة الدولة الحديثة من جهة والمجتمع المدني من جهة أخرى.
انطلق هابرماس أولًا في عرض الدلالات اللغوية والاصطلاحية المختلفة للفظ العام، فقال: إن هذا اللفظ يفيد كل ما هو متاح ويمكن ولوجه، وفي هذا السياق يقصد به المباني العامة التي تحتوي مؤسسات الدولة التي تعرف بالسلطة العامة والتي أوكلت لها مسؤولية الاهتمام بالمصلحة العامة، مصلحة كل المواطنين.
يتقاطع مصطلح المجال العام مع مصطلح الرأي العام، لذلك يمكن تعريف الفضاء العام بالفضاء الذي يتم فيه التعبير عن الرأي العام لا سيما المعارض للسلطة. ومن أهم خصائص الفضاء العام، بقطع النظر عن ارتباط نشأته بالسوق وبنشأة الطبقة البورجوازية، أنه فضاء حر، يتكون ويكتسب فاعليته من خلال عملية الحوار التي ترسخت وأخذت طابعًا سياسيًّا مع ظهور الدولة الحديثة من ناحية، وظهور المجتمع المدني من ناحية أخرى، كمجال مستقل عن الدولة وكطرف مناهض لسلطتها[6]. إذا يعتبر المجتمع المدني محددًا أساسيًّا للمجال السياسي، ومن أهم خصائصه أنه مناهض لسلطة الدولة.
في دراسة حول المجتمع المدني بيّن عزمي بشارة[7] أن المجتمع المدني هو وليد صيرورة فكرية وتاريخية تهدف إلى تحقيق المواطنة لأفرادها والديمقراطية لمجتمعاتها عبر مجموعة من التمفصلات والتمايزات في العلاقة بين الفرد والجماعة، أو بين المجتمع والدولة. ولا يمكن لمفهوم المجتمع المدني أن يكتسب معناه لا سيما في الدول العربية إذا جرّد من معناه السياسي وأخرج من سياق المعركة من أجل الديمقراطية. ولا يمكن لكل المؤسسات والجمعيات والاتحادات التي تعتبر من مكونات المجتمع المدني أن يكون لها معنى إذا لم تنشأ خارج نطاق الدولة والاقتصاد، وإذا أفرغت من بعدها السياسي ومن قدرتها النقدية. فإذا ما وقع هذا فإنه يعتبر عملية إجهاض لكل معاني المجتمع ومكتسباته التاريخية[8].
وفي السياق ذاته يقول حليم بركات: «إن مشاركة الشعب في تسيير شؤونه وشؤون المجتمع مشاركة ناشطة وحرة هي المقياس الحقيقي لمدى حضور المجتمع المدني وتقدمه»[9].
في دراسة حول محدّدات الفكر السياسي العربي وتجلياته اعتمد محمد عابد الجابري[10] إطارًا مفاهميًّا متكونًا من ثلاثة مفاهيم: مفهوم اللاشعور السياسي الذي حاول من خلاله إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر. والمفهوم الثاني هو مفهوم المخيال الاجتماعي، كمنظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز، يمثل المرجعية للعقل السياسي كممارسة وأيديولوجيا، أما المفهوم الثالث فهو مفهوم المجال السياسي.
تلك هي المحدّدات التي اعتمدها الجابري لدراسة الفكر أو الوعي السياسي العربي. محددات مستمدّة من التاريخ الإسلامي القديم وأخرى من التاريخ الأوروبي الحديث. ولعلّ أهمّ هذه المحدّدات –دون الانتقاص من أهمية المحددين الأولين- هو مفهوم المجال السياسي باعتبار أن المجتمعات الحديثة ونظمها السياسية تشكلت على حسب هذا المفهوم ومعانيه الجديدة التي أكسبها للمجتمع والدولة، وأن أهمّ إفرازاته وتجلياته هو نشأة المجتمع المدني.
ومن خلال ما تقدّم يجب وضع بعض المحددات المنهجية الخاصة ببحثنا حول نشأة المجتمع المدني في تونس والتي تتعلق بأبعاد هذا المفهوم ومضامينه اعتمادًا على تقسيم مراحله التاريخية إلى مرحلتين أساسيتين: الأولى امتدت منذ نشأة الدولة الإسلامية الأولى في عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلى حين استعمار الدول الأوروبية للعالم العربي، أما الثانية فهي المرحلة الحديثة التي بدأت منذ القرن التاسع عشر وتمتد إلى يومنا هذا.
بالنسبة للمرحلة الأولى سنعرض باختصار بعض العوامل والتجارب التاريخية (vécu) التي تمثل الذاكرة أو المخيال الجماعي الذي شكل الوعي والمجال السياسي، والتي تشترك في بعضها الأقطار العربية حسب دراسة محمد عابد الجابري لمحددات الفكر السياسي العربي، وبعضها الآخر متعلق بتونس تحديدًا. مثلت هذه العوامل رافدًا مساعدًا على تلقي القيم والمفاهيم الحديثة.
أما المرحلة الحديثة فسنتناول عوامل نشأة المجتمع المدني بتونس من خلال نشأة الجمعيات والصحافة والأحزاب السياسية كمحددات جديدة للمجال السياسي، ومن ثم للمجتمع المدني كمجال مستقل ومناهض للدولة منذ قيام الإصلاحات على أثر التحديات التي فرضها صعود الحضارة الغربية على كل الأصعدة، إلى حين قيام ثورات الربيع العربي باعتبار أن المجتمع المدني لا يزال في طور التشكل.
العوامل التاريخية لتشكل الاجتماع التونسي
هناك العديد من العوامل المباشرة التي سنتناولها لاحقًا وغير المباشرة التي ساهمت في تشكّل الوعي السياسي في تونس، ومن ضمنها الروافد الاجتماعية التي ساهمت في تشكّل نمط الاجتماع التونسي بصيغة مختلفة عن باقي المجتمعات العربية، وعمّقت لدى التونسي إحساسه بالانتماء الوطني ثم المغاربي ثم العربي ثم الإسلامي.
لقد تعاقبت على تونس العديد من الحضارات بسبب موقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية جعلتها دائمة الانفتاح على العالم وعلى أوروبا، وجعلت المجتمع التونسي في تشكّل وإعادة تشكّل مستمرة. فبالإضافة إلى العنصرين الفينيقي والأمازيغي اللذين بقيا راسخين في الذاكرة الجماعية التونسية تمثل الحقبة الإسلامية المرحلة الأهم في تشكّل نسق ودينامكية الاجتماع التونسي وفي تكوين العديد من خصوصياته.
فمنذ قرون الإسلام الأولى درجت تونس على البحث عن استقلاليتها السياسية[11] عن المركز دون التخلي عن انتمائها القيمي والرمزي للأمة فكانت من أولى الدول التي استقلّت عن السلطة المركزية، وذلك منذ قيام الدولة الأغلبية (184- 296هـ) في القيروان لمواجهة الخطر الفاطمي السياسي والمذهبي[12] الذي آل إليه حكم القيروان.
تأكدت هذه الاستقلالية مع تأسيس أول دولة إسلامية غير عربية على يد المعز بن باديس الصنهاجي البربري الأصل (422 - 454هـ/ 1008م – 1062م) الذي استقل عن السلطة الفاطمية المتمركزة بمصر وعن السلطة العباسية ببغداد، وجعل من تونس مركزًا حضاريًّا كبقية بلدان العالم الإسلامي[13].
مثل هذا الحدث نقطة تحول كبرى في تاريخ تونس لما كان لها من تأثير هام على تركيبة المجتمع التونسي. فبأمر من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ( 427- 487هـ/ 1036-1094م)، وعقابًا للحاكم المعز بن باديس (الصنهاجي) الذي خلع طاعة الفاطميين والولاء للعباسيين زحفت قبائل بني هلال وبني سليم على تونس ودمرت المعالم الحضارية التي احتوتها المدن التونسية ولا سيما مدينة القيروان، وقطعت المد الحضاري التراكمي الذي كانت عليه تونس، والأثر الأهم هو تعريب المجتمع التونسي على نطاق واسع. انتقل مركز الحكم من مدينة القيروان إلى مدينة تونس التي أصبحت عاصمة دولة وحاضرة ملك بفضل الازدهار الذي شهدته زمن الحكم الحفصي 1377-1488م[14].
بعد هذا التاريخ شهدت تونس العديد من الاضطرابات أدّت إلى سقوط الحكم الحفصي وانطوائها تحت حكم الأتراك منذ سنة 1574م. مثل دخول العنصر التركي نقطة تحول أخرى في تاريخ تونس لما كان له من انعكاسات اجتماعية وسياسية، أهمها انضمام العنصر التركي إلى التركيبة العرقية للمجتمع، وتغيير نمط الحكم الذي أدى إلى ظهور بوادر الرفض والمعارضة في صفوف التونسيين الأصليين.
بالإضافة إلى هذه الأحداث السياسية كان للعامل الاقتصادي والتجاري خصوصًا دورًا كبيرًا في تشكّل الاجتماع التونسي المدني. لقد ساهمت المواني التي تواجدت بتونس بفضل موقعها المتوسطي في ازدهار التجارة وفي توسيع دائرة انفتاحها على العالم الخارجي، لا سيما البلدان الأوروبية واستقبال العديد من الجاليات الأجنبية التي كانت تقيم خارج أسوار الحاضرة.
وزاد في هذا الانفتاح ازدياد عدد سكان المدينة المحاطة بالأسوار الذين اضطروا إلى الخروج والاستقرار بضواحيها، كضاحية باب الجزيرة وباب السويقة وباب البحر، أقاموا فيها أسواقًا جديدة ومراكز لصناعة السفن و«الفنادق» المخصصة للتجار الأوروبيين[15].
أما العامل التاريخي الثاني الذي زاد في انفتاح المجتمع التونسي على المجتمعات الأخرى هو دخول أعداد كبيرة من مسلمي الأندلس (المورسكيين) واليهود إلى تونس ابتداء من النصف الأول من القرن الثاني عشر تزامنًا مع سقوط بلنسيا.
لا شك في أن هذه الأحداث كانت في حينها مربكة للاستقرار السياسي والانسجام الاجتماعي في تونس، ولكنها جعلت المجتمع التونسي في حالة تشكّل مستمر استطاع من خلالها أن يستبطن ويتقبّل حقيقته المتنوّعة والمتعدّدة، وأكسبته تجربة في الانفتاح وتقبل الآخر دون خوف.
مثّل هذا التنوّع عامل إثراء ثقافي واقتصادي بفضل تنوع العلوم والخبرات والثروات التي جلبها المهاجرون معهم[16]. فقد استقرت نسبة لا بأس بها من الوافدين بمدينة تونس تمكّنوا من السيطرة على العديد من الأنشطة الثقافية والاقتصادية بفضل انخراطهم في المجموعات الحرفية، وتوليتهم المناصب الهامة في الدولة، وتقلدهم مهام التدريس في الزيتونة.
كل هذه العوامل بالإضافة إلى إشعاع جامع الزيتونة الذي كان منارة علم جعلت من تونس مدينة عالمية[17] (cosmopolite)، وجعل نسبة الحضر في المجتمع التونسي التي كانت ما بين 15 و 16% تفوق نسب بلدان المغرب العربي التي لم تتجاوز 7 أو 8%[18].
كل هذه العوامل التاريخية والاجتماعية جعلت المجتمع التونسي أكثر انفتاحًا على الحداثة الأوروبية وقيمها الجديدة، ومهّدت لنشأة المجتمع المدني في تونس ووعيه السياسي الحديث بنسق أسرع مما كان عليه الحال في الأقطار العربية الأخرى.
بوادر نشأة المجتمع المدني في تونس
تشترك تونس مع باقي الأقطار العربية الأخرى في بعض العوامل والتجارب التاريخية التي ساهمت في تشكّل الذاكرة السياسية الجماعية، ولعلّ أهمّها تجربة مجتمع المدينة ومرحلة الخلافة الراشدة التي انتهت بالصراع على السلطة، وأدّت إلى انقسامات مذهبية وعرقية ظلت محددة للمجال السياسي في العالم العربي والإسلامي إلى يومنا هذا.
وما حركات الانفصال عن السلطة المركزية التي لاحت بوادرها منذ الخلافة الأموية، وتكرّست وترسخت طيلة فترة ضعف الحكم العثماني، إلَّا نتيجة لهذا الصراع الذي لم يستغل كدافع للتأسيس للمجال السياسي في العالم العربي. لازمت إشكالية الخلافة الفكر الإسلامي لقرون عدة دون أن تفرز وعيًا سياسيًّا مؤديًا إلى تصور جديد للسلطة وممارستها، بل اكتفت بالتأكيد المطرد على شروطها الأخلاقية، لا سيما في الفكر السنّي الذي اكتفى بشرط العدالة في اختيار الحاكم.
ومن المؤكد أن الصراعات على السلطة في ظل تقهقر الظروف الاقتصادية والاجتماعية ساهمت كثيرًا في خلق المناخ الملائم لتبني الأفكار والتنظيمات السياسية الحديثة الوافدة. من ثم يمكننا اعتبار نشأة الوعي السياسي الإسلامي والعربي كمؤسس للمجال العام السياسي –رغم تجربة الإسلام الأولى- ظاهرة حديثة تزامنت مع نشأة الحركة الإصلاحية التي جعلت من الإصلاح السياسي جزءًا أساسيًّا وضروريًّا من مشروعها الإصلاحي.
كان لقيام الثورتين الفرنسية والأمريكية، وما بشّرتا به من قيم جديدة نصَّت عليها وثيقة حقوق الإنسان والمواطن، تأثيرًا هامًّا في نشأة الوعي السياسي، ثمّ في نشأة المجتمع المدني في الأقطار العربية. وما ساهم في تقبّل المجتمعات العربية لهذه الأفكار والقيم السياسية الجديدة حالة التهميش التي كانت تعيشها مقارنة بغيرها من الجاليات الأجنبية الوافدة التي تحقّقت لها هذه الحقوق المدنية داخل وخارج مواطنهم[19].
وما حركات الإصلاح التي انطلقت منذ بداية القرن 19 في جل أقطار العالم العربي والإسلامي، إلًّا تتويج لهذا الوعي السياسي الجديد الناشئ الذي تجلّى تدريجيًّا في انتفاضات الاحتجاج التي انطلقت في تونس منذ أن تمّ التوقيع في يوم 8 أوت 1830 على معاهدة تنصّ على التخلّي عن تجارة السفن التي كانت مصدرًا اقتصاديًّا هامًّا، وإلغاء رقّ المسيحيين والتخلّي عن سياسة الاحتكار التي كانت تمارسها السلطة التونسية لحماية مداخيل الدولة[20].
زادت هذه المعاهدة في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب التونسي، وأجبرت الباي على فرض ضرائب إضافية على شعبه (الضريبة الشخصية) سنة 1856، أدّت بدورها إلى انتفاضة شعبية عارمة مهّدت إلى إعلان عهد الأمان سنة 1857، ثم إلى إعلان الدستور لاحقًا يوم 10 سبتمبر 1861.
جاءت قيم الثورات الجديدة لتحل منظومة سياسية واجتماعية جديدة محل المنظومة السياسية والاجتماعية التقليدية، التي فقدت تدريجيًّا مقوماتها وشرعيتها بفعل التنوع والتعدد الذي أصبحت عليه المجتمعات العربية عمومًا والمجتمع التونسي خصوصًا من جهة، ومن جهة أخرى لم يعد بإمكانها أن تظل قائمة على تغييب الفرد لصالح الجماعة والأمة التي فقدت شروط قيامها وعلى نظام الراعي والرعية التي باتت رافضة أن تكون قطيعًا، ورافضة الطاعة اللامشروطة لولي الأمر من أجل اتقاء الفتنة.
جاءت القيم الحديثة لترسي قيمًا جديدة ونظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا جديدًا مبنيًّا على قيم وعلى شرعية جديدة مبادؤها وضوابطها يتم الاتفاق عليها اجتماعيًّا وبالإجماع الواسع وينص عليها الدستور. وبالرغم من أن هذا الدستور في نسخته الأولى لم يكن معبرًا عن إرادة الشعب التونسي إلَّا أنه كان بداية قيام معادلة جديدة بين الدولة والمجتمع، بين مجتمع سيعاد تأسيسه على مبدأ المواطنة ودولة سلطتها تشاركية وممثلة لإرادة شعبها.
كانت التجربة الدستورية التونسية رائدة في العالم الإسلامي والعربي رغم سبق مصر في نقل الدستور الفرنسي الذي ترجمه رفاعة الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» تحت عنوان «الشرطة» منذ سنة 1834 دون التأكيد على ضرورة تبنيه ومكتفيًا بإحاطته ببعض التحذيرات.
وما ميّزها عن غيرها من التجارب كالتجربة الدستورية العثمانية (1876) التي كانت سلمية[21] هو أنّ إصدار الدستور جاء نتيجة لسلسلة من الإصلاحات والاحتجاجات الشعبية التي سقط ضحيتها العديد من أفراد الشعب، مما أعطاها مشروعية أعمق وأشمل، وساهمت مبكرًا في ترسيخ فكرة الوطن والمواطنة لدى الشعب التونسي وضرورة المشاركة في الحكم.
أمّا خير الدين التونسي فقد أولاها بابًا كاملًا في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وقرنها بفكرة الحرّية، واعتبر هاتين الفكرتين أساسًا لتحضّر الشعوب الأوروبية. كانت هذه التجربة الدستورية، وما أكّدته من حقوق إنسانية وحقوق مدنية وسياسية، بمثابة العقد الاجتماعي الذي أبرم بين المجتمع والدولة، ومؤسسة للمجال السياسي في تونس من خلال التأسيس للدولة المدنية الحديثة وللمجتمع المدني الحديث القائم على حقوق المواطنة.
لقد مثَّل الدستور منذ ذلك التاريخ الإطار العام والمرجعية الشرعية الجديدة التي ستنظم وتعطي الوجهة المدنية الحديثة لحركة الإصلاح في تونس. وما ساهم في تأكيد وترسيخ هذه القيم الجديدة بالإضافة إلى الحراك الشعبي الذي كان يشهده الشارع التونسي نشأة الصحافة التي كانت متزامنة مع تبني الدستور التي مثّلت فضاء موازيًا للشارع مكّن التونسيين من الإعراب عن آرائهم.
كانت جريدة «الرائد التونسي» التي صدرت سنة 1860 أول جريدة تونسية احتوت على أخبار رسمية وأخرى شعبية تمّ التخلي عنها مع انتصاب الحماية لأنها كانت تمثل ركن الكتابات النقدية، وأصبح اسمها جريدة «الرائد الرسمي التونسي» إلى يومنا هذا. ثمّ وقع إصدار في يوم 21 أبريل 1861 مجلة «الجنايات والأحكام العرفية» التي كانت مراعية لحقوق الإنسان ومحاولة توفيقية بين المذهبين المالكي والحنفي من جهة، والتشريع الليبرالي الغربي من جهة أخرى[22].
لم يدم عهد الأمان طويلًا فقد اضطرّت حكومة الباي في سنة 1863 إلى رفع الضريبة مجددًا لتسديد القروض مما أدى إلى اندلاع ثورة تونس الشهيرة سنة 1864 بقيادة علي بن غذاهم[23] الذي لقّب بـ«باي الشعب»، رافعة راية الإصلاح الإداري والقضائي والتي كان شعارها «كفانا مجبى ومماليك ودستور»[24]. لم تكن القبائل معارضة للدستور بحدّ ذاته، بل بسبب خرق الباي لما نص عليه الدستور الذي أجبر على الالتزام بالدستور وتعهد باحترامه على أثر حركة الاحتجاج الواسعة التي قامت ضده سنة 1875 [25].
ولعل أهم التحولات التي كانت نتيجة لهذه الانتفاضات المتكررة هو أن مطالب الإصلاح أصبحت مطلبًا شعبيًّا وطنيًّا ولم يعد نخبويًّا، بأيدي النخبة السياسية والعلمية وهذا ما ميّز مبادرة خير الدين الإصلاحية (1873-1876) التي كانت استجابة لتطلعات الشعب التونسي[26]. إلى حين انتصاب الحماية انخرطت الإصلاحات التي شهدتها تونس في دينامكية جديدة، ألا وهي تهديدات القوى الأوروبية من ناحية، وتهديدات الشعب من ناحية أخرى.
لقد كانت الانتفاضات التي شهدتها تونس، لا سيما ثورة علي بن غذاهم، محفّزًا لتسييس المجال العام حسب قول هابرماس في حق الثورة الفرنسية التي كانت المحفز لبروز حركة تسييس للمجال العام أو للحياة الاجتماعية من خلال نشأة الحركة الأدبية والفنية النقدية[27].
مع انتصاب نظام الحماية سنة 1881 تبلور المنحى السياسي والمدني للمجتمع التونسي، وحلّت ديناميكية اجتماعية وسياسية جديدة، بفعل تغير التركيبة السياسية والاجتماعية نتيجة عملية التحديث التي خاضتها تونس منذ بداية القرن من ناحية، وبفعل التحدي والهيمنة المفروضة التي بلغت ذروتها من ناحية أخرى.
ومن أهم مميزات هذه الديناميكية الجديدة أنّها أصبحت ذات قطبين بعد أن كانت ثلاثية الأقطاب، وهذان القطبان تمثّلا في الدولة المتماهية مع المستعمر (باستثناء فترة حكم المنصف باي) من جهة، والشعب من جهة أخرى الذي تنظّم وتشكّل في جمعيات وجماعات بقيادة نخب تونسية جديدة، تخرّج بعضها من مؤسسات التعليم الحديث والبعض الآخر من المؤسسة الزيتونية التقليدية يحمل فكرًا مستنيرًا ويؤمن بضرورة الإصلاح والتحديث.
تكثفت المظاهرات والاحتجاجات منذ انتصاب الحماية وتنظمت منذ نهاية القرن 19 في جمعيات وحركات اجتماعية[28]، أكثر فاعلية وتأثيرًا يمكننا حصرها في ثلاث تنظيمات: الجمعيات الطلابية، والجمعيات النقابية والأحزاب السياسية مدعومة كلّها بحركة صحفية مكثفة. ظهرت الجمعيات الطلابية الأولى منذ 1896 وتمثلت في الجمعية الخلدونية التي كان لها دورًا ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا هامًّا، ثم تلتها جمعية قدماء المدرسة الصادقية سنة 1905.
كان للحركة الطلابية المتمثلة في حركة الشباب التونسي وحركة الطلبة الزيتونيين التي كانت تدافع عن مكتسباتها وتناضل من أجل حقوقها ومن أجل إصلاح التعليم، دور هام في التصدي لقرارات السلطة، فهي التي قامت بقيادة وتأطير حركة التنديد والمعارضة التي بدأت سنة 1910 التي تلتها أحداث الجلاز سنة 1911 وأحداث الترامواي سنة 1912 التي أخذت طابعًا وطنيًّا[29]. منذ هذا التاريخ وإلى يومنا هذا بقيت الحركة الطلابية من أهم مكونات وحركات المجتمع المدني التونسي رغم ما لحق بأفرادها من اضطهاد ومن محاولات الاحتواء التي شهدتها في العشريتين الأخيرتين.
إلى جانب الجمعيات الطلابية برزت في تونس الأحزاب السياسية وكان أولها «الحزب الحر الدستوري التونسي» الذي تأسّس على يد عبد العزيز الثعالبي سنة 1920، ثم سمّي بـ«الحزب الحر الدستوري الجديد» على أثر مؤتمر 1934 وتولّى قيادته الحبيب بورقيبة الذي أصبح منذ هذا التاريخ رمز النضال الوطني التونسي.
ورغم تنوّع المشارب الأيديولوجية لمنخرطي هذا الحزب فإن الهدف كان واحدًا وهو تحرير تونس وتأسيس الدولة المدنية الحديثة على أساسي الحرية (الديمقراطية) والدستور، كما تشير إلى ذلك تسمية الحزب، وكما جاء في أول اجتماع لتأسيس الحزب في مارس [30]1919. كان لهذا الحزب دور هام في اكتمال التأسيس للمجال السياسي في تونس ووضع ضوابطه وترسيخ القيم السياسية الجديدة، من خلال إعادة تفعيل الدستور الذي تمّ التخلي عنه منذ انتصاب الحماية.
وفي الفترة الزمنية نفسها برزت في تونس الحركة النقابية على يد محمد علي الحامي الذي أعلن يوم 31 أكتوبر 1924 عن بعث «جامعة عموم العملة التونسيين» كأول نقابة تونسية مستقلة عن النقابات الفرنسية. تعتبر الحركة النقابية من أهم مكاسب المجتمع المدني في تونس ومن أهم مكوناته، فهي التي أعطت للمقاومة بعدها الوطني، وعمّمت الإحساس والوعي بحقوق المواطنة لدى جلّ شرائح الشعب التونسي، وقامت بتوحيد كل النقابات والجمعيات المهنية.
كان إقبال العمال التونسيين ضخمًا على هذه المبادرة، فقد تجمّع في مؤتمر الجامعة الأول حوالي 3000 مشارك لإقرار قانونها الأساسي[31]. تمثلت مطالب الحركة النقابية في رفض الامتيازات الممنوحة للفرنسيين، أو ما عرف بمنحة الثلث الاستعماري لتشجيع الهجرة والاستقرار بتونس، وكذلك بتوسيع دائرة الموظفين التونسيين في إدارة الدولة وتطبيق مبدأ «نفس الأجر لنفس العمل»[32]. قامت السلطة بحلّ هذه الجامعة وملاحقة قادتها الذين تم سجن البعض منهم ونفي البعض الآخر، وفي 20 يناير 1946 تأسّس الاتِّحاد العام التونسي للشغل بمقر معهد ابن خلدون (الخلدونية) على أثر الاجتماع الذي حضره ممثلون عن 50 نقابة مهنية ومن مختلف الجهات التونسية، وقد ترأس الاجتماع الشيخ الفاضل ابن عاشور، الذي عمل على توحيد كل النقابات في مؤسسة واحدة أوكلت أمانتها العامة إلى الزعيم فرحات حشاد وأوكلت له الرئاسة الشرفية[33].
والذي دعم ورافق نشأة وتكوين المجتمع المدني في تونس هو نشأة الصحافة التي كانت لسان حال هذه الجمعيات والأحزاب، والأداة التي كانت تعبر من خلالها عن مطالبها وآرائها، إلى جانب الاحتجاجات والمظاهرات التي كانت تجوب الشوارع. بدأت الحركة الصحافية في تونس مع صدور أول صحيفة رسمية «الرائد التونسي» سنة 1860 التي لا تزال تصدر إلى يومنا هذا تحت عنوان الرائد الرسمي التونسي.
أما أول صحيفة غير رسمية فكانت مجلة «الحاضرة» التي صدرت يوم 12 أوت 1888 واستمرت إلى 1911، وكان من أهم مؤسسيها ومحرريها الشيخ محمد السنوسي وسالم بوحاجب. تكثفت هذه الحركة مع مطلع القرن العشرين فصدرت العديد من الدوريات والصحف غير الرسمية، ومن أهمها صحيفة «التونسي» الناطقة بالفرنسية سنة 1907، وتلتها النسخة العربية «الاتِّحاد الإسلامي» سنة 1909 التي أسندت مهمة تحريرها إلى عبد العزيز الثعالبي[34].
لقد عدّت تونس منذ صدور «الرائد التونسي» سنة 1860الى سنة 1913 ما يقارب 48 دورية[35]، وبقي هذا العدد في ازدياد إلى حين إعلان الاستقلال، حيث بلغ عدد الدوريات العربية 338 مقابل 975 بالفرنسية[36]. تقلّب حال هذه الدوريات بتقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية في تونس، ولم يبقَ منها إلَّا القليل إلى جانب الصحف الجديدة التي ظهرت بعد الاستقلال.
كانت هذه أهم مراحل نشأة المجتمع المدني في تونس الذي أصبح منذ بداية القرن 20 المحرك الأساسي والمؤطر لحركة الإصلاح والمقاومة التي توّجت بإعلان الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة. وبهذا الإعلان دخلت تونس طورًا جديدًا من تاريخها، تميّز أساسًا بتكوين مجتمعها المدني الذي بقي راسخًا وصامدًا في ظل التقلبات السياسية التي شهدتها تونس لاحقًا.
في ظلّ التحديات الجديدة التي كانت تنتظر الدولة الفتية تم التغاضي عن الخلافات الأيديولوجية والسياسية، وعملت جل القوى الاجتماعية والسياسية على توحيد الصفوف وراء دولتهم التي أولت مسألة التنمية أهمية كبرى بعد تأسيس المقومات الضرورية للسيادة الوطنية. فكان لا بد لعلاقة المجتمع المدني بالدولة التي كانت إفرازًا لإرادته أن تأخذ شكلًا آخر، وأن تتحول من موقع المعارضة إلى موقع الدعم والتكامل، بل الشريك في عملية بناء تونس الجديدة في كنف الدستور الجديد التي وقع تبنّيه في غرة يونيو 1959 وما نصّ عليه من حقوق وواجبات، وفي إطار ترسيخ القيم والمؤسسات التي اكتسبها المجتمع التونسي طوال ما يزيد على القرن من الزمن.
هكذا كانت المعادلة بين الدولة والمجتمع المدني في سنوات الاستقلال الأولى، لكن التوجّهات السياسية الداخلية والخارجية التي سلكها بورقيبة لم تحظَ بإجماع القوى السياسية، وأدّت إلى أزمة كان نتيجتها محاولة الانقلاب التي حيكت ضدّه في ديسمبر 1962. مثّل هذا الحدث نقطة تحول كبرى في تاريخ تونس السياسي الحديث، فقد قام بورقيبة -بعد أن تخلّص من منافسه الأكبر صالح بن يوسف الذي اغتيل في 12 أوت 1961- بإسداء ضربة للتعددية الحزبية، وتمكن من تبرير وتكريس سياسة وسلطة الحزب الواحد. لقد اتّخذ جملة من الإجراءات كان من ضمنها سحب تأشيرة الحزب الشيوعي، ومنع جريدة «منبر التقدّم» في 1963، والقيام بتعديلات في النظام الداخلي للحزب حتى تتطابق هياكله مع الهياكل الإدارية، وأصبحت أولوية الحزب والدولة المركزية وليس الديمقراطية[37]. اتخذ الحزب على أثر مؤتمره الذي انعقد سنة 1964 قرارًا اعتبر بموجبه منظمات المجتمع المدني امتدادًا له، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والاتحاد القومي للمزارعين، والاتحاد النسائي، والاتحاد العام لطلبة تونس، التي اختصر نشاطها على إعلام منخرطيها بأوامر الحكومة والسهر على تطبيقها[38].
من جهة أخرى وعلى أثر فشل النموذج التنموي (تجربة التعاضد التي نصت عليها وثيقة الآفاق العشرية 62-72) الذي تمّ التخلي عنه في سبتمبر 1969 وإيقاف رائده أحمد بن صالح في 24 مارس 1970، دخلت تونس تجربة اقتصادية جديدة بقيادة الهادي نويرة، مكّنتها من الخروج من أزمتها وتحقيق شيء من الرخاء شجّع بورقيبة على إعلان رئاسته مدى الحياة سنة 1975، وإدخال التعديلات اللازمة على الدستور. كان هذا آخر الإجراءات التي قام بها بورقيبة للقضاء على أمل تونس في التحول الديمقراطي غداة استقلالها، بل كادت تفقد أهم مكتسباتها ألا وهو مجتمعها المدني.
لكن قوى المجتمع المدني المتمثلة أساسًا في الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس لم تخضع لسياسة الابتزاز والاستبداد التي كرّسها الحزب الحاكم، ولم تتوانَ في التعبير عن رفضها، والتصدّي لسياسة الدولة اللاديمقراطية من خلال الإضرابات التي كان ينظمها والتي قارب عددها 150 سنة 1972 ووصل عددها إلى 372 سنة 1976. لكن التحرّك الأهم هو الإضراب العام الذي نظّمه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 26 يناير 1978، والذي لاقى تصديًا عنيفًا من الحزب الحاكم أودى بحياة المئات من التونسيين. وفي بداية يناير 1984 شهدت تونس انتفاضة شعبية «انتفاضة الخبز» عارمة اعتراضًا على سياسة الدولة الاقتصادية التي ذهب ضحيتها مئات المدنيين.
لم تكن فترة حكم بن علي (1987-2010) أحسن حالًا من فترة بورقيبة رغم الانفتاح السياسي الذي أبداه في السنة الأولى من حكمه، والذي كان مؤشره التوقيع على وثيقة الميثاق الوطني سنة 1988 كقاعدة جديدة للعمل السياسي في تونس. فإذا كان بورقيبة قد استبدّ بالحكم بناء على رمزيته وعلى فكرة معركة التنمية إلى جانب محاولة الانقلاب التي استهدفته؛ فإن بن علي قد اعتمد على فكرة التخويف من الزحف الإسلامي، التي آتت أكلها في مرحلتها الأولى، ومكنته من القضاء على أكبر حزب معارض في تونس وهو حزب النهضة، ومن احتواء جل الأحزاب الأخرى وأهم مكونات المجتمع المدني لا سيما الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد أن تمكن من إزاحة الحبيب عاشور الذي جعل منه منظمة عتيدة، واتحاد الطلبة الذي تولى قيادته شباب الحزب الحاكم.
لم يستسلم المجتمع المدني كلية لسياسة الاستبداد التي انتهجها بن علي بل قامت العديد من الاحتجاجات، من أهمها إضراب الجوع المفتوح الذي قام به أفراد من العديد من قوى المجتمع المدني، دفاعًا عن الحرية وعن معاناة المساجين السياسيين في 18 أكتوبر 2005، وانتفاضة الحوض المنجمي التي قام بها شباب مدينة قفصة في جوان 2008 احتجاجًا على البطالة.
رغم أنّ ثورة الربيع العربي في تونس لا تمثل امتدادًا لنضالات المجتمع المدني، بل جاءت في سياقات عالمية وإقليمية معينة، إلَّا أنها مثّلت فرصة تاريخية لاستكمال المشروع الإصلاحي، والاستحقاقات التي قام من أجلها المجتمع المدني، ألا وهي إرساء مقومات الدولة المدنية الحديثة وأهمها الحرية والديمقراطية. وقد أحسنت قوى المجتمع المدني في تونس إلى حد الآن حسن استغلالها خلافًا لما حصل في البلدان العربية الأخرى، ولا تزال فاعلة وجادة في اتجاه إنجاز التحول الديمقراطي رغم المخاطر المحدقة والانزلاقات التي شابتها.
[1] مجموعة من الباحثين، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1992، ص 11-12.
[2] سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، المجتمع المدني والدولة في الفكر والممارسة الإسلامية المعاصرة (مراجعة منهجية)، في المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992. وقد أشار إلى هذا الإشكال المنهجي والمفاهيمي في كتاب المجتمع المدن وأبعاده الفكرية، سلسلة حوارات القرن الجديد، دمشق: دار الفكر، 2003.
[3] الحبيب الجنحاني، سيف عبد الفتاح إسماعيل، المجتمع المدني وأبعاده الفكرية، سلسلة حوارات القرن الجديد، دمشق: دار الفكر، 2003.
[4] حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر بحث استطلاعي اجتماعي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة السادسة، 1998، ص15 .
[5] Jürgen Habermas, L’espace public Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise,17e édition, Payot, Paris, 1990.
[6] المصدر السابق، ص 14-16.
[7] عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة السادسة، 2012.
[8] المصدر السابق، ص 48.
[9] حليم بركات، الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي، بيروت: رياض الرايس للكتاب والنشر، الطبعة ألأولى، 2004، ص 140.
[10] محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي (3)، العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة، 2000. لم يتبنّ الجابري هذه المفاهيم التي برزت في مجتمعات مختلفة بشكل مطلق وإنما حاول تبيئها للمجتمع العربي. عبدالإله بلقزيز في كتابه تكوين المجال السياسي الإسلامي لم يناقش المفهوم واعتبره من المسلمات.
[11] كونتن سكنر فقد خصص كتابًا لدراسة الأحداث التاريخية التي ساهمت في تشكّل الوعي السياسي في أوروبا، لا سيما حركة الاستقلال السياسي لبعض المدن الإيطالية عن السلطة المركزية.
[12] نقولا زيادة، إفريقيات.. دراسات في المغرب العربي والسودان الغربي، لندن: رياض الريس للكتاب، 1991، ص 177.
[13] المصدر السابق، ص 178-179.
[14] Mahmoud Abdel Moula, L’université zaytounienne et la société tunisienne, Tunis, 1971, p. 33.
[15] نقولا زيادة، ص 186.
[16] Paul Sebag, Tunis, Histoire d’une ville, Paris, L’Harmattan, 1998, p. 157
[17]المصدر السابق، ص 165.
[18] Daniel Rivet, Le Maghreb à l’épreuve de la colonisation, Paris, Hachette, 2002, p. 140.
[19] أحمد جدي، محنة النهضة ولغز التاريخ في الفكر العربي الحديث والمعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005. يتحدث الكاتب عن ضعف حضور الثورة الفرنسية في الفكر العربي الحديث رغم أهميتها باستثناء بعض الإشارات، ويقول: «فالقراءة المتأنية لكتابات خير الدين وبيرم الخامس وقابادو وابن أبي الضياف والمسعودي والجبرتي والطهطاوي والكواكبي ورشيد رضا وغيرهم، تؤكد لنا غياب أو تغييب الثورة الفرنسية في أعمال هؤلاء الإخباريين والمصلحين» ص 23.
[20] Sebag, p. 211.
[21] وجيه كوثراني، التنظيمات العثمانية والدستور.. بواكير الفكر الدستوري نصًّا وتطبيقًا ومفهومًا، دراسة مجلة تبين، العدد 3، شتاء 2013، الدوحة، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
[22] الهادي التيمومي، تونس 1956-1987، تونس: دار محمد علي للنشر، الطبعة الثانية، 2008، ص 22.
[23] عبد العزيز الثعالبي، تونس الشهيدة، ترجمة: سامي الجندي، لبنان: دار القدس، الطبعة الأولى 1975، ص 31-32
[24] جان غانياج، ثورة علي بن غذاهم 1864، الباب الخامس من كتاب أصول الحماية الفرنسية بالبلاد التونسية، ترجمة: نخبة من كتابة الدولة للشؤون الثقافية، المكتبة التاريخية 2، الدار التونسية للنشر، 1965.
[25] عبد العزيز الثعالبي، ص 32.
[26] أحمد عبد السلام، مواقف إصلاحية في تونس قبل الحماية، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1987، ص 7. يورد في هذا الكتاب أن خير الدين التونسي استعان بالعديد من أعلام تونس في القايم بإصلاحاته المشهورة، وأنّ خطته الإصلاحية اعتمدت على إنشاء الجمعيات واللجان، ومن أهمها جمعية الأوقاف ولجنة إصلاح التعليم. كما أن جريدة «الرائد التونسي» التي تأسست سنة 1860 كانت ترافق كل إصلاحات خير الدين بالنقد والتوجيه (ص73)، بالإضافة إلى أن خير الدين كان مؤمنًا بأن الإصلاح يجب أن يكون باقتناع الوالي والرعية بذلك كما ذكر في كتاب أقوم المسالك: «وإني مازلت أقول: إن تونس لا تستقيم بدون تنظيمات، وإنها لا بد لإجرائها من الطريقة المار ذكرها (أي اقتناع الوالي والرعية بجدواها) وإلا فالتنظيمات في تونس بدون ما ذكر كالعنقاء اسم بلا مسمى، فلا تغترن بقول من لا يدرك الحقائق» (ص81).
[27] Habermas, p. IV.
[28] مختار العياشي، ص 187. حسب الكاتب، قبل انتصاب الحماية لم تكن توجد بتونس جمعيات ثقافية أو اجتماعية أو خيرية ما عدا المجموعات ذات الصبغة الدينية كالزوايا أو المجموعات الحرفية، من ناحية أخرى كان هناك عددًا لا يحصى من النوادي الخاصة الشبيهة بـ«الصالونات الأدبية» الموجودة في أوروبا، وكانت تدار فيها بعض النقاشات السياسية.
[29] مختار العياشي، ص 21.
[30] عبد العزيز الثعالبي، ص 14.
[31] سالم الأبيض، ص 107
[32] المصدر السابق، ص 108
[33] المصدر السابق، ص -113- 112.
[34] المصدر السابق، ص 61.
[35] مختار العياشي، ص 58.
[36] الهادي التيمومي، ص 78.
[37] المصدر السابق، ص 77.
[38] الهادي التيمومي ص 77.
http://www.alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=13181#.VSrCLE3Yfiw سالم الأبيض، الأزمات الاجتماعية والسياسية في تونس، مجلة علوم إنسانية www.uluminsania.net العدد 18، السنة الثانية، فبراير 2005.