الفلسفة والعرفان..
دلائل الاتصال ومكامن الانفصال
الدكتور بن عومر رزقي*
* عضو مختبر الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية بالجزائر، وأستاذ محاضر، جامعة وهران 2، الجزائر.
لا نستغرب هذه الحدية التي قد نشهدها عندما نقرأ لاتجاه معرفي معين يتناول فكر ورؤية غريمه، وما دام حديثنا منصب على فريقي الفلسفة والتصوف، فإننا لا نكاد نقرأ لأحدهما عن الآخر إلَّا ونلمس، على الأقل في بعض النصوص، شدةً وحزمًا في استهجان طروحات غيره.
لكن رغم هذه الحدية النسبية بين العرفان والفلسفة إلَّا أننا نرى في جانب آخر مجالًا للحوار وتجاذبًا لأطراف النقد والتحقيق، بحيث أصبح كل طرف يقرأ ظهوره في مرآة الآخر، ومن خلال هذه الرؤية تحدث مراجعات وتلطيفات للخطاب عسى أن يرمم جسر الوصل ما دام أن الحق واحد وهو مطلوب كل فريق.
إذا شخصنا الإسلام في كونه دعوة بالأساس أكثر منه ثقافة تعرض نفسها للإنسان ليتخذ منها موقفًا في راحة ووسع من أمره، فكون الإسلام دعوة يركز البعد الأيديولوجي في التفاعل، أي إن الإسلام ينظر إلى الإنسان في موقفه لا فيما يحمله ذهنه من مفردات معرفية، وبهذا الاعتبار كل الحركة الفكرية في الإسلام خضعت لهذا المبدأ، أي التفاعل بالأيديولوجيا، وعندما نركز على الأيديولوجيا لا نعني عدم اعتبار المعرفة، بل المعرفة نور الأيديولوجيا تستضيء به، وتتنور من خلاله، وهذا التوجه يفرض الحوار بل يجعل من التحاور سبيلًا لشرعنة البقاء، خاصة إذا علمنا أن مبدأ الوجود قائم على الحق والعلم، {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[1]، ما يجعل الحوار يصل إلى الفرض والوجوب هو نسبية الجهد المنسوب إلى الإنسان في مقابل الحق المفارق الذي يُشار إليه في نصوص القرآن والسنة النبوية، وبين الإشارة والادعاء ينشأ السجال والجدال وفي أحسن الأحوال الحوار.
نحن سنقف على هذا السجال الذي نما في علاقة الفيلسوف بالعارف، ونحاول تحليل الخطاب ومفرداته لعلنا نرسو على سياسة إدارة الاختلاف بينهما.
-1-
الفلسفة والتصوف في منظومة الفكر الإسلامي
نذرت الفلسفة الإسلامية نفسها لتكوين رؤية كونية حول الوجود، هذه الرؤية تقارب القرآن وتحايثه بقدر الطاقة العقلية، على أساس أن العقل ملكة يرتكز عليها الاعتقاد والتكليف، فالعقيدة وإتباع الأنبياء مبني على عمل عقلي سابق على التصديق.
دخلت الفلسفة بلاد الإسلام كضرورة لحل مسائل عقائدية وفق التعقّل، لأن النص الديني لم يعرض كل التفاصيل حول الحقائق في متناول العقل المسلم آنذاك، وغدا بهذا الاعتبار التزود بالعلوم العقلية واجبًا لمواكبة النص الديني خاصة وأن علم الكلام كان قد استنفد جهوده في صورنة العقيدة لتكون قابلة للرد على المخالف وحماية عقيدة العموم نتيجة تورط النخبة الفكرية للمسلمين في مسائل تتعلق بالرؤية الكونية للحياة.
وقفت الفلسفة الإسلامية على أدوات علم الكلام، فرأت أن المشكلة التي وقع فيها علم الكلام تكمن في الرؤية والمنهج، ذلك أن التنقيص من العقل يؤدي ضرورة إلى الشك في إنتاجه وهو ما يتناقض مع المهمة التي أعد لها (العقل)، لأن الفيلسوف المسلم لا يرى للعقل والوحي إلَّا مصدرًا واحدًا هو المصدر العقلي النوراني الكوني المفارق لعالم المادة، وهو العقل الذي بالفعل دائمًا، أو ما اصطلح عليه في متن الفلسفة الإسلامية بالعقل الفعّال والعقل القدسي.
هناك الكثير من القضايا التي لم يلتقِ فيها الفيلسوف مع المتكلم، وهذه القضايا لم تكن تمس العلوم الطبيعية والاعتبارية فقط، بل مسّت الأصول أي العقائد بلغة الكلام والمبادئ بلغة الفلسفة، مثلًا هل العالم في وجوده يتأخر في الزمان عن الذات الإلهية، أم أن وجوده لازم عنها وجودًا وبقاء، مع بقائه على إمكانه وهل علم الله تجري عليه الحركة من القوة إلى الفعل، أم هو محض فعل، وهل عالم الآخرة هو نشأة مجردة خالية من المادة أم هو مركب كعالم الكون والفساد من مواد وصور، ويجري عليه الكون والفساد، ومن ثم يساغ لنا القول بإمكانية حشر الأجساد.
وفي الخلق والفيض، هل العالم مسبوق بعدم أم لا، وهل الخلق الإلهي يتم باللزوم والضرورة أم على سبيل التراخي كما تنظر له نظرية الخلق من العدم؟
في مقابل الفلسفة الإسلامية كان ينضج علم أكثر أصالة من الفلسفة بسبب قربه من التعاليم الدينية، وهو التصوف والعرفان، إذ كما يشاء للكثيرين من المؤرخين للتصوف الإسلامي، فإنهم يقسمون تاريخ التصوف إلى عصر الزهد وهو عصر البدايات، ثم عصر التصوف الذي بدوره مر بمراحل: مرحلة التصوف السني الساذج الذي كان الشغل فيه تذوق الأحوال الروحية والتعبير عنها في مقولات تعكس درجات القرب ولحظات التأله، ومرحلة التصوف الفلسفي الذي انتقل فيه التصوف من مجرد التعبير عن الأحوال والمواجد إلى صياغة رؤية كونية ترسم خريطة الوجود والحياة، في إطار معادلات نظرية اعتبرها أصحابها صياغة عقلية للعلوم التي يتلقونها.
فيما يخص المتصوف وعلاقته بالمنظومة الثقافية الإسلامية، سنجد الأمر يتكرر معه، أي إن الموقف الذي اتخذه الفقيه والمتكلم من الفيلسوف هو نفسه الموقف الذي اتخذه من المتصوف، فلحِق الصوفي تهمة التبديع من جهة الممارسة والسلوك، ولحقته كذلك تهمة التكفير في جهة ما يعتقد به في شأن التوحيد.
لقد تميز التصوف عن العموم في السلوك من خلال أطروحته في السلوك بعنوان الطريقة، وكذلك في مجال الحقائق أي رؤيته الكونية القائمة على التوحيد الخاص، الذي تجسّد في مقولات وحدة الوجود ووحدة الشهود، ومقولة الفناء والعشق، والإنسان الكامل المتحقق بالأسماء الإلهية وغيرها من المقولات والمفاهيم، هذا الشذوذ يوقف عليه رقابة الفقيه والمتكلم خصوصًا، لأن الذي يميز المسلم عن غيره هو العقيدة بالدرجة الأولى وكل ما تعلق بها من الفروع.
المجمع عليه تاريخيًّا أن الذي كان يمارس سلطة الرقابة على الإسلام هم المتكلمون، فهم حراس العقيدة وبالخصوص حراس عقيدة العوام، رغم ما نجده من التحفظ لدى النخبة المتدينة من علم الكلام، وما يستتبعه من الزيغ عن ظواهر النصوص الدينية، إلَّا أن المتحفظ منه هو استعمال العقل إلى أبعد الحدود في قراءة وتفسير مفردات العقيدة وتأويل النصوص الكاشفة عنها، لذا كانت المعركة في البداية بين الاعتزال والأشعرية، ولاحقًا بين التيار العقلاني في الأشعرية والتيار الظاهري الذي يرفض كل منحى تأويلي أو توجيه عقلي لمفردات العقيدة.
-2 - بين الفلسفة والعرفان
نحن أمام جهدين بشريين تصدرا لتكوين رؤية كونية موافقة قدر الطاقة الإنسانية لتعاليم النصوص الدينية للإسلام، هما الفلسفة والعرفان. فيما يخص الفلسفة الإسلامية لا يغيب عن أحد منا تأثرها بالفكر الفلسفي اليوناني، بل بنت عليه رؤيتها، خاصة وأن الفيلسوف المسلم لم ير للعقل اليوناني خروجًا عن متطلبات الوحي، بل كان ينظر إلى الفلسفة اليونانية نظرة إيجابية تصنفها ضمن ما يوافق الدين الإسلامي.
ولعل جهود الفلاسفة في إثبات شرعية التفلسف والتوفيق بين تعاليم الشرع ومقررات الفلسفة، كل هذا يكشف عن تحيّز الفيلسوف المسلم للعقل اليوناني من حيث المنهج والكثير من التفاصيل، لذا لم يجد حراس المنظومة الثقافية الإسلامية أية صعوبة في إثبات غرابة الأطروحة الفلسفية وابتعادها عن روح الدين وكبرى مفرداته العقدية، وهنا لا بأس أن نستحضر موقف أبي حامد الغزالي، وابن الحاج وغيرهما ممن تصدروا منصة الموقع الأيديولوجي للفكر الإسلامي الرافض لخط الفلسفة الإسلامية.
أما التصوف الإسلامي والعرفان بالأساس، فاستلفتنا تركيز السلوك واعتباره بابا للمعرفة لذا يجمع كل الصوفية أن الشأن في التصوف هو العمل أساسًا، ويبنون قناعاتهم على كثير من إشارات النص القرآني والسنة النبوية فمثلًا أن التقرب بالنوافل يفتح باب التصرف في الكون بعنوان الإرادة والفعل الإلهي، حيث يصبح الحق سمع العبد وبصره وجميع جوارحه[2]، وهذا التصرف يعكس رؤية وجودية معينة تتحقق عند العارف وكان سبيلها العمل لا النظر. وفي سياقات أخرى، يصرح القرآن الكريم بنوع من المعرفة والعلم الذي لا سبيل إلى العبد إليه إلَّا محض الوهب الإلهي من خلال تهيئة واستعداد عنوانه العمل لا النظر[3].
تحدثنا في هذا السياق عن التصوف في حقبته المتطورة، أي بعد اكتمال الرؤية الوجودية للتصوف الإسلامي، خاصة مع الشيخ محيي الدين بن عربي، ومن بنى عليه، طبعًا عندما نقول بالتطور في الأطروحة الصوفية نحن لا نقصد أن التصوف في بداياته غيره في نهاياته، بل لأن كل منتوج إنساني خاضع للصيرورة والتكامل وتحكمه الحركة من القوة إلى الفعل وهكذا، وهذا كذلك ليس معناه أن يكون مسار التطور خطيًّا يجعل من اللاحق أكثر تقدمًا من السابق، ليس هذا المقصود وإنما درجات السمو الروحي تصعد وتهبط إلى أن تستقر مشكِّلة القاعدة العامة، فظاهرة العرفان أصبحت قاعدة تحكم التصوف الإسلامي عمومًا بعد الثورة العرفانية التي أحدثها عرفان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.
هدفنا من الدراسة هو الوقوف على الحوار المستمر الذي نشأ بين الفلسفة والتصوف في الإسلام، والذي كان يظهر في شكل لقاءات أو مواقف يصدرها طرف عن الآخر معبرًا عن تجاوب أو تباعد في المنهج والنتائج.
ما نسجله في تاريخ هذا الحوار أن التشنّج والقلق الذي كان يحكم علاقة المتكلم مع الفيلسوف قد انتقل إلى ساحة الفلسفة في علاقتها بحليفها العرفان، فالمشكلة لم تكن مع المتكلم فقط بل نشأت مشكلة أعمق بين الفيلسوف والمتصوف.
عندما نتحدث عن الفلسفة فنحن نستعيد شعار الخطاب العقلاني الذي يقطع مع كل ما هو أسطوري وخيالي، ولعل القصة ابتدأت مع أفلاطون الذي أخرج الشعراء من نخبة الجمهورية ومن الحكماء الفلاسفة.
- 3 - العارف في حضرة الفيلسوف
تاريخ العلاقة بين التصوف والفلسفة يحكي عن تعقيدات وجدال وخصومة، فهل هذا يعني أن هناك تعارضًا وتضادًّا بين ساحتي الفلسفة والتصوف؟
وهل التصوف كما يدعي بعضهم هو طور وراء طور العقل، ومنه لا يمكن للعقل أن يدرك ويستوعب ويثبت الحقائق الشهودية، أم أنهما متوافقان ويمكن لكل واحد منهما أن يؤيد معطيات الآخر؟
للإجابة عن هذا التساؤل نتطرق لرأي بعض نماذج من ممثلي الفريقين الفلاسفة والصوفية.
أ- ابن سينا
نتحدث عن كبار ممثلي الفلسفة في الإسلام من التيارين الكبيرين للفلسفة الإسلامية: الأول يمثل رأي الشيخ الرئيس ابن سينا رئيس المشائين المسلمين في عصره، فرغم طغيان روح البحث والاستدلال الجاف التي صبغت البحوث المشائية، إلَّا أن مصنفات الشيخ الرئيس لا تخلو من التعلق بالتصوف والعرفان والشهود، خاصة في الأقسام الأخيرة من كتابه الإشارات والتنبيهات، في الأنماط الأخيرة.
وهو ما دفع بالفلاسفة من بعده إلى الاهتمام بالتصوف، لدرجة الحكم على أن هؤلاء الفلاسفة من بعده كانوا تابعين له في الاهتمام بعالم الذوق والشهود، وأدنى حد من التبعية هو الإقرار بأن الشهود والذوق هما طور وراء طور العقل ويصلحان كأداة للمعرفة، مع الاعتراف بأن هذه الوسيلة (الشهود والذوق) مما لا يمكن البيان عنها بالتعبير ولغة الفكر.
وكمثال على ذلك، يذكر ابن سينا، في بحثه حول الأجرام الفلكية، أن لهذه الأجرام نفوسًا ناطقة بالإضافة إلى مبادئها التي هي العقول الكلية والمجردة، ويشرح نصير الدين الطوسي هذا الأمر بقوله: «وإنما جعل هذه المسألة من الحكمة المتعالية لأن الحكمة بحثية صرفة، وهذه وأمثالها إنما تتم مع البحث والنظر بالكشف والذوق، فالحكمة المشتملة عليها متعالية بالقياس إلى الأولى»[4].
وفي أحد التعليقات للشيخ الرئيس على كتاب الربوبية لأفلوطين المسمى خطأ أثولوجيا أرسطو يقول: «ولكن الإدراك شيء، والمشاهدة الحقة شيء».
موقف ابن سينا من العرفان يمهّد له مواقفه المعرفية والوجودية التي تأسست على منوال الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، لأن قناعة ابن سينا لا تخول للنفس الإنسانية سوى صفة الإعداد لتلقي المعرفة من العقل الفعال أو العقل القدسي، فالعقل المنفعل لا يملك سوى أن يبذل الجهد في العروج بالمعلوم من الحس إلى الخيال ثم ينتظر الفيض المعرفي من العقل الفعال الذي ينقله من حالة القوة إلى حالة الفعل، «حاصل الكلام هو أن ابن سينا يعتقد بأن النفس الإنسانية لها جملة من المراتب ويمكنها أن تحصل المفاهيم بالتدريج إثر إفاضة العقل الفعال والعقل القدسي لها. وبالتالي تتوسع معرفتها ارتكازًا على العلل الإعدادية والأدوات التي تهيئ الأرضية لذلك. هذه المعدات هي الحس والمعرفة الحسية. وعلى هذا المنوال يسير العقل الإنساني صوب الواقع والحقائق كما أن النفس الإنسانية تحصل الحقائق والمعارف الحقيقية عبر اتصالها بعالم القدس».
أما في الجانب الوجودي فيظهر موقف ابن سينا المنحاز إلى السبيل العرفاني في معرفة واجب الوجود، في حين اعتبر دليل الطبيعيين في إثبات واجب الوجود لا يرقى إلى مستوى القناعة المزيلة لكل ريب، ذلك أن دليل الطبيعيين وهو نفسه برهان الحركة الذي أسس له أرسطو، هذا الدليل يجب أن يوطد بمسلمات حتى يستقيم منها استحالة التسلسل، واستحالة الدور.
بينما دليل الصديقين وسماه ابن سينا ببرهان الصديقين أي أهل القربة من الحق تعالى، هؤلاء لا دليل لهم على واجب الوجود غير واجب الوجود نفسه من غير دور كما قد يفهم العقل، ذلك أن الوجود يستدل عليه من مجرد تأمل مفهومه، وبالنسبة للصديقين مجرد التأمل في حقيقته يثبت، ويكون دلالة على غيره ويستحيل أن يكون عليه دليل من غيره، فطرق «الوصول إلى الله متعددة ويعتبر أن أحدها هو طريق البرهان والاستدلال المبرهن، ولإثبات واجب الوجود يقيم ابن سينا ضمن كتبه براهين على ذلك. حسب ابن سينا، أهم برهان في هذا المجال هو ما يسميه هو برهان الصديقين، وهو كالتالي: كل وجود إما أن يكون واجبًا وإما أن يكون ممكنًا، وكل ممكن، انطلاقًا من بطلان التسلسل والدور، ينتهي إلى الواجب»[5].
توجه ابن سينا الأفلوطيني يسمح له باعتبار طريق العرفان المعرفي، وينزل عنده منزل التسليم لا التحقق، لأن وراء التحقق من سبيل العرفان الممارسة والذوق وهو الذي يقر ابن سينا بأنه لم يسلكه، لكنه وقف عند باب السلامة وهو التسليم كما يقرر الصوفية، بأن أدنى معاملة محترمة لعلمهم هي التسليم لأهل الذوق علمهم وأحوالهم، ما دام لا يريد المتعامل سلوك منهج التحقيق الضروري لذلك وهو السلوك.
مع ابن سينا وغيره ممن سلك منهجه المشائي المؤطر بالأفلاطونية المحدثة، نسجل موقف الاعتراف بطريق أهل العرفان كطريق خاص له أهله ولهم علم ثابت ومحقق، وهذا التحقيق له شروطه المقررة من أهله وهم الصوفية العارفين.
ب- أبو الوليد ابن رشد
لا يشذ ابن رشد في نظره الفلسفي عن سياق المتن اليوناني الذي تحكم في الإنتاج الفلسفي الإسلامي منذ الكندي، فالميزة الأساس التي حكمت مضمون المتن اليوناني المترجم إلى اللغة العربية وأصبح مادة الإبداع والإنتاج الفلسفي، هي أنه ذو روح أفلاطونية محدثة رغم ما عرض عليه من بعض نصوص أرسطو، فأرسطو العربي لا ينفك عن كونه منتميًا إلى مدرسة الأفلاطونيين الإسكندرانيين، ذلك أن المصدر الأساس الذي يشكل المنظومة الميتافيزيقية التي وصلت إلى المسلمين مترجمة هي كتاب «أثولوجيا أرسطو» الذي هو في الحقيقة تاسوعتين من تاسوعات أفلوطين، لذلك ففي مجال المعرفة والوجود نجد سمة الفيض هي التي طبعت التنظير، فمثلًا في المعرفة لا نكاد نجد تنظيرًا يتخطى مقولة العقل الفعال المفيض للعلم، والناقل العقل المنفعل من القوة إلى الفعل.
هذا التنظير يسمح بولوج ملامح الفكر العرفاني إلى الفلسفة، لذلك فإننا نلاحظ أن المشائية الإسلامية هي على غير مسار المشائية اليونانية، فمشائية المسلمين تقول بالفيض وتقول بالصدور وفق قاعدة لا يصدر عن الواحد إلَّا الواحد.
لكن مع ابن رشد، ورغم حرصه على الاحتياط في الوقوع في شراك الإسلاميين المشارقة –الفلاسفة- كالفارابي وابن سينا، إلَّا أنه تبنى النظرية التي تقرر دور العقل الفعال في انتقال العقل المنفعل من حال القوة إلى الفعل، لكن ابن رشد يركز على دور العقل المنفعل في التحضير للمعرفة، وأنها تصنع في مستوى العقل المنفعل ذاته[6]·.
يرى ابن رشد أن طريق البرهان أسلم الطرق وهو الذي ندب له الشرع وأوجب الاحتكام إليه، وفي مقابل هذا يظل الطريق الصوفي المبني على المجاهدة كمقدمة للمعرفة مما لا يمكن نفيه لكن لا يدخل ضمن الطرق الأصلح للإنسان بما هو إنسان، «وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة. وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكر على المطلوب. ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة... ونحن نقول: إن هذه الطريقة، إن سلمنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر والاعتبار، وتنبيه على طرق النظر، مثل ما تكون الصحة شرطًا في ذلك، لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطًا فيها، كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له، وهذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها»[7].
اعتراض ابن رشد يكمن في اعتبار المجاهدة وإماتة الشهوات هي العلة التامة للمعرفة. نعم، هو يقبل أن تكون رافدًا للنظر في الوصول إلى الحقائق، لا أن تستفرد المجاهدة بالطريق إلى الحق، وهذا الذي يقرر الدرس العرفاني خلافه، إذ المجاهدة وحدها سبيل إعدادي لتلقي العلوم اللدنية والمعارف الشهودية، فليست المجاهدة هي الطريق إلى المعرفة بل إن الاعتماد على المجاهدة وحدها يعد حجابًا أمام الحقيقة، لأن المعرفة العرفانية لا تعلل إلَّا بمحض الوهب، ولا طريق للكسب فيها البتة، فليس فقط العقل الذي يجب عليه أن يخرج من دائرة الارتكاز والاعتماد بل كل اعتماد على الذات ومتفرعاتها يعد عائقًا أمام الحقيقة، لأن الحقيقة تطلب فناء وجود لوجود، وأهم عائق هو الوهم الذي منشؤه ادّعاء الاستقلال في الوجود: «وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبة...وجودك ذنب لا يقاس به ذنب»[8].
ملخص موقف ابن رشد من العرفان هو إثباته لهذا السبيل، وأنه طريق خاص، خاصة عندما اعتبرها أنها لا تصلح لأن تعمم، وهي غير ممكن تعميمها على نوع الإنسان بما هو إنسان على خلاف سبيل العقل الذي يعد أعم سبيل وحجة على المجمع البشري.
ولهذا، كما قرر ابن رشد، ندب الشرع له وأوجب سلوكه لمعرفة ما يجب معرفته، ولم يندب لطريق التصوف، وموقف مثل هذا لا ينكره العارف على الفيلسوف، وهو الذي ذكره الشيخ ابن عربي عند روايته للقائه بالفيلسوف ابن رشد، إذ كما أورد «وقال (أي ابن رشد على رواية ابن عربي): هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا، فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين مغالق أبوابها... فقلت: إنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج»[9].
لكن في نص ابن رشد اعتراض على استفراد المجاهدة والتزكية بسبيل المعرفة مع إخراج العقل، لأن ابن رشد لا يستطيع أن يتنازل عن العقل، ويعتبره هو أساس المعرفة وجميع السبل هي روافد له، بما في ذلك المجاهدة إذ يعتبرها من شرائط نجاعة البرهان لا أنها العلة الفاعلة للمعرفة. لأنه وكما هو معلوم أن طبقات العلماء عند ابن رشد هم ثلاثة لا غير، وهم أهل الخطابة والبيان، وأهل الجدل وأهل البرهان وهم الحكماء ولا أعلى من هذه الطبقة، وهم أهل الفهم لكتاب الله تعالى، بينما الصوفية يخالفون هذا المسلك، ويجعلون سبيل العقل هو سبيل عوام العلماء لا خصوصهم، وسيأتي توضيح ذلك.
ج ـ شيخ الإشراق السهروردي
يعد مشروع السهروردي تأصيلًا للحكمة القائمة على الذوق، والتي ابتعد عنها المشاؤون، فهي سبيل التأله والوصول إلى الحق الذي لا يشوبه الباطل، «وهذا سياق آخر وطريق أقرب من تلك الطريقة وأنظم أضبط وأقل أتعابًا في التحصيل، ولم يحصل لي أولًا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت عليه الحجة حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلا، ما كان يشككني مشكك»[10].
لذلك سخر السهروردي كتاباته في الدعوة إلى هذا الطريق، طريق الحكمة الإشراقية المؤسسة على قواعد التصوف، في مقابل الحكمة المشائية القائمة على البحث والاستدلال، وهذا نص يبيّن فيه السهروردي مسار فلسفته حيث يحكي عن رؤية منامية التقى فيها بأرسطو المعلم الأول وأستاذ المشائين فيقول: «ثم أخذ يثني على أستاذه أفلاطون الإلهي ثناء تحيّرت فيه، فقلت: وهل وصل من فلاسفة الإسلام إليه أحد؟ فقال: لا، ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته. ثم كنت أعد جماعة أعرفهم، فما التفت إليهم، ورجعت إلى أبي يزيد البسطامي وأبي محمد سهل بن عبد الله التستري وأمثالهما، فكأنه استبشر وقال: أولئك هم الفلاسفة والحكماء حقًّا، وما وقفوا عند العلم الرسمي، بل جاوزوا إلى العلم الحضوري الاتصالي الشهودي، وما اشتغلوا بعلائق الهيولى، فلهم الزلفى وحسن مآب، فتحركوا عمَّا تحركنا ونطقوا بما نطقنا. ثم فارقني وخلفني أبكي على فراقه، فوا لهفي على تلك الحالة»[11].
ويشير في نصوص متعددة إلى حقيقة الحكيم المتأله ومنها قوله: «وفي الجملة، الحكيم المتأله هو الذي يصير بدنه كقميص يخلعه تارة ويلبسه أخرى، ولا يعد الإنسان في الحكماء ما لم يطلع على الخميرة المقدسة»[12].
عمومًا نجد أن شيخ الإشراق يرى أنه لا بد من الجمع بين الحكمتين البحثية والشهودية كما كان الشأن لدى الحكماء السابقين على أرسطو، لكنه لا يتنازل عن الموقف الذي يُعلي الكشف على البحث والاستدلال، وذلك يؤكده في موقف له حول السيادة والقيادة الرشيدة لمن تعطى أو لنقول الولاية الظاهرية، فهو يرشح الحكيم المتأله الذي له ذوق التأله ومتفوق في البحث والنظر العقلي، وإن لم يتوفق الأمر فلصاحب الذوق والتأله عديم البحث والنظر العقلي، إذ هو يقسم مراتب العلماء والحكماء إلى: متأله عديم البحث ومتأله متوغل في البحث، وحكيم متوغل في البحث عديم التأله، وحكيم متوغل في البحث وضعيف أو متوسط في التأله، «فإن اتفق في الوقت متوغل في التأله والبحث، فله الرئاسة وهو خليفة الله، وإن لم يتفق، فالمتوغل في التأله المتوسط في البحث، وإن لم يتفق، فالحكيم المتوغل في التأله عديم البحث، وهو خليفة الله. ولا يخلو الأرض عن متوغل في التأله أبدًا، ولا رئاسة في أرض الله للباحث المتوغل في البحث الذي لم يتوغل في التأله لا يخلو العالم عنه، وهو أحق من الباحث فحسب، إذ لا بد للخلافة من التلقي»[13].
وسخر السهروردي جهوده لنصرة طريق ذوق التأله الذي اصطلح عليه بحكمة الإشراق، وقد ألف كتابًا في هذا السياق يشرح فيه مشروعه ويضع فيه معالم هذا التوجه البحثي: «وكتابنا هذا لطالبي التأله والبحث، وليس للباحث الذي لم يتأله أو لم يطلب التأله فيه نصيب. ولا نباحث في هذا الكتاب ورموزه إلَّا مع المجتهد المتأله أو الطالب للتأله. وأقل درجات قارئ هذا الكتاب أن يكون قد ورد عليه البارق الإلهي وصار وروده ملكة له، وغيره لا ينتفع به أصلًا، فمن أراد البحث وحده، فعليه بطريقة المشائين، فإنها حسنة للبحث وحده محكمة، وليس لنا معه كلام ومباحثة في القواعد الإشراقية»[14].
جعل السهروردي لطالب حكمة الإشراق شروطًا وخصالًا يتميز بها، تسمح له بالاستنارة بكتابه، والتحقق بحقائق حكمة الإشراق والتعلم منه، أدناها أن الطالب يكون قد باشر في بدايات طريق السلوك حيث تفجؤه الأنوار بصفة البوارق إيذانًا بتلمس سبيل أهل الذوق. وهذه الخصال مما لا تشترطه حكمة المشاء، فالمشائية تذعن للبرهان، ولا يهمها إن كان مؤيدًا بأنوار باطنية أو لا، المهم ما يؤيده الاستدلال والبرهان فهو الحق والبرهان يطلب سلامة النظر والتعقل ولا علاقة لذلك بإشراق الباطن وسلامته، على عكس الإشراقيين فإنهم بفعل الزهادة والتطهير الأخلاقي يتمكنون من مشاهدة بواطن الأمور على تدرج من البوارق إلى اللمحات، إلى المشاهدات الواضحة غير الملتبسة.
لا ينتظم أمر الإشراقيين دون سوانح نورية، «فإن من هذه القواعد ما يُبتنى على هذه الأنوار، حتى إن وقع لهم في الأصول شك، يزول عنهم بالسلم المخلعة. وكما أنا شاهدنا المحسوسات وتيقنا بعض أحوالها ثم بنينا عليها علوما صحيحة، فهكذا نشاهد من الروحانيات أشياء، ثم نبني عليها. ومن ليس هذا سبيله فليس من الحكمة في شيء وسيلعب به الشكوك»[15].
تركز حكمة الإشراق دور العقل الفعال، وتعتبره المعلم من عالم القدس لأنه هو الذي له يخرج النفوس من حالة القوة إلى الفعل وجودًا ومعرفة، إذ ما من شأنه القوة لا يبرح حال الإمكان إلَّا بمرجح خارج ذاته يهبه وجودًا أو علمًا، بحسب الاستعداد «ونفوسنا كمرآة أقبلت فقبلت، وأعرضت فتخلت، ولا يعطى الكمال القاصر عنه، فمخرجنا إلى الفعل هو بالفعل، ومعلمًا من عالم القدس سمي عقلًا فعالًا، لأنه هو مخرجنا إلى الفعل وهو روح القدس، ونسبته إلى النفوس كنسبة الشمس إلى الإبصار، وعلى حسب الاستعدادات القريبة والبعيدة والأفكار تستعد النفس للاتصال به والقبول عنه، وليست المقدمات بذاتها موجدة للنتيجة فيها فستعلم أن عرضًا لا يوجد عرضًا، وكم شخص عرض عليه أمر ما أفاده علمًا وأفاد غيره علمًا يقينًا وطمأنينة روحانية فهذه وسائط والواهب غيرها، وما حصل بالمقدمات الحقة فلزومها منها ضروري كالأول ونحوها لا إمكان لجحودها لمن استرشد»[16].
-4- الفيلسوف في حضرة العارف
بنى التصوف الإسلامي قواعد المعرفة على السلوك، فجعل قاعدة التعرف هي المجاهدة، وخلاصة القول في هذا الموضوع هي أن المجاهدة تحقق التزكية والتطهير لمحل القبول بعد أن تكدرت الذات بفعل مرورها بالحس والفكر، فالمجاهدة هي العودة إلى البدايات حيث البساطة والسذاجة الحاكمة على الوجود بكليته، والوجود الإنساني بالخصوص، ومعلوم قرآنيًّا أن بداية الإنسان هي الجهل التام وهنا المقصود بالجهل الجهل البسيط لا الجهل المركب، لأن الجهل المركب عائق قيمي وإبستمولوجي، أما الجهل البسيط فهو جلاء المرآة المطلوب كشرط لتلقي المعارف الإلهية والحقانية.
لذا يعد التصوف منافسًا حقيقيًّا لأي بحث يتوخى الوصول إلى الحق الذي لا مرية فيه، كما ادعته الفلسفة وغيرها من الحقول المعرفية التي تدعي الشمول مثل علم الكلام وعلم اللاهوت، فكما الفلسفة تعتقد أن طريق النظر هو أسلم الطرق كما قرر ذلك ابن رشد مثلًا، كذلك التصوف يدعي هداية الحائر إلى المعرفة المالئة للفراغ الذي يسكن ذات الجاهل الحقيقي وهو الإنسان بما هو كذلك.
أ- موقف الشيخ محيي الدين بن عربي
لا نستغرب هذه الحدية التي قد نشهدها عندما نقرأ لاتجاه معرفي معين عندما يتناول فكر ورؤية غريمه، وما دام حديثنا مركز على فريقي الفلسفة والتصوف، فإننا لا نكاد نقرأ لأحدهما عن الآخر إلَّا ونلمس، على الأقل في بعض النصوص، شدة وحزم في استهجان طروحاته.
لكن رغم هذه الحدية النسبية بينهما إلَّا أننا نرى في جانب آخر مجالًا للحوار وتجاذبًا لأطراف النقد والتحقيق، فمثلًا في لقاء وقع بين الشيخ محيي الدين بن عربي وبين الفيلسوف المسلم أبي الوليد بن رشد إشارة إلى إمكانية الحوار بين الفلسفة والتصوف، ومنه يمكن أن نقف على جهة اشتراك بين البحثين الصوفي والفلسفي.
خاصة في المسائل المعرفية والوجودية، وهذا الشيخ محيي الدين يحكي عن هذا اللقاء: «فعندما دخلت عليه (يقصد ابن رشد الفيلسوف) قام من مكانه إليَّ محبة وإعظامًا فعانقني وقال لي: نعم؟ قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا. فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم، لا. وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها، فاصفرّ لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل وعرف ما أشرت به إليه... وطلب بعد ذلك من أبي الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا هل هو يوافق أو يخالف فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلًا وخرج مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، وقال هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا، فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين مغالق أبوابها... ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية فأقيم لي رحمه الله في الواقعة في صورة ضرب بيني وبينه فيها حجاب رقيق أنظر إليه منه ولا يبصرني ولا يعرف مكاني وقد شغل بنفسه عني فقلت: إنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج»[17].
يكشف هذا الحوار عن قضية هل أن البحث الفلسفي والشهود الصوفي يتفقان في النتائج أم يختلفان، وكانت إجابة الشيخ محيي الدين بن عربي تبين عن اتفاق واختلاف، بما يعني أن التصوف يستوعب الفلسفة ويفارقها فيما لا تستطيعه بفعل اعتمادها على العقل.
وفي لقاء آخر وقع بين رئيس المشائين في عصره الفيلسوف ابن سينا مع أحد الصوفية المشهورين في عصره وهو أبو سعيد بن أبي الخير، كذلك يؤشر هذا اللقاء على أفضلية طريق الشهود في تحصيل المعرفة على طريق الاستدلال والبحث العقلي: حيث يشير أبو سعيد بن أبي الخير إلى هذا المعنى[18]: «حينما أجاب مريديه حول منزلة الفيلسوف بعد لقائه بالشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا قائلا: حينما ذهبنا بمصباح مضيء خطا هذا الشيخ بعصا الاستدلال»[19].
نصوص صوفية كثيرة تعكس هذه الحقيقة بحيث تفضل طريق المعرفة الكشفية الشهودية على الطريق العقلي والفكري، وفي اعتقادهم أن الكشف والشهود يطلع صاحبه على عين الواقع ويستبعد وجود مسافة معرفية بين الصوفي ومعروفه، وهم هنا –أي الصوفية– يسمون إدراكهم بسمة المعرفة في مقابل العلم، ذلك أن المعرفة تفيد التفصيل والمعاينة على عكس العلم الذي يفيد الإجمال ويتضمن فصلًا بين الذات والموضوع بلغة نظرية المعرفة.
فمثلًا الشيخ الأكبر يستهجن الركون إلى الفكر والنظر العقلي، لأن هذا الأخير لا يبرح التقليد حتى وإن ادعى الاستقلال في المعرفة أو التجرد عن المادة والحواس الموجبة لها، ما دام شغل الفكر والعقل مع المفاهيم المنزهة عن الكثرة وكل نحو من أنحاء المادة، فهو يعتبر أن العقل في ادعائه التجرد مقلد للحس وتابع له وفي حكمه كذلك ويستغرب رفض أهل النظر تقليد الحق فيما نص عليه من الحقائق في كتابه العزيز من خلال التصرف فيها بالتأويل العقلي على خلاف ما عمل به أهل العرفان في قبولهم بما جاء في الكتاب العزيز من حقائق من دون تأويل أو توجيه. «من أعجب الأمور عندنا أن يكون الإنسان يقلد فكره ونظره وهو محدث مثله، وقوة من قوى الإنسان التي خلقها الله فيه وجعل تلك القوة خديمة للعقل ويقلدها العقل فيما تعطيه هذه القوة ويعلم أنها لا تتعدى مرتبتها وأنها تعجز في نفسها عن أن يكون لها حكم قوة أخرى... كلها يقلدها العقل في معرفة ربه، ولا يقلد ربه فيما يخبر عن نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط، وكل صاحب فكر تحت حكم هذا الغلط بلا شك إلَّا من نور الله بصيرته فعرف أن الله قد أعطى كل شيء خلقه... فإذا اتفق للعقل أن يحصل شيئًا من هذه الأمور بهذه الطرق ثم أخبره الله بأمر ما توقف في قبوله، وقال: إن الفكر يرده، فما أجهل هذا العقل بقدر ربه، كيف قلد فكره وجرح به»[20].
فالعقل عند الشيخ محيي الدين ما عنده شيء من حيث نفسه يسمح له بمعرفة الحقائق: «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول. فإذا كان بهذه المثابة فقبوله من ربه لما يخبر به عن نفسه تعالى أولى من قبوله من فكره، وقد عرف أن فكره مقلد لخياله، وأن خياله مقلد لحواسه.. وأنه (العقل) بالنظر إلى ذاته لا علم عنده إلَّا الضروريات التي فطر عليها لا يقبل قول من يقول: إن ثمة قوة أخرى وراءك تعطيك خلاف ما أعطتك القوة المفكرة نالها أهل الله من الملائكة والأنبياء والأولياء، ونطقت بها الكتب المنزلة، فاقبل منها هذه الأخبار الإلهية فتقليد الحق أولى، وقد رأيت عقول الأنبياء على كثرتهم والأولياء قد قبلتها وآمنت بها وصدقتها، ورأت أن تقليدها ربها في معرفة نفسه أولى من تقليد أفكارها»[21].
لا يملك العقل أية مقولات تسمح له بالمعرفة القبلية[22] وكل معرفة تحصل للعقل فهي بعدية تقليدًا وتبعية لما يزوده به أي مصدر خارجي من حواس وخيال، ولذا تكون معرفة الإلهيات أولى بأن يقلد فيها المصدر الخارجي المتعلق بالإخبار الإلهي بواسطة الوحي أو إلهام من ولي، فمن المكابرة التعامل بوجهين بحيث يقبل من الفكر ما جمعه له الخيال والحس ولا يقبل من الله تعالى إخباره عن أنباء لا يصل إليها فكره، مع إعلامه أنها مما لا سبيل له إليها بقوته الفكرية.
نسب القرآن الكريم بعضًا من العلوم إلى الحق تعالى، لأنها من العلوم ما لا يمكن للإنسان بآلاته وقواه النفسية أن يحصلها بل مصدرها موكول إلى الحق تعالى بدون واسطة، وهذا النوع من العلوم يتجاوز طور العقل وعلى الإنسان أن يهيئ غير آلة الفكر لذلك، «علم العلماء بالله من الله ما لا تعلمه العقول من حيث أفكارها الصحيحة الدلالة... إنه وراء طور العقل، قال تعالى في عبده خضر: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وقال تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فأضاف التعليم إليه لا إلى الفكر، فعلمنا أن ثم مقامًا آخر فوق الفكر يعطي العبد العلم بأمور شتى»[23].
هذه الحدية في الموقف الصوفي اتجاه البحث العقلي والنظري، لا تعني أن التصوف يدعو إلى طرح العقل والعيش بدونه، بل إن الاعتماد على العقل وحده وغلق باب التعرف أمام أبواب أخرى هو الذي يحاربه الصوفي، بمعنى كما العقل حاكم على ما دونه من الآلات المعرفية كالحس والخيال، فإنه لا يحق له أن ينفي حاكمية غيره عليه وليس من شأنه أن يعين من يحكم عليه ويحدد شرائط تصحيح أحكامه، مثل ما أن الحس لا سلطان له على العقل في توجيه أحكامه عليه بحجة أن الحس هو أعرف بقوانينه من غيره، فكذلك العقل لا يحق له أن يعين من يكون عليه السلطان وما هو الطور الذي يجب أن يغطيه غيره حالة عجزه. نعم العقل يشعر في كثير من الأحيان بالعجز عن تقبل بعض الحقائق والمفاهيم مما لا يمكنه الاستدلال عليها، أو يستوي عنده الضدان في الحكم عليها، فيكفي هذا الشعور لكي يذعن لمن يدعي الإحاطة بهذه الحقائق.
كان تعنيف الصوفية على أهل النظر العقلي عمومًا وعلى الفلاسفة بالخصوص، نتيجة غلوهم في تحكيم العقل وادِّعاء إمكان العقل الإحاطة بالإلهيات والطبيعيات. وبالنسبة للصوفية ظهر عجز العقل في اقتحام مجال الإلهيات وحجتهم في ذلك إنتاج الفلاسفة في هذا المجال، حيث لاحظوا تعسفًا في كثير من التأويلات من أجل رفع التضاد الظاهر بين ظواهر النقل، فكيفوا المدلول على مقاس العقل الذي يتحرك في سقف عدم التناقض، بينما، كما ذهب الصوفية، كان يجب على الفلاسفة أن يكيفوا نظرهم على القرآن لا العكس، وهذا ما لا سبيل إليه بالعقل والاستدلال، لذلك مثلًا نرى أن كثيرًا من نصوص التصوف تنعت العقل والاستدلال بصفته قدمًا خشبية لا تصلح لتخطي عالم الحقائق المسكون بالجلال والعظمة والذي يتداخل فيه الجليل والجميل.
ب- موقف الأمير عبد القادر الجزائري
يرى الأمير عبد القادر الجزائري أن العقل باستقلاله لا يمكن أن يفهم الحقائق الإلهية المتنزهة في الصور الخيالية والحسية، فهو بفعل نزوعه التنزيهي المطلق ينفي استناد الكونيات إلى الحق تعالى مما نلخصه صوفيًّا التنزيه في عين التشبيه، إذ القرآن حافل بهذه الحقائق ويسندها إلى الله تعالى من غير الوقوع في التشبيه المطلق، فالعقل يسعى مباشرة إلى نفي هذه الحقائق عن الله بحجة تنزيهه تعالى عن النقائص.
بينما أهل الله -أي الصوفية- يثبتون للحق ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، من غير التورط في التشبيه المطلق أو التنزيه المطلق الذي يجعل من الله مفارقًا للعالم ومنعزلًا عنه، كما فعل أرسطو والمشائين من بعده، يقول الأمير عبد القادر: «ثم رده –تعالى– إلى أسفل السافلين بجعله تحت حكم الطبيعة وأسر العقل المعاشي، فإن العقل عقال عن الترقي إلى إدراك الأمور الإلهية، التي فوق طوره، ولذا قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[24]. وما قال: وما يعلمها إلَّا العقلاء، إذ استناد الأمور الكونية، ومثاليتها للحقائق الإلهية خفي عن العقول، لا تدركه بآلاتها، وما كان فوق حدها المحدود لها، لا حيلة لها في الوصول إليه واكتسابه، وإنما لها أن تتعمل بالأعمال الشرعية، وتستعد الاستعداد الجزئي، وتنتظر الوهب من الوهاب –تعالى-، فإنها علوم وهب، لا علوم كسب، وهو المسمى بالعلم اللدني... ففيض هذا العلم متقدم على تعقله، فإذا وردت هذه العلوم من الواهب، عقلها العقل وصارت عنده من المعقولات، بل البديهيات، بعد أن كان لا يتصورها ولا يحوم حول حماها، بل ينكرها إن سمعها»[25].
يتحقق إدراك حقائق العلم الوهبي بآلة غير آلة العقل، وهي قوة القلب المهيئة للتقلب بحسب تقلب التجليات الإلهية التي لا يمكن حصرها، ولا يمكن أن تنحصر في صورة دون أخرى، لكن كونها مدركة للقلب لا يمنع العقل من قبولها إذا تأدب بأدب المعرفة القاضي بالتسليم لمصدر معرفي غيره يدعي علم حقائق مستعصية على الفكر إدراكها والوصول إليها، «يكون القلب مؤهلًا إن شاء الله تعالى لقبول علوم وهبية ليس له فيها تعمل. بل له فيها تهيؤ وقبول فقط، وهي ما يسمى علوم الكشف، التي هي نتائج الإيمان العلمية. يجدها أصحابها في قلوبهم واضحة بينة فتقبلها عقولهم بمنطق هذه المرتبة، لكن العقول التي دونها، تردها غالبًا، وتنكرها على أصحابها أشد الإنكار»[26].
نظّر العرفان الإسلامي، وخاصة مع الشيخ ابن عربي، لمفهوم العقل الذي ينقسم إلى قسمين في تعقله لمطلق الحقائق، عقل مفكر وهذا مجاله الكونيات، وهو النظر والتعقل والتفكير المأمور به كل إنسان لغرض الاعتبار وفهم نظام الكون وقوانينه وهذا التفكر يفتح المجال أمام الشعور بوجود قوة وراء ذلك محيطة ومهيمنة على هذا الكون وقوانينه وهي قوة الألوهية، ولا يمكن للعقل بما هو مفكر أن يتعدى هذا الطور، لذلك ورد ترويج حديث للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقيد فيه مجال الفكر بأن لا يتجاوز الخلق إلى الذات الإلهية، في مضمونه: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا»[27].
أما القسم الثاني للعقل وهو العقل بما هو قابل، أي العقل الذي يتحرك بسقف يتجاوز الفكر، وهو سقف الإيمان، العقل المسلّم (من التسليم)، أي العقل الذي لا يجد في دليله ما يمنع التصديق بأمر قد يصل هو إليه وقد لا يجده في بحثه فيكشفه له مصدر خارج عنه وهذا المصدر ليس بالحس ولا بالخيال ولا بالفكر، أو قد يجد في دليله ما يمنع التصديق، لكن مصدر آخر يقرر ذلك، وهذا المصدر مما يثبته العقل، مثل بعض الأنباء التي يستحيل قيام دليل عليها قال بها نبي، والعقل يعلم بأدلته أن النبوة حق وبهذا إن جاء نبي بما يحيله الدليل العقلي فإن مقدمات العقل تدفعه إلى التسليم بما جاء به النبي ما دام أن النبي حتما صادق ولا يجوز عليه الكذب أو التقول على الحق تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}[28].
خاتمة
نلاحظ أن العرفان يحط من شأن العقل، وهذا الموقف لم يكن مع العقل بما هو كذلك بل مع العقل التاريخي المشائي في القرون الوسطى، والعقل الكلامي ممثلًا في العقل المعتزلي، ذلك أن الفلسفة المشائية وحتى البحوث الكلامية لفرقة المعتزلة قد ابتعدت عن كثير من المعطيات الدينية وتعاليمها، ولعل الهجمة التي أعلنها الشيخ أبو حامد الغزالي تعكس هذا الجانب، وظهور التيار الإشراقي ممثلًا في فلسفة شيخ الإشراق السهروردي المقتول، كفلسفة تنقذ الموقف من خلال الاعتراف بالذوق كطريق يعاضد العقل في الكشف عن الحقائق الوجودية والمعرفية والقيمية، وبهذا استطاع شيخ الإشراق أن يرمم النقص الذي حدث في النظام الفلسفي.
إذا نظرنا إلى نهاية كل بحث من البحثين الفلسفي والعرفاني، فإننا نسجل بأن هدف الفلسفة هو تحقيق غاية تتمثل في فهم قوانين الوجود وحصولها في الذهن، لغرض التعامل معها، على أن هناك مسافة بين الفهم والعمل بمقتضاه.
وهذا ما نلمسه في تعريفات الفلاسفة للفلسفة: «صيرورة الإنسان عالمًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العيني»، بينما الدرس العرفاني ذهب لأبعد من هذا الطموح حيث يكون دون تحصيله ذهاب النفس والذات في مقابل الحقيقة الثابتة للوجود وهي البقاء، فالغرض في التصوف والعرفان ليس صيرورة الوجود عالمًا ذهنيًّا، بل صيرورة الذات والنفس لا شيء كما هي في الحقيقة والواقع وانكشاف الحق الصريح كما هو، لذا هدف العارف هو معرفة الواقع كما هو عليه في نفسه بإرادة الله تعالى لا برؤية تتعلق بملكات الإنسان، وهذا عين التوحيد الذي يؤول إلى شهود الوحدانية والجمع الساري في الوجود، وبهذا لا نستطيع سوى إثبات الأمور على ما هي عليه، فنقف في النهاية الموقف الذي يجعل العقل مقدمة للسلوك إلى الحق لا أن المنتهى إليه.
فالعقل الفلسفي لا يمكن أن يشبع العطش المعرفي للإنسان ولا يستطيع كذلك أن يوفي الحقيقة حقها في التعبير والبيان عن كنهها، فهو قاصر عن إدراك الحقيقة والاتحاد معها والتذوق بها وتحصيل السعادة عندها. ومن جهة أخرى لم يأتِ العرفان ليبطل طريق العقل، بل جاء ليمنع التوقف عند العقل، لأن العقل بما هو مفكر وفقط، ينتج الوثنية الذهنية لأنه قائم على الفرق الذي يثبت الجدر والفواصل والتقسيمات، بينما الحقيقة جوهرها الوحدة القاهرة لكل فرق وقسمة.
فرغم ما يطفو على ساحة الحوار بين النظامين المعرفيين (الفلسفة والعرفان) من اختلاف وتعارض، إلَّا أن طابع هذا التعارض لا يرقى إلى مستوى التضاد، بل هو تعارض تراتب، بمعنى يستحيل الجمع بين العرفان والفلسفة في أفق واحد، وفي مرتبة واحدة، لأن هذا الجمع مستحيل، من هذه الجهة.
كما أن التفرقة بينهما على أساس المرتبة والأفق الواحد، يهضم الحقيقة حقها في الثبوت، فلا يجتمعان ولا يرتفعان معًا إذا تعومل معهما بأنهما ينتميان إلى مرتبة واحدة، لكن إذا أخذ عدم تساويهما في الرتبة والشرف، بمعنى، أن لكل مقام معلوم له بحسب مبدئه وغايته، فبهذا الاعتبار لا يستحيل الجمع بين الفلسفة والعرفان، فتكون الحقيقة قابلة للمعاينة والبيان، تغدو الحقيقة خبرة ونبأ، وهذا الذي اجتهد في بيانه أقطاب التصوف والفلسفة نذكر على سبيل المثال، جهود الشيخ عبد الوهاب الشعراني، من خلال كتابه اليواقيت والجواهر، وحتى الصوفية أنفسهم يعتقدون بالحقيقتين العقلية والشهودية، ويثبتون لكل واحدة مقامها وتميزها، من دون المزج بينهما، وهذه هي الحقيقة نفسها إذ لها ظاهر وباطن، وبينهما عينية أي أن الظاهر هو عين الباطن والعكس، من غير أن يحل طرف محل الآخر، فالإنسان الذي يبقى في دائرة الفكر والعقل فإنه يبقى في دائرة الحكمة، أما من دخل وادي العشق والمحبة فقد مات وقتل نفسه هذا هو الذي تعلق بحبل القدرة.
الفلسفة إنما تكون منتجة في معالجة القضايا ضمن نطاقها الخاص، أما عندما يصل الدور إلى المعرفة الشهودية، فإن رجل الاستدلاليين تكون خشبية، وفراسة الفلسفة هي أنها في المسائل التي تتعلق بالمعرفة الشهودية توكل إصدار الأحكام إلى العرفان، حتى تحفظ بذلك الحدود ويبقى الاتحاد بين الفلسفة والعرفان قائمًا.
[1] سورة الإسراء، الآية 105.
[2] ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها...
[3] راجع مثلًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (سورة العنكبوت 69). وكذلك قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}(الكهف: 65).
[4] ابن سينا، أبو علي، الإشارات والتنبيهات، شرح، نصير الدين الطوسي، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، ط2، ص ص 123-124.
[5] حسن معلمي، إطلالة على نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية، ترجمة: منصف حامدي، دار الولاء، بيروت، ط1، 2014، ص 46.
[6] نلاحظ أن هناك غموضًا في تحديد التمايز بين العقل المنفعل والعقل الفعال، هل هما جهتان في العقل الواحد، وهذا ما يسمح بالقول باستقلال العقل الإنساني في عملية المعرفة عن أي مبدأ مفارق، أم هما منفصلان، وهنا ضرورة لحوق العقل المنفعل بالعقل الفعال وجودًا وتعريفًا، والرأي الثاني هو الذي تبناه صراحة كل من ابن سينا والفارابي، أما ابن رشد فالأمر غير محسوم عندنا، لكن أخذًا بنزعته العقلانية الإنسية التي تبرزها مواقفه الأرسطية الأقرب إلى أرسطو اليونان لا أرسطو العرب والمسلمين الذي هو أفلوطين بالأساس، فإننا نميل إلى إعطائه للعقل المنفعل نوعا من الاستقلال والمبادرة في إنتاج المعرفة.
[7] ابن رشد، أبو الوليد، الكشف، عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، دار الكتب العلمية، ط 1، 2002، ص ص 40 -41.
[8] ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1978، ج1، ص 374.
[9] ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكية، دار الفكر، بيروت، (د. ت.)، ج1، ص ص 154 – 155.
[10] مجموعة مصنفات السهروردي، عناية: هنرى كوربان، ط طهران، 1373هـ، ص 10.
[11] السهروردي، المصدر نفسه، ص 70.
[12] السهروردي، المصدر نفسه، ص 503.
[13] السهروردي، المصدر السابق، ص 12.
[14] السهروردي، المصدر نفسه، ص 13.
[15] السهروردي، مجموعة مصنفات السهروردي، ص 13.
[16]نقلًا عن: أحمد ماجد، الإنسان والعقل والمعرفة في فلسفة السهروردي الإشراقية:
http://www.shurouk.org/ResearchIn.aspx?id=11&ResearcherID=10)
[17] ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج1، ص ص 154 – 155.
[18] «في يوم من الأيام كان الشيخ أبو سعيد في أحد مجالس نيسابور يخطب، فخرج عليه من التكية الشيخ الرئيس ابن سينا. فعلى الرغم من أنهما كانا يتكاتبان من قبل إلَّا أنهما لم يتقابلا، فعندما دخل عليه ابن سينا التفت نحوه الشيخ أبو سعيد، وقال: جاء الحكيم... جلس ابن سينا إلى أن أنهى أبو سعيد خطبته. وانفض من بعده المجلس، ثم اتجها نحو البيت. دخل ابن سينا بيته وأغلق من ثم الباب واختليا ثلاثة أيام كاملة لم يحس عليهما أحد... بعد ثلاثة أيام غادر ابن سينا البيت، فسأله تلامذته كيف وجدت الشيخ أبا سعيد؟ قال: كل ما أعلمه هو يراه، وسأل تلامذة أبي سعيد أستاذهم كيف وجدت الشيخ الرئيس ابن سينا؟ قال: كل ما أراه يعلمه.
[19] غلام حسين إبراهيم ديناني، حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، دار الهادي، بيروت، ط 1، 2001، ج1، ص 16.
[20] ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج 1، ص 288-289.
[21] ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج 1، ص 288-289.
[22] ذهبت النقدية الكانطية إلى امتناع حصول العقل على مقولات ومفاهيم تسمح له بالمعرفة الميتافيزيقية، وبذلك كل المفاهيم التي كونتها الميتافيزيقا عبر التاريخ بالنسبة للكانطية هي مجرد تصورات يؤطرها القفز من المشروط إلى اللامشروط بدون واسطة تضمن هذا الانتقال، لذا توقف كانط في شأن الميتافيزيقا واعتبرها علمًا غير ممكن بالنظر إلى مكونات العقل النظري، وموقف كانط لا يصنف ضمن الجاحدين بالميتافيزيقا بل هو يعتبر أن العقل النظري ليس لديه ما يبرر ما وصل إليه في باب الميتافيزيقا، لذا نجد كانط يعتبر أن العقل العملي لا يمكنه أن يقوم دون مكونات ميتافيزيقة كوجود الله والحرية والخلود، لكن هذه المكونات اعتبرها كانط غير مبرهن عليها وتركها تحت عنوان المسلمات، وسماها مسلمات العقل العملي.
[23] ابن عربي، محيي الدين، المصدر نفسه، ج 2، ص 114.
[24] سورة العنكبوت، الآية 43.
[25] الأمير عبد القادر الجزائري، المواقف الروحية والفيوضات السبوحية، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ط1، 2004، ص450.
[26] عبد الغني العمري، مراتب العقل والدين، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2010، ص 65.
[27] رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، ورواه ابن أبي شيبة في كتاب العُرْس له من قوله عن ابن عباس بلفظ تفكروا في كل شيء ولا تتفكروا في الله.
[28] سورة الحاقة، الآية 44-46.